المذاهب القديمة في النشوء، وأثر الحالات الخارجية في الأحياء

مذهب النشوء والارتقاء قديم يرجع تاريخه إلى آلاف من السنين، وقد نرى أثره في الخرافات الدينية التي وضعها حكماء بابل وآشور ومصر، فكانوا يقولون بأن أثر الكواكب واشتراك بعضها مع بعض كان السبب في نشوء الأحياء في الأرض، وأنها لم تنشأ إلا بالتدريج درجة على درجة، وأنه بتأثير الكواكب السيارة في عناصر الأرض قد تعاقبت الأحياء فيها، حتى إنهم لَيروون في خلق الإنسان خرافة من خرافاتهم؛ إذ يقولون بأنه في بدء التكوين لم يكن إلا كتلة لزجة من المادة لا شكل لها ولا صورة، اللهم إلا نفثة من الحياة نفثها الخالق فيها، ومن ثَمَّ أثَّرت الطبيعة في تلك المادة فتقلبت في أطوار من النشوء بلغت في حدها الأخير الصورة البشرية.

وكانوا يقولون بأن الدور الكامل سبعة آلاف سنة، ينفرد كل كوكب من الكواكب السيارة في التأثير ألف سنة منها بنفسه، ثم يشترك معه في ستة الآلاف التي يكمل بها الدور كوكب من الكواكب الأخرى، وهكذا دواليك على مر العصور وتتالي الأجيال، وإن اشتراك كل كوكب من الكواكب صاحب الدور، ينتج تأثيرًا خاصًّا بهما، وإن ذلك هو السبب في اختلاف صور الأحياء وتباين الأنواع.

هذا طابع المعتقدات القديمة، وتلك شاكلتها، ولقد ظلت هذه الخرافات وما يماثلها طوال العصور مؤثرة في تصورات الإنسان ومشاعره، ولا نزال نراها إلى اليوم شديدة التأثير في عقول كثير من المستوحشين والقبائل غير المتمدينة التي تقطن أواسط القارات العظمى، وجزائر البحار النائية.

•••

وكان حكماء اليونان أول مَن نظروا في حقيقة الأكوان نظرًا فلسفيًّا فيه روح تريث والحكمة، ولا مشاحة في أن ما أتى به هؤلاء الحكماء من مبادئ التحول ضئيل لا يُعتد به، ولعل ما ضاع من فلسفتهم كان سببًا في ضياع الكثير من المذاهب العلمية والمبادئ الفلسفية؛ لأن ما يظهر في كلام «أنكسمندر» الذي وُلد سنة ٦١٠ق.م يدل واضح الدلالة على أن بحوثًا مستفيضة قد تقدمت بحثه في نشوء الحياة في الأرض وتطورها؛ إذ قال: «إن نشأة المخلوقات الحية منسوب إلى تأثير الشمس في الأرض، وتمييز العناصر المتجانسة بالحركة الدائمة، وإن الأرض كانت في البدء طينية ورطبة أكثر مما هي الآن، فلما وقع فعل الشمس فارت العناصر الرطبة التي في جوفها، وخرجت منها على شكل فقاقيع فتولدت الحيوانات الأولى، غير أنها كانت كثيفة ذات صور قبيحة غير منتظمة، وكانت مغطاة بقشرة غليظة تمنعها عن التحرك والتناسل وحفظ الذات، فكان لا بد من نشوء مخلوقات جديدة، أو ازدياد فعل الشمس في الأرض لتوليد حيوانات منتظمة يمكنها أن تحفظ نفسها وتزيد نوعها، أما الإنسان فظهر بعد الحيوانات كلها، ولم يخلُ من التقلبات التي طرأت عليها، فخُلِق أول الأمر شنيع الصورة، ناقص التركيب، وأخذ يتقلب إلى أن حصل على صورته الحاضرة.»

ولقد نقلنا هذه العبارة عن دائرة المعارف العربية للبستاني، فعلى كاتبها تبعة ما جاء فيها، وهي تدل على فضل هذا الفيلسوف في موضعين: الأول: أنه ردَّ ظهور الحياة إلى أسباب طبيعية صرفة، فقال بأنها نتيجة اختلاط العناصر بحرارة الشمس وأثرها فيها، والثاني: قوله بتقلب الأحياء في صور من النشوء والارتقاء حتى بلغت حالتها الحاضرة، ولم يستثنِ منها الإنسان، بل اعتبره خاضعًا لأثر الانقلابات التي خضعت لها الأحياء كافة.

هذا مثل من بحوث اليونان، فيه كثير من أثر النشوء والارتقاء، كما يدل على أن هذا المذهب الذي عاود «لامارك» البحث فيه سنة ١٨٠٩، وأتمه «داروين» سنة ١٨٥٩، كان لجرثومته من عقول الباحثين متسع منذ ستة قرون قبل الميلاد.

•••

فإذا رجعنا إلى العرب وجدنا أن «إخوان الصفا» أول مَن تكلموا فيه بأسلوب علمي في أول عصور المدنية العربية، وإنا لموردون قِطَعًا من مقال لهم في الرسالة العاشرة حسب ترتيب طبعة «بمباي»، مجلد رابع ص٢٨٢ وما بعدها؛ ليعرف الباحث الخبير أن ما ورد في مباحث «إخوان الصفا» إن لم يكن شرحًا لمذهب بعينه، فإن من الهين على مَن درس مذهب النشوء في أطواره الأخيرة أن يستخلص من أقوالهم كثيرًا من المبادئ التي تُعتبر الآن من الدعامات الأولية في مذاهب النشوء عامة، وذلك شأن كل ما عثرت عليه في مباحث حكماء العرب وعلمائهم، لا نجد فيها غير نتفٍ منتثرة خلال سطور مؤلفاتهم، ينطوي تحتها كثير من المبادئ الأولية، أكبر شأنها في الأعصر الحديثة سُنن استكشفوها، وقواعد أزاحوا عنها الحجب، واصطلحوا على تسميتها باصطلاحات أقل ما فيها أنها تتم عما يُقصد منها، مثل: الوراثة، والرجعي، والانتخاب الطبيعي، والانقراض، إلى غير ذلك من المصطلحات التي أورد العرب في إثبات مدلولاتها كثيرًا من المشاهدات، من غير أن ينظروا في نتائجها، فكانوا أول من استجمع كثيرًا من الجزئيات في مذهب النشوء، وأول مَن قالوا بأن عالم الحيوان والنبات والجماد واحد يفصل بين بعضها وبعض حدود انقلابية دقيقة، مثَّلوا لها في النبات بخضراء الدِّمَن، واعتبروها المنزلة الأولى من منازل النبات فيما يلي التراب. ولكن سبب عجزهم عن الوصول إلى النتائج التي وصل إليها علماء العصور الحديثة، ينحصر في نفس السبب الذي قعد باليونانيين ومَن قبلهم عن الوصول إلى النتائج التي وصل إليها العرب من البحث، وترجع هذه الأسباب بجملتها إلى نقص المكملات الأولية التي تسلم بالباحثين عادة إلى النتائج العامة.

جاء في هذه الرسالة لدى الكلام في الفرق بين النبات والجماد ما يأتي:

واعلم يا أخي أن أول مرتبة النباتية أو دونها مما يلي التراب هي خضراء الدِّمَن، وآخرها وأشرفها مما يلي الحيوانية النخل؛ وذلك لأن خضراء الدِّمَن ليست بشيء سوى غبار يتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم يصيبها المطر فتصبح بالغداة خضراء، كأنه نبت زرع وحشائش، فإذا أصابها حر الشمس نصف النهار يجف، ثم يصبح بالغد مثل ذلك من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدِّمَن إلا في أيام الربيع في البقاع المتجاورة؛ لتقارب ما بينهما.

أليس ذلك بقريب مما قال به «هيكل» في «المونيرة»١ وهي أول الحُيَيْوينات الدنيا خلقًا في مذهبه؛ إذ يقول بأنك لا تعرف الفرق بينها وبين المادة الصرفة إلا بتكوين زلالي خاص بها وحركة انقباض لا تكاد تُحس، وجعل هذه المرتبة أول النشوء الانقلابي بين الجماد والنبات، أو كما يقول علماء الحيوان في الصور الحيوانية النباتية التي يسمونها «الحونبيات»؛٢ إذ لم يستطيعوا أن يفرقوا بين الصفات الحيوانية والصفات النباتية فيها، فقالوا: إنها حييوينات نباتية تحوز صفات الحيوان والنبات معًا؛ أي: فرق كبير بين إخوان الصفا في ذلك وبين علمائنا في العصر الحاضر، إذا استثنينا من ذلك الاصطلاح اللفظي الذي اصطلحوا عليه لتسمية هذه الكائنات، وبضعة أوصاف وصفوا بها تلك الأحياء الدنيا، لولا المجهر — وهو من مخترعات الأعصر الأخيرة — لما توصلوا إلى شيء منها.
وجاء في رسالة «إخوان الصفا» التي ذكرناها في النخل ما يأتي:

وأما النخل فهو آخر مرتبة النبات مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتًا.

واستدلوا في هذه الرسالة على أن القوة الفاعلة فيه منفصلة عن القوة المنفعلة، ودللوا على ذلك بأن أشخاص الفحولة فيه مباينة لأشخاص الأنوثة، وتدرجوا من ذلك إلى إيراد أغلب الأوصاف التي يضعها علماء النبات في هذا الزمان حدًّا لأوصاف النباتات الراقية من ذوات الفلقتين، أرقى صور النبات في العصر الجيولوجي الذي تعيش فيه.

وفي هذه النبذة رغم ذلك تلميح إلى أن الحد بين عالمي النبات والحيوان قد بلغ دور الانقلاب الذي يظهر أثره في الحيوانات الدنيا، فقالوا: «وفي النبات نوع آخر فعْله أيضًا فعل النفس الحيوانية، وإن كان جسمه جسمًا نباتيًّا، وهو «الأكشوث»، وذلك أن هذا النوع في النبات ليس له أصل ثابت في الأرض كما يكون لسائر النبات، ولا له ورق كأوراقها، بل هو يلتف على الأشجار والزرع والبقول والحشائش ويمتص من رطوبتها ويتغذى كما يفعل الدود الذي يدب على ورق الأشجار وقضبان النبات»، وما ذكروا ذلك إلا ليستدلوا — وإن كان استدلالًا في ذاته غير صحيح — على أن المشابهة بين حالات في النبات، وحالات في أرقى الحيوان، قد يجوز أن نعتبرها خطوة تخطوها الصور الحية ممعنة في سبيل دور انقلابي من النشوء تتحول به صور الحيوان والنبات.

