مقدمة

كنا نفرح «بصندوق الدنيا» ونحن أطفال … نكون في لعبنا وصخبنا فيلمح أحدنا «الصندوق» مقبلًا من بعيد فيُلقي ما بيده من «كرة» أو نحوها ويُطْلقها صيحة مجلجلة ويذهب يعدو متوثبًا ونحن في أثره، ونتعلق بثياب الرجل أو مرقعته على الأصح، فما هي بثياب إلا على المجاز، فهذا ممسك بكمه، وذاك بحزامه وآخر يده على الصندوق، وهو سائر وظهره منحنٍ تحت حمله، ولحيته الكثة الغبراء مثنية على صدره، ونحن نتلاغط حوله وتتوثب، حتى يصير بنا إلى الظل، فيضع «الدكة» الخشبية على الأرض فنكون فوقها نتزاحم ونتدافع ونتصايح ونتشاتم قبل أن تستقر على أرجلها، والرجل ساكن الطائر لا يعبأ بنا ولا يولينا نظرة ولا يحفل مَن بقي منا على «دكته» ومَن زُحزح عنها فوقع على الأرض فقام يلعن ويسب أو يبكي ويتوجع، أو يمضي إلى الحائط فيُلصِق به كتفه ويُعمِل يدَه في عينه.

ويخلع الرجل الحوامل عن كتفه ويقيمها أمامه ويرفع «الصندوق» ويحطه عليها، فنزحف نحن «بالدكة» إليه ونُدني وجوهنا من العيون الزجاجية الكبيرة، وننظر وننتظر. فإن صاحبنا لا يعجل، ويطول بنا النظر إلى لا شيء. والانتظار على غير جدوى، فنرتد برءوسنا عن عيون الصندوق، ونرفع إليه وجوهنا الصغيرة، فيبتسم ويبسط كفًّا كالرغيف ويقول «هاتوا أولًا» فتندفع الأيدي إلى الجيوب تبحث عن الملاليم وأنصافها فتفوز بها أو تخطئها، فتبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ وتلمع عيون وتنطفئ عيون، وتفتر شفاه وتمط أخرى أو تتدلى، ويُقبِل «المُعدِم» على «الموسر» يستسلفه مليمًا، ويحدث في عالم الصغار ما يحدث في عالم الكبار، من جود وبخل، ومن مسارعة إلى النجدة أو اغتنامها فرصة للانتقام، ومن مساومة ومشارطة ومطل، ومن تعبير بجحود يد سلفت، ومحاسبة على دين قديم، ويرجع المحرومون كاسفين آسفين، أو ناقمين ثائرين، أو راضين غير عابئين، ويقعد السعداء ويُقبِلون على «الصندوق» وقد نسوا إخوانهم، فكأنهم ما خُلقوا ولا كانوا منذ دقائق قليلة أندادًا يتلاعبون ويفرح بعضهم ببعض ويَجِد في قربه الروح والغبطة والأنس، ويَطُل الرجل من عين في جانب «الصندوق» ويدير «اليد» فتبدو لعيوننا المشرئبة صور «السفيرة عزيزة» ربة الحسن والجمال، و«عنترة بن شداد» الذي كان:

يهزم الجيش أوحديًّا ويلوي
بالصناديد أيَّما إلواء

و«الزير سالم» و«يوسف الحسن».

ويكفُّ اللسانُ عن الوصف والتحدث، واليد عن الإدارة والعرض، فقد انتهى «الدور» واستوفينا حقَّنا، فإما «دور» آخر بملاليم جديدة، وإلا فالقناعة كنز لا يفنى.

وقد شببت عن الطوق جدًّا، وخلفت ورائي طفولتي التي لا تعود.

