الفصل العاشر

فجوات في السجل الجيولوجي

فقدان الضروب الوسطى في العصر الحاضر – طبيعة الضروب الوسطى المنقرضة وعددها – تطاول الدهور وقياسها بنسبة ما حدث في الأرض من التعرية والترسب – تطاول الدهور مقيسة بالسنين – فقر المجموعات الحفرية – انفصام التكوينات الجيولوجية وعدم تأصلها – تعرية الباحات الجرانيتيَّة – فقدان الضروب الوسطى في كل تكوين من التكوينات الجيولوجية – ظهور عشائر الأنواع فجأة في أعمق الطبقات الأحفورية المعروفة – قِدم الأرض المعمورة.

***

عددت في الفصل السادس المعترضات الخطيرة التي قد تُناوئُ آرائي التي بثثتها في كتابي هذا، وقد نُوقش معظمها، ومن تلك المعترضات تدابر ظهور صور لأنواع غير مترابطة بعضها ببعض بحلقات وسطى، ومن الظاهر أنَّ في هذا المعترَض صعوبةً بيِّنةً.

ولقد أبديت أسبابًا عزوت إليها فقدان تلك الحلقات في العصر الحاضر، في الظروف التي تبدو أكثر ملاءمةً لظهورها في قارات متسعة مترامية الأطراف، متواصلة الباحات، ذات ظروف طبيعيَّة متدرجة التباين.

ولقد جهدت أنْ أُبيِّنَ أنَّ حياة كل نوع تعود في أكثر الأمر إلى وجود صور عضويَّة أخرى بلغت تمام التميز، أكثر من عودتها إلى طبيعة المناخ؛ لأستدل بهذا على أنَّ الحالات التي تتحكم في حياة الأنواع، لا تمضي ممعنة في سبيل التدرج في خُطى غير محسوسة، تدرج الحرارة أو الرطوبة مثلًا.

كذلك جهدت في إظهار أنَّ الضروب الوسطى، إذ تتألف في العادة من عشائر أقل عددًا من الصور التي تصل بينها، غالبًا ما تُقمع في معركة التناحر على البقاء، ومن ثمَّة تنقرض في درج ما يطرأ على أوصافها من تحول، وما ينتابها من تغاير.

أمَّا السبب الرئيس الذي يدعو إلى عدم وجود ما لا يُحصى من الحلقات الوسطى في الوقت الحاضر، فيرجع إلى الانتخاب الطبيعي نفسه، ذلك المؤثر الذي يستحدث من الضروب على مرِّ الأيام، ما يمعن في سبيل التسود على غيره، من الصور الأولى التي تكون قد نشأت عنها وتطورت، ومما لا مرية فيه، أنه بقدر ما كان شأن هذا المؤثر من الشدة والقسوة في إحداث الانقراض، كان عدد الضروب الوسطى التي عاشت في الماضي، ولا شك أنَّ عددها كان عظيمًا.

فلماذا إذن لا يكون كل تكوين جيولوجي، وكل طبقة من طبقاته عامرًا بهذه الحلقات الوسطى؟ والحقيقة أنَّ علم الجيولوجيا لا يحبونا بتلك السلسلة المنظومة من الصور العضويَّة، والراجح أنْ يكون هذا المعترَض أنكى ما يقوم في وجه التطور من عواصف الأفكار الحديثة. ومعتقدي أنَّ الإبانة عن هذا المعترض مقصورة على ذلك النقص البيِّن الذي يتخلل ما وقفنا عليه من فجوات السجل الجيولوجي.

يجب أنْ نتدبر — بادئ ذي بدء — أي صنف من الصور الوسطى قد وُجد في خلال الأزمان الأولى، مطاوعة لمبادئ نظرية التطور؟ ولطالما أحسست صعوبة ما كلما نظرت في نوعين من الأنواع لأستخلص من النظر فيها صورًا تتوسط بينهما توسطًا مباشرًا، ولكن سرعان ما استبان لي أنَّ هذا سبيل خاطئ؛ لأننا يجب أنْ ننظر في هذه المسألة نظرة مَن يبحث في الصور الوسطى، مقتنعًا بأنها دائمًا تصل بين كل نوع وأصل أولي غير معروف، وأنَّ هذا الأصل الأول بذاته، لا بُدَّ من أنْ يكون قد تحوَّل إجمالًا في بعض أوصافه، فاختلف عن أعقابه المرتقية عامَّةً، وإليك مثال: فالحمام الهزَّاز والعابس كلاهما متولد عن حمام الصخور، فإذا استطعنا أنْ نأتي بكل الضروب الوسطى التي يمكن أنْ تكون قد وجدت في خلال الأزمان الأولى، فلا ريبة في أننا نحصل على سلسلة متقاربة الحلقات جهد التقارب تصل بين الهزَّاز١ والعابس،٢ غير أننا لا نجد صورة وسطى قد جمعت أوصافها ذيلًا منتشرًا، وحوصلة خرجت بكبرها عن القياس بعض الشيء، وهما الصفتان اللتان يختص بهما كل من هذين النسلين.
وبالرغم من هذا، فإن هذين النسلين قد تحولا إلى الحدِّ الذي إنْ فقدنا عنده كل الشواهد التاريخيَّة غير المباشرة التي تدلنا على أصلهما، لما كان في مستطاعنا — بمجرد موازنة تراكيبهما بتراكيب حمام الصخور٣ — أنْ نقضي بأنهما نشآ عن هذا النوع، أو عن صورة متصلة النسب به، كالحمامة الخمرية٤ مثلًا.
كذلك الحال في الأنواع الطبيعية، فإننا إذ ننظر في صور متميزة تمامًا، كالحصان والسناد٥ مثلًا، فإننا لا نجد من الأسباب ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن صورًا وسطى قد وصلت بينهما في غابر الأزمان، بل نجد أنَّ صورًا قد وصلت بينهما وأصل أولي لهما غير معروف لدينا. ولا خلاف في أنَّ ذلك الأصل يمت إلى كل من الحصان والسناد بشيء من المشابهة، في حين أنه قد يباينهما في بعض تفصيلات من تركيبه وبنيته، مباينة يحتمل أنْ تكون أبلغ من مباينة بعضهما بعضًا.

من هنا نُساق إلى الاعتقاد بأننا في مثل هذه الحالات، نعجز عن معرفة الأصل الذي نشأ عن نوعين أو أكثر من الأنواع، حتى ولو تسنى لنا أنْ نوازن بين تركيب ذلك الأصل وأعقابه المرتقبة، ما لم يكن بين أيدينا سلسلة منظومة من الحلقات الوسطى.

كذلك تجيز نظرية التطور أنَّ إحدى صورتين قد تنشأ عن الأخرى نشوء الحصان عن السناد مثلًا، ولا بُدَّ في هذه الحال من أنْ تكون قد وُجدت حلقات وسطى ربطت بينهما، ولكنها حال تستدعي أنْ تبقى إحدى الصورتين أزمانًا متطاولة من غير أنْ ينتابها تحول ما، بينما تكون أعقابها قد أمعنت في التحول إلى حد بعيد. أمَّا المجاهدة بين العضويات، كل ند منها إزاء نده، وكل نسل منها إزاء أصله، فيقضي بأن يكون حدوث تلك الحال في الطبيعة أمرًا بادرًا … ذلك بأن الصور المستحدثة التي حبتها الطبيعة بقسط من الارتقاء، تُساق دائمًا إلى التسود على الصور القديمة غير الراقية الصفات.

أمَّا نظرية الانتخاب الطبيعي، فتقضي بأن كل الأنواع الحيَّة، لا بُدَّ من أنْ يكون قد مضى عليها زمان كانت فيه متصلة بالأصول الأولى التي نشأ عنها كل جنس بذاته، بصور من التحول لا تزيد على تلك التي نراها بين الضروب البرية والضروب المؤلفة، التابعة لنوع بعينه من الزمن الحاضر، وأنَّ هذه الأصول الأولى — وقد انقرضت في هذا العصر — كانت في دور من أدوار نشوئها، متصلة بصورة أبعد منها قدمًا، وهكذا تعود دواليك، كلما رجعت إلى الأزمان السالفة، وأمعنت في البحث إلى أصل أول، عنه نشأت كل قبيلة من القبائل. ومن هنا يتضح لنا أنَّ عدد الحلقات الوسطى كان عظيمًا، وأنه من المحقق إذا صحت نظريتي هذه، أنها قد عمرت الأرض في خلال زمن ما من الأزمان.

(١) تطاول الدهور وقياسها بنسبة ما حدث من التعرية٦ والترسيب٧

إذا نظرنا في هذا الموضوع نظرةً مستقلَّةً عن مسألة البقايا الأحفورية، وعجزنا عن العثور على عدد عظيم منها، فيه صفات الحلقات الوسطى التي تربط بين الصور العضويَّة، فلا جرم يصادفنا معترض آخر محصله أنَّ الزمان الذي قطعته العضويات في أشواط تحولها، لا يمكن أنْ يكون كافيًا لإبراز تلك الأحداث العظمى من التحول العضوي، ما دام اعتقادنا الثابت أنَّ كل تحول من التحولات لم يحدث إلَّا ببطء عظيم على مرِّ الحقب. ولا مرية في أنه يخرج عن طوقي أنْ أستوضح للقارئ الذي لم يأخذ من علم الجيولوجيا العملي بقسط، جمَّ الحقائق التي تولد في ذهنه كفاءة خاصة تعينه على معرفة مقدار الزمان الذي استغرقته العضويات في مدارج التحول. وكل مَن يأنس في نفسه القدرة على تفهم كتاب «سير تشارلس لايل» — مبادئ الجيولوجيا — ذلك السِّفر الذي سوف يعترف مؤرخو العصور المقبلة بأثره في إحداث انقلاب عظيم في العلوم الطبيعيَّة، ثم لا يسلِّم بتطاول الدهور التي قطعتها العضويات في أشواط تحولها، فإنه لا محال يطوي هذا الكتاب ناسيًا إياه وبلا رجعة إليه. كذلك لا يغني عنه استيعاب علم الجيولوجيا وحده، ولا قراءة مقالات المؤلفين التي تناولت كل طبقة من طبقات الأرض قائمة بذاتها، ولا الوقوف على رأي الباحثين الذين حاول كل منهم أنْ يدلي بفكرة عامَّة غير ثابتة في عمر كل تكوين جيولوجي — بل كل طبقة من الطبقات — قبل أنْ يقف على ماهية المؤثرات الطبيعيَّة التي تعمل في سطح الأرض، باحثًا في مقدار ما تطاحن من سطحها، ومقدار الرواسب التي تكونت من فوقها على مرِّ الدهور.

ولقد أثبت «سير لايل» أنَّ اتساع التعادين المترسبة وضخامتها، يرجع إلى فعل «التعرية» الذي أصاب جهات أخرى من سطح الأرض؛ لذلك يحسن بكل باحث أنْ يلاحظ بنفسه تلك الأكداس الضخمة التي قد يصادفها في متسع من الأرض، وأنْ يمتحن النهيرات؛ ليعرف كم تجرف في سبيلها من «الغرين»، وأنْ يقف إلى جانب البحر هنيهة؛ ليرى كيف تنتقص الأمواج الساحل من أطرافه، مكتسحة صخور الشاطئ إلى الغمر؛ حتى يستطيع أنْ يكثفه شيئًا من تطاول العصور الخالية، التي نرى أثرًا من آثارها الباقية أينما ولينا أوجهنا في نواحي الأرض.