ثم تدرجوا من ذلك إلى شرح هذا الانقلاب النشوئي فقالوا:

إن أدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة تنبت في تلك الصخور التي تكون في بعض سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة تطلب مادة تغذي بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإن أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة حذرًا من مؤذٍ لجسمها ومفسد لهيكلها، وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق إلا اللمس فحسب، وهكذا أكثر الديدان التي تكون في الطين في قعر البحر وعمق الأنهار، ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية لم تعطِ الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في وقت جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالًا عليها في حفظها وبقائها، فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ومن أجل أنه يتحرك بجسمه حركة اختيارية فهو حيوان، ومن أجل أنه ليس له إلا حاسة واحدة فهو أنقص عن الحيوانات رتبة، وتلك الحاسة أيضًا هي التي يشاركها النبات فيها، وذلك أن النبات له حس اللمس فحسب.

فإذا حللنا تلك العبارة استخلصنا منها مشاهدات عديدة لها الآن الشأن الأكبر والخطر الأول في مذاهب علمي التكوين والنشوء في هذا الزمان، فإن ما يذكره العلماء في الحلزون، وفقدانه كل الحواس ما عدا حاسة اللمس التي يشترك فيها والنبات، حقائق يثبتها علم الحيوان والتاريخ الطبيعي، وجائز أن تكون استدلالًا على اشتراك بعض الحيوانات والنباتات في بعض الصفات العامة التي لا ينكرها كثير من الباحثين في هذا العصر.

ولقد ذكر «داروين» في ثَبَت الفصل الرابع من هذا الكتاب أن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر في الأحياء إلا من طريق فائدتها المطلقة، وأن حدوث الصفات الضارة بالأنواع أمر غير واقع بالفعل من ناحية الانتخاب الطبيعي، وذكر أنه لو كان في أي تحول ضرر ما بالأنواع لبادت وانقرضت، ولا جرم أن كل نوع من الأنواع لا يقبل إلا صفات لا يعدوها، تكون في مجموعها خاصة بمرتبته التي يلحق بها في نظام الطبيعة العام، ولو حدث فيه صفات مما هو خاص بغيره من المراتب — على استحالة ذلك في الواقع، وجواز قبوله في الفرض — لكان ذلك ضررًا بها يُحدث انقراضها، فهل بين هذا القول وبين ما قال به «إخوان الصفا» كبير فرق؛ إذ ذكروا: «أن الحكمة الإلهية لم تعطِ الحيوان عضوًا لا يحتاج إليه في وقت جر المنفعة أو دفع المضرة؛ لأنه لو أعطاها ما لا تحتاج إليه لكان وبالًا عليها في حفظها وبقائها.»

وأي وبال يصيب البقاء وحفظ الذات إلا الانقراض، و«إخوان الصفا» في ذلك يسمون «حكمة إلهية» ما يسميه «داروين» انتخابًا طبيعيًّا، اختلفت بينهما الأسماء، وتشابهت نتائج المؤثرات.

على أننا لو أردنا أن نذكر كل ما وقعنا عليه في كتب العرب من الشواهد التي تدل على أنهم قد استجمعوا كثيرًا من الحقائق التي تؤيد فكرة النشوء والارتقاء؛ لذهبنا في سلسلة بعيدة تحتاج إلى فراغ كبير، فضلًا عن أن فائدتها في بحثنا هذا محدودة؛ لهذا نجتزئ بشيء منها وفي أضيق الحدود.

•••

أمامنا الآن كتابان للعلامة «أبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه الخازن» المتوفى عام ٤٢١ هجرية، أولهما كتاب «الفوز الأصغر» والثاني «تهذيب الأخلاق»، ذكر فيهما أشياء كثيرة، بل شروحًا بيِّنة جلية تنم عن آراء أهل ذلك العصر في النشوء، وتحول بعض الأحياء من بعض، قال في «الفوز الأصغر»:

إن أول أثر ظهر في عالمنا من نحو المركز، بعد امتزاج العناصر الأولى، أثر حركة النفس في النبات؛ وذلك أنه تميز عن الجماد بالحركة والاغتذاء. وللنبات في قبول الأثر مراتب مختلفة لا تُحصى، إلا أنا نقسمه إلى ثلاث مراتب: الأولى، والوسطى، والأخيرة؛ ليكون الكلام عليه أظهر، وإن لكل مرتبة من هذه المراتب غرضًا كبيرًا، وبين المرتبة الأولى والوسطى مراتب كثيرة، وبهذا الترتيب يمكننا أن نشرح ما قصدنا إليه من إظهار هذا المعنى اللطيف.

وكل مَن ينعم النظر في هذا الكلام يوقن بأن فيه فرقًا كبيرًا بينه وبين آراء «إخوان الصفا»؛ إذ مضى ذلك الفيلسوف الكبير في بحثه على قاعدة التقسيم الأولى التي يعتمد عليها المؤلفون العصريون في كتابة مؤلفاتهم في هذا العصر، فقسَّم مرتبة النبات ثلاث مراتب متباينة، وذكر «أن لكل مرتبة من هذه المراتب غرضًا كبيرًا»، ذلك رغم تمييزه بين الحيوان والنبات في الترتيب الزماني، فذكر أن النبات أسبق بالوجود من الحيوان؛ لأن حركة أثر النفس أي الحياة في النبات كانت أول ما ظهر في الأرض بعد امتزاج عناصرها الأولى.

ثم قال في مرتبة النباتات الأولى:

إن مرتبة النبات الأولى في قبول هذا الأثر الشريف هو لما نجم من الأرض، ولم يحتج إلى بذور ولم يحفظ نوعه ببذر كأنواع الحشائش، وذلك أنه في أفق الجماد، والفرق بينهما هو هذا القدر اليسير من الحركة الضعيفة في قبول أثر النفس.

والنباتات التي يعنيها «ابن مسكويه»، هي الفطريات؛ أي النباتات التي تتكاثر بوساطة الخلايا الجرثومية، التي يقول فيها علماء النبات في هذا الزمان: إنها قسم عظيم من أقسام العالم النباتي تحتوي على الفطريات والطحالب وغيرها من نباتات بسيطة التركيب (الثالوسيات)، وتتركب من خلية واحدة، أو من جِرم من الخلايا المتصلة، تتكون من طبقة أو طبقتين أو أكثر من الأنسجة الخالوية، ولا يتميز فيها الجذر من الساق أو الورق، ويقولون بأن الجرم الخلوي عبارة عن جرم من الأنسجة الخلوية يتركب عادة من طبقتين أو أكثر من الطبقات تكون في أغلب الأحيان مسطحة، وفي بعض الأحيان أفقية أو مستطيلة أو متفرعة، ومنها تتكون مادة النباتات ذوات الخلايا الجرثومية، وأدت بهم بحوثهم إلى أن هذه النباتات تمثل في تركيبها أبسط الصور النباتية؛ لأنها تتركب من جرم خلوي فيه أجهزة التناسل، وإنه إذا ظهر في أنواع هذه الطائفة ما يشبه الأوراق، فإنها لا تكون حائزة لصفات الأوراق النباتية الحقيقية؛ لأن بعض نباتاتها إن كان لها ما يشبه الساق في طول مكثه ومتانته، فإنه يتركب من أنسجة خلوية ليس لها شيء من صفات الألياف الخشبية.

تلك هي النباتات التي قال فيها «ابن مسكويه» إنها تشترك في الحد مع الجماد ولا تمتاز عنه إلا بما سماه «أثر النفس»، ويقصد به الحياة الحيوانية، ويقول فيها علماء النبات إن أوراقها «لا تكون حائزة لصفات الأوراق النباتية الحقيقية.»

ثم انتقل من الكلام في هذه المرتبة إلى المرتبة التي تليها، فقال:

ولا يزال هذا الأثر يقوى في نبات آخر يليه في الشرف والمرتبة إلى أن يصير له من القوة في الحركة؛ بحيث يتفرع وينبسط ويتشعب ويحفظ نوعه بالبذر ويظهر فيه من أثر الحكمة أكثر مما يظهر في الأول، ولا يزال هذا المعنى يزداد في شيء بعد شيء ظهورًا إلى أن يصير إلى الشجر الذي له ساق وورق وثمر يحفظ نوعه، وغراس يضعونها بها حسب حاجته إليها، وهذا هو الوسط من المنازل الثلاث.

ويقصد بها «ابن مسكويه» مرتبة الحشائش والأعشاب، واستدرك بعد ذلك فقال: «إلا أن أول هذه المرتبة متصل بما قبله، واقع في أفقه، وهو ما كان من الشجر على الجبال وفي البراري المنقطعة، وفي الغياض، وجزائر البحار، ولا يحتاج إلى غرس بل ينبت لذاته، وإن كان يحفظ نوعه بالبذر، وهو ثقيل الحركة بطيء النشوء.» ثم قال في المرتبة الثالثة من مراتب النبات: «ثم يتدرج في هذه المرتبة، ويقوى هذا الأثر فيه، ويظهر شرفه على ما دونه حتى ينتهي إلى الأشجار الكريمة التي تحتاج إلى عناية من استطابة التربة واستعذاب الماء والهواء لاعتدال مزاجها، وإلى صيانة ثمرتها التي تحفظ بها نوعها، كالزيتون، والرمان، والسفرجل، والتفاح، والتين وأشباهها»، ويقصد بذلك النباتات كاسبات البذور من مرتبة ذوات الفلقتين، حسب التقسيم الذي يجري عليه النباتيون في هذا العصر.