وصرت غيري فليس يعرفني
إذا رآني الشبابُ ذو الطرر
ولو بدا لي لبِتُّ أُنكِره
كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا
في العيش، إلا تشبثُ الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى
من مازن غيره على الأثر١

ولكني ما زلت أمُتُّ إلى طفولتي بسبب قوي، وما انفكت أخراي معقودة بأولاها. كنت أجلس إلى الصندوق وأنظر ما فيه، فصرت أحمله على ظهري وأجوب به الدنيا، أجمع مناظرها وصور العيش فيها عسى أن يستوقفني نفرٌ من أطفال الحياة الكبار، فأحط الدكة وأضع الصندوق على قوائمه، وأدعوهم أن ينظروا ويعجبوا ويتسلوا ساعة بملاليم قليلة يجودون بها على هذا الأشعث الأغبر الذي شَبرَ فيافي الزمان، وما له سوى آماله وهي لوافح، ونجم — سوى ذكرى نورها — خافت.

لهذا سميتُه «صندوق الدنيا».

ولا أزال أجمع له وأحشد، وما فتئ السؤال الأبدي عندي مذ حملت الصندوق على ظهري «ماذا أصور؟» هذه هي المسألة كما يقول «هملت» في روايته الخالدة، والفرق بيني وبين هملت أنه معنيٌّ بالحياة والموت، وبأن يكون أو لا يكون، وبأن يُبقي على نفسه أو يُبخِعها، أما أنا فلا يعنيني شيء من هذا، ولست أراني أحفل بالحياة ولا الموت، ولا الوجود ولا العدم، أو لعل الأصح والأشبه بالواقع أن أقول: إني لا أرى وقتي يتسع للتفكير في هذا. ذلك أني صرت كالذي زعموا أنه كانت له زوجة تُرهِقه بالتكاليف وتُضنِيه بالأعمال التي تعهد إليه فيها وتأمره بأدائها، قالوا: فأشفق عليه صاحبه ورثى له، فأشار عليه أن يطلِّقها لينجو بنفسه من هذا العناء، فطأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وقال: «ولكن متى أطلِّقها؟ لا أرى وقتي يتسع لهذا.»

كذلك أنا — أنا زوج الحياة الذي لا يستريح من تكاليفها — أقوم من النوم لأكتب، وآكل وأنا أفكر فيما أكتب، ألتهم لقمة وأخط سطرًا أو بعض سطر، وأنام فأحلم أني اهتديت إلى موضوع، وأفتح عيني فإذا بي قد نسيته، فأبتسم وأذكر ذاك الذي رأى في منامه أن رجلًا جاءه فنقده تسعة وتسعين جنيهًا فأبى إلا أن تكون مائة، فلما انتسخ الحُلم ورأى كفَّه فارغة عاد فأطبق جفونه وبسط راحته وقال: «رضينا فهات ما معك.»

وأشتاق أن ألاعب أولادي فيصدني أن الوقت ضيق لا ينفسح للعب والعبث، وأن عليَّ أن أكتب، وأرى الحياة تزخر تحت عيني فأشتهي أن أضرب في زحمتها وأسوم سرحها، ولكن المطبعة كجهنم لا تشبع ولا تمل قولة «هات» وأكون في المجلس الحالي بحسان الوجوه رقاق القلوب وبكل ما كان يتحسر «مهيار» على مثلها ويقول:

آهٍ على الرقة في خدودها
لو أنها تسري إلى فؤادها

فأُشرِد عنهن وأذهل عن سِحر جفونهن، وأروح أفكر في كلام أكتبه صباح غد، وأشرب فلا أسهو، وأضحك لا أراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرد وأخرج إلى الطرقات أمتِّع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فإذا بي أقول لنفسي: إنَّ كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال، فأقنط وأكر راجعًا إلى مكتبي لأكتب … وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلًا بفضاء الله يذرعه.

وشرُّ ما في الأمر أن يجيء إليَّ صديق فيقول: أقترح عليك أن تكتب في «كيت وكيت» وتحاول أن تفهم أن كيتًا وكيتًا هذين لا يحرِّكان في نفسك شيئًا، ولا يهزان منها وترًا فلا يفهم؛ لأنه — على الأرجح — يظن أن الكتابة لا تكلف المرء جهدًا، وأن القلم هو الذي يجري وحده بما يقطر من مراعفه، وأن العقل والنفس لا دخل لهما فيما يخطه.