حسن أنْ يطوف الباحث بشاطئ بحر مؤلف من صخور معتدلة الصلابة، وأنْ يلاحظ بنفسه ساعة طريقة تحاتَّها، فالمد يصل في غالب الحالات إلى الصخور المرتفعة مرتين كل يوم، ولا تغشاها إلَّا زمنًا قصيرًا، في حين أنَّ الأمواج لا تقوى على تحليلها إلَّا إذا كانت محتوية على كثير من الرمل والمدر الصغير. وهذا دليل ثابت على أنَّ الماء وحده لا يكاد يكون له أثر في تحاتِّ الصخور، فإذا استمرَّ فعل الأمواج زمانًا، وهنت القواعد التي ترتكز عليها صخور الشاطئ، وتساقطت قطعًا كبيرة مستقرة في الماء، ومن ثمة تتحات دقيقة بدقيقة، حتى إذا صغر حجمها اكتسحتها الأمواج إلى الغمر، وهنالك تسارع في التحلل حيث تستحيل رملًا وطينًا. غير أننا غالبًا ما نشاهد لدى النظر في القواعد التي ترتكز عليها الصخور الموشكة على الانهيار، قطعًا مستديرة من الصخر تخالف طبيعتها طبيعة الصخر المنهار، وقد كستها ضروب الأحياء البحريَّة متكاثفة عليها، مثبتة بذلك عدم تأثرها بعوامل التحات واستعصاءها على قوة الماء أنْ يجرفها إلى الغمر. وفضلًا عن ذلك فإننا إذا تابعنا السير بضعة أميال بإزاء الصخور البارزة المحضة في التحات،٨ لاحظنا أنَّ فعل التحات مقصور على مسافات قصيرة، أو من حول رأس بارز في اليم، بينما يدلك سطح غيرها من البقاع المجاورة لها، والنباتات النامية فيها، على أنَّ البحر قد استمرَّ غاشيًا قواعدها سنين عديدة.
ولقد أثبتت لنا ملاحظات «رامسي»٩ منذ عهد قريب، مشفوعة ببحوث الكثيرين من جهابذة أهل النظر، مثل «جوكسي»١٠ و«جيكي»١١ و«كرول»١٢ وغيرهم، أنَّ التجريد تحت الهوائي١٣ أبلغ أثرًا من الأحداث الشاطئية أو فعل الأمواج. فإن سطح الأرض معرض لمؤثرات الهواء الكيميائيَّة، وماء المطر بما فيه من حامض الكربون المذاب فيه، وما يعرض في الأقاليم الباردة من فعل الصقيع، فإن المواد المنحلة تمعن في الانحدار حتى من أكثر المنحدرات، قربًا من التسطح والانبساط في خلال هبوط الأمطار الغزيرة، كما أنَّ الهواء في المناطق الجافة قد ينقلها مسافات أبعد كثيرًا مما نتصور أنَّ في مكنة الهواء أنْ ينقل منها، ومن ثمَّ تجتاحها الغدران والأنهار التي تزيد مجاريها غورًا كلما زادت سرعة انحدار مائها، فتسحق تلك المواد سحقًا. وكثيرًا ما يرى المرء في الأيام الممطرة فعل الهواء في تحليل مواد الأرض ظاهرًا في ذلك الطين، والمطر الذي ينحدر من كل مرتفع، حتى في البلاد التي يكاد سطحها يكون خلوًا من الأخاديد. ولقد أظهر العلَّامة «رامسي» — كما أظهر «ويتاكر»١٤ — أنَّ مهاوي إقليم «ويلدان»، والمهاوي التي تمتد في عرض أرض إنجلترا، والتي كان يُظن من قبلُ أنها شواطئ بحار قديمة، لا يتسنى أنْ تكون قد تكوَّنت على هذا النمط؛ إذ إنَّ كل سرية منها إنما تتألف من تكوين واحد بذاته، بينما نجد أنَّ الرعون البحرية١٥ قد تكوَّنت حيثما توجد بتقاطع تكوينات جيولوجيَّة مختلفة، وبهذا نُساق إلى الاعتقاد بأن تلك المحاجر السحيقة، يرجع وجودها — في غالب الأمر — إلى أنَّ الصخور التي تتألف منها التكوينات أكثر مقاومة لتأثير التعرية الهوائيَّة١٦ من غيرها من القيعان المجاورة لها، فأخذ سطح الأرض فيما يجاورها في التطامن تدريجيًّا، وظلَّت سريان الصخور الصلدة بارزة شامخة. وليس من المشاهدات الطبيعيَّة جميعًا، مشاهدة تولد في الذهن فكرة صحيحة عن طول الزمان وإيغاله في القدم، وفقًا لفكر ما فيه من ملاحظته فعل الهواء، إذا قسنا ما أحدث في سطح الأرض من الأحداث الجُلَّى، بما يلوح لنا فيه من ضعف الأثر، وما يظهر لنا من البطء في إبراز أحداثه.
أما وقد ظهرنا على مقدار ما في الهواء والأمواج الشاطئية في بطء التأثير في حت الأرض، فإن من أجدر الأشياء بالبحث، لكي تفصح عن طول الأزمان الماضية وإيغالها في التطاول، أنْ نلقي (أولًا) بنظرة على مقدار الصخور التي نسفتها الرياح وغشت بفتاتها أكثر باحات الأرض اتساعًا، ثم نعقب على ذلك (ثانيًا) بنظرة أخرى في ضخامة التكوينات المترسبة،١٧ ولا أزال أذكر ما عراني من الحيرة والتعجب عندما وقع بصري على الجزائر البركانية،١٨ التي غشيتها أمواج المحيط وانتقصتها من أطرافها، فتركتها رعونًا١٩ عمودية عارية، تبلغ من الارتفاع ألف قدم أو ألفين. فإن الانحدار المطمئن الذي تتخذه غدران الحمم٢٠ بفضل طبيعتها المائعة، قد يظهرنا لدى أول نظرة إلى أي مدى مضت تلك القيعان الصخرية الصلدة، موغلة في الامتداد مسافات قصية في عرض المحيط، كما تقص علينا الصدوع٢١ تلك القصة ذاتها، ولكن بصورة أوضح … ألقِ بنظرك على تلك الفوالق العظيمة، وتأمل من تلك الطبقات التي تراها وقد ارتفعت من ناحية آلافًا من الأقدام، وانخفضت مثل ذلك من ناحية أخرى، تجد أنَّ طبقة الأرض العليا مذ تصدعت، قد عاد سطحها فاستوى، بحيث لم يبقَ أمام الناظر فيه من أثر خارجي يُستبان منه مقدار تلك الصدوع الهائلة المختفية في باطن الأرض، سواء أكان ارتفاع بعض الطبقات قد وقع فجأة كما يقول البعض، أم حدث تدرجًا كما يقول ثقات الجيولوجيين اليوم، فإن صدع «كرافن»٢٢ مثلًا يمتد أكثر من ثلاثين ميلًا، ونجد على طوال هذا الخط أنَّ إزاحة٢٣ هذه الطبقات تتراوح بين ٦٠٠ و٣٠٠٠ قدم. ونشر الأستاذ «رامسي» مقالًا في طبقات هذه الصخور في «أمجلسي» مقدِّرًا تطامنها٢٤ بألفين وثلاثمائة قدم. ولكنك بالرغم من ذلك لا تستبين في سطح الأرض، في أي من هذه الحالات أقل أثر لتلك الحركات العظمى، ذلك بأن أكداس الصخور التي تخلفت على شقي الصدع، قد انجردت بهوادة وذهبت بددًا.
فإذا نظرت في الأمر من ناحية أخرى، ألفيت أنَّ أكداس الطبقات المترسبة٢٥ في كل أنحاء الأرض ذات سمك عظيم، ولقد قُدِّرت في جبال «كوردليره» ارتفاع كتلة من الحصبة٢٦ بعشرة آلاف قدم. والحَصبات إنْ كانت — في غالب الأمر — قد تكوَّنت بنسبة أسرع من نسبة تكون المرتصفات٢٧ المؤلفة من مواد دقيقة، فإن هذه الصخور إذ تتألف من مَدَار٢٨ مستدير غير ذي صلابة، انطبع فيه أثر الزمان وتطاوله، تعرفنا كم بلغ من البطء استجماع بعض هذه الكتل من فوق بعض. ولقد زودني الأستاذ «رامسي» بنسبة عن أقصى ما تبلغ إليه ارتفاع التكوينات المتراكبة، استخلصها من مقاسات فعليَّة قام بها في نواحٍ مختلفة من الجزر البريطانيَّة، فكانت كالآتي:
طبقات حقب الحياة القديمة (مع استثناء القيعان النارية) ٥٧٫١٥٤ قدمًا
طبقات الحقب الثاني ١٣٫١٩٠ قدمًا
طبقات الحقب الثالث ٢٫٢٤٠ قدم
ومجموعها ٧٢٫٥٨٤ قدمًا؛ أي قرابة ميلًا إنجليزيًّا. وبعض التكوينات في إنجلترا عبارة عن قيعان رقيقة، في حين يبلغ سمكها في القارة الأوروبيَّة عدة آلاف من الأقدام، وبالإضافة إلى ذلك، فإن جلة الجيولوجيين يرون أنَّ بين التكاوين المتعاقبة عصورًا غفلًا موغلة في التطاول. ومن هنا نجد أنَّ تلك الأكداس الشامخة من الصخور المرتصفة٢٩ في بريطانيا، لا تزودنا إلَّا بفكرة تقريبيَّة ناقصة عن طول الزمان الذي استدبرته في تكونها. وإنَّ نظرة تأمل نلقيها على هذه الحقائق — لا محالة — تؤثر في العقل تأثيرًا أشبه بالتأثير الذي يتولد فيه، إذا ما أزمع أنْ يؤلف فكرة في الأبد أو اللانهاية.
ومع ذلك فإن هذا التأثر الذهبي زائف جزئيًّا، فقد أظهر «مستر كرول»٣٠ في رسالة قيِّمة، أننا لا نخطئ: «في تكوين فكرة متطرفة عن تطاول العصور الجيولوجيَّة»، ولكنا نخطئ في قياسها بالسنين. فإن الجيولوجيين عندما ينظرون من جهة في الظاهرات الجيولوجيَّة المشتبكة، ثم يرتدون إلى النظر في الأرقام التي تقدَّر بعدة ملايين من السنين من جهة أخرى، يشعرون بأن كلًّا من النظرتين تولد في أذهانهم أثرًا مختلفًا عمَّا تولده الأخرى، وإنْ أجمعوا على أنَّ الأرقام ضئيلة جهد ما تتصور. أمَّا من حيث التعرية الهوائيَّة،٣١ فقد أحصى «مستر كرول» مقدار الرواسب التي تحرفها بعض الأنهار سنويًّا، مقيسة بنسبة المساحات التي تغمرها، فوجد أنَّ ألف قدم من الأحجار الصلبة تحتاج إلى ستة ملايين من السنين لكي تتحات تدرجًا، وتنجرف من مسطح مجموع الباحة التي يغمرها ماء الأنهار. وقد يلوح لنا أنَّ هذا التقدير فيه مبالغة، كما أنَّ هنالك بعض اعتبارات تسوقنا إلى الشك في عظم ما قدَّر «مستر كرول»، ولكن حتى إذا اختزلنا تقديره إلى النصف أو الربع، لظلَّ باعثًا على التعجب والحيرة. على أنَّ قليلًا منَّا مَن في مستطاعه أنْ يزن ما يعني بمليون من السنين، أمَّا «مستر كرول» فيمثل لمليون من السنين بما يأتي:

خذ قطعة من الورق طولها ثلاث وثمانون قدمًا في أربع بوصات عرضًا، وانشرها على حائط حجرة كبيرة، ثم قِس على طرف من طرفيها عُشر بوصة، فهذا العُشر من البوصة يمثل مائة عام، في حين أنَّ قطعة الورق في مجموعها تمثل مليونًا.