ثم تدرج من ذلك إلى القول بأنه: «إذا انتهى إلى ذلك — أي النبات — صار في الأفق الأعلى من النبات، وصار بحيث إن زاد قبوله لهذا الأثر لم يبقَ له صورة النبات، وقبل حينئذٍ صورة الحيوان.» وبعد أن ذكر في النخل حالات تشابه ما ذكرها به إخوان الصفا، قال في حركة النبات الانقلابية إلى الحيوان فذكر: «أن هذه المرتبة الأخيرة من النبات، إن كانت في شرفه فإنها أول أفق الحيوان، وهي أدون مرتبة فيه وأخسها، وأول ما يرقى النبات في منزلته الأخيرة ويتميز به عن مرتبته الأولى، هو أن ينقلع من الأرض ولا يحتاج إلى إثبات عروقه فيها بما يحصل له من التصرف بالحركة الاختيارية، وهذه المرتبة الأولى من الحيوان ضعيفة لضعف أثر الحس فيها، وإنما يظهر فيها بجهة واحدة أعني حسًّا واحدًا هو الحس العام الذي يُقال له: حس اللمس، كما في الصدف وأنواع الحلزون الذي يوجد في شواطئ الأنهار وسواحل البحار.» تلك هي المراتب الانتقالية التي ذكرها «ابن مسكويه» في نشوء بعض الأحياء من بعض. ولا جرم أن نشوء النبات من الجماد، ونشوء الحيوان من النبات، يشمل بالضرورة نشوء صوره العديدة التي تُساق الصور الحية متدرجة فيها نحو كل مرتبة من هذه المراتب التي ذكرها، ولقد نستدل على ذلك بقوله: إن الإنسان ناشئ من آخر سلسلة البهائم، وإنه بقبول الآثار الشريفة من النفس الناطقة وغيرها يرتقي حتى رتبة أعلى من مراتب البشر، فقال في المراتب التي تدرج الإنسان ممعنًا فيها حتى حصل على صورته الحاضرة: إنها «مراتب القرود وأشباهها من الحيوان الذي قارب الإنسان في خلقة الإنسانية، وليس بينها إلا اليسير الذي إذا تجاوزه صار إنسانًا.»

وقال في كتابه تهذيب الأخلاق في «الأجسام الطبيعية» بعد أن ذكر انتقال الحيوانات التي لم تُعطَ من قوة الفهم إلا النزر اليسير إلى مرتبة القرود، وانتقال هذه إلى مرتبة الإنسانية ما نصه:

ثم يصير من هذه المرتبة إلى مرتبة الحيوان الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه، ويشبهه من غير تعليم كالقرود وما أشبهها، وتبلغ من ذكائها أن تستكفي من التأديب بأن ترى الإنسان يعمل عملًا فتعمل مثله من غير أن تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أفقه وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها والصور التي تلائمها، فإذا بلغ هذه المرتبة تحرك إلى المعارف، واشتاق إلى العلوم، وحدثت له قوى وملكات ومواهب من الله عز وجل يقتدر بها على الترقي والإمعان في هذه المرتبة، كما كان ذلك في المراتب الأخرى التي ذكرناها، وأول هذه المراتب من الأفق الإنساني المتصل بآخر ذلك الأفق الحيواني مراتب الناس الذين يسكنون في أقاصي المعمورة من الأمم التي لا تميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، ثم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى أواسط الأقاليم، فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات.

فهل يحق لنا بعد ذلك أن نقول: إن تسلل الإنسان من صورة أحط من صورته وأرقى من صورة القرود الراقية، انقرضت ولم نعثر على آثارها؟ إن هذا رأي جديد من مستحدثات القرن التاسع عشر.

ننتقل من ذلك إلى ذكر ما وعيناه من مقدمة «ابن خلدون»، فقد ذكر في ص٦٩ من المقدمة الثالثة في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم، ما نصه:

وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لهم بطبائع الكائنات أن السودان هو ولد حام بن نوح، اختُصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه، وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدًا لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات، وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب، فإن الشمس تُسامِت رءوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم، وتسوَدُّ جلودهم لإفراط الحر.

ولقد أطلق نظريته هذه على سكان الأقاليم الشمالية، ونسب بياض بشرتهم إلى أثر الطقس، وفي ذلك من الآراء ما يثبت أن أثر الطبيعة في الأحياء لم يغفله العرب، ولو عرض لابن خلدون ذكر أن العادة قد تُغيِّر من صفات العضويات بمثل ما يغير الطقس، لما امتاز عليه العلامة «لامارك» في شيء من النظريات الأولية التي بنى عليها مذهبه في النشوء. ولا جرم أن أثر الطقس لا يقتصر على الإنسان، بل إن القول بتأثيره في البشر أحرى بأن يشمل كل الأحياء، ثم تدرَّج من ذلك إلى القول في أول المقدمة الرابعة في أثر الهواء في أخلاق البشر، فلم يُقصر التأثير على الشكل الظاهر، بل أطلق تأثيره على الصفات الباطنة التي يكون لها أثر في الأخلاق، فقال: إن السودان ساكني الأقاليم الحارة قد «استولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم، فكان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حرًّا، فتكون أكثر تفشيًا، فتكون أسرع فرحًا وسرورًا وأكثر انبساطًا، ويجيء الطيش على أثر هذه، وكذلك يلحق بهم قليلًا البلاد البحرية لما كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط البحر، وأشعته كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلال والجبال الباردة.» وذكر في المقدمة الخامسة في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع، وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم، قال: «وتجد مع ذلك هؤلاء الفاقدين للحبوب والأُدُم من أهل القفار أحسن حالًا في جسومهم من أهل التلول المنغمسين في العيش، فألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف، وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات.» أليس في كل ذلك أثر من التحولات التي يعتمد عليها زعماء النشوء في هذا العصر، ويقولون: إنها من أقوى الأسباب في استحداث الضروب التي تحدث الأنواع بمضيها متدرجة في قبول هذه الصفات حالًا بعد حال؟ ومما ذكره من تأثير ذلك في الحيوانات، بمثل ما ذكره «أندرونايت» من احتمال أن يكون لتغاير الأغذية أثر في تغاير الأشكال الظاهرة في الحيوانات، فقال: «ومن تأثير الأغذية في الأبدان ما ذكره أهل الفِلاحة وشاهده أهل التجربة أن الدجاج إذا غُذيت بالحبوب المطبوخة في بعر الإبل، واتخذ بعضها ثم حضنت عليه، جاء الدجاج منها أعظم ما يكون، وقد يستغنون عن تغذيتها وطبخ الحبوب بطرح ذلك البعر مع البيض المحضن فيجيء دجاجها في غاية العِظَم، وأمثال ذلك كثير، فإذا رأينا هذه الآثار من الأغذية في الأبدان، فلا شك في أن للجوع أيضًا آثارًا في الأبدان؛ لأن الضدين على نسبة واحدة في التأثير وعدمه.»

ولقد قال في «تفسير حقيقة النبوة» ص٨٠ من الطبعة الأميرية شارحًا تسلسل بعض الأحياء من بعض: «ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج؛ آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات مثل الحشائش وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة اللمس فقط. ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينتهِ إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده وهذا غاية مشهودنا.» هذا ما قاله ابن خلدون، وهو لا يبعد عما ذكره كثيروظهرت صور جديدة من الحيوانن ممن أتى على ذكرهم مؤلف الكتاب في ملخصه التاريخي الذي وضعه في أول كتابه، هذا ونترك للباحث الحكم فيها، وتقدير ما للعرب من المجهود الكبير، والأثر الأول، والفضل العظيم على العلم في القرون الماضية.

ولقد أورد الجاحظ في كتابه «الحيوان» مشاهدات يعتبرها الباحثون من مقومات مذهب النشوء، منها ما قاله في التلاقح وتزاوج الضروب وإنتاج الأنسال الجديدة، فقال في ص١٥٦ م٣: «إن بين ذكورة الخنافس والجعلان تسافد، وإنهما ينتجان خلقًا ينزع إليهما جميعًا.» وقال في ظهور الخاصيات المتوارثة على قدر من العمر في كتابه هذا ص١٥٨ م٣: «إن الجعل يظل دهرًا ولا جناح له، ثم ينبت له جناحان كالنمل الذي يغبر دهرًا لا جناح له ثم ينبت له جناحان، وذلك عند هلكه، والدعاميص قد تغير حينًا ثم تصير فراشًا، وليس كذلك الجراد والذباب؛ لأن أجنحتها تنبت على مقدار من العمر ومرور من الأيام.» وهذه مشاهدات تقدير الباحث لخطورتها رهن على ما يصرفه من الوقت في تفهم مذهب النشوء والفكرة الحديثة فيه.٣

(١) طابع البحث في الأعصر الحديثة

إن البحث في استجلاء غوامض المادة مرتبط بالبحث في أصل الحياة، وما يحيط بالكائنات العضوية من أعاصير الطبيعة ونتائج فعلها المستمر؛ ولذا كان البحث في أصل المادة وما يتبعها من قوانين الوحدة الطبيعية ألصق ما يكون بالعقول، منذ أن بزغ فجر المدنية اليونانية حتى قامت المدنية الحاضرة على أنقاض ما سبقها من المدنيات البائدة.

ولقد اختلفت مشارب الباحثين باختلاف معتقداتهم وكفاياتهم ونفوذ بصائرهم ووقوفهم على حقائق الكون، وبمقدار ما كان من تباين مشاعرهم وآرائهم، كان قربهم من الحقيقة أو بعدهم عنها، فأفضى تنافر المعتقدات إلى منازعات بل ثورات قلمية، ذهب التعصب الأعمى بكثير من آثارها خلال القرون الوسطى.

من هذه التطورات العلمية استبنا الفرق بين القدماء والمحدثين، ولقد انحصر الفرق بينهما في مسألة منها تفرعت شجرة الخلاف والتباين، بدأت الفلسفة على ما نعرف من تاريخها الصحيح بالعصر اليوناني، وإن كانت في الحقيقة قد نشأت في أول إنسان أجال نظره من فوق هذا السيار الصغير سائلًا: «ما هذا الكون الفسيح؟!»