وإذا ظللت أكتب وأكتب هكذا فماذا يكون؟ لا أقول: إني سأُفلِس، فإن الحياة لا تنفك أبدًا جديدة في رأي العين والعقل، وهي لا تزال تسفر كل يوم عما يحرك النفس، ولكني خليق أن أُجن … نعم، وماذا عسى أن يكون آخر هذا النَّصَب؟ ودعِ الجنون، فلو كان إنسان يُجن من كثرة ما كتب لكان عنواني قد تغيَّر منذ أعوام جديدة، ولكن تعالَ نجرِ حسابًا صغيرًا نُسقِط منه كل ما ليس بالأدبي.

أنا أكتب في الأسبوع مقالين، فجملة ذلك في العام تبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ خمسة كتب كهذا، فسيكون لي إذن بعد عشرة أعوام — إذا ظللتُ هكذا — ثلاثون كتابًا غير ما أخرجتُ قبل ذلك، أي إن كتبي أنا وحدي تملأ مكتبة صغيرة يجد فيها القراء ما يشتهون ولا يعدَمون منها متعة أو سلوى، وصاحبها لم يستفد إلا العناء.

والبلاء والداء العياء أن تكتب مرة مقالة فكاهية، والطامة الكبرى أن تكون المقالة جيدة، وأن تكون الفكاهة فيها بارعة. لا أمل لك بعد هذا أبدًا … لأن الناس يذهبون ينتظرون منك بعد ذلك أن تطرفهم بالفكاهات في كل مقال آخر. فإذا أخطئوا عندك ما يطلبون من الفكاهة فالويل لك، وأنت عندهم قد أصفيت، أو ضعيف لا تحسن أن تكتب، أو غير موفَّق فيما تحاول، حتى ولو كنت تكتب جادًّا ولا تحاول أن تمزح أو تتفكَّه. والناس معذورون. فإن وطأة الحياة ثقيلة، وما دمتَ قد عوَّدتهم أن تسليهم وتُضحِكهم أو أطمعتهم وأنشأت في نفوسهم الأمل في هذا فماذا تريد أن تتوقع؟ ولكن الناس — أيضًا — خلقاء أن يذكروا أن الحياة قد تكون ثقيلة على الكاتب، وأنه لعل في نفسه جرحًا وفي صدره قيحًا، وأنه عسى أن يكون ممن يودون لو يَضحكون ويُضحِكون غيرهم، ويتمنون لو استطاعوا أن يجعلوا الدنيا جنة رُفاقة البشر، ولكنَّ همومًا تجثم على الصدور تقلِّص الوجه وتطفئ لمعة العين وتحبس البِشر الذي يريد أن ينطلق، وترد الضحكة التي كانت تهم أن تقرقع.

لقد صدقتُ فيما كتبتُ به إلى صديق على صورة لي:

أخوك إبراهيم يا مصطفى
كالبحر لا يهدأ أو يستريح
كالبحر حي الموج يقظانه
لكنه من نفسه في ضريح
مِن حوله الشُّطآن لا تنثني
تحبه دون انسياج الفتوح
خلت من المعنى لحاظ له
وكانت البرق المضيء المليح
حواء يا أماه أنت التي
أورثتني هذا البلاء الصريح
كم آدم أخرجتِ يا أمنا
من خلده، بعد أبينا الطليح

إلخ إلخ إلخ.

وكما أن «صندوق الدنيا» القديم كان هو بريد «الفانوس السحري» وشريط «السينما» وطليعتهما، كذلك أرجو أن يُقسَم لصندوقي هذا أن يكون — في عالم الأدب — تمهيدًا لما هو أقوى وأتم وأحفل. وليبنِ غيري القصور، فقد أضناني قطع الصخور، وتفتيت الوعور …

١  من قصيدتي «كأس النسيان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