ومن الواجب أنْ نقدِّر في عقولنا من حيث موضوعنا الذي نتكلم فيه، ما تنطوي عليه مائة من السنين، يمثل لها بذلك المقياس الضئيل على جدار حجرة تلك سعتها، فإن كثيرًا من مهرة المستولدين قد حوَّلوا من صفات بعض الحيوانات العليا في خلال سني عمرهم تحويلًا كبيرًا، حتى لقد بلغ بهم الأمر أنْ استحدثوا صورًا استحقت أنْ تعتبر «نسيلات جديدة»،٣٢ مع أنَّ الحيوانات العليا أبطأ تناسلًا من الحيوانات الدنيا، وقليل من الناس مَن استمرَّ عاكفًا على تحسين عترة معينة أكثر من نصف قرن من الزمان. إذن فمائة سنة تمثل عمل شخصين صرفا همهما لتلك الغاية متعاقبين، وما ينبغي لنا أنْ نزعم أنَّ الأنواع في حالتها الطبيعيَّة المطلقة، قد تبلغ من سرعة الارتقاء مبلغ الحيوانات الأهليَّة، إذ تمضي متغايرة بتأثير الانتخاب النظامي أو الأسلوبي.٣٣ على أنَّ المقارنة بين التأثيرين قد تكون أصدق مع الواقع، إذا ما وزنا النتائج بما يستحدث الانتخاب اللاشعوري،٣٤ وهو الاحتفاظ بأكثر الحيوانات فائدة وجمالًا، من غير أنْ يقصد بذلك تحسين أوصافها. ومع هذا فإن كثيرًا من الأنسال قد تحولت وارتقت ارتقاءً بيِّنًا بتأثير الانتخاب اللاشعوري في خلال قرنين اثنين أو ثلاثة قرون.
أمَّا الأنواع، فالغالب أنَّ تحولها أكثر بطئًا، ولا يصيبها التحول إلَّا قليلًا في حدود إقليم بذاته. أمَّا سبب هذا البطء فراجع إلى أنَّ صفات بعض الأحياء ببقعة ما، تكون قد تكيفت مع صفات بعض، وبذلك لا تتكون أنواع جديدة تسد في نظام الطبيعة فراغًا ما، إلَّا في خلال فترات متباعدة من الزمان، وفقًا لما قد يقع من تغير كبير ذي صبغة خاصَّة في الحالات الطبيعيَّة، أو إلى هجرة صورة جديدة، وفضلًا عن ذلك فإن التحولات أو التباينات الفرديَّة٣٥ ذوات الفائدة المحققة، والتي ينفرد بها بعض الأحياء على بعض، بحيث يصبحون أكثر ملاءمةً لطبيعة موطنهم الجديد، أو للحالات الحافة بهم، لا تقع دفعة واحدة. على أنه من سوء الحظ أنْ ليس لدينا من الوسائل ما نستطيع به أنْ نحكم حكمًا قاطعًا وفقًا لمقياس السنين، وكم من الزمن يقتضيه تحول نوع من الأنواع، وإنَّ لي لعودة إلى الكلام في موضوع تطاول الأزمان.

(٢) فقر المجموعات الحفريَّة

نتَّجه الآن إلى البحث في أغنى متاحفنا الجيولوجية؛ لنعلم إلى أي حد بلغت تلك الموسوعة من حقارة الشأن، أمَّا القول بأن مجموعاتنا الجيولوجية ناقصة، فحقيقة لا ينكرها أحد من الباحثين، وسوف لا ينسى واحد من المحققين كلمات العالم الأشهر «إدوارد فوربز»؛ حيث ذكر كل مشتغل بالأحافير أنَّ عددًا عديدًا من الأنواع الأحفورية لم تُعرف ولم تعيَّن بأسماء، إلَّا من البحث في نموذج واحد أو في نماذج مهشمة، وفي الغالب من نماذج قليلة جمعت من بقعة محدودة. على أنَّ الاستكشاف الجيولوجي لم يتناول إلَّا باحة صغيرة من كرة الأرض العظمى، وما استُكشف منها لم يُصرف نحوه من العناية ما يستحق، كما تدل على ذلك تلك المستكشفات الجمة التي يعثر عليها في أوروبا كل سنة. والعضويات الرخوة القوام يتعذر حفظها، والأصداف والعظام تهن وتتلاشى إذا تركت في قاع البحر، ما لم تتراكم عليها الرواسب سراعًا، وكثيرًا ما نخطئ إذا خُيل إلينا أنَّ الرواسب لا بُدَّ من أنْ تغشى عند ترسبها قاع البحر كله، بحيث تكفي لطمر البقايا الأحفورية وحفظها، على أنَّ نقاوة الماء في أكبر باحات المحيطات العظمى وزرقتها الصافية، دليل على خلوها من الرواسب، وهنالك حالات عديدة يحصيها الجيولوجيون في تكوينات تغطيها — بعد مضي أحقاب طويلة — تكوينات أخرى أقل منها قدمًا، من غير أنْ ينتاب الطبقة الدنيا أي انصداع أو تمزق، مما لا يتيسر تعليله إلَّا بأن قاع البحر قد ظلَّ دهورًا موغلة في التقادم من غير أنْ يقع فيه أي تغيير. ويترتب على هذا أنَّ البقايا العضويَّة التي تنطمر — سواء أكان انطمارها في طبقات رملية أم مدرية — لا بُدَّ من أنْ تتحات وتذوب، بتأثير ما في ماء المطر من حامض الكربوليك، إذا ما ارتفعت القيعان البحريَّة. وكثير من الحيوانات التي تعيش في الباحة التي يواقعها الماء عند طغيانه وانحساره من شاطئ البحر، لا تحفظ هياكلها إلَّا قليلًا، فإن أنواعًا كثيرة من «الخملوسية»٣٦ — وهي فصيلة من٣٧ الذؤابية الأقدام الجالسة،٣٨ — تعلق بصخور الشواطئ في كل بقاع الأرض، متكاثرة بحيث لا تُحصى عدًّا. وأنواع هذه الفصيلة ساحلية تعيش على الشواطئ، ما عدا نوع واحد يعيش في بعض سواحل البحر المتوسط وفي غمر الماء. ولقد وجد هذا النوع مستحجرًا في جزيرة صقلية، بينما تجد أنه لم يعثر على نوع آخر مستحجرًا في تكوينات العصر الثالث٣٩ بالرغم من أنه قد حقق أنَّ جنس «الخملوس»٤٠ قد عاش في خلال العصر الطباشيري.٤١
ومع هذا فلا يجب أنْ ننسى أنَّ كثيرًا من الرواسب العظمى التي تحتاج إلى عصور طويلة حتى تتجمع وتتراص، خالية من كل أثر عضوي، من غير أنْ نعرف لذلك من سبب طبيعي ظاهر، ومثال ذلك التكوين القلشى٤٢ التي تتألف من الطَّفل٤٣ والحجر الرملي،٤٤ ويبلغ سمكها بضعة آلاف من الأقدام، بل قد تبلغ ستة آلاف قدم، وتمتد من مدينة «فنيه» إلى بلاد «سويسرة»؛ أي ثلاثمائة ميل على الأقل. إنَّ هذه الكتلة العظيمة مع ما صُرف من العناية في بحثها، لم تنفح المنقبين إلَّا ببعض البقايا النباتية.
أمَّا إذا نظرنا في أهليات اليابسة التي عاشت في خلال الحقب الثاني — حقب الحياة القديمة — فلا مندوحة لنا من القول بأن علمنا بها من الوجهة الأحفورية، ضئيل لا يعتد به، مثال ذلك أنه لم يُعثر حتى عهد قريب، على صدفة برية من الأصداف التي عاشت في طوال هذين العصرين المديدين، ما عدا نوع واحد استكشف بقاياه «سير لايل» ودكتور «دوسن»، في الطبقات الفحمية٤٥ في شمالي أمريكا. أمَّا الآن فقد عُثر على الأصداف البرية في «اللياس» (الرصائص اللياسية)،٤٦ وكذلك الحال في بقايا الثدييات، فإن نظرة واحدة في القائمة التي وضعها سير «لايل» في مختصر كتابه، لأغنى في إظهارنا على حقيقة أنَّ بقايا الثدييات قد يندر حفظها من مجلد ضخم مستفيض. ولا ينبغي أنْ تبعث فينا ندرة بقايا الثدييات في هذين العصرين شيئًا من الحيرة، إذا وعينا عِظم ما كُشف عنه من عظام الثدييات — سواء في الكهوف أو في الرواسب البحرية — وذكرنا مع ذلك أنَّ الحقب الثاني وحقب الحياة القديمة، لا يحتويان شيئًا من الكهوف أو على قاع واحد من القيعان البحيرية.٤٧

على أنَّ نقائص السجل الجيولوجي، إنما ترجع في الأكثر إلى سبب آخر أكبر شأنًا، وأعظم خطرًا من تلك الأسباب التي أتينا على ذكرها حتى الآن، يرجع إلى التكوينات الجيولوجية المختلفة، يفصل بين بعضها وبعض عصور مديدة موغلة في التطاول. ولقد آمن بهذه الحقيقة كثير من الجيولوجيين وعلماء الأحافير، ممن ينكرون تحول الأنواع كل إنكار، ومنهم «إدوارد فوريس». على أننا إذا أنعمنا النظر في قوائم التكوينات الأرضية كما هي مسطورة في المؤلفات القيِّمة، أو مضينا نتدبرها في الطبيعة، فلا محالة نقضي بأنها متتابعة تتابعًا مطردًا، غير أنه مع هذا قد ثبت من مؤلفات «سير مارشيسون» في جيولوجية روسيا، مقدار ما يفصل بين الرصائص المتتابعة من الفجوات الزمانية المتطاولة، وهكذا الحال في أمريكا الشمالية، وفي كثير غيرها من البقاع. وإنَّ أكثر الجيولوجيين حنكة، لا يخطر بباله مطلقًا إذا قصر اهتمامه على تلك الأقاليم العظمى المترامية الأطراف، أنه قد حدث في بقعة أخرى من الأرض، وفي خلال تلك العصور الغفل التي تصادفه لدى البحث في البقاع التي هو عاكف على دراستها، مرتفعات شامخة من الرواسب، محشوة بصور عضوية جديدة ذوات صفات خاصَّة، وإذا تعذر تكوين فكرة عن طول الزمن الذي يمر بين حدوث كل تكوين من التكوينات المتجاورة في بقعة بذاتها، فلنا إذن أنْ نتوقع أنَّ ذلك متعذر تحقيقه في بقاع أخرى. أمَّا تلك التغيرات العظيمة المتكاثرة التي نلحظها في التركيب المعدني الخاص بالتكوينات المتتابعة، والتي يصحبها على وجه الدوام تغيرات في جغرافية الباحات المجاورة لها، ومنها تُستمد الرواسب التي تحدث تلك التغيرات، فتؤيد الاعتقاد بمرور عصور متطاولة بين كل تكوين وآخر.

وفي مستطاعنا أنْ نفقه السبب في أنَّ التكوينات الجيولوجية الخاصَّة بكل بقعة من البقاع تحدث متقطعة؛ أي إنها لم تتتابع في خلال عصور متقاربة، ولم تدهشني حقيقة جيولوجية مثل تلك التي شاهدتها في شواطئ أمريكا الجنوبيَّة؛ حيث أكببت على درس تلك الشواطئ التي برزت مرتفعة بضع مئات من الأقدام في خلال العصر الجيولوجي الحديث، فلم أعثر فيها على أدنى أثر لرواسب تدل ضخامتها، على أنها قد ظلَّت آخذة في التكون من غير انقطاع، ولو عهدًا جيولوجيًّا قصيرًا. وعلى طوال الشاطئ الغربي، وهو مأهول بمجموعة من الحيوانات البحرية، تجد أنَّ قيعان العصر الثالث هي من الوهن، بحيث يتعذر أن تصلح للاحتفاظ بسجل لمجموعة الحيوانات البحرية الخاصَّة زمنًا طويلًا، على أنَّ قليلًا من التأمل لكافٍ لكي يدلنا على السبب في أنَّ شاطئ أمريكا الجنوبيَّة الغربي، لا يتضمن شيئًا من التكوينات الجيولوجية الواسعة، تحوي بقايا عضوية يرجع تاريخها إلى العصر الحديث أو العصر الثالث، مع أنَّ مقدار الرواسب قد ظلَّ عظيمًا في خلال أعصر متطاولة؛ استنتاجًا مما وقع على صخور الشاطئ من فعل الانحلال،٤٨ ومن تدفق النهيرات الطينيَّة في المحيط. وإنا لنخلص من هذا الشرح ببيان يعلل لنا السبب المباشر في عدم تتابع التكوينات؛ إذ نعرف أنَّ الرواسب السيفية تحت السيفية تمضي متحاتة على الدوام، بمجرد أنْ تتكون بتأثير ارتفاع الأرض التدرجي، وتعرضها لفعل السحق٤٩ الدائم المترتب على حركة الأمواج الشاطئيَّة.٥٠
نستنتج من هذا أنَّ الرواسب يجب أنْ تتكون بادئ ذي بدء؛ أي لدى أول بروزها وفي خلال تغيرات سطح الأرض المتناوبة تطامنًا وشموخًا، كتلًا سميكة مفرطة الضخامة والصلابة؛ حتى يكون في مستطاعها أنْ تقاوم فعل الأمواج الشاطئية المستمر، وتعرضها لمؤثرات التجريد بفعل الهواء. على أنَّ بروز مثل هذه المترسبات السميكة الممعنة في العِظم، يحدث بطريقتين: فإمَّا أنْ يحدث في أعماق المحيطات البعيدة الغور، حيث توجد عضويات حيَّة تبلغ من الكثرة العددية واختلاف الصور مبلغ أهليات البحار القليلة الغور، وفي تلك الحال لا يخلف لنا بروز المترسبات إلَّا تاريخًا مقتضبًا، ناقصًا عن العضويات التي عاشت في خلال نشوئها في البقاع المجاورة لها. وإمَّا أنْ تمضي المترسبات في التكون إلى أبعد حد مستطاع من الضخامة والامتداد في البحار القليلة الغور، ما دامت حركة الترسب تستمر في التطامن ببطء، وفي هذه الحال يستمر قاع البحر قليل الغور موائمًا لحياة كثير من الصور المتباينة، ما دام التوازن قائمًا بين نسبة التطامن ووارد الرواسب، بذلك ينشأ تكوين أحفوري غني صامد لمقاومة عوامل التعرية٥١ على شدتها.

