تأثير العلم الطبيعي في الأديان

أما غرابة آرائي الدينية فليست إلَّا لكونها مخالفة للآراء الغالبة بين الناس في أصل الإنسان وحقيقته في هذا الوجود، وقد كان الاعتقاد في القديم أن أصل الإنسان غير ما قرَّره العلم اليوم، فكانت الآراء الدينية حينئذٍِ متناسبة مع ذلك الاعتقاد، وأما اليوم وقد قرَّر العلم أن الإنسان كسائر الأحياء في الطبيعة ليس فيه شيء غريب عنها لا في مواده ولا في قواه، فصارت الأفكار الدينية القديمة غير صالحة لأن تكون نتيجة لازمة لهذا العلم، وصار التوفيق بينها وبينه غير ميسورٍ لها بالعلوم العقلية الفلسفية وغيرها من علوم الكلام كما كان في القديم، ومهما بذل من الجهد اليوم في ذلك فالعلوم الطبيعية تنفيه.

ولكن إذا كان البحث من هذه الجهة في الأديان يبدو عُقمه في العلم، فقد اتسع له المجال كثيرًا من جهة علاقتها بالإنسان في أطوار نشوئه الأدبي وتقلبها معه في العصور، وقد نشأ الإنسان في معبوداته وتحول فيها كما نشأ وتحول في كل شيءٍ له علاقة شديدة به كعاداته ولغاته ونظاماته جميعها، فلم تكن عباداته في أول أمره كما هي اليوم في أديانه الكبرى، بل كانت بسيطة جدًّا عبارة عن خوف فقط لم ينظر فيه أولًا إلا إلى مصلحته القريبة، فعَبَدَ كل من رأى له سلطانًا عليه، وكم عَبَد الناسُ ملوكَهم وألَّهوهم في القديم! ولجهله في أول نشوئه لم يدع شيئًا في الطبيعة ضارًّا أو نافعًا، عظيمًا أو حقيرًا، مرغوبًا أو مرهوبًا، إلَّا وتوهَّم فيه ذلك فعبَدَ الحجر والشجر والحيوان والإنسان نفسه، ولم ينتقل بمعبوده إلى ما وراء المنظور إلَّا بعد أن ارتقى ورأى فساد معبوداته في أشياء هذا الوجود المشهود.

ففكرة البقاء بعد الموت لم تكن به في أوَّل الأمر، أو كانت غير مُعيَّنة ولم تنشأ فيه إلا بعد ذلك بزمن طويل، فارتسمت له حينئذٍ مرارة الموت ودفعته إليها محبة الذات١ حرصًا على بقاء العين، وهي حتى اليوم ليست في كل الأديان على حدٍّ سوى، والتوراة خالية منها ولا عبرة بالتأويل. ولم تتحوَّل العبادات إلى أديان ذات غرض اجتماعي وانتظمت شرائع أكثرت من التهديد بالعقاب والترغيب بالثواب إلَّا بعد أن ارتقى الإنسان كثيرًا، وانتظمت مجاميعه وأصبحت الشرائع المدنية بأيدي الأقوياء آلة يتصرَّفون فيها لمصلحتهم، فصار من اللازم لمصلحة الاجتماع وضع نظام يكبح جماح الجبابرة الظالمين ويخفِّف عن الضعفاء المظلومين؛ فهي من هذه الجهة شرائع اجتماعية أيضًا، وإنما جعل سلطانها فوق سلطان أعظم عظيم في البشر لغرض اجتماعي واضح، على أنها عادت في أيدي الرؤساء كما كانت الشرائع المدنية بأيدي الملوك أنفسهم، ولكنها مع ذلك هوَّنت على الإنسان تحمُّل الظلم في دنياه بقدر ما فسحت له من الأمل في أخراه.