كان أول ما ذهبت فيه عقول الحكماء اليونانيين البحث فيما يرقى بمستوى الأخلاق، ويحث على الفضائل الخلقية حتى يستقيم من طريقها عود الأحكام، وينضر وجه الاجتماع وينقشع عن أفق مدنية «الحيوان الناطق» غَيْهَب الثورات السياسية والانقلابات الدينية التي كانت تغيِّر من نظام المجتمع حينًا بعد حين، أخذوا في الجِد وراء تطهير النفوس من أدران الماديات يدفعونها إلى العلم ويسوقونها إلى الأدب، وأمعنوا في هذه السبيل حتى قال أفلاطون: إن الإنسان حكيم بطبعه محب للحكمة بغرائزه، وإنه لم يُخلق إلا للفلسفة، فإذا رغب عنها دل ذلك على فساد في الطبع ونقص في الفطرة، يجب إصلاحه بالأدب المرضي والموعظة الحسنة. ولقد ظل هذا الاعتقاد شديد الأثر في كل ما أُخرج للناس من الآراء والمذاهب والفنون والصناعات، حتى قضت فلسفة «باكون» على آثار تلك المعتقدات؛ إذ قال بأن الإنسان عبد منفعته المادية، وإن الفلسفة مسخرة لمنفعة بني آدم.

كانت فلسفة «باكون» أول ضربة أمالت جدر تلك الفلسفة العتيقة التي كان لها الأثر الأول في أحكام دعائم المدنية اليونانية والحضارة الرومانية، وإن كانت أقل أثرًا في مدنية العرب منها في المدنيات الأخرى.

ولقد تبع هذا الفرق الظاهر فرقًا آخر متعلقًا بشاكلة بحوثهم، كان السبب الأكبر في صد تيار التقدم العلمي عصورًا متطاولة قبل ظهور «باكون»، ينحصر ذلك الفرق في أن القدماء انصرفوا إلى استجلاء ماهية الموجودات وأسرارها الخفية، كالبحث في ماهية الحرارة، وماهية الضوء، ولم ينصرفوا إلى البحث في أعراضها الظاهرة للانتفاع ببحثها ماديًّا، إلا وهم مسوقون من طريق البحث فيها إلى معرفة ماهية الموجودات، فكان إكبابهم على البحث في الماهيات أمرًا صرفهم عن البحث في خاصيات القوة التي هي والمادة صنوان، بقاء أحدهما مقصور على بقاء الآخر، فبقي أمر القوة غفلًا حتى القرن التاسع عشر؛ إذ بان لنا أن القوة قديمة، وأن مقدارها لا يزيد ولا ينقص، شأنها في ذلك شأن المادة المحسوسة.

ابتدأ الأقدمون من حيث نريد اليوم أن ننتهي، ابتدءوا بالبحث في الماهيات حيث لا أمل لهم في الوصول إلى نهاية، وابتدأ علماء القرون الوسطى بالبحث في الأعراض للتوصل من طريق البحث فيها إلى الماهيات.

بحث الأقدمون في صنوف المعارف وشتات العلوم غير ناظرين إلى نتيجة مقصودة بالذات غير الوصول إلى معرفة الماهيات المختلفة للظاهرات الطبيعية، وأخطئوا في تقدير أن الفضائل وحدها كافية لإحراز السعادة في هذه الدنيا، وقصر المحدثون بحوثهم في إحراز تلك السعادة على قاعدة أنها لا تُنال إلا إذا كملت مهيئاتها المادية، ولو اتسعت خطا النوع الإنساني في التكاثر والتضاعف العددي بنسبة ما نرى اليوم، ووقف عقله دون فلسفة أفلاطون؛ لأثرت فيه مؤثرات الفناء تأثيرًا لا نستطيع أن نقدره تقديرًا صحيحًا، ولا خفاء أن انتشار النوع الإنساني واتساع المآهل التي تأهل به، كان مقرونًا بمهيئات جوهرية، منها تقدم العلوم والمستكشفات ورقي الصنائع والفنون. تلك نتيجة من نتائج فلسفة «باكون» في الأعصر الحديثة، لا نستطيع أن نقدرها حق قدرها، حتى نتبين شيئًا من نتائجها الجُلَّى التي ظهرت في القرنين الماضيين.

ظلت الفلسفة والمبادئ العلمية قرونًا عديدة، والمعتقدات العتيقة والأساطير الباطلة شديدة التأثير في تلك الخطى البطيئة التي كانت تحاول أن تخطوها إلى الحقيقة خلال قرون. ولا ريبة في أن المبادئ العلمية الصحيحة لا تضيع آثارها مهما كانت الأفكار غير مهيأة لقبولها وقتًا ما، كالصفات الموروثة المفيدة للنوع، يبتدئ وجودها في أفراد معينة ثم تستقر في طبائع العضويات استقرارًا كليًّا. ولو نظرت في الحقيقة لأيقنت بأن سُنن علم الحياة والحيوان ومبادئ علم طبقات الأرض والآلات المركبة والفنون الجميلة، ومبادئ علم الفلك والظاهرات الجوية وتقويم البلدان وشتات العلوم وضروب المعارف كافة، ليست إلا غرس تلك الجهود التي قام بها فحول العلماء وكبار المصلحين منذ استقوى على الإنسان سلطان الفكر، ولقد ذكر «جوستاف لوبون» أن الحوادث العظيمة، كظهور الأديان وإغارة بعض الأمم على بعض، نتيجة تغير داخلي في رءوس الأفراد، كذلك تغيُّر المذاهب والمعتقدات الفلسفية والعلمية، نتيجة تغير تجتمع أسبابه على مر الزمان، وكما أن تكوين الأفراد والأمم من ناحية الصفات والأخلاق، نتيجة ما توارثته الأفراد والجماعات عن أسلافهم السابقين، كذلك نحن في العلم مدينون لأسلافنا الأولين بأضعاف ما نحن مدينون به لرجال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وما أشبه نشأة العلوم وضروب المعارف في أمم العالم بنشأة الفكرة عند الفرد، كلاهما يبتدئ بالجزئيات ويخلص منها إلى الكليات، وعلى ذلك كانت كل القواعد التي وضعها رجال الأعصر الحديثة في العلوم والفنون والصناعات كافة، مسائل استجمع أصولها رجال الأعصر القديمة.

فإذا تابعنا النظر قليلًا وضح لنا أن فلسفة «أرسطو» — وهي عنوان الفلسفة القديمة ودعامتها — قد أصابها من الوهن والانحلال قبل ظهور فلسفة «باكون» إلى الوجود، ما هيأ لهذه الفلسفة أن تكون شديدة الأثر في هدم المعتقدات العتيقة في القرون الوسطى. وخليق بنا أن نعي أن فئة من العلماء قامت تناوئ فلسفة «أرسطو» من قبل، أوسعهم شهرة «بيير راماس» البحَّاثة الفرنسوي المتوفى في أغسطس من سنة ١٥٧٢، وكانت الأفكار قد تهيأت لقبول ما أتى به «باكون»، فلما ظهرت فلسفته أخذ ظل المعتقدات اليونانية يتقلص، وجعل أثرها يضعُف، «كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف»، ولم يكن لتلك المعتقدات من ولي سوى جمهور المتعصبين للقديم، الذين يرون أن كل تغير في معتقدات الأفراد، وكل طارئ جديد يطرأ على بحوثهم العلمية والفنية، معول يهدم أساس سلطانهم، وما محكمة التفتيش منا ببعيد!

ولقد فشت الفوضى العلمية في أوروبا قبل ظهور الفلسفة الحديثة، فتنوعت البحوث، ونشط كل الباحثين من سباتهم العميق، يعملون على وضع القواعد الأولية التي يجب أن تكون أساس هذه الفلسفة، بعد أن نبذ الناس فلسفة «أرسطو» التي ظلت القرون الطوال صاحبة الحكم المطلق على سلطان العقل والاعتقاد، وتوسَّع الناس في فهم معنى الحرية الفكرية والعملية، فاختلطت بحوثهم اختلاطًا مريبًا، وهم بعد لم يضعوا ميزانًا قيمًا ودستورًا محكمًا ثابت القواعد رفيع الأركان يتخذونه للبحث أساسًا، ويحتذونه منارًا هاديًا ومرشدًا أمينًا.

في وسط تلك الثورة العلمية ظهرت فلسفة «باكون»، وقواعد فلسفته كما أسلفنا تباين الفلسفة القديمة شكلًا ووضعًا. والمؤرخون في الأعصر الحديثة يعتقدون اعتقادًا لا يوهنه الشك في أن مبادئ «باكون» إن كانت في الحقيقة أول ما تمخض عنه القرن السادس عشر من الأسباب التي طوت الفلسفة القديمة في طيات النسيان، فإن ما قام به بعض الباحثين قبله في مناوأة مبادئ «أفلاطون» وأرسطو؛ لوضع فلسفة حديثة تملك ناصية المعتقدات العلمية، أتى بها ذلك الفيلسوف العظيم والنابغة المتفوق.

ولا يتسنى لنا أن نعرف مقدار تدرج العقول في الأعصر الأخيرة منذ بزغ فجر القرن السابع عشر إلى الآن، حتى يظهر الفرق بين فلسفة «باكون» وفلسفة «أفلاطون وأرسطو» ومَن تبعهما، أو بالحري الفرق بين مرمى الفلسفتين القديمة والحديثة، وغاية كل منهما، ونبيِّن من جهة أخرى مقدار ما يعود من النفع المادي على الإنسان من كلتا الفلسفتين. ولا جرم نعجز عن أن نجعل المقارنة عامة بين فلسفة «باكون» وضروب المعتقدات الفلسفية القديمة التي قام بها رجال كثيرون مختلفة بحوثهم، متباينة أفكارهم، متباعدة عصورهم؛ لتشابه المعتقدات في الأعصر الأولى؛ لذلك سنقصر المقارنة على فلسفة «أفلاطون»؛ لأن فلسفته على جمعها بين كثير من مختلف المبادئ في الإلهيات والأخلاق والطبيعيات والرياضيات، فإن هذه المبادئ لم تتخطَّ دائرتها العقول قبل فلسفة «باكون» إلا قليلًا.