وإني لمعتقد بأن جلَّ التكوينات الجيولوجية القديمة التي تتضمن في معظم طبقاتها مجموعات أحفورية غنيَّة بصور العضويات، قد استُحدثت على هذه الطريقة في خلال الترسب. ولقد صرفت معظم انتباهي منذ أنْ نشرت آرائي في هذا الموضوع أول مرة في سنة ١٨٤٥، إلى النظر في تقدم الفكرة في علم الجيولوجيا، ولقد عجبت كل العجب، إذ تبين لي أنَّ كل المؤلفين الذي عكفوا على بحث تكوين هنا وآخر هنالك، قد أجمعوا على أنها قد نشأت كلها في خلال عمليات الترسب. بيد أني أضيف إلى هذا أنَّ التكوين الواقع على الشاطئ الغربي من أمريكا الجنوبيَّة، والذي يرجع تاريخه إلى العصر الثالث، والذي استطاع بضخامته أنْ يقاوم فعل التحات الظاهر أثره فيه، قد ترسب في أثناء انخفاض أرضي، فحاز قدرًا عظيمًا من الضخامة، وأنه سوف لا يقوى على البقاء عصرًا جيولوجيًّا بالغ الطول.

تدلنا كل الحقائق الجيولوجية بوضوح، على أنَّ كل باحة من الباحات الأرضيَّة قد انتابتها عدة ذبذبات٥٢ ارتفاعًا وانخفاضًا، ومن الظاهر أنَّ هذه الذبذبات قد تناولت باحات مترامية الأطراف. ومن هنا نعتقد أنَّ أكثر التكوينات احتواء على الصور الأحفورية، وأعظمها ضخامة وامتدادًا، وأقدرها على مقاومة التحات والتعرية، لا بُدَّ من أنْ تكون قد حدثت فوق باحات عظيمة في خلال عصور الترسب، وأنَّ هذا لم يحدث إلَّا حيثما كان مورد المواد الرسوبيَّة كافيًا لكي يحفظ قاع البحر ثابتًا، ذلك بأن الرواسب ذوات الضخامة، لا يمكن أنْ تكون قد تكدست في البقاع القليلة الغور، وهي أكثر البقاع ملاءمةً لحياة العديد الأوفر من الأحياء. على أنَّ هذا الأندر حدوثًا في أثناء ذوات الارتفاع٥٣ المتتابعة، أو بعبارة أصح أنَّ القيعان التي تجمعت إذ ذاك، لا بُدَّ من أنْ تكون قد تحطمت بأن ارتفعت وأصبحت في متناول الأثر الدائم لفعل الشاطئ.
إنَّ ما سقنا القول فيه ليصدق كل الصدق على الرواسب السيفية وتحت السيفية، أمَّا البحار القليلة الغور المفرطة الاتساع، كالبحار التي تغشى معظم أرخبيل «الملايو»، حيث لا يبلغ عمقها أكثر من ثلاثين أو أربعين إلى ستين قامة، فإن حدوث تكوين عظيم الامتداد، قد يكون أمرًا مستطاعًا في خلال دور من أدوار الشموخ، من غير أنْ تنال منه مؤثرات التعرية في أثناء شموخه التدرجي البطيء منالًا كبيرًا. غير أنَّ ضخامة ذلك التكوين لا يمكن أنْ تكون مفرطة؛ لأن بطء الحركة البروزية يجعله دائمًا أقل ارتفاعًا من غور العمق الذي يتكون فيه، كذلك لا يبلغ التكون في هذه الحال حدًّا من التكثف عظيمًا من جهة، ولا تتوجه طبقات مفرطة الضخامة تتراكب عليه من جهة أخرى، وبهذا يكون بنجوة من أنْ يتآكلا بفعل التجوية، أو بفعل البحر في خلال ما ينتاب المستوى القاعي من ذبذبات. ولقد أبان «مستر هوبكنس» أنَّ جزءًا من أجزاء اليم إذ يتطامن٥٤ بعد أنْ يشمخ وقبل أنْ يتعرى، فإن الرواسب التي تتكون في خلال حركة الشموخ — ولو لم تكن سميكة — فقد يرجح أنْ تُصان فيها بعد بما يتراكم عليها من تكدسات،٥٥ وبذلك تحتفظ بكيانها عصرًا مديدًا.
كذلك أبان «مستر هوبكنس» عن معتقده في أنَّ القيعان الرسوبية٥٦ التي تمتد في وضع أفقي امتدادًا كبيرًا، قلما تكون قد تحطمت تحطمًا تامًّا. غير أنَّ كل الجيولوجيين باستثناء قلة منهم تقول بأن الصخور الشستية المتحولة،٥٧ وهي ضرب من الصخور المعدنية القوام، والصخور الإفلوطونية٥٨ هي التي تألفت منها نواة الأرض البدائية،٥٩ يسلِّمون بأن هذه الصخور التي ذكرناها قد عريت عمَّا كان يغطيها إلى حدٍّ بعيد، ذلك بأن هذه الصخور قلما يمكن أنْ تكون قد بلغت ذلك المبلغ من التصلد٦٠ والتبلور٦١ وهي عارية. غير أنَّ فعل التحول٦٢ ما دام قد حدث في أغوار المحيط، فالراجح أنَّ ما كان يغطيها من المواد لم تكن بالغة السمك. فإذا سلمنا بأن الغنيس٦٣ «وهو ضرب من الصخر الصواني» والميكاشست٦٤ والجرانيت٦٥ والديوريت٦٦ وما إليها، مغطاة بمواد أُخر، فبمَ نعلل وجود باحات واسعة من تلك الصخور في كثير من بقاع الأرض، ما لم نعتقد بأنها قد تعرت فيما بعد عمَّا كان يغشاها من الطبقات؟ أمَّا وجود باحات عظيمة الامتداد من هذه الصخور — فمما لا شك فيه — فقد وصف «همبولد» إقليم «باريم»٦٧ الجرانيتي فقال: إنه يبلغ من الاتساع تسعة عشر ضعفًا من مساحة سويسرا على الأقل. وحدَّد «بوييه» بالألوان، باحة في جنوبي نهره أمازون، مكوَّنة من مثل هذه الصخور، تبلغ من الاتساع مبلغ مساحة إسبانية، وفرنسة، وإيطالية، والجزر البريطانية، وجزء من ألمانيا مجتمعة، وهذا الإقليم لم يُستكشف بعد استكشافًا علميًّا كاملًا، ولكن روايات الرواد متفقة على أنَّ الباحة الجرانيتيَّة هنالك بالغة العِظم، فقد وضع «فون أشويج» قطاعًا لهذه الصخور، فحدَّد اتساعًا بمنطقة تمتد من «ريوجانيروه» ٢٦٠ ميلًا جغرافيًّا غربًا في خط مستقيم. ولقد سافرت ١٥٠ ميلًا في اتجاه آخر، فلم يصادفني في طريقي كله غير صخور جرانيتية، وجمعت نماذج عديدة من الصخور التقطتها من الشاطئ الممتد من «ريوجانيروه» إلى مصب نهر «لابلاته»، وهي مسافة لا تقل عن ١١٠٠ ميل جغرافي، وامتحنتها فكانت جميعًا من طبقة تلك الصخور.

أمَّا في داخل القارة، وعلى طول الشاطئ الشمالي لنهر «لابلاته» فلم أجد — فضلًا عن القيعان الحديثة التي تكونت في خلال العصر الثالث — إلَّا بقعة صغيرة من الصخور المتحولة تحولًا جزئيًّا، وهي الصخور التي يمكن أنْ تؤلف قسمًا من المواد التي غطت السريات الجرانيتية، فلما عمدت إلى النظر في جيولوجية الولايات المتحدة وكندا، وهي كما لا يخفى بقاع معروفة لدينا حق المعرفة قدرت — بناءً على الخريطة الفريدة التي وضعها الأستاذ «ﻫ. د. روجرز» — الباحات تقديرًا نسبيًّا بأن مزقت الخريطة ووزنت كل قسم منها، فبان لي أنَّ الصخور المتحولة والصخور الجرانيتية، مع استثناء الصخور الجزئية التحول، تزيد بنسبة ١٩ إلى ١٢٫٥ على كل تكوينات الجزء الأحدث من حقب الحياة القديمة. على أنَّ الصخور المتحولة والصخور الجرانيتية أكثر امتدادًا في كثير من البقاع مما يظهر لنا من أمرها، لو أنها تعرت من القيعان المتكونة التي تغشاها اليوم، تلك القيعان التي لا يمكن أنْ تكون قد كونت جزءًا من المواد التي غشت على تلك الصخور أصلًا عند تبللرها. من هنا نرجِّح أن تكوينات برمتها في بعض من بقاع الأرض قد تعرت تمامًا، من غير أنْ تخلف حطامًا يدل على سابق وجودها.

بقي في هذا المبحث مسألة واحدة لا ينبغي لنا أنْ نغفلها، ففي خلال دورات الشموخ تزداد باحات الأرض اليابسة والضحاضح المتصلة بها من البحار، وبذلك تُستحدث في الغالب مواطن جديدة؛ أي مواطن تنشأ فيها ظروف مواتية، على ما بينت من قبل، لنشوء ضروب وأنواع جديدة، غير أنه في أمثال هذه الدورات تحدث فجوات غفل في نسق السجل الجيولوجي، ونجد من جهة أخرى أنَّ البقاع المعمورة بالعضويات، وفي خلال التطامن، تمضي ممعنة في التناقض، وكذلك عدد أهلياتها، اللهم إلَّا في شواطئ القارات إذ تتحطم فتصير أرخبيلًا، ومن ثمة وفي أثناء التطامن، إن حدث كثير من الانقراض، فإن عددًا قليلًا من الضروب والأنواع، لا بُدَّ من أنْ يأخذ في الظهور، ومما لا ريبة فيه أنَّ في أثناء دورات التطامن هذه، قد تكدست أغنى الطبقات المشحونة بصور الأحافير.