فترى أني لم أتعمد في مباحثي نفي الأديان لغرض في النفس ولم أنفِها بكلام ألقيته جزافًا، وبرأي فلسفي خاص أو مقتبس كما يتوهم أكثر الذين يسمعون بي ولم يقرءوا مني شيئًا، ولم أتحذلق فيها كما يفعل كثيرون اليوم ممن لا يُسَلِّمون بالنتيجة العلمية كما هي لئلا تسقط رغائبهم، ولا يقفون في اعتقادهم عند حد الأديان المعروفة، بل يذهبون فيها مذاهب خاصة كل منهم على هواه؛ لئلا يُقال: إنهم متقهقرون، ومثل هؤلاء مثل من أسلم الظُّهر ومات العصر؛ فعيسى أنكره ومحمد لم يعرفه، وإنما التزمت فيها جانب العلم، وأريد بالعلم العلم الطبيعي القليل الانتشار اليوم لا علم الجدل النظري الذي يستطيع أن يطرقه كل مفكر، بل أنا أكره جدًّا كل بحث مبنيٍّ على النظر المجرد. وفي اعتقادي أن وقوف العمران متباطئًا في السير متباطئًا في الارتقاء ومتقهقرًا أحيانًا كثيرة سببه الأكبر أن أكثر علومه حتى اليوم علوم مجردة، ولطالما صرفتُه في الماضي عن القريب منه إلى البعيد عنه، أليس من الغريب أن يكون الإنسان قد خبر غير المنظور وبحث السماوات العُلى، وقاسها بالشبر وعرف طوائف الجن وعدد الملائكة والأبالسة، قبل أن يتعرف أديم الطبقة الأولى من الأرض التي تطؤها قدمه كل يوم والتي هي منشأ ذائه ومنبت كسائه والتي هي مهده والتي هي لحده؟!

وأنا لم أنظر إلى الأديان نظر المستخِفِّ بل بحثت فيها كما بحثت في كل شيء متعلق بالإنسان ككائن طبيعي تقلَّب على أطوار مختلفة في نشوئه، وهي في اعتقادي نفعت كثيرًا وأضرَّت كذلك، ككل نظام يكون نفعه أكثر من ضرره في أوله، ثم ينقلب في أيدي أتباعه إلى الضد أو أنه لا يعود يصلح، شأن كل موضوع لا بدَّ من تعديله على الدوام ليوافق روح كل زمان ومكان.

ولا أظن أنهُ يُوجَد بين المؤمنين أنفسهم من هو أشدُّ إعظامًا مني لواضعي الأديان الذين أعتبرهم من أكبر رجال الإصلاح، وربما التمست لهم عذرًا في التعويل عليها لنشر دعوتهم الإصلاحية؛ لما فيها من الترغيب المُشهِّي والإرهاب المخيف، ولا سيما في ذلك الزمان الذي كانت الأفكار فيه متشبِّعة بمبادئها القوية وأسرارها الخفيَّة، ولكني مهما عظَّمتهم وعظَّمت سواهم من المصلحين، فأنا لا أتحول عما أقول أيضًا: «إن مُصلح اليوم لا يلبث أن يصير رزئًا كبيرًا وعبئًا ثقيلًا على مُصلح الغد.» لوجوب التعديل على الدوام في كل إصلاح مهما كان، والإنسان من طبعه الجمود في كل من يألفه، فلا يسهل عليه الانتقال فيه إلا إذا بلغ من العلم مبلغًا قصيًّا.

فإذا كنت قد قمت على الأديان من الجهة العلمية؛ فلأنها لا مسوِّغ لها في العلم، ومن الجهة الاجتماعية؛ فلأنها أضرَّت كثيرًا بجمودها وجمود أتباعها بها، كما قمت أيضًا على سائر الشرائع الموضوعة والتباطؤ في الانتقال بها، ومن منا يُنكر ما ارتُكِب وما لا يزال يُرتكَب من الفظائع كل يوم باسم الأديان، وهي أشد هولًا كلما كانت الأمم أشد توغُّلًا في الجهل؟! بل من منا لا يرى هول الموقف إذا شاء التحول بها إلى ما يكون أوفق لمصلحة العمران؟!

١  وقد أشرت إلى ذلك بقولي:
ولو أنت أعملت الرويَّة لا الهوى
لأدركت أن الدين لا صوت بل صدى
صدى حبِّنا البقيا لهول حقيقة
وزلفى دلفنا للذي يحفظ البقا
وماذا عزاء المرء من بعد موته
إذا حُبُّه للذات لم يدفع الأذى؟!
وأنَّى له دفع القضاء محتَّمًا
فلم يبقَ إلا بلسم الوهم مُرتجى
ومحبة الذات نفسها في الإنسان والحيوان عاطفة طبيعية ترتقي بارتقاء المدارك، وهي من جنس الألفة الطبيعية التي تحافظ على ذاتية الجسم الجامد، وتدافع عنه ما استطاعت إلى المدافعة سبيلًا، كما أن سائر القوى المركبة في الطبيعة من طبيعة القوى البسيطة فيها كما تقدَّم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