ولنبدأ الآن بإظهار الفرق بين الفلسفتين في الرياضيات، فإن «أفلاطون» كان يعتقد بأن دراسة العدد ليس لها من فائدة عملية سوى رياضة العقل على البحث أو الاستبصار، والوصول عن طريق هذا البحث إلى معرفة حقائق الموجودات، وتجريد النفس من أدران المادة، والتعالي بالفكرة إلى ما بعدها، ولم نجعل لدراسة علم الحساب أو الهندسة من فائدة ما، أو إحراز كسب مادي في ضرب من ضروب المعاملات كالتجارة والصناعة أو الحاجيات الأولية التي تحتاج إليها الجماعات في العمران، تلك الحاجيات التي لولاها لما كان لدراسة هذه العلوم وزن يذكر في الأعصر الحديثة. أما «باكون» فقدَّر هذه العلوم بما ينتج عن دراستها من المنافع المادية التي كان «أفلاطون» يعتقد أن في السعي لها الضرر الأكبر والمرض العُضال الذي يصيب الإنسان في حالات الاجتماع كافة، وشأن «أفلاطون» في علم الهندسة شأنه في علم الحساب العددي، فقال: إن المشتغلين بالهندسة لا يجب أن يتذرعوا بها لإحراز المنافع المادية، وإلا نبا بهم القصد عن إصابة الغاية منها؛ لأن اشتغال العقل بالماديات يصرفه عن إدراك كنه الموجودات أو التوصل إلى معرفة الحقيقة المحضة والخير المطلق. وكان على يقين بأن الهندسة ليس لها من أثر عملي سوى ترتيب أعمال العقل وتنسيقها؛ لذلك لم تُعنَ الفلسفة القديمة بغير المعنويات الصرفة، ونبذت البحث فيما ينجم عن الاشتغال بمبادئ علم الآلات المركبة أو غيره من العلوم والصناعات العلمية.

أما ما وضعه «باكون» من القواعد الجامعة في هذا الموضوع، فتناقض القواعد التي وضعها القدماء كل المناقضة، فإن ما نبذه «أفلاطون» وحث على اطراحه جانبًا، كان له عند «باكون» الأثر الأول؛ إذ قال بأن الهندسة ليس لها من فائدة إلا بقدر ما نستفيده منها في حياتنا العملية، ولكنه لم ينكر ما للعلوم الرياضية من التأثير على الآداب وضروب المعقولات، غير أنه وضع لأثرها حدودًا معينة؛ إذ قال بأن تأثير العلوم الرياضية من الوجهة المعنوية عرضي صرف.

والفرق بينهما كبير في علم الفلك، كان القدماء يعتقدون أن معرفة حركة الأجرام السماوية وكيفية هذه الحركات ليست بذات شأن كبير، ولم يحث «أفلاطون» على الاشتغال بالفلك لما ينجم عنه من المنافع كمعرفة الفصول والمواقيت، بل نكب عن ذلك، فقال بأن ليس لبني الإنسان أن يشتغلوا بعلم الفلك إلا كما يشتغلون بالرياضيات، وأن يجعلوا قصدهم الأول من الاشتغال بهذه العلوم رياضة النفس على معرفة الحقائق المطلقة، أما الفلسفة الحديثة فلها في علم الفلك مآرب أخرى، مبناها المنفعة المادية المنحصرة في استكشاف المستحدثات.

والفروق فيما هو خاص بالشرائع لا تقل شأنًا عن الفروق التي جئنا بها من قبل لدى الكلام في الرياضيات والفلك. ذكر «أفلاطون» أن الغاية التي ترمي إليها الشرائع كلها التوصل إلى جعل الإنسان فاضلًا يعمل الخير لذاته لا مرغمًا عليه ولا مندوبًا إليه، ولقد عرف «باكون» مقدار تأثير الأخلاق الفاضلة في جلب النفع العام، ومقدار ما تؤثر هذه الأخلاق في نيل السعادة الدنيوية، فقال بأن الغاية التي يجب أن ترمي إليها الشرائع الوضعية تنحصر في جعل الناس سعداء بقدر ما تصل إليه استطاعة المصلحين، وأن من أخطر مهيئات هذه السعادة زيادة المنافع المادية من جهة، والتفريق بين التربية الأدبية والتربية الدينية من جهة أخرى، والعمل على حفظ المتاع والنفس والأمن عليهما. وإعداد عُدد الدفاع عن المصالح الوطنية مهما تنوعت أشكالها وأوضاعها، وتنظيم السلطات الإدارية والاشتراعية، وحد السلطة الشرعية في الحكومات الملكية، ووضع قواعد معينة تسري أحكامها في الجمهوريات، وتنسيق الأنظمة القضائية والمالية والتجارية، حتى تتهيأ للأفراد أسباب استجماع الثروة الحقيقية والمجد الخالد.

على أن الفروق بين الفلسفتين لا تقف عند هذا الحد، بل تتخطاه إلى التباين في كيفية وضع القوانين، والفروق لا تُحصى بين مبادئ الرجلين في الطب والمعنويات بل والعقليات. ولو شئنا استيعاب كل هذه الفروق لضاق دونها صدر هذا الكتاب، ولكن حسبنا أن نعرف أن الفروق على وجه الإجمال تنحصر في أن فلسفة «أفلاطون» لا ترمي لغير غرض واحد هو جعل الإنسان فاضلًا، وفلسفة «باكون» تنحصر في إعطاء الإنسان كل حاجياته الضرورية؛ ليتهيأ له أسباب الوصول إلى أداء ما يجب عليه بصفته إنسانًا، ولقد يظهر لنا من هذه الأمثال مقدار التباين بين مرمى الفلسفتين، وقد نستنتج منه مقدار تدرج العقول في البحث منذ ظهور «باكون» حتى العصر الحاضر، ولا جرم نعرف حقيقة الطابع الذي وسم به كل بحث مادي بعد القرن السادس عشر، وعلى هذا الاتجاه الفكري قامت فلسفة القرن التاسع عشر، وكان مذهب التطور نجمها اللامع في سماء الفكر.

وقبل أن نبدأ القول فيما نحن قاصدون إليه من هذه العجالة، يجب علينا أن نشرح مذهب «هربرت سبنسر» في ناموس الارتقاء الطبيعي وماهيته؛ ليقف الباحث على طبيعة ذلك الارتقاء وكيفياته وانطباقه على كل ما في الكون من جماد ونبات وحيوان، ولقد ألجأتنا الحاجة القصوى إلى شرح هذا الناموس حتى لا يفوتنا الوقوف على حقيقة تلك الخطوة الكبرى التي خطاها مذهب النشوء في أواخر القرن الماضي، ولا يغيب عنا مقدار تدرج العقول في فكرة أصل المادة والحياة نباتية كانت أم حيوانية.

وضع «هربرت سبنسر» قواعد النشوء والارتقاء في أواخر القرن التاسع عشر، فأظهر أن قانون الارتقاء عامة ينحصر في التغارير من حال التجانس التركيبي إلى التنافر فيه، وهو ناموس يؤيد مذهب «داروين» بما لا يترك للريب مجالًا. قال: «إن الاعتقاد السائد في ماهية الارتقاء وطبيعته مبهم ليس له من ضابط معين أو حدٍّ خاص، وقد يؤدي في بعض الحالات معنى أوسع نطاقًا عما يشمله معنى النماء العرضي، كازدياد عدد أفراد أمة من الأمم، أو اتساع المناطق التي تأهل بهم. وقد يكون له في بعض الحالات صلة بكمية المستحدثات العادية إذا قصر البحث على ماهية الترقي الزراعي والصناعي، وقد يقتصر على صفات تلك المستحدثات تارة، وعلى ترقي الوسائط التي أنتجتها تارة أخرى، ولا جرم أننا إذا قصرنا البحث على ترقي الآداب والفلسفة العقلية، كان لا مندوحة لنا عن دراسة حالات الأفراد والجماعات بوجه عام، بينما يفصح لنا التنقيب والفحص في ترقي المسائل العلمية الفنية من جهة أخرى عن صفوة النتائج التي هي غرس جهاد النوع البشري وثمرة مجهوداته الفكرية وليس الاعتقاد السائد في ماهية الارتقاء الطبيعي مبهمًا إلى حد معين أو غير معين لا غير، بل هو خطأ محض لا يستظل من الحقيقة بظل؛ ذلك لأنهم لا يجعلون السبب الحقيقي في حدوث الارتقاء من جملة الأسباب المنتجة له، ولا يقولون بأن المادة هي مجال تأثيرات تلك الأسباب، فإننا لا نستدل في كل الحالات على ترقي القوة المدركة في الإنسان، ذلك الترقي الذي يظهر خلال أطوار النماء من حالة الطفولة إلى الرجولة الكاملة، أو في انتقال الهمجي من حالته تلك إلى مرتبة الفلاسفة المجربين، إلا بزيادة عدد الحقائق التي يعرفها والسُّنن الطبيعية التي يدرك كنهها. بينما ينحصر الترقي الحقيقي في تغاير الصفات الباطنة التي يدل عليها التبحر في العلم والمعرفة واستنباط المدركات، وزعم البعض أن الترقي الاجتماعي مقصور على ازدياد كمية المستحدثات الحاجية التي تقوم بضرورات الإنسان الأولية وتنوعها، أو في زيادة أسباب الأمن على المتاع والنفس، أو في التوسع في معنى حرية العمل. بينما لا يحدث الترقي الاجتماعي الصحيح إلا بما ينشأ في طبيعة ذلك الكائن الاجتماعي من التغايرات الجوهرية التي تكفل له الوصول إلى تلك النتائج، على أن الاعتقاد السائد لا يخرج عن القول بقاعدة اتصال العلة الأصلية بمعلولاتها؛ لأن ظواهر ذلك الاعتقاد لا تخرج عن تعلقه بالسعادة البشرية مباشرة، وأن تلك التغايرات الطبيعية لم تحدث لإيجاد أسباب الترقي الطبيعي، فعليًّا كان أو معنويًّا، إلا لتزداد أسباب تلك السعادة، وأن الباحثين لم يُعنوا أنفسهم في البحث والاستبصار في أسباب الترقي المدني واستنباط أسبابه، إلا وهم مسوقون بدافع الرغبة إلى استيفاء أسباب السعادة التي ينشدها الإنسان في هذه الدنيا.

ولما كان قصدنا معرفة ماهية الترقي الطبيعي، وجب علينا أن ندرس طبيعة تلك التغايرات على اعتقاد أنها منفصلة عن منافعنا الذاتية تمام الانفصال، فنبحث في تتابع التغايرات التي طرأت على الأرض في أزمان تكوين طبقاتها، على اعتبار أنها تغايرات طبيعية، كانت نتائجها إعداد كرة الأرض لتأهل بالأحياء، أو على اعتبار أنها السبب في ترقي طبقات الأرض وتكوين مراتبها، فنبحث في صفات تلك التغايرات والسُّنن الطبيعية التي كانت مؤثراتها سببًا في تكوينها.

