تمهيد

قال الكاتب أ. ش: «وأما أراؤه — أي صاحب كتاب خالد — الدينية والاجتماعية والفلسفية، فمعظمها غريب عن الرأي الغالب بين طوائف الإنس والجن، بعضها أغرب من آراء الدكتور شميل.»

أنا لم أقرأ كتاب خالد لأقف على حقيقة هذه الغرابة فيه وموضعها من الصحة وعدمها، وإنما أنا أقدر أن أتكلم عن آرائي الدينية والاجتماعية والعلمية ولا أقول الفلسفية؛ لأني لا أحب أن أُعنَى كثيرًا بالفلسفة، إلا ما كان منها من قَبيل الاستقراء العلمي فقط؛ لما تجرُّ إليه غالبًا من السفسطات البالغة إذا شردت عن العلم، بل أنا أكره جدًّا الانتساب إليها.

فإذا كان الخروج عن مألوف الناس ولو إلى الصواب يُعَدُّ غرابة فآرائي غريبة عن الرأي الغالب بين طوائف الإنس، وأما طوائف الجن فليس لي علمٌ بها وبآرائها، ولكنَّ معنى الغرابة هنا يتناول البُعد عن الصحة أيضًا.

فآرائي الدينية والاجتماعية والعلمية ليست غريبة عن العلم اليوم، وهي ليست من الآراء الفلسفية التي يتسع مجال التخريج فيها لكل مفكِّرٍ غير مقيَّد بقيد علمي، بل هي نتيجة لازمة لأبحاث علمية خارجة من معمل الطبيعي وداخلة في بوتقة الكيماوي وواقعة تحت مِشراط المشرِّح، ولا سبيل للخروج عنها إلا بالوقوع في الغريب. لا يجوز أن تُرمى بالغرابة إلا إذا جاز أن تكون الأحكام الاجتهادية أصدق من الدليل الاختياري والنظر المجرَّد أصدق من الحس.

فالناس لا يستغربون التسليم بالعالم غير المنظور، ولو لم يكن عليه أقل دليل علمي؛ لانطباقه على الرغائب ونحن معهم لو كل ما يتمنى المرء يدركه، ولتمنينا وجودًا أفضل خالصًا من كل ما يُريب، ولكنَّ العلم الذي نعنيه شيء آخر غير المتمنيات، وهم يشهدون تغيُّر نظامات الاجتماع في العصور، ولكن يستغربون المطالبة بهذا التغيير في كل عصر، وهو أمرٌ من الغرابة بمكان.

فإذا قلنا أن العالم ليس فيه فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام. فليس فيه مادةٌ غريبة أو قوة غريبة تدخل إليه أو تخرج منه، وأن لا فرق في المبدأ ولا في المعاد بين جميع الكائنات من أعلى الإنسان إلى أدنى الجماد، فجميعها في تكوينها من عناصر طبيعية واحدة وتتمشى في أفعالها على نواميس طبيعية واحدة مشتركة بينها جميعًا، فأين الغرابة في هذا القول؟! وهل في العلم اليوم ما ينقض ذلك؟! أوَليس كل علم يعلِّم غير ذلك أشبه بالتخرص منه اليوم بالعلم؟!

وإذا قلنا إن العمران جسم حيٌّ كسائر الأحياء له أعضاؤها ونواميسها وتحوُّلاتها وصحتها وسقمها، وإن ما ينطبق عليها في جميع خصوصياتها ينطبق عليه، فأين الغرابة في ذلك؟! أليس من المقرَّر اليوم في علم الاجتماع الطبيعي أن العمران حيوان، ولكنه حيوان هائل، أفراد البشر فيه كالكريَّات الحيَّة في الأحياء؟! لعلنا إذا عرفنا ذلك جيِّدًا يُسهِّل علينا أن نفهم كيف يجب أن نجعل كل عضو من أعضائه نافعًا ومنتفعًا معًا؛ لئلا يكثر في الأعضاء العاطلون ويَكُونون فيه حينئذٍ كالكريَّات المتعفنة أو كالأخلاط الرديئة التي تتهدَّد سُلامى الجسم الحي، عسى أن تقل الجنايات وتتوافر المنفعة وينصرف الاجتماع إلى ما يُرَقِّيه. والعلم باجتناء العمل وتوفير المنفعة يشبه علم الهيجين؛ أي علم حفظ الصحة الذي يقاوم الأمراض بمقاومة أسبابها، فلا يكفي أن تكون لنا شرائع فقط لمعاقبة الجاني، بل يلزم أن يكون لنا نظامات وتعاليم كافية لاجتناب أسباب الجنايات تكون موافقة لطبيعة العمران ومنطبقة على حاجاته المتزايدة كل يوم، كما أنه لا يكفي أن يكون لنا طبٌّ شافٍ لمُداواة الأمراض بل يفضل عليه الطب المنعي الذي هو غرض الطب الأكبر خصوصًا اليوم؛ لئلا يبقى الاجتماع بأيدي ساسته كما كان الطب بأيدي الدجَّالين: «فصادة وشربة وَوَدَّى على التربة.»

