فلما كانت الليلة ٣٣٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية الصفراء قامت على قدميها فحمدت الله تعالى وأثنت عليه، ثم أشارت بيدها إلى السمراء وقالت لها: أنا المنعوتة في القرآن، ووصَفَ لوني الرحمن، وفضَّله على سائر الألوان، بقوله تعالى في كتابه المبين: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فلوني آية، وجمالي غاية، وحسني نهاية؛ لأن لوني لون الدينار، ولون النجوم والأقمار، ولون التفاح، وشكلي شكل الملاح، ولون الزعفران يزهو على سائر الألوان، فشكلي غريب، ولوني عجيب، وأنا ناعمة البدن غالية الثمن، وقد حويت كلَّ معنًى حَسَن، ولوني في الوجود عزيز، مثل الذهب الإبريز، وكم من مآثر، وفي مثلي قال الشاعر:

لَهَا اصْفِرَارٌ كَلَوْنِ الشَّمْسِ فِي الْبَهَجِ
وَكَالدَّنَانِيرِ فِي حُسْنٍ مِنَ النَّظَرِ
مَا الزَّعْفَرَانُ يُحَاكِي بَعْضَ بَهْجَتِهَا
كَلَّا وَمَنْظَرُهَا يَعْلُو عَنِ الْقَمَرِ

وسوف أبتدي بذمِّك يا سمراء اللون؛ فلونك لون الجاموس، تشمئز عند رؤيتك النفوس، إنْ كان لونك في شيء فهو مذموم، وإن كان في طعام فهو مسموم، فلونك لون الذباب، وفيه بشاعة الكلاب، وهو محيِّر بين الألوان، ومن علامات الأحزان، وما سمعت قطُّ بذهبٍ أسمر، ولا دُرٍّ ولا جوهر، إنْ دخلتِ الخلاء يتغيَّر لونك، وإن خرجتِ ازددتِ قبحًا، فلا أنت سوداء فتُعرَفين، ولا أنت بيضاء فتُوصَفين، وليس لك شيء من المآثر، كما قال فيك الشاعر:

لَوْنُ الْهِبَابِ لَهَا لَوْنٌ فَغُبْرَتُهَا
كَالتُّرْبِ تَرْهَسُهُ فِي أَقْدَامِ قُصَّادِي
لَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهَا قُمْتُ أَرْمُقُهَا
وَقَدْ تَزَايَدَ بِي هَمِّي وَأَنْكَادِي

فقال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. فجلست، ثم أشار إلى السمراء، وكانت ذات حسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، وبهاء وكمال، لها جسم ناعم، وشعر فاحم، معتدلة القدِّ، موردة الخدِّ، ذات طرفٍ كحيل، وخدٍّ أسيل، ووجه مليح، ولسان فصيح، وخصر نحيل، وردف ثقيل. ثم قالت: الحمد لله الذي خلقني لا سمينة مذمومة، ولا هزيلة مهضومة، ولا بيضاء كالبَرَص، ولا صفراء كالمغص، ولا سوداء بلون الهِباب؛ بل جعل لوني معشوقًا لأولي الألباب، وسائر الشعراء يمدحون السُّمْر بكل لسان، ويفضِّلون ألوانهم على سائر الألوان؛ فأسمر اللون حميد الخصال، ولله دَرُّ مَن قال:

وَفِي السُّمْرِ مَعْنًى لَوْ عَلِمْتِ بَيَانَهُ
لَمَا نَظَرَتْ عَيْنَاكِ بِيضًا وَلَا حُمْرَا
لَبَاقَةُ أَلْفَاظٍ وَغُنْجُ لَوَاحِظٍ
يُعَلِّمْنَ هَارُوتَ الْكَهَانَةَ وَالسِّحْرَا

وقول الآخر:

مَنْ لِي بِأَسْمَرَ تَرْوِي عَنْ مَعَاطِفِهِ السُّـ
ـمْرِ الرِّشَاقِ عَوَالٍ سَمْهَرِيَّاتُ
سَاجِي الْجُفُونِ حَرِيرِيُّ الْعِذَارِ لَهُ
فِي قَلْبِ عَاشِقِهِ الْمُضْنَى مَقَامَاتُ

وقول الآخر:

بِالرُّوحِ أَسْمَرُ نُقْطَةٌ مِنْ لَوْنِهِ
تَدَعُ الْبَيَاضَ يُفَاخِرُ الْأَقْمَارَا
وَلَوِ اسْتَقَلَّ مِنَ الْبَيَاضِ بِمِثْلِهَا
لَتَبَدَّلَتْ مِنْهُ الْمَلَاحَةُ عَارَا
مَا مِنْ سُلَافَتِهِ سَكِرْتُ وَإِنَّمَا
تَرَكَتْ سَوَالِفُهُ الْأَنَامَ سُكَارَى
حَسَدَ الْمَحَاسِنُ بَعْضَهَا حَتَّى اشْتَهَتْ
كُلُّ الْمَحَاسِنِ أَنْ تَكُونَ عِذَارَا

وقوله:

لِمَ لَا أَمِيلُ إِلَى الْعِذَارِ إِذَا بَدَا
مِنْ أَسْمَرَ كَالصَّعْدَةِ السَّمْرَاءِ
مَعَ أَنَّهُ قِصَصُ الْمَحَاسِنِ كُلُّهَا
فِي نَمْلِهِ الْأَنْفَالُ لِلشُّعَرَاءِ
وَرَأَيْتُ كُلَّ الْعَاشِقِينَ تَهَتَّكُوا
فِي الْخَالِ تَحْتَ الْمُقْلَةِ السَّوْدَاءِ
أَتَلُومُنِي الْعُذَّالُ فِيمَنْ كُلُّهُ
خَالٌ فَخَلُّونِي مِنَ السُّفَهَاءِ

فشكلي مليح، وقدِّي رجيح، ولوني ترغب فيه الملوك، ويعشقه كل غني وصعلوك، وأنا لطيفة خفيفة، مليحة ظريفة، ناعمة البدن غالية الثمن، وقد كملت في الملاحة والأدب والفصاحة؛ فظاهري مليح، ولساني فصيح، ومزاحي خفيف، ولعبي ظريف؛ وأما أنتِ فمثل ملوخية باب اللوق، صفراء وكلها عروق؛ فتعسًا لك يا قدرة الرواس، ويا صدأ النحاس، وطلعة البوم، وطعام الزقوم؛ فضجيعك مُضيِّق الأنفاس، مقبور في الأرماس، وليس لك في الحُسْن مآثر، وفي مثلك قال الشاعر:

عَلَيْهَا اصْفِرَارٌ زَادَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ
يَضِيقُ لَهُ صَدْرِي وَتُوجِعُنِي رَاسِي
إِذَا لَمْ تَتُبْ نَفْسِي فَإِنِّي أَذِلُّهَا
بِلَثْمِ مُحَيَّاهَا فَتَقْلَعُ أَضْرَاسِي

فلما فرغت من شعرها، قال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. ثم بعد ذلك … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