(٣) فقدان العديد من الضروب الوسطى في أي تكوين جيولوجي

لا تختلجنا الريب، وفقًا للاعتبارات التي أدلينا بها من قبل، في أنَّ السجل الجيولوجي إذا أخذ في مجموعه، ظهر على جانب عظيم من النقص، بيد أننا إذا حصرنا البحث في تكوين بذاته، صادفتنا صعاب شتى، يستعصي معها أنْ نعلم لماذا لا نجد فيه كثيرًا من الضروب المتدانية في التدرج النشوئي، تربط بين الأنواع المتقاربة الأنساب التي وُجدت منذ نشأته، وفي آخر عصور تكونه، وهنالك حالات كثيرة تظهرنا على أنَّ نوعًا من الأنواع قد يعقب كثيرًا من الضروب، تظهر آثارها الأحفورية في أعلى طبقات التكوين وفي أدناها. فقد عدَّد العلامة «شروتخولد» أمثالًا كثيرة، كذلك اقتطعها من بحوثه في «العمونيات»،٦٨ كما وصف البحاثة «هلجندورف» حالة من الحالات الفريدة؛ حيث ذكر عشر صور من النشوء التدرجي في «البَلانور الشَّكيلي»،٦٩ وقع عليها في قيعان متفرقة؛ لتكوين من تكوينات الماء العذب في سويسرة، وبالرغم من أنَّ كل تكوين لا بُدَّ من أنْ يكون قد استدبر دهورًا متطاولة حتى تمَّ تطابقه، فإن لدينا من الأسباب العديدة ما يبين لنا، لماذا لا يحتوي كل منها على عدد من الصور الوسطى، والحلقات التي تربط بين الأنواع التي لدى بدء تكونه وعند نهايته. غير أني لا أستطيع أنْ أقيم لهذا وزنًا كبيرًا وفقًا للاعتبارات الآتية:

إنَّ كل تكوين جيولوجي، إنْ دلَّ على استدبار حقبة عظيمة من السنين، إلَّا أني أعتقد أنَّ الأحقاب التي يستدبرها ضئيلة إذا قيست بطول الأعصر التي يستدبرها تحول نوع حتى يصير نوعًا آخر، وإني إنْ كنت على علم بأن اثنين من علماء الأحافير يجدر بنا أنْ نخصهما بعظيم الاحترام، وهما «برون» و«وود وارد» قد قضيا بأن الزمان الذي يستدبره تجمع أي تكوين جيولوجي يوازي ضعفي، أو ثلاثة أضعاف الزمان الذي يستدبره نشوء أية صورة من الصور النوعية، فإني آنس كثيرًا من الصعاب التي تحول دون الوصول إلى أية نتيجة مقطوع بصحتها إزاء ذلك الأمر، ذلك بأننا إذا رأينا نوعًا من الأنواع قد ظهرت آثاره في أوسط تكوين ما، فمن الحماقة أنْ نمضي معتقدين بأن هذا النوع عينه لم يكن قد نشأ في بقعة أخرى من بقاع الأرض، في خلال زمان سابق على الزمان الذي حدث فيه ذلك التكوين. وكذلك الحال عندما تختفي آثار نوع قبل ترسب آخر طبقة من طبقات تكوين بذاته، فإن الاعتقاد بأنه قد انقرض في تلك الآونة، لاعتقاد فيه من الحماقة ما لا يقل عمَّا في سابقه، وإننا كثيرًا ما ننسى كم هي صغيرة مساحة القارة الأوروبيَّة مقيسة ببقية الكرة الأرضية، وكذلك نغفل عن أنَّ الدرجات الكثيرة التي مضى فيها كل تكوين جيولوجي ممعنًا في الشموخ في أوروبا كلها، لم تُستكشف علاقات بعضها ببعض استكشافًا تامًّا.

يمكننا القول في اطمئنان، بأنه وقعت لكل الكائنات البحرية على اختلاف طبقاتها هجرات كثيرة، ويرجع السبب في ذلك إلى تغيرات مناخية أو غيرها من المؤثرات، فعندما نشاهد أنَّ نوعًا قد يظهر فجأة في أي تكوين، فالاحتمال الغالب هو القول بأنه إذ ذاك قد بدأ هجرته إلى تلك الباحة. فمن المعروف مثلًا أنَّ عديدًا من الأنواع تظهر بقاياها في تكاوين حقب الحياة القديمة، في زمان أبكر قليلًا في أمريكا منه في أوروبا، وهذا يدل على أنها احتاجت إلى زمان تقضيه في الهجرة من بحار أمريكا لتبلغ بحار أوروبا. كذلك إذا بحثنا الرسوبيات٧٠ الجديدة في كثير من بقاع الأرض، فقد عُرف أنَّ بقايا كثير من الحيوانات التي لا تزال تعمر الأرض الآن، قد توجد في تلك الطبقات، ولو أنَّ صورها الحيَّة تكون انقرضت من البحار المجاورة لتلك البقعة انقراضًا تامًّا، وعلى العكس عن ذلك نجد أنواعًا يذيع انتشارها ويكثر عدد أفرادها في تلك البقاع من المحيط، ولكن يندر أنْ نعثر على بقاياها في تلك الطبقات، أو تنعدم آثارها منها البتة. وقد نستفيد فائدة جُلَّى، إذا نحن مضينا نتأمل مما حقق الباحثون في هجرات الأحياء التي قطنت أوروبا في خلال العصر الجليدي،٧١ وهو جزء بذاته من دهر جيولوجي أطول مدى، وكذلك إذا تأملنا التغيرات التي انتابت المستويات المختلفة، والتباينات الجُلَّى التي حدثت في المناخ، وطول الأزمان المستديرة، وكل هذا داخل ضمن ذلك العصر الجليدي، ومع كل هذا فقد يداخلنا الشك في أنَّ الرواسب المرتصفة٧٢ التي تحتوي على بقايا أحفورية، في أي طرف من أطراف الأرض، قد استمرت تتجمع بلا انقطاع في باحة معينة من الباحات طوال هذا العصر كله. فليس من المرجح مثلًا أنْ تكون البقايا الماديَّة استمرت تترسب مرتصفة طوال العصر الجليدي، بمقربة من مصب نهر «مسيسيبي»، وفي حدود ذلك العمق الذي يمكن أنْ تنتعش فيه الحيوانات البحرية؛ لأننا على علم بأن تغيرات جغرافيَّة جُلَّى قد حدثت في بقاع أخرى من أمريكا في خلال تلك الفترة من الزمان، فإن مثل تلك القيعان التي تكونت في الماء القريب الغور بمقربة من مصب نهر «مسيسيبي»، في خلال فترة ما من فترات العصر الجليدي، إذا أخذت في الشموخ تدرجًا، فإن البقايا العضويَّة تأخذ غالبًا في الظهور، ثم في الاختفاء على مستويات مختلفة، وفقًا لما يترتب على هجرة الأنواع والتغيرات الجغرافيَّة، فإذا أكب في المستقبل البعيد باحث جيولوجي على الفحص عن هذه القيعان، فإنه لا بُدَّ من أنْ يُساق إلى الاستنتاج بأن متوسط أعمار الأحافير المطمورة فيها، أقصر من مدى العصر الجليدي، بدلًا من أنْ يجعلها — كما هو الواقع — أطول أعمارًا وأعرق قدمًا؛ أي من قبل أنْ يبدأ العصر الجليدي إلى يومنا هذا.

إنَّ الحصول على منظومة تدرجية تامَّة، تصل بين صورتين من الصور، نعثر على بقاياهما في أعلى الطبقات وأدناها في تكوين بذاته، لا يتيسر إلَّا إذا كان الترسب قد استمرَّ متطابقًا في خلال عصر طويل، كافٍ لأن يعطي سُنةَ تحوُّل الصفات فرصةً للعمل وإبراز المستحدثات العضويَّة، ومن هنا يلزم أنْ يكون الرصيص سميكًا جدًّا.

وكذلك يشترط في النوع الذي يكون ممعنًا في التحول، أنْ يظل مقيمًا في حدود تلك البقعة لا يبرحها ولا ينشط إلى غيرها في خلال ذلك الزمان بطوله. غير أننا رأينا أن تكوينًا جيولوجيًّا، ولو امتلأ بصور الأحافير في كل طبقاته، لا يمكن أنْ تتجمع مواده إلَّا في أثناء عصر من عصور التطامن الأرضي، ومن أجل أنْ يكون العمق على نسبة واحدة تقريبًا — وهو أمر ضروري؛ حتى يتيسر لنوع بذاته من الأنواع البحرية أنْ يعيش في حدود بقعة معينة لا يبرحها — وجب أنْ تكون الرواسب موازنة على وجه التقريب لمقدار التطامن. غير أنَّ حركة التطامن لا بُدَّ من أنْ تتناول الباحة التي تستمد منها الرواسب، وبذلك يقل مقدار الوارد من الرواسب، بينما تكون حركة التطامن مستمرة غير منقطعة. والحقيقة أنَّ هذا التوازن التقريبي بين كمية الرواسب ومقدار التطامن عارض نادر الحدوث، فقد شاهد أكثر من واحد من علماء الأحافير أنَّ رواسب سميكة جدًّا، قد تكون — بوجه عام — خالية من البقايا الأحفورية، ما عدا المناطق التي هي بمقربة من حدودها العليا أو السفلى.

ومن الظاهر أنَّ كل تكوين من التكوينات الكثيرة في كل أقاليم الأرض، قد تجمع تَفَتُّرًا بوجه عام، فإذا رأينا — وكما نرى دائمًا — تكوينًا مؤلفًا من طبقات معدنية مختلفة، يحق لنا أنْ نحدس أن سير الترسب والارتصاف قد اضطرب أمره إن قليلًا وإن كثيرًا. كذلك لا يزودنا البحث في تكوين ما بأية فكرة عن تطاول الدهور التي استغرقت في ارتصافه. وهنالك أمثال عديدة يمكن ذكرها عن قيعان لا تتجاوز بضع أقدام سمكًا، تقرن إلى تكوينات تبلغ آلاف الأقدام سمكًا في أماكن أخرى، ولا بُدَّ أنْ تكون قد استدبرت أحقابًا متطاولة مديدة حتى تتجمع. ولهذا فما من جاهل بهذه الحقيقة يمكن أنْ يتوهم مدى الزمان الطويل الذي استدبره التكوين الأصغر. كذلك قد نأتي بأمثال تبين لنا أنَّ قيعانًا سفلى من تكوين بذاته قد شمخت واستعلت، ثم تعرت، ثم انغمرت، ثم من بعد ذلك سُجيت بالقيعان العليا من ذات التكوين، وهذه حقائق تظهرنا كم من فترات الزمن الطويلة قد استدبرت في استجماعها، ومرَّ عليها الباحثون الكرام. وتزودنا حالات أخرى بشواهد غاية في البيان والجلاء، نقتنصها من أشجار متحجرة،٧٣ لا تزال واقفة منتصبة كما كانت، فنحدس منها مقدار الفترات الزمانية، وتغير المستويات الذي حدث في أثناء عملية الترسب، مما كان يفوتنا ملاحظته أو اكتناهه ما لم تحفظ هذه الأشجار. فقد عثر «سير لايل» ودكتور «دوسن» على قيعان فحمية٧٤ يبلغ سمكها ١٤٠٠ قدم في «نوفاسكونيا»، بها طبقات تحتوي جذورًا كل منها فوق أخرى، فيما لا يقل عن ثمانية وستين قاعًا مختلفة، ومن ثمَّة نقول: إنه عندما يظهر نوع في كل من السفل والوسط والقمة في تكوين ما، فالراجح أنه لم يعش في بقعة واحدة من بقاعه في أثناء الزمان الذي ترسب فيه، بل إنه ظهر ثم اختفى، وربما تكرر ذلك مرات عديدة في خلال حقبة من الحقب الجيولوجية، ويترتب على ذلك أنه إذا قُدَّر له أنْ يتكيف تكيفًا كبيرًا في أثناء ترسب أي تكوين جيولوجي، فإن قطاعًا بعينه من قطاعات ذلك التكوين لا يمكن أنْ يتضمن التدرجات الانتقاليَّة الوسطى، التي ينبغي لها — وفقًا لنظريتي — أنْ تكون قد وجدت، بل يتضمن تحولًا في الصورة مباغتًا، ولو أنه طفيف في غالب الأمر.

