رجل ساذج

كان لنا — ونحن شُبَّان — رجل ساذج لم يعرف سوانا. كأنما قد هبط علينا من السماء. وكان الواحد منا يذكر معارفه أو يصف القرية التي هو منها، أو يقص علينا مغامراته، أو يحدثنا بمعاشقه، ويعرض ما عسى أن يكون محتفظًا به من مثل خصلة شعر أو منديل أو نحو ذلك، وهو واجم كئيب لا يفتح فمه. وكان يخشى ركوب الماء ويجزع من اضطراب الزورق على متنه، ولا يزال ينتقل من جانب كلما مال، ولقد اضطررنا مرة أن نشده إلى سارية الزورق لنستريح من قلقه.

وأنشدته مرة قصيدة ابن الرومي التي يصف فيها ما لقي في البَر والبحر من التباريح والمخاوف. فلما بلغتُ قوله:

ولمَ لا ولو أُلقيتُ فيه وصخرةً
لوافيتُ منه القعرَ أول راسبِ؟
ولم أتعلَّم قط مِن ذي سباحةٍ
سوى الغوصِ، والمضعوف غيرُ مغالِبِ
وأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمُرُّ به في الكوز مرَّ المُجَانبِ
وأخشى الرَّدى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على مر راكبِ؟

صفَّق وتحمَّس وقال: إن هذا «رجل عاقل»، وبعد أيام انتحى بي ناحية وسألني أتعرف ابن الرومي؟ فلم أعجب لسؤاله وقلت: «نعم.» قال: «أرجو منك أن تعرِّفني به.» فوعدته أن أفعل. وشاورت إخواني كيف أصنع؟ ولما اتفقنا، قدمتُه إلى شيخ وقور كثِّ اللحيةِ إلا أنه أحمق سريع الغضب وفي وسع القارئ أن يتصور ما وقع. وبحسبي أن أقول: إن صاحبنا خرج من مجلسه وقد أصابته عكازة الشيخ على رأسه وركبته، وكانت إصابة الركبة أوجع فظل يظلَع أيامًا. وسألته بعدها عن ابن الرومي كيف وجده؟ فكاد الدمع يطفِر من عينه وقال في سذاجة محببة إلا أنها مغرية: «الحق عليَّ. إن التهجم على كبار الناس سوء أدب …»

ولست أنسى ما حييت حادثة أردنا أن نركبه بالدعابة فيها، فأفضت إلى مأساة أو ما هو في حكمها. ذلك أننا أوهمناه أن فتاة رومية تعمل في «بار» شهير تحبه، وألححنا عليه بذلك حتى صدَّق، وكنا نجيئه بقليل من الفستق أو الشكولاتة ونزعم ذلك هدية منها إليه، وكان هو حييًّا يخجل حتى من مخاطبة الأغراب من الرجال فكيف النساء! فجعل يغشى هذا «البار» في الساعة التي يكون على الفتاة أن تجلس فيها إلى «الكيس» ويجلس بحيث يراها ولكن على بُعد، فندعه أحيانًا، وأحيانًا أخرى نلحق به ونثني على جمالها ونتنافس في وصف مفاتنها، فيشرق وجهه وتومض عيناه، كأنما يحمد منا الثناء على حسن اختياره! ونروح نسأله: ألا ترى كيف تغمز بعينيها؟ أليس من الواجب أن تبادلها غمزة عين بغمزة عين؟ فيفعل المسكين ونجاهد نحن أن نخترع سببًا لما ننفجر به من الضحك. وما زلنا نحثه على استعمال إشارات الحب حتى صار يدخل البار ومعه طاقة شتَّى من الورود ما بين حمراء رمز الحب المتقد، وبيضاء عنوان الطهر والعفاف، وصفراء للدلالة على ما أصاره إليه السهر والبكاء واللهفة من ذبول لونه، فيجلس ويشرع يخاطبها بهذه اللغة الدقيقة، حتى إذا فرغ من هذا المعجم استعمل المناديل يضعها على فمه، أو يكفكف بها الدمع الموهوم أو يُفكِّر ما بين أصابعه. ولم يَعُد يبالينا أو يحفِل بغيرنا من الناس، فقد اضطرمت نفسه ولَعَجَه حُبُّ هذه الفتاة.

والحق أقول: إننا أسفنا لمَّا تبيَّنا ما صار إليه الأمر، ولكنَّا لم نستطع أن نثنيه عن هذيان قلبه، وكان كما قلت ساذجًا جدًّا حييًّا إلى درجة تفسد الحياة وتحيل الانتفاع بها من المستحيلات، ولكن الحب خلق شخصًا جديدًا وأسعفت السذاجةُ الحبَّ وأعانته على الاستبداد بنفسه، وما راعني يومًا إلا هذا المسكين يعود إليَّ ويقول: «هنِّئني.»

قلت، وقد طاف برأسي أن المستحيل قد وقع: «بأي شيء؟»

قال: «لقد خطبتُها!»

قلت، ولم أستطع أن أخفي دهشتي: «خطبتها؟ أنت؟»

قال: «نعم، ألستُ أُحبُّها؟!»

فلم أدرِ أؤهنِّئه أم أَرثي له؟ وخرجتُ من هذه الحَيرة باجتناب الاثنين جميعًا وسألته: «ومتى الزواج إن شاء الله؟»

فطال وجهه فجأة وحاول أن يبتسم، ولكنه لم يوفَّق إلا إلى جعل وجهه مفزعًا وقال: لن أتزوجها. وكأنما أحس أن الأمر يحتاج إلى إيضاح، فزاد على ذلك «أعني أني أظن خيرًا لي ولها ألا أتزوجها.»

فلم أرني زدتُ بإيضاحه إلا حَيرة فصحتُ به بلهجة قاسية: «إنك مغفل.»

فأدهشني أن تنبسط أسارير وجهه وأن يقول: «نعم أنا مغفل ولم أكن قط أجهل ذلك. وأنت تعلم أني أحبها وقد خاطبتها في الزواج. فكانت كريمة جدًّا مؤدبة جدًّا. لم ترفض ولكنها لم تقبل أيضًا. والحق أقول يا صاحبي. لم يسعني إلا أن أصارحها بأني … كما تعلم مغفل، وأنها تكون أسعد لو تزوجت رجلًا … رجلًا … غير مغفَّل … يجب — ما دمتُ أحبها — أن أقدِّم خيرها على رغبتي. أليس كذلك؟ إنَّ من حقِّها عليَّ وواجبي نحوها أن أراعي مصلحتها … قل لي أليس هذا خيرًا؟»

فلم أقل شيئًا ومضيتُ عنه لا ساخطًا ولا ناقمًا، ولكن فائض النفس جائش الصدر وماذا عسى أن أقول لهذا المسكين الطيب القلب؟

ولم نضحك بعدها منه أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