ولئن نظرنا نظرة تأمل لوجدنا أن علماء ألمانيا قد بنوا أساس الحقائق التي تتعلق بطبيعة الارتقاء الذي تخضع لسننه أفراد العضويات كافة في سلسلة تحولها ونشوئها؛ إذ أبان «وولف، وجوته، وفون باير» أن سلسلة التغايرات التي تحدث خلال نماء البذرة النباتية حتى تصير شجرة كاملة، والبيضة الأولى حتى تصير رجلًا كاملًا، تنحصر في الارتقاء من التجانس التركيبي إلى التنافر فيه، فكل جرثومة حية تكون في حالتها الأولى مركبة من مادة متجانسة تجانسًا تامًّا في تكوينها الطبيعي وتركيبها الكيماوي. وأول خطوة تخطوها تغاير أجزاء مادتها الأصلية، أو كما يدعو تلك الظاهرة الطبيعية علماء وظائف الأعضاء «تحولًا عضويًّا»، ويقصدون بذلك تخلق أعضاء جديدة ذوات وظائف معينة، وكل جزء من الأجزاء التي يلحقها ذلك التحول العضوي، تبتدئ في الظهور بتباين خاص يحدث بين أجزاء الجسم، ثم يصبح بالتدريج شأن تلك التغايرات العضوية المتضعة، لا يقل عما للأعضاء الرئيسية من المكانة والشأن. ومن ثم تمضي تلك التحولات العضوية غير المتناهية متتابعة الحدوث مستمرة التأثير في كل عضو من أعضاء الجنين الممعن في أسباب النماء، وبتأثيرها ينتج اختلاط الأنسجة التي يتكون منها نبات أو حيوان بالغ حد النماء الطبيعي، ذلك هو التاريخ الطبيعي للعضويات كافة، يثبت أن ترقي العضويات الطبيعي ينحصر في التغاير من التجانس التركيبي إلى التنافر فيه.»

ثم قال: «إن سُنة ذلك الترقي العضوي هي سُنة ضروب الترقي الطبيعي كافة، فإن كل ما في الكون، مثل تكوين الأرض ونماء الحياة فيها، أو ترقي الجماعات في العمران، ونشوء الحكومات والصناعات والمتاجر والأدب والعلم والفنون، جماعها تخضع لهذه السُّنة الطبيعية في التغاير التدريجي من الوحدة النوعية إلى الاختلاط والتكاثر النوعي، فإن الانتقال من حالة التجانس إلى التنافر، كان السبب الأول في حدوث الارتقاء منذ ظهر أول أثر للتغايرات الكونية في الوجود إلى أن بزغ فجر المدنية في الوقت الحاضر.» ولا تزال الكائنات ولن تزال خاضعة لتلك السُّنة التي تؤثر فيها تأثيرًا مقداره في كل الحالات رهن على ما يحيط بها من المؤثرات، ولنذكر مثالًا واحدًا من الأمثال التي أوردها «سبنسر» لتأييد هذه النظرية؛ ليستبين الباحث أن تدرج العقول في فكرة أصل الموجودات — ومنها ظاهرة الحياة نفسها — قد خضع لهذه الأطوار على مر العصور، قال «سبنسر»: «إن البحث في أصل النظام الشمسي يؤيد تلك السُّنة الكونية — سُنة الترقي الطبيعي العام — لِنفرض أن المادة التي تتكون منها الشمس والكواكب كانت سديمًا مالئًا أطراف الكون، وأنه قد نتج بتجاذب جواهره الفردة حركة دورية حول مركز معين، وكان النظام الشمسي في مبدأ تكوينه غير محدود المكان والامتداد متجانسًا تجانسًا عامًّا في كثافته وحرارته، وفي كل ظواهره الطبيعية الأخرى، وأول ما نتج من التغاير في ذلك السديم المنتشر بتأثير ما نشأ فيه من الاندماج وقوة التلازم، اختلاف طبيعي تغايرت به مادة ذلك الجرم الداخلية وأجزاؤه الخارجية في الحرارة والكثافة، وأحدث انفصالُ أجزائه الخارجية في ذلك الوقت حركات مختلفات الماهيات متباينات في سرعة حركاتها الزاوية، منتهيات بالدورة من حول جِرمها الأصلي، ومن ثَم أخذ هذا التغاير المادي في التكرار غير مرة، متعاقب الوقوع بتزايد في الكم، حتى تدرج النظام الكوني إلى ما هو عليه الآن من شمس وأجرام سيارة وأقمار تدور حولها، ذلك المجموع بما بين أجرامه من الفروق الطبيعية في التركيب والحركة، تلك الفروق الظاهرة بين الشمس والسيارات في الحكم والوزن وما يتبع ذلك من الفروق النسبية بين السيارات بعضها مقيسًا ببعض، أو بين السيارات وأقمارها التابعة لها في الدورة الفلكية.

ومن تلك الفروق الطبيعية ثبات الشمس ودورة السيارات حولها مندفعة في الفضاء تطويه طيًّا، إلى غير ذلك من الفروق الاعتبارية بين سرعة السيارات ومقدار الزمن الذي يتم فيه كل سيار رحلته حول الشمس، وازدواج حركة الأقمار في دورتها حول متبوعها وهو السيار، ومتبوعها الأكبر وهو الشمس، تابعة في ذلك حركة السيار ذاته، على أن الفروق الطبيعية في النظام الشمسي لا تقف عند هذا الحد، فإن اختلاف الشمس وبقية السيارات في الحرارة النوعية من أكبر تلك الفروق وأعظمها أثرًا، ولدينا من الاعتبارات الصحيحة ما يثبت أن السيارات تختلف عن أقمارها التابعة لها في الحرارة النوعية، اختلافها في كمية الحرارة التي يستمدها كلاهما من الشمس. على أننا إذا وعينا فوق ذلك أن السيارات وأقمارها تختلف في نسبة أبعادها بعضها من بعض خاصة، وفي نسبة أبعادها من الشمس — وهي الجِرم الأول الذي اتخذت حوله دورتها الفلكية — وفي مقدار ميل أفلاكها وميل محورها على الفلك ذاته، وفي أزمنة دورتها حول محورها، وفي جاذبيتها وكثافتها، وفي تراكيب عناصرها؛ لظهر لنا مقدار اختلاف المجموع الكوني وتنافره الآن مقيسًا بتجانس مادة السديم الأول الذي هو أصل النظام الكوني. والطبيعيون وعلماء طبقات الأرض — رغم هذا — لعلى اعتقاد بأن الأرض كانت في زمان ما من أزمان وجودها جِرمًا من المادة في حالة الذوبان، فكانت إذ ذاك متناسبة تناسبًا تامًّا في تركيبها العنصري، وما يتبعه من تناسب أجزائها في مقدار الحرارة الحادثة من فعل الدورة الشديدة التي تلازم المواد المصهورة، وكانت محوطة بجوٍّ يتكون بعضه من عنصري الهواء والبعض الآخر من مواد أخرى مختلفة، كانت أكثر قبولًا للتحول إلى الصورة الغازية بتأثير حرارة شديدة، ثم أخذت حرارة ذلك الجِرم في التناقص، فبدأ يبرد سطحه حالًا على حال، ومن ثم استمرت درجة حرارته في النزول ولا تزال مستمرة في ذلك حتى الآن، وذلك الجِرم إن كان تَناقصُ حرارته في مبدأ أمره أسرع منه الآن؛ فإنه احتاج إلى دهور طويلة موغلة في القدم حتى استقر على حال من التغاير الطبيعي، كتجمد الطبقة السطحية التي هي أكثر استعدادًا من غيرها لقبول تلك الحال، فأول تغاير طرأ على حالة الأرض، تكوُّن قشرتها السطحية الرقيقة. وباستمرار انخفاض حرارتها، وتزايد غلظ قشرتها، وهبوط تلك العناصر القابلة للتجمد في جوها المحيط بها، عدا تكاثف المياه التي كانت من قبلُ بخارًا، نرى الأرض وقد استقرت على حال أخرى من حالات التغاير، وإذ كان تكاثف تلك العناصر المتبخرة حولها، لا يحدث إلا في أشد مناطق الأرض برودة؛ أي في القطبين، كان ذلك أول مظهر امتازت به المناطق الجغرافية في سيارنا.»

ذلك من الأمثال القيمة التي أوردها «سبنسر» دليلًا على صحة القواعد التي وضعها الألمان وزكَّاها ذلك الفيلسوف، ونمَّاها ليثبت ذلك الناموس ويكشف عن أسبابه التي طبقها على ما في الكون من الموجودات، حتى لقد طبقها على اللغات والعادات والقوانين الوضعية وصفات الشعوب المتغايرة وتقاليدها الخاصة بها.

ذلك هو مذهب «سبنسر» في الارتقاء وضروب التحول كافة، وهو مذهب عام صحيح، أطلقه على كل ما في الكون من نبات وحيوان وجماد ومعنى، وطبقه على حالات العمران والفنون والصناعات، فإذا كان قد خضع لهذا الناموس كل ما في الكون، فلم يصدق على أفراد الحيوانات والنباتات وصنوف الجمادات، ولا يصدق على تاريخ تطورها العام على مر الأزمان التي تكونت فيها طبقات الأرض؟
  • (١)

    تدرجت صور الحياة في الوجود متعاقبة في أزمان متلاحقة: قضية يؤيدها علم الجيولوجيا وعلم الأحافير.

  • (٢)

    أنواع الحيوانات والنباتات في أزمان تكوُّن الأرض الأولى كانت أقرب إلى التجانس منها إلى التنافر والاختلاف حقيقة مشاهدة، بدليل أن الأزمان الأولى لم يحدث خلالها أنواع بلغت فروق بعضها من بعض مبلغ الفروق التي نراها بين الإنسان والخفاش مثلًا، وذلك تنافر في التكوين لم تبلغ إليه صور الحياة في الأعصر الأولى من تاريخ الأرض.