ومما له أهمية بالغة أنْ نتذكر أنَّ المواليديين — أي الطبيعيين — ليس لديهم «قاعدة ذهبية» يفرِّقون بها بين الأنواع والضروب، إنهم يعيِّنون لكل نوع قسطًا صغيرًا من التحولية، فإذا صادفهم قدر أكبر من التغاير والتحول بين صورتين، بادروا إلى اعتبارهما نوعين ما لم يصبح في مستطاعهم أنْ يربطوا بينهما بحلقات وسطى قريبة الآصرة، وهذا قلما يكون في مستطاعنا أنْ نقع عليه في أي من القطاعات الجيولوجية، وفقًا للأسباب التي بيناها من قبل. لنفرض أنَّ «ب» و«ج» نوعان وثالث هو «أ»، وُجدت في قاع سفلي متقادم، فحتى لو كان النوع «أ» حلقة صحيحة تربط بين «ب» و«ج»، فإنه — ولا شك — يعتبر نوعًا ثالثًا، ما لم يكن من المستطاع في الوقت ذاته أنْ يوصل بينه وبين أحد النوعين أو كليهما بضروب وسطى وصلًا متينًا. كذلك لا ينبغي لنا أنْ نغفل على ما أظهرنا من قبل أن «أ» قد يكون هو السلف الأول الذي تنشأ عنه «ب» و«ج»، ومع هذا فليس من الضروري أنْ يكون حلقة ظاهرة بينهما في كل الاعتبارات. ومن هنا قد نحصل على النوع السلفي وتولداته المتحولة الكثيرة من القيعان العليا والسفلى في تكوين بذاته، فإذا لم نحصل على تدرجات وسطى عديدة، عجزنا عن تعيين علاقة الدم بينها، وتعين علينا أنْ نضعها في طبقة الأنواع.

مما هو خليق بالعجب حقًّا، أنْ نعرف إلى أي مدى من التطرف بلغ الأحفوريون٧٥ — علماء الأحافير — في اتخاذ أتفه التحولات أساسًا لتعيين الأنواع، وإنهم ليوغلون في ذلك ويصبحون أكثر استعدادًا للأخذ به، إذا كانت العينات مأخوذة من مستويات فرعيَّة في تكوين بذاته. وإن كثيرًا من المشتغلين الآن بمباحث الرخويات،٧٦ قد عمدوا إلى النزول بالأنواع التي عيَّنها «دوربنيي» وغيره من البحاث إلى طبقة الضروب. ومن هذا الاتجاه في وجهة النظر، تقع على الشاهد الحق الدال على التحول، والذي تتأيد به النظرية جملة، ثم عُد إلى النظر في مترسبات أواخر العصر الجيولوجي الثالث، الذي يحتوي على كثير من الأصداف، التي يعتقد أكثر المواليديين أنها والأنواع الحالية سواسية، تجد أنَّ بعضًا من ثقاتهم ومنهم «أغاسير» و«بكتيه»، يؤكدون أنَّ جميع الأنواع التي عاشت في العصر الثالث، مميزة نوعيًّا، ولو أنهم يعترفون بأن امتيازها تافه ضعيف، من هنا نأنس إلى أنه ما لم نعتقد أنَّ هؤلاء المواليديين الثقات قد خدعتهم تصوراتهم، وأنَّ هذه الأنواع التي عاشت في العصر الثالث لا تفترق بفارق ما عن أخلافها الموجودة اليوم، وما لم نسلم على النقيض مما يقضي به أكثر المواليديين، بأن أنواع العصر الثالث مميزة جميعًا عن الأنواع الحديثة، فإن ذلك ليقوم شاهدًا حقًّا على حدوث كثير من التكيفات الضئيلة التي نطلبها. أمَّا إذا رجعنا إلى النظر في فترات زمانية أطول، محددين النظر في مراحل متتالية مميزة من مراحل تكوين بذاته من التكوينات العظيمة، فإننا نجد أنَّ الأحافير المنطمرة، وإن صنعت باعتبارها مميزة نوعيًّا، فإنها بالرغم من ذلك قريبة الاتصال بعضها ببعض، أكثر مما يقرب اتصال الأنواع التي توجد في تكوينات منفصلة بعضها عن بعض انفصالًا كبيرًا. وهنا أيضًا نقع على شاهد لا ريب فيه، يدل على تحول نحو الاتجاه الذي يثبت النظرية. غير أني سأعود إلى الكلام في المبحث الأخير في الفصل التالي.

لنا أنْ نتوقع أنَّ الحيوانات والنباتات التي تتكاثر بسرعة — ولا تعجب بأية سرعة على ما بينا من قبل — تكون ضروبها في أول الأمر موضعيَّة، وإنَّ مثل هذه الضروب الموضعيَّة لا تنتشر انتشارًا واسعًا، بحيث تتمكن من أنْ تحل محل صورها الأبويَّة؛ حتى يتم تكيفها واكتمالها إلى درجة كبيرة. ووفقًا لهذا الرأي تكون الفرص في استكشاف مراحل الانتقال المبكرة بين صورتين في تكوين ما في أية بقعة من البقاع، ضئيلة تافهة؛ لأن من المفروض أنَّ التحولات المتتابعة كانت موضعيَّة ومقصورة على موضع بذاته، وأكثر الحيوانات البحرية واسعة الانتشار. وكذلك رأينا أنَّ النباتات التي لها أوسع انتشار، هي أندر النباتات استحداثًا للضروب. ومن هنا نقول: إنه من حيث الأصداف والحيوانات البحرية، قد يغلب أنَّ ما يختص منها بالانتشار الأوسع، حتى إن انتشارها يتجاوز حدود التكوينات الأوروبيَّة المعروفة، هي التي نشأت في أكثر الأمر الضروب الموضعيَّة أولًا، ثم الأنواع في النهاية. وهذا أيضًا مما يقلل أمامنا فرص العثور على مراحلها الانتقالية في كل تكوين جيولوجي.

ومما هو أجدر مما ذكرنا بالاعتبار، ومما يؤدي إلى نفس النتيجة التي قررنا، ما استمسك به دكتور «فالكونار»، من أنَّ الزمن الذي يمضي فيه كل نوع ممعنًا في التكيف — وإنْ طال إذا هو قُدِّر بالسنين — فالغالب أنْ يكون قصيرًا بالقياس إلى الزمن الذي ظلَّ فيه النوع ممسكًا عن أي تحول.

ولا ينبغي لنا أنْ نغفل عن أنه في الوقت الحاضر، وقد حصلنا على نماذج كاملة للاختبار والبحث، قلما نعثر على صورتين تصل بينهما ضروب وسطى، وبذلك يقوم الدليل على أنهما نوع بذاته حتى يتيسر الحصول على نماذج كثيرة تُلتقط من أماكن متفرقة. على أنَّ هذا قلما يُيسَّر أو هو نادر أنْ يحدث في الأنواع الأحفورية، وإنا لنكون أكثر إدراكًا بعجزنا عن القدرة على الوصل بين الأنواع بحلقات وسطى كثيرة من الحلقات الأحفورية، بأن نسائل أنفسنا مثلًا ما إذا كان الجيولوجيون في عصر مقبل سوف يقتدرون على أنْ يبرهنوا على أنَّ أنسال الماشية والغنم والخيل والكلاب المختلفة، قد انحدر كل منها عن أصل واحد أم عن أصول متفرقة؟ أو نتساءل ما إذا كانت بعض الأصداف البحرية التي تستوطن شواطئ أمريكا الشمالية، والتي يضعها بعض المشتغلين «بالرخويات» في طبقة الأنواع المميزة عن أمثالها من الأنواع الأوروبيَّة، في حين يضعها آخرون منهم في طبقة الضروب؟ هي في الحقيقة ضروب حقيقيَّة، أو كما تدعوها فئة صور مميزة نوعيًّا، سوف يتيسر ذلك للجيولوجي في المستقبل بطريق واحد هو استكشاف حلقات تدرجيَّة وسطى في حالة أحفورية. غير أنَّ هذا أمر غير مرجَّح إلى درجة كبيرة.

لقد كرر أولئك الذين يعتقدون بجمود الأنواع وعدم تحولها المرة بعد المرة، القول بأن علم الجيولوجيا لا يزودنا بشيء من الصور الوسطى، وهذا القول المعاد — على ما سوف نظهره في الفصل التالي — خطأ تحقيقًا، وفقًا لما يقول «سير جون لبوك»: من «أنَّ كل نوع إنما هو حلقة بين صورتين متآصرتين»، فإذا أخذنا جنسًا يتبعه عشرون نوعًا — منها الجديد ومنها المنقرض — وأفنينا أربعة أخماسهم، فلا شك في أنَّ المتبقي منهم سيظهرون أكثر انفصالًا بعضهم من بعض. فإذا وقع أنَّ الصور الضاربة في التحول من جنس بذاته قد فنت أو أُفنيت، «فإن الجنس يظهر أكثر انفصالًا عن الأجناس المتصلة به». أمَّا ما عجزت البحوث الجيولوجية عن أنْ تفصح عنه، فوجود تدرجات سابقة لا تُحصى، وتبلغ من حسن الصفة مبلغ الضروب الحالية، بحيث تربط على وجه التقريب كل الأنواع، موجودة وبائدة. غير أنه لا ينبغي لنا أنْ نتوقع حدوث ذلك، ومع هذا فإن هذه الحالة كثيرًا ما تكرر الأخذ بها اعتراضًا، ظُن أنه ذو بال يناقض مذهبي.

من المفيد في هذا الموطن أن نجمِّل آراءنا في أسباب النقص الملحوظ في السجل الجيولوجي بمثَلٍ نتخيله، فإن أرخبيل الملايو يكاد يبلغ من الاتساع مساحة أوروبا مقيسة من رأس الشمال إلى البحر المتوسط، ومن الجزر البريطانيَّة إلى روسيا، فهو من حيث ذلك يساوي كل التكوينات الجيولوجية التي تناولها التنقيب بشيء من الدقة والضبط، ما عدا تكوينات الولايات المتحدة. وإني لأتفق اتفاقًا تامًّا مع «مستر جدوين أوبتن»، بأن الحالة القائمة الآن في أرخبيل الملايو، بما فيه من الجزر الكبيرة المتعددة، المنفصلة ببحار واسعة ضحلة، ربما ينظر إلى ما كانت عليه حالة أوروبا في سياق الزمن الذي تجمعت فيه تكويناتها. وأرخبيل الملايو من أغنى البقاع بصور الأحياء العضويَّة، ومع هذا فإن استجمعت جميع الأنواع التي عاشت فيه، فأية درجة من النقص سوف تسفر لنا إذا ما اتخذنا هذه الأنواع صورة تمثل التاريخ الطبيعي العام لهذه الدنيا؟

ولكن مع هذا، فإن لنا الحق كل الحق في أنْ نعتقد بأن جميع المواليد الأرضية لهذا الأرخبيل، لا يمكن الاحتفاظ بها إلَّا في حالة كبيرة من النقص في التكوينات التي نفرض أنها كانت آخذة في التكون هنالك. وقليل من الحيوانات الساحلية الصرفة، أو تلك التي عاشت على الصخور العارية المنغمرة تحت سطح الماء، يمكن أنْ تنطمر، وتلك التي تنطمر في الرمل أو الحصباء، لا يمكن أنْ تبقى سالمة عصرًا طويلًا، وحيثما لا يحدس تكدس الترسب أو الارتصاف في قاع البحر، أو حيث لا تتكدس بنسبة كافية يتيسر معها حفظ الأجسام العضويَّة من الانحلال، يتعذر صيانة البقايا المنطمرة.

إنَّ التكوينات الغنيَّة بالأحافير المختلفة الصور، وتكون من السمك بحيث يمكن أنْ تستمر زمانًا في المستقبل يوازي الزمن الذي استدبرته التكوينات الثانوية،٧٧ في الماضي، قد لا تتكون في ذلك الأرخبيل إلَّا في أدوار التطامن الأرضي، وأدوار التطامن هذه لا بُدَّ من أنْ ينفصل بعضها عن بعض بفترات متطاولات من الزمن، تظل الباحة برمتها في خلالها، إمَّا في حالة ثبات أو في حالة شموخ.٧٨ فعند الشموخ تتحطم كل التكوينات الأحفورية التي تكون واقعة على الشواطئ الأشد انحدارًا، بنفس السرعة التي بها تتكدس بتواتر العوامل الشاطئية المتواصلة. وعلى نفس الصورة التي نراها قائمة على شواطئ أمريكا الشمالية، وحتى في فجاج البحار الضحلة المترامية في باحة ذلك الأرخبيل، لا يتسنى للقيعان الرسوبية٧٩ أنْ تتكدس بسُمك عظيم في أثناء دورات الشموخ، أو تُتوَّج وتُحمى بترسبات تالية؛ حتى تُتاح لها فرصة البقاء إلى مستقبل بعيد الأمد. ويغلب أنْ يحدث في أثناء دورات التطامن أنْ ينزل بصور الحياة الكثيرة من الانقراض، كما يغلب في دورات الشموخ أنْ يصيبها كثير من التحول، ولكن السجل الجيولوجي يصبح بذلك أشد نقصًا وأقل اكتمالًا.