وإذا عرفنا أن الاجتماع حيٌّ كسائر الأحياء عرفنا أيضًا أنه خاضع لنواميس الطبيعة العامَّة نظيرها، فلا نجعل سبيلًا لتراكم القُوَى وتجمُّعها فيه، فلا نناهضه كلما نهض إلى حقٍّ له ونُقاومه بجمودنا مقاومةً عمياء؛ لئلا يفعل ذلك فيه فعل الضواغط القاسرة في الطبيعة فيهبَّ إلى ثورات تمزق أحشاءه وتقهقره كما تمزق البراكين أحشاء الأرض، بل نقوده إلى مصلحته الكبرى التي هي مصلحة كل واحد منا ونحسن هدايته بما نكتسبهُ كل يوم بالعلم والاختبار؛ ليسير في مدارج الارتقاء سيرًا حثيثًا سليمًا يكون لنا فيه فضل العلم والعقل؛ لئلَّا تنفرد نواميس الطبيعة بنا وتدفعنا إلى ذلك قسرًا ولكن بعد أن تُذيقنا الأمرَّين.١
وإذا عرفنا ذلك، أفلا يكون أصلح لمصلحة العمران إذا قام واحد وقال قولًا مُخالفًا لمألوفنا، أن نتدبَّر قوله أولًا عسى أن يكون فيه الصحيح الذي ننشده والصالح الذي نبتغيه، عوضًا عن أن نرمي آراءه بالغرابة؛ فتزيد الجمهور إعراضًا ولو عن التفكير البسيط فيما قد يكون فيها من الصواب؟! حتى يرسخ في الذهن أن المألوف هو دائمًا الحق وأن مخالفة الآراء الشائعة والاعتقادات الراسخة والنظامات المقررة لا يجوز؛ فتُكَمُّ الأفواه وتُخرَس الألسنة عن الانتقاد في الأمور الاجتماعية إذا كان هذا الانتقاد مخالفًا للمقرر، ولو أن الخطأ والضلال يرشحان من أذيال هذا المقرَّر ويملآن الأرض حوله بؤرةً آسنة،٢ أم الأفضل لمصلحة الاجتماع كلما اكتشف العلم حقيقةً مخالفةً لرأي الجمهور أن نتكتَّم بها؛ لئلا نُغضب هذا الجمهور إذا صرَّحنا بها أو نذكرها كما يريد حكماء الاجتماع وفلاسفته النفعيُّون الذين يذهبون مذهب القائل: «بعد كديشي ما يعيش حشيش!» أو بعبارةٍ أرقى: «وبعدي الطوفان.» فنلبس الجرن٣ ونُشير برأسنا إشارة خفيفة، مقرونة بابتسامة معنويَّة لطيفة كأننا نريد أن نقول إننا نعلم، ولكن ما كل ما يُعلم يُقال. لئلا يجرَّ علينا التصريح ضررًا ويُفقدنا منفعة، وهو برهان وجيه كثيرًا ما يحس به المتعرض له، ولكن برهان العلم أوجه في نظر البعض على قلة جناهُ، والعلم الذي أعنيه هو علم خبرة ويقين لا علم حدسٍ وتخمين، فقبل أن تصحَّ عليه غرابة تتكدَّس الغرابات على سواه بالملايين.
١  «أليس من العار على الإنسان الذي يمتاز عن سواه من الكائنات بالعقل الزائد وقوَّة الاكتساب بالاختبار، أن ينتظر من الطبيعة وحدها ارتقاءه نظيرها وهو القادر بما له من ارتفاع المدارك على أن يتصرَّف فيها لمصلحته، ويا ليته يقتصر على ذلك ولكنك تراه يستخدم هذه المدارك لإقامة العقبات في سبيل ارتقاء العمران ويقضي عليه بالتقهقر.» (من مجموعتي).
٢  كتبت أنتقد حكمًا صادرًا من فرد من أفراد الأمة في قضية رفعها في مسألة اجتماعية، ذهبت المحكمة فيه بأن لا حق للفرد برفع مثل هذه الدعوى، حكمت المحكمة هذا الحكم ولم تلتفت إلى الموضوع، وقد يكون النظر فيه رفع حيف كثير عن الجمهور، وعدَّت نفسها أنها خلت من المسئولية لدى ضمائرها المهلهلة تهلهل القوانين، وعدَّها علماء الكلام فوزًا باهرًا للعدل، وبعثتُ بانتقادي الحادِّ إلى إحدى الجرائد فلم يُنشَر، ثم بعد أيام قابلني المحرر في الطريق، فبادرني على الفور بقوله: «أليس عندك مقالة أخرى تقفل جرنالي؟!» فتذكرت حينئذٍ قولي فيه: «هنيئًا لرجال الغد!» لتوقعي تغيير نظام القضاء وتغيير نظام كل شيء في المستقبل والخلاص من أمثال هذه الأحكام اللاهوتية، التي يضيع الجوهر فيها لأجل العرض والتي لا يجوز اليوم مسُّها بانتقاد، وإذا ضوضاء قامت حولي فالتفتُّ وسمعت رجلًا يُنشد:
يا ليل الصب متى غدُهُ؟
أقيام الساعة موعدُهُ؟!
والعامة تطرب والخاصة لا تغضب، فقلت في نفسي: لعل هذا هو الصواب.
٣  الجرن: حجر منقور، تقول العامة: فلان لبس الجرن؛ أي ثقَّل رأسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