    ناهيك بالفروق التي نراها بين ذوات الثدي والزواحف أو بين الزواحف والطيور، أو بين الأسماك الراقية والحيوانات الرخوة وما إليها.

  • (٣)

    يتقلب الجنين في أدوار من التغاير يشابه في كل منها كثيرًا من أجنة الحيوانات الأخر في أيامها الأولى أمر ثابت بالمشاهدات والتجاريب، يدل على أن الجنين في تقلبه هذا يعيد تاريخًا مقتضبًا لأسمى الصور التي بلغها نوعه الأول منذ نشأته إلى هذا العصر، وعلى أن هذه الصور التي يتقلب فيها هي التي ثبت عليها النوع أطول عصور حياته، وأن انقلابه هذا ليس إلا استعادة صور من التجانس والتنافر، تستقر أخيرًا على الطابع القياسي الذي يلازم نوعه في عصوره الأخيرة، ذلك ما يثبته «داروين» في «أصل الأنواع»، وذلك ما ينكره أصحاب الخلق المستقل. سلهم كيف خُلق كل نوع بذاته بين فترات الزمان؟ يقولوا لك: «الله خلقه»، نحن معهم في أن الله خلق كل شيء، ولكنهم لا يريدون أن يسلِّموا بأنه قد جعل لكل شيء مقدارًا ونسبة نراها ظاهرة في كل أثر من آثاره، وجعل لكل قوة من القوى التي بثها في الطبيعة نتائج مرهونة بأزمان، يحددها في كل الحالات، مقدار تأثير كل قوة في الأخرى. سلهم أفي الطبيعة طفرة؟ يقولوا: لا، ولكنهم لا يسلِّمون بأن هذه الطفرة التي ينكرونها على كل شيء مستحيلة كذلك في خلق الأنواع دفعة واحدة، ولا جرم نعجز عن إقناعهم، وذلك مبلغهم من العلم.

وما حدا بنا إلى الإطناب في شرح قواعد الارتقاء الطبيعي وماهيته، إلا بحث في أصل الحياة، ومن أين أتت إلى هذا السيار، نحن مسوقون إلى الكلام فيه، بعد أن ثبت أن الأرض كتلة منفصلة عن الشمس، ظلت دهورًا متطاولة موغلة في القدم، على حال لا يمكن أن تعضد أثرًا للحياة.

(٢) أصل الحياة

ما أصل الحياة؟ وكيف نشأت في هذه الأرض؟ سؤال ورد على أذهان الباحثين في كل عصر من عصور التاريخ، وتجشم كثير منهم مئونة البحث فيه، فملئوا المجلدات الضخام ابتغاء الوصول إلى معرفة ذلك السر الخفي سر الحياة، وما قولي الآن في الإجابة بأن «الحياة هي الحياة» بأقل مما ملئوا به بطون المجلدات من بحث ضاعت مقدماته في نتائجه وضاعت، نتائجه إزاء هذه الحقيقة الغامضة!

قالوا: منشؤها الماء ثم الهواء، ومن ثم غاب عنهم أنها نشأت من التراب، فقالوا: أصل الحياة من التراب، وتدرجوا إلى القول بأنها نتيجة اختلاط العناصر! وأي العناصر تلك التي تبدع حياة؟! لا جرم تكون سرًّا أبعد عن متناول العقل من الحياة ذاتها. قالوا بالتولد الذاتي، ولم يثبتوه بتجربة، اللهم إلا فروضًا ما أنزل الله بها من سلطان. وما زالت هذه الفكرة تنتقل من جيل إلى جيل حتى أراد «وليم طمسن» أن يخرج بالعالم من ظلمات الجهل، فقال بأن الحياة هبطت إلى الأرض من السماء، حملتها النيازك والشهب ومن ثَم تكاثرت فيها، خرج بنا إذ ذاك من ظلمات جهل بسيط إلى حلكة جهل مركب؛ لأن الحياة سواء أنشأت في السماء أم في الأرض، فذلك لا يوصلنا إلى معرفة أصلها ونشأتها. تلك شاكلة البحث في أصل الحياة، والظن الغالب أن الفكر الإنساني سيقف عند هذا الحد من البحث أجيالًا طوالًا.

أمعن كثير من العلماء في القول بالتولد الذاتي، وعُقد للأستاذين «شيفر وباستيان» لواء الزعامة عليهم حتى قالوا بأن الإنسان إذا استطاع أن يبرهن على التولد الذاتي في الأجسام التي لا حياة فيها، تيسَّر له أن يبرهن عليه في الأجسام الحية، ولبثوا على قولهم حينًا من الدهر حتى قام «روسيل وولاس» وهو من زعماء النشوء والارتقاء، ونقض لهم ذلك الرأي؛ إذ قال بأن نواة الخلية الحية ليست شيئًا كيماويًا عويص التركيب، ومن المستطاع تركيبها ثانية إذا حُللت، ولكنها لا تكون نواة حية؛ إذ تكون قد فقدت بين التحليل والتركيب سرًّا هو سر الحياة، فما هو ذلك السر؟ لا جرم أن الإنسان سائر من طريق العلم إلى الاعتراف بالعجز، فكلما كشف لنا عن سر من أسرار هذا الكون الفسيح ألفاه محوطًا بكثير من الأسرار الأُخر التي يعجز الفكر الإنساني أزمانًا طوالًا دون معرفة كنهها، وستتدرج الإنسانية في كشف المغمضات حتى تنتهي إلى حد تتكاثف عنده ظلمات تلك الأسرار، وإذ ذاك يقف الفكر معترفًا بالعجز …

و«التولد الذاتي» رأي ظهر في أواسط القرن الماضي نتيجة لسلسلة بحوث منظومة قام بها فحول من العلماء في القرن الثامن عشر، أو «قرن المادية» كما يقولون، وقد يتبادر إلى أذهان الناس أن التولد الذاتي لزام للنشوء والارتقاء، متابعة لرأي بعض الكاتبين، ولكن الحقيقة على نقيض ذلك، فإن التطور لا يبحث إلا فيما بعد أصل الحياة من نشوء بعض الصور من بعض على مر الزمان، وبتأثير نواميس طبيعية قد نعرف بعضها وقد يغيب عنا البعض الآخر. أما القول بالتولد الذاتي فقد أتى من رأي شاع في القرن الثامن عشر هو القول بقدم العالم، وإليك لمحة من ذلك نتابع بعدها البحث في أصل الحياة …

القول بقدم العالم قول تدرج الباحثون منه إلى إنكار علة أولى واجبة الوجود بذاتها؛ ولأجل أن يؤيدوا مذهبهم أرادوا أن يطبقوه على عالم الحياة فقالوا بالتولد الذاتي اعتباطًا، ولا نقطع بأن التولد الذاتي قد يظل طوال الدهور رأيًا غير مثبت؛ إذ من الجائز أن يكون رأيًا صحيحًا، تغيب عنا في الزمان الحاضر مهيئات إثباته، ولكن ما يحق لنا القطع به هو أن إثبات التولد الذاتي أو نفيه لا يترتب عليه مطلقًا القول بإنكار «علة أولى»؛ لأننا لو فرضنا أن الحياة قد نشأت من اختلاط بعض العناصر الأولية مقرونة بمهيئات أخر، فذلك لا يستوجب نفي تلك القوة المدبرة التي استطاعت بوساطتها تلك العناصر من الدور في سلسلة من التغيرات والتطورات، حتى بلغت حدًّا عنده انبثت فيها الحياة، تلك السلسلة الدورية التي لا يمكن إيضاحها بأية طريقة كيماوية أو آلية …

ولنأتِ الآن على بعض الأخطاء التي تدرج فيها العقل البشري إلى القول بقدم العالم وإنكار العلة الأولى، وكان «لافوازييه» أول مَن نبه الأفكار إلى البحث في خصائص المادة؛ إذ صرح باعتقاده في قدمها سنة ١٧٨٩ متبعًا في ذلك مَن سبقه من قدماء ومحدثين، وكان رأيه أن المادة التي تملأ هذا الكون غير قابلة للتغير زيادة ونقصًا — كاعتقاد الطبيعيين عامة في هذا العصر — رأي صحيح لا سبيل إلى التورط إلى الشك أو الترتيب فيه بحال، وسواء أكانت المادة التي نحسها بحواسنا مادة مركبة من جواهر فردة، أم كانت قوة تشكلت في جواهر فردة تكونت من تيارات كهربائية متعددة يدعونها «إلكترونات» على رأي الباحثين في أوائل هذا القرن، فذلك لا ينافي القول ببقاء الكمية المحددة في العالم على كلتا الحالتين …

تبع ذلك القول بأن الأجسام لا تتغير إلا بالصورة؛ لأن انحلال جسم إلى سائل أو كلاهما إلى غاز، إذا طرأ عليه تغيير في حال من هذه الحالات إلى غيرها بتأثير السُّنن الطبيعية، فذلك التغاير لا ينقص من كمها شيئًا، ولا يلحق إلا صورتها دون جوهرها، ولا يدل من جهة أخرى على خلقها من العدم المطلق. ثم قال بأن هذه السُّنة ذاتها هي علة التكوين، كما أنها علة التحليل، فهو في ذلك على رأي كثير من القدماء القائلين بأن المادة قديمة بالنوع، حادثة بالصورة؛ لأن تغير المركبات ليس دليلًا على حدوث التغير في الجوهر ذاته بالفعل، وإن لحق التغير الشكل الظاهر، فتغير قطعة الفحم عند احتراقها ليس إلا تحولًا إلى موادها الأصلية التي منها تكونت؛ لأن مادة الكربون التي يتكون منها الفحم؛ إذ تمتزج بأوكسجين الهواء، لا يقوم تحللها أو تمازجها دليلًا على تغير أو ازدياد كميتها أو نقصانها …

نشط الباحثون بعد ذلك إلى الفحص عن أمر القوة، فأبانوا أن مقدار القوة التي تُحدِث الظواهر الطبيعية محدود، وكما أن المركبات في المادة قد تستحيل بالتركيب والتحليل إلى عدة صور بعضها يباين بعضًا، كذلك القوى بعضها يستحيل إلى بعض. فالحرارة مثلًا قد تستحيل إلى قوة جرمية؛ أي خاصة بحركة الأجرام، وهذه تستحيل إلى ضوء أو صوت، ومَن ثم تتحول إلى كهربا. من هنا تدرج الباحثون إلى إثبات بقاء القوة وقدمها وعدم تغير مقدارها، فاستبان أن مقدار الكهربا التي تتولد من قوة من القوى، تكون مناسبة دائمًا لمقدار تلك القوة، وكان «رويرت ماير» أول مَن كشف عن هذه الحقيقة سنة ١٨٤٢، ومن ثم طبَّقها «هيرمان هلهولتز» وهو من أكبر الباحثين في علم وظائف الأعضاء سنة ١٨٤٧، على كل فرع من فروع العلوم الطبيعية التي كانت ذائعة لذلك العهد، ومن ثم حاول فلاسفة القرن التاسع عشر تطبيقها على حالات الحياة؛ ليتدرجوا منها إلى القول بأن الحياة «قوة» أو مجموع قوى تؤثر في المادة الصامتة تأثير بقية القوى الأخرى؛ لينفوا القول بأن الحياة قوة من وراء الطبيعة، أو أن لها علة مدبرة صدرت عنها …

والعلامة «أرنست هيكل» على هذا الاعتقاد، فهو مقتنع تمام الاقتناع بما للقول بارتباط المبدأين من الشأن والخطر، وهو على ما يقول به الكيماويون من أن بحوث «لافوازييه» في قدم المادة وأزليتها، قد أصبحت العمدة في علم الكيمياء الحديث.