ولقد يساورنا الشك فيما إذا كان دوام أية دورة عظمى من دورات التطامن في باحة الأرخبيل كلها أو جزء منها، مع ما يصحبها من تكدس رواسب معاصرة لها، قد يزيد على متوسط دوام صور نوعيَّة بذاتها. إنَّ هذه الأحداث العارضة ضرورة ولازمة لحفظ التدرجات الانتقاليَّة بين نوعين أو أكثر من الأنواع، فإذا لم يمكن حفظ مثل هذه التدرجات حفظًا تامًّا، فإن الضروب الانتقالية — أي الوسطى — لا بُدَّ من أنْ تلوح لنا كأنها أنواع جديدة متقاربة الصلة. وكذلك لا يبعد في كل دورة كبيرة من دورات التطامن أنْ تُصاب بذبذبات تتناول المستوى الأصلي، وأن أيًّا من التغيرات المناخية الطفيفة، لا بُدَّ من أنْ تتدخل في خلال تلك الدورات المتطاولة، وفي هذه الحالات، قد يهاجر أهالي هذا الأرخبيل، وبذلك يتعذر الحصول على سجل وثيق بما حلَّ بهم من تكيفات يمكن حفظها في تكوين ما.

إنَّ كثيرًا جدًّا من أهالي البحار في ذلك الأرخبيل، تنتشر في آلاف من الأميال في خارج حدوده، وإنَّ القياس — ولا شك — يسوقنا إلى الاعتقاد بأن الأنواع المفروض أنها واسعة الانتشار، ولو أنَّ بعضًا منها هي التي يغلب أنْ يتخلف عنها ضروب جديدة، وأنَّ الضروب تكون موضعيَّة في أول الأمر أو مقصودة البقاء على باحة واحدة، فإذا كانت حائزة ميزة من الميزات، أو إذا سيقت في طريق التكيف والارتقاء، فإنها سوف تمضي في الانتشار والذيوع تدرجًا؛ حتى تُخضع أسلافها التي نشَّأتها. وعندما ترتد هذه الضروب إلى مآهلها القديمة، فإنها بمقتضى أنها تكون قد تغيرت عن حالتها الأولى بصورة سوية نظيمة تقريبًا، وإنْ اختلفت اختلافًا تافه الدرجة، وبمقتضى أنها توجد منطمرة في مراحل ثانوية من مراحل تكدس تكوين بذاته، فلا بُدَّ من أنها وفقًا للمبدأ الذي يأتم به كثير من علماء الأحافير، من أنْ تُوضع في طبقة الأنواع الجديدة المميزة الصفات.

فإذا كان فيما أتينا به أثارات من حق، فليس لنا إذن أنْ نتوقع العثور في تكويناتنا الجيولوجية، عددًا غير محدود من تلك الحلقات الانتقاليَّة الوسطى، تلك الحلقات التي هي مطاوعة لنظريتي، قد وصلت بين أنواع كل عشيرة كائنة وغابرة في منظومة متشعبة طويلة من صور الحياة. إنَّ ما ينبغي لنا هو أنْ نطمح في وجود قليل من حلقات الوصل، ولا ريبة في أننا نعثر على هذه الحلقات، بعضها بعيد الصلة، وبعضها قريب الصلة ببعض. وهذه الحلقات — حتى لو كانت قريبة الآصرة أشد القرب — إذا وجدت في مراحل متفرقة من مراحل تكوين واحد، فإن كثيرًا من علماء الأحافير يُلحقونها بالأنواع المميزة الصفات، غير أني لا أدعي بأني قد توقعت يومًا من الأيام إلى أي حدٍّ بلغت نحافة ذلك السجل المكنون في القطاعات الجيولوجية، ما لم يكن فقدان الحلقات الوسطى الوفيرة العدد — والتي تربط بين الأنواع التي عاشت في بداية كل تكوين جيولوجي وفي نهايته — قد وقف في وجه نظريتي، ذلك الموقف المرهق العنيد.

(٤) الظهور الفجائي لعشائر الأنواع المتآصرة

كان ظهور عشائر الأنواع بصورة فجائيَّة في بعض التكوينات الجيولوجية، من البراهين التي اتخذ منها بعض علماء الأحافير — ومنهم «أغاسيز» و«بكتيه» و«سوجويك» — معترضًا نافيًا للاعتقاد بتحول الأنواع. فإذا كان من الحق أنَّ جملة كبيرة من الأنواع التابعة لجنس بذاته أو فصائل معينة، قد بدأت الوجود في الحياة فجأة، فإن هذه الحقيقة تقوِّض — ولا شك — دعائم نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي، ذلك بأن نشوء عشيرة من الصور الحيَّة بهذه الطريقة، بحيث تكون جميعًا منحدرة من أرومة واحدة، لا بُدَّ أن كانت نهجًا بطيء الأثر جهد البطء، وأنَّ هذه الأرومات محتوم أنْ تكون قد عاشت أزمانًا متطاولة قبل ظهور أعقابها المرتقبة. غير أننا كثيرًا ما نبالغ في تقدير كفاية السجل الجيولوجي واكتماله، بل ونحدس خطأً، استنادًا إلى أنَّ بعض الأجناس أو الفصائل لم توجد بعد مرحلة معيَّنة، أنها لم توجد قبل تلك المرحلة. ولقد نرى في كل الحالات أنَّ الشواهد الأحفورية الإيجابيَّة يُؤخذ بها على وجه الإطلاق، في حين أنَّ الشواهد السلبيَّة تُنبذ وتُهمل، كما تدلنا على ذلك خبرتنا، فإننا ننسى دائمًا كم هي كبيرة هذه الدنيا، مقيسة بالباحة التي أمكن أنْ يُفحص فيها بعناية عن تكويناتنا الجيولوجية. وكذلك نغفل عن أنَّ عشائر من الأنواع قد يتفق أنْ تكون قد وُجدت في بقاع أخرى، وأنها تكاثرت ببطء، قبل أنْ تغزو أرخبيلات أوروبا والولايات المتحدة، كما أننا لا نفسح في اعتبارنا مجالًا لفترات الزمن التي انسلخت بين كل التكوينات المتعاقبة، وربما كانت أطول من الزمن الذي اقتضاه تكدس كل تكوين منها، وهذه الفترات قد تهيئ فرصة من الوقت لتكاثر الأنواع المنحدرة من أصل أبوي واحد غير معروف، أمَّا هذه الأنواع فتظهر في تكوين تالٍ، كما لو أنها قد خُلقت فجأة.