وكان «سبينوزا» يقطع بهذا المبدأ عينه، فهو القائل بأن كل الموجودات التي تقع عليها حواسنا، وكل الصور المادية التي نراها، تطورات طبيعية تتطورها المادة بتأثير القوى المنبثة فيها، كذلك الكيفيات التي تتكيف بها الموجودات، ليست في الحقيقة إلا صورًا مادية باعتبارها ذات حجم تشغل من الفراغ مكانًا، وإنها ليست من خصائص الموجودات ذاتها، من هنا يتعين القول أيضًا بأن القوة المتحركة والقابلية، مبدآن طبيعيان غير منفصلين، وأنهما والمادة صنوان لا يفترقان، فإذا سألتهم عن ماهية تلك القابلية وحقيقة ذلك الاستعداد، أو عن القوة التي بثتها في الطبيعة بنسب متكافئة لا يسودها الخلل ولا ينالها الضلال، كأن للطبيعة عينًا تنظر بها، أعادوا على سمعك قولهم بتحوير في الألفاظ وبعد عن الحقيقة؛ لئلا يتورطوا إلى القول بأن هناك قوة ترجع إليها كل القوى، تلك هي العلة الأولى.

ولقد اختلفت المذاهب وتباينت المبادئ وطرأت على هذا المبدأ تغايرات شتى في أواخر القرن الماضي، كانت مثارًا للمناقشات العلمية الحارة التي لم يرَ تاريخ العلم أمثالها إلا قليلًا، وما نشأت بين الماديين والعليين — الذين يقولون بعلة أولى — إلا لأن الفئة الأولى قد أنكرت تلك القوى التي تعود إليها كل القوى، رغم اتفاقهم حينذاك على أن لكل من القوى المفردة خصائص تنفرد بها، كالجاذبية وقوتي الجذب والدفع، والكهربا والحرارة والضوء، وما إليها من القوى الأخرى، وأن هذه ليست إلا كيفيات تتكيف بها قوى أصلية، وعلى هذه القوى الأصلية التي لم يعرف لها الماديون أصلًا، ويدعوها العليون العلة الأولى، قام الاختلاف بينهم قبيل أواخر القرن التاسع عشر، واشتد بهم الحرج، وضاق الباحثون بما وسعت معارفهم ذرعًا.

قالت الفئة الأولى بأن هذه القوة الأصلية هي حركة الجواهر الفردة في الفضاء حركة مستمرة بشكل خاص، ومن هنا كانت الجواهر الفردة ذاتها ليست إلا ذرات صغارًا من المادة تتحرك في الفضاء حركة زوبعية في مكان معين وعلى بعد معلوم، وكان أول من قال بهذا الرأي الفيلسوف الأشهر «إسحاق نيوتن» مستكشف قانون الجاذبية، فقد ذكر في كتابه «الفلسفة الطبيعية والمبادئ الرياضية» سنة ١٦٨٧: أن الجاذبية العامة التي تتجاذب بها الأجسام هي التي تتسلط على جاذبية الثقل دائمًا، وأن مقدار الجاذبية التي تكون بين دقيقتين من دقائق المادة هي بنسبة جِرميهما، وبعكس نسبة مربع البعد بينهما.

رغم كل ما وضعه هذا الفيلسوف الكبير من المبادئ القيمة، وما أيدها به من البراهين الدامغة، لم يأتِ عمله تامًّا. فإن كل ما أتى به «نيوتن» من المبادئ لم يوضح لنا خصائص هذه القوى، ولا مصادرها ولا أوصافها، وإن كانت قد أوضحت لنا مقدار نتائجها، ومبلغ تأثيراتها …

وظلت هذه الآراء متنقلة من جيل إلى جيل، وسيظل الرأي على خلاف بين هاتين الفئتين أجيالًا عديدة لا نقدرها، رغم ما أتى به «كارل فوغت» سنة ١٨٩١ من الآراء، وما تقلبت فيه الأفكار منذ ذلك الحين حتى هذا الزمان …

وينحصر الرأي في أصل الحياة الآن في ثلاثة آراء كبرى؛ أولها: ما وضعه «أغاسيز» في كتابه «تصنيف العضويات» سنة ١٨٥٨؛ إذ قال بأن كل نوع من الأنواع خُلق بفعل خاص من أفعال القوة الخالقة. وكان العلامة «باستور» مستكشف جراثيم الأمراض، على ذلك الرأي، وقر رأيهم على «أن كل حي لا بد أن يتولد من حي مثله»، وثانيهما: ما وضعه «هيرمان أبير هارد ريختر» فقال بأن الفراغ الذي نراه مملوءًا بجراثيم الصور الحية، كالجواهر الفردة التي تتكون منها المادة الصماء، كلاهما في تجدد مستمر، ولا يتولاهما العدم. وبنى قاعدته في أصل الحياة على «أن كل حي أبدي، ولا يتولد إلا من خلية.» وثالثهما: رأي القائلين بالتولد الذاتي، الذي يقول به الدكتور «باستيان» في إنكلترا، والأستاذ «هيكل» في ألمانيا. ولقد حصر الأستاذ «هيكل» القول بالتولد الذاتي في سبع مسائل نوردها هنا إتمامًا لفائدة البحث، قال:
  • أولًا: الحياة العضوية محصورة في المادة الحية الأولى؛ أي البروتوبلازم، وهي تركيب كيماوي غرواني، الزلال والماء أكبر العناصر التي تتركب منها شأنًا.
  • ثانيًا: حركات هذه المادة الحية التي نطلق عليها اسم «الحياة العضوية» طبيعية كيماوية صرفة لا أثر لقوة أخرى فيها، ولا وجود لها إلا في حيز محدود الحرارة ينحصر بين حدي الجليد والغليان.
  • ثالثًا: إذا فاقت درجة الحرارة هذين الحدين فقد تبقى الصور العضوية حافظة لحياتها الطبيعية، وإذ ذاك تُسمى حياتها «الحياة الكامنة» أو «الحياة بالقوة»، ولكنها لا تستطيع البقاء على ذلك زمانًا طويلًا.
  • رابعًا: إذا كانت الأرض كبقية الأجرام الأخرى قد انفصلت عن الشمس ولبثت في حالة الانصهار أزمانًا طويلة محتفظة بدرجة من الحرارة تُعد درجاتها بالآلاف، فإن المادة الحية — البروتوبلازم — لا يمكن أن تكون قد لبثت كل هذه العصور محتفظة بصورتها، فالحياة إذن ليست أزلية أبدية كما هو الرأي السائد.
  • خامسًا: المادة الزلالية التي تولدت منها الحياة لم تحدث في الأرض إلا بعد أن نزلت حرارتها عن درجة الغليان.
  • سادسًا: التراكيب الكيماوية التي تكونت منها المادة الزلالية التي حدثت فيها الحياة تدرجت في النشوء والتركيب بحسب الحالة التي كانت الأرض عليها خلال الأزمان الأولى، حتى بلغت مرتبة البروتوبلازم.
  • سابعًا: «المونيرة» أول العضويات الحية تكوينًا، فكانت مختلطة الصورة والتركيب، ومن ثم أخذت في الارتقاء.

هذا هو مثال الرأي المادي، والقائلون بعلة أولى يقولون بأن بذرة الحياة الأولى لا تتكون من تلك العناصر الصماء، والماديون القائلون بالتولد الذاتي لم يثبتوه بتجربة تحقق نظرياتهم.

١  المونيرة Monera.
٢  الحونبيات Zoopliytés: وهي حييونيات تشبه النبات من حيث الشكل وأسلوب التخلق كالمرجان والإسفنج والهدريات وشقائق البحر، والحونب والحونبيات: نحت من: حيوان + نبات.
٣  لما نشرت خمسة الفصول الأولى من أصل الأنواع، وقدمت لها بهذه المقدمة تناولت «المقتطف» الغراء نقد ما جئت به من أقوال النشوء والارتقاء، وجاء في سياق كلامهما ما يأتي: «وحبذا لو نبه (المترجم) عن أن أكثر ما قيل قبل «داروين» و«لامارك» وصفي تعليلي، قيل: إن بعضهم أرى «أغاسير» العالم الطبيعي كتابًا فيه صور كثير من الأسماك وفيه وصف مسهب لها. وكان أغاسير قد تعلَّم الإنجليزية بعد مهاجرته إلى أمريكا، ولكنه كان يلفظها كالفرنسية فقال: هذا حسن، ولكنه وصفي (دسكربتيف) له لا مقابلة فيه (كوامبراتيف)، ولفظ الكلمتين كما يلفظها الفرنسيون، فجرى قوله مثلًا.» ونحن إن فاتنا أن ننبه على ذلك في الطبعة الأولى فلا أقل من أن ننبه على ذلك في هذه الفرصة، شاكرين للمقتطف عنايتها وحسن بيانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