ويحسن بي في هذا الموطن أنْ أعود إلى ما سبق أنْ أشرت إليه، من أنه ربما يحتاج الأمر إلى عصور متعاقبة حتى يتكيف كائن عضوي بوسيلة خاصَّة من وسائل الحياة — كأن يطير في الهواء مثلًا — وأنه ينبني على هذا أنْ تظل الصور الوسطى — في الغالب — محصورة في صقع بذاته. ولكن إذا تمَّ هذا التهايؤ وكَمُل ذلك التكيف، فاكتسب به قليل من الأنواع فائدة كبرى وسلطانًا على غيرها من العضويات، فإنها تحتاج إلى عصور أقصر من العصور السابقة نسبيًّا حتى تُنشِئ كثيرًا من الصور المتحولة التي تسارع إلى الانتشار، انتشارًا كبيرًا في أنحاء الدنيا. ولقد أشار الأستاذ «بكتيه» في نقده الذي عقده على هذا الكتاب، معلقًا على مسألة الصور الانتقاليَّة المبكرة، متخذًا من الطيور مثالًا يستند إليه، إلى أنه لا يستطيع أنْ يرى كيف أنَّ التكييفات المتعاقبة واقعة على الأطراف الأمامية من صورة أوليَّة مفروضة، يمكن أنْ تكون ذات فائدة ما تستفيدها، ولكن عليك أنْ تنظر إلى طير «البطريق»٨٠ في البحار الجنوبيَّة، أليس لهذه الطيور أطراف أماميَّة في نفس تلك المرحلة الانتقاليَّة؟ إذ هي «ليست أذرعًا صحيحة ولا أرجلًا صحيحة»، ومع هذا فإن هذه الطيور تشق طريقها منتصرة في معركة الحياة، وإذ هي توجد وفيرة العدد متنوعة الصور، ولست أدعي أننا نقع في هذا المثال على تدرجات انتقالية صحيحة مرَّت فيها أجنحة الطيور. ولكن أية صعوبة هنالك في أنْ نعتقد بأنه مما يرجع بالفائدة على أخلاف طير «البطريق» المتكيفة، أنْ تصبح أول شيء قادرة على أنْ ترف بأجنحتها على سطح البحر، بمثل ما يفعل «البط الأخرق»،٨١ ثم تُرفع في النهاية على سطح الماء وتمرق في الهواء.
وسأسوق الآن أمثلة قليلة لأزيد الإشارات السابقة بيانًا، وأظهِر إلى أي حدٍّ قد توغل في الخطأ، إذ تفرض أنَّ عشائر برمتها من الأنواع قد نشأت فجأة، ففي فترة قصيرة — كتلك التي انقضت بين ظهور الطبعة الأولى والطبعة الثانية من كتاب «بكتيه» العظيم عن الأحافير، وقد طُبع في ١٨٤٤–١٨٤٦، ثم في ١٨٥٣–١٨٥٧ — تغيَّر الرأي في أول ظهور كثير العشائر المختلفة ثم اختفائها، تغيرًا كبيرًا جدًّا، وإنَّ طبعة ثالثة من الكتاب قد تحتاج إلى تغييرات أخرى. ويحسن بي أنْ أفصح عن تلك الحقيقة المعروفة، حقيقة أنَّ المؤلفات الجيولوجية التي نُشرت منذ سنوات قلائل، قد قضت دائمًا بأن الثدييات٨٢ قد ظهرت فجأة في بداءة المنظومة الثالثة،٨٣ أمَّا الآن فإن أغنى مجموعة من مجموعات الأحافير الثديية تنتمي إلى أوساط المنظمة الثانية. ولقد استُكشفت ثدييات حقيقيَّة في الحجر الرملي الأحمر الحديث، قرابة بدء تلك المنظومة العظيمة، ومضى «كوفييه» مؤكدًا أنه ما من «سعدان»٨٤ واحد قد وُجد في أي من طبقات العصر الثالث، أمَّا الآن فقد عُثر على بقايا أنواع منقرضة في الهند وجنوبي أمريكا وأوروبا، يرجع تاريخها رجعًا إلى المرحلة الوسطانية.٨٥ ومن ذا الذي كان في مستطاعه أنْ يفرض وجود ما لا يقل عن ثلاثين حيوانًا شبيهة بالطير، بعضها جسيمة الحجوم، في أثناء ذلك الدور، ما لم تُتح الفرص النادرة للاحتفاظ بطبعات أقدام في الحجر الرملي الأحمر الحديث في الولايات المتحدة؟ ولم تُستكشف في تلك القيعان قطعة واحدة من العظم، ومنذ عهد غير بعيد، مضى علماء الأحافير مستمسكين بأن شعب الطيور قد ظهر فجأة في أثناء العصر الأيوسيني٨٦ غير أننا نعرف اليوم — اعتمادًا على ما يقول الأستاذ «أوين» — أنَّ طيرًا من المحقق قد عاش في أثناء تراكم طبقة الرمل الأخضر العليا، وفي زمن أقرب من هذا، استُكشف «الطيرم» — أو تعريبًا الخِبطير٨٧ — في الأردواز الأوليتي٨٨ بإقليم «استولينهوفن»، وهو كائن له ذَنَب كذَنَب العِظاية، وريشتان عند كل مفصل، وينتهي كل من جناحيه بمخلب طليق، وقلما يرشدنا كشف حديث بأبين مما يرشدنا إليه هذا الكشف، إلى أي حدٍّ من النحافة تبلغ معرفتنا بسكان هذه الدنيا الأولين.
أشير هنا إلى حالة أخرى كان لها أثر كبير في نفسي؛ إذ وقعت تحت سمعي وبصري، ففي مذكرات كتبتها عن الذؤابيات الأقدام الجالسة الأحفورية،٨٩ ذهبت مستندًا إلى ضخامة عدد أنواع المنظومة الثالثة٩٠ كائنة ومنقرضة، وإلى فداحة عدد الأفراد الوافرة في جميع أنحاء الأرض، من الأصقاع المتجمدة إلى خط الاستواء، مستوطنة مناطق متباينة العمق من أعلى الحدود المدية إلى خمسين قامة في الغمر، وإلى الحالة السليمة التي حُفظت بها النماذج في أقدم القيعان الثالثة،٩١ وإلى السهولة التي بها يمكن الاهتداء إلى تشخيصها حتى في جزء صغير من صمامة، إلى كل هذه الاعتبارات مجتمعة، ذهبت إلى أنَّ الذؤابيات الأقدام الجالسة٩٢ إذا كانت قد وُجدت في خلال الأدوار الثانية،٩٣ فلا بُدَّ إذن من أنْ تكون قد حُفظت بقاياها واستُكشفت، ولما لم يُستكشف نوع واحد في قيعان ذلك العصر، انتهيت إلى أنَّ هذه العشيرة قد نشأت فجأة عند بداية العصر الثالث. ولقد أعنتني هذا الأمر وأمضَّني؛ إذ يضيف على ما تبادر لي إذ ذاك، شاهدًا جديدًا على ظهور عشيرة كبرى من الأنواع ظهورًا فجائيًّا، ولكن كتابي لم يكد يُنشر، حتى وصلني من عالم أحفوري نابه هو «مسيو بوسكيه» رسمًا لنموذج كامل لحيوان من ذؤابيات الأقدام الجالسة، استخرجها هو بنفسه من طباشير بلجيكة. وكما لو أنَّ الفرصة قد سنحت ليكون هذا الكشف أروع ما يكون، ظهر أنَّ هذا الحيوان الذؤابي من جنس «الخملوس»،٩٤ وهو جنس ذائع الانتشار كبير الحجم، ويكاد يوجد في كل مكان، ولم يسبق أنْ عُثر على آثار نوع واحد منه في أي من الطبقات الثالثة.٩٥ وفي زمن أبكر من ذلك استكشف «مستر وود وارد» «فرغومًا»٩٦ وهو عضو من فصيلة من الذؤابيات الأقدام الجالسة في الطباشير الأعلى، فأصبح الآن بين أيدينا شواهد عديدة تؤيد وجود هذه العشائر من الحيوان في أثناء العصر الثاني.
إنَّ الشاهد الذي كثيرًا ما عمد إليه علماء الأحافير ليتخذوه سندًا للقول بظهور عشيرة برمتها من الأنواع فجأة، هو ظهور الأسماك العظميَّة٩٧ في أسفل مناطق العصر الطباشيري، على ما يقول «أغاسيز». تتضمن هذه العشيرة الغالبية العظمى من الأنواع الحيَّة. غير أنَّ بعضًا من الصور التي وُجدت في العصرين اليوراسي٩٨ والطرياسي،٩٩ قد اعتُبرت إجماعًا أنها من العظميات. بل إنَّ بعض صور حقب الحياة القديمة،١٠٠ قد اعتبرها ثقة كبير من العظميات. فإذا كانت العظميات قد ظهرت حقيقة فجأة في نصف الكرة الشمالي عند بداية تكون التكوين الطباشيري١٠١ فتلك إذن حقيقة ذات شأن كبير، غير أنها مع ذلك لا تكون صعوبة منيعة، ما لم يمكن الاستدلال أيضًا على أنَّ هذه الأنواع قد ظهرت فجأة، ونشأت معًا في بقاع أخرى من الأرض في نفس ذلك الزمن. ورب قائل يقول: إنه يكاد لا يُعثر على أي من السمك الأحفوري في جنوبي خط الاستواء. على أنك إذا قلبت كتاب «مسيو بكتيه» في الأحافير، لرأيت أنَّ قليلًا جدًّا في الأنواع قد عرفت تكوينات أوروبا المتفرقة. على أنَّ قليلًا من فصائل الأسماك محدودة الانتشار في العصر الحاضر، وربما كان للأسماك العظميَّة فيما مضى انتشار واسع، كذلك ليس من حقنا أنْ نفرض أنَّ بحار الأرض قد ظلت حرمًا مباحًا من الشمال إلى الجنوب — كما هو الآن — بل إنه في هذا العصر إذا ما تحول أرخبيل ملايوه أرضًا قارة، فإن الباحات الاستوائيَّة من المحيط الهندي تصبح حوضًا محصورًا حصرًا تامًّا، يمكن أنْ تتكاثر فيه عشائر كبرى من الأحياء البحريَّة، وهنالك تنعزل وتُحصر، حتى تتكيف بعض الأنواع، فتصبح أكثر احتمالًا لإقليم بارد، فتستطيع الالتفاف من حول الرءوس البحرية في جنوبي أفريقيا وأستراليا، وبذلك تصل إلى بحار أخرى بعيدة قصية.

وفقًا لهذه الاعتبارات، وجهلنا بجيولوجية الممالك الأخرى الواقعة في خارج أوروبا والولايات المتحدة، والثورة التي حلت بالبحوث الأحفورية التي تمت بالمستكشفات التي وقعت في أثناء اثنتي عشرة سنة مضت، يظهر لي جليًّا أنَّ الحمق في الاستمساك بالمذهبية في مسألة تعاقب الصور العضويَّة في أنحاء العالم، لا يقل عن حمق عالم مواليدي تستقر قدمه على نقطة قاحلة ماحلة في أستراليا مدى خمس دقائق لا أكثر، فيشرع بعدها توًّا في مناقشة عدد آهلاتها ومدى انتشارهم فيها.

(٥) ظهور عشائر الأنواع المتآصرة فجأة في أعمق الطبقات الأحفورية المعروفة

هنالك صعوبة تتصل بما ذكرنا، بل هي أعنت وأعتى، أشير بذلك إلى الطريقة التي تظهر بها الأنواع التابعة للأقسام الرئيسيَّة من مملكة الحيوان فجأة في أسفل الصخور الأحفورية المعروفة. وإنَّ أكثر البراهين التي أقنعتني بأن كل الأنواع الحالية التابعة لعشيرة بذاتها، ناشئة من أصل أوليٍّ واحد، تنطبق بنفس ما لها من قوة على نشوء أبكر الأنواع المعروفة. فمما لا ريبة فيه مثلًا أنَّ كل «الطرلوبيات»١٠٢ الكمبرية١٠٣ والسلورية،١٠٤ منحدرة من حيوان قشري واحد، لعله عاش في زمان سابق على العصر الكمبري بزمن مديد، وكان مختلفًا كل الاختلاف عن كل حيوان معروف، وبعض من أقدم الحيوانات وأعرقها قدمًا، كالنوطل١٠٥ — أي الملاح — والنغول١٠٦ وغيرهما، لا تفترق كثيرًا عن الأنواع الموجودة الآن. ولا يتيسر — وفقًا لنظريتي — أنْ نفرض أنَّ هذه الأنواع القديمة، كانت هي بذاتها الأصول الأوليَّة لكل الأنواع التابعة لنفس العشائر التي ظهرت فيما بعد؛ لأنها ليست بأية حال متصفة بصفات الحلقات الوسطى.

يترتب على ذلك أنَّ نظريتي إذا كانت صحيحة، فمما لا يحتمل المناقشة أنه قبل ترسب أسفل الطبقة الكمبرية، قد مرت أحقاب مديدة، تبلغ من التطاول مبلغ الفترة من العصر الكمبري إلى الآن، وربما كانت أكثر تطاولًا، وأنه في مدى تلك العصور المديدة، قد عجت الدنيا بالمخلوقات الحيَّة. وهنا يواجهنا اعتراض بالغ القوة؛ لأنه — مما يُشك فيه كل الشك — ما إذا كانت الأرض قد استمرَّت صالحة لأن تأهل بها الأحياء زمنًا كافيًا، فقد ذهب «سير و. تومسون» إلى أنَّ تماسك قشرة الأرض قد حصل قبل ما لا يقل عن عشرين، ولا يزيد على أربعمائة مليون سنة مضين، والراجح ألَّا يقل عن ثمانية وتسعين، ولا يزيد على مائتي مليون سنة، والفارق بين التقديرين يرينا إلى أي حدٍّ يذهب بنا الشك في صحة المعلومات التي يقوم عليها التقدير. ويقول «مستر كرول»: إنه قد مرَّ حوالي ستين مليون سنة منذ العصر الكمبري، غير أنَّ هذا — استنادًا إلى ضئولة التغيرات العضويَّة منذ بداءة العصر الجليدي — يلوح كأنه زمن قصير لحدوث تحولات كثيرة عظمى في الأحياء، تلك التي لا بُدَّ من أنْ تكون قد حدثت منذ قيام التكوين الكمبري. أمَّا المائة والأربعون مليونًا من السنين السابقة، فقلما تعتبر كافية لنشوء صور الحياة المتباينة التي وجدت فعلًا في أثناء العصر الكمبري، على أنه من المرجح — على ما يذهب إليه «سير وليم تومسون» — أنَّ هذه الدنيا قد تعرضت في عصر مبكر كثيرًا من عمرها لتغيرات طبيعيَّة، أسرع وأعنف كثيرًا مما تتعرض له الآن، وأنَّ مثل هذه التغيرات لا بُدَّ من أنْ تكون قد فُرضت على العضويات التي عاشت في كنفها، تحولات تعادل التغيرات الطبيعيَّة الجُلَّى.

أمَّا التساؤل: لماذا لا تجد بقايا أحفورية وفيرة في تلك الأحقاب المبكرة السابقة على المجموعة الكمبرية،١٠٧ فليس في مستطاعي أنْ أجيب عليه إجابة مرضية. على أنَّ فريقًا من ثقات الجيولوجيين — وعلى رأسهم «سير ر. ميرشيسون» — كانوا إلى عهد قريب يعتقدون أننا نشهد في البقايا العضويَّة المنطمرة في الطبقة السلورية١٠٨ أول خيوط الحياة، في حين أنَّ غيرهم من الثقات الأثبات، ومنهم «سير لايل» و«مستر فوريس» قد عارضوا هذا القول، ولا ينبغي لنا أنْ ننسى أنَّ جزءًا تافهًا من الأرض قد عُرف وامتُحن بدقة. ومنذ زمن غير بعيد أضاف «مسيو بارنده» مرحلة أخرى أكثر بعدًا، تعج بأنواع جديدة مميَّزة، وتقع تحت المجموعة السلورية١٠٩ المعروفة. والآن وعلى بعد أعمق في التكوين الكمبري الأسفل، عثر «مستر هكسي» في قيعان «سوث وايلس» على عدد وفير من «الطرلوبيات»،١١٠ كما تحتوي على رخويات وديدان حلقية متفرعة. على أنَّ وجود عقد فوسفاتية١١١ ومادة قارية،١١٢ حتى في أسفل الصخور اللاحيوانية، ربما يدل على وجود حياة في تلك العصور، وأنَّ وجود «العَزُّون» — حيوان الفجر — في التكوين اللورتني بكنده، قد أصبح من الحقائق المعترف بها، وهنالك ثلاث منظومات من الطبقات تستقر من تحت المجموعة السلورية في كنده، من أسفلها الأقصى عُثر على «العزون».١١٣ ويقرر «سير و. لوجان» أنَّ هذه المنظومات «قد يتجاوز سُمكها سُمك كل الصخور التي تلتها، من قاعدة المنظومة البليوزية١١٤ — الحياة القديمة — حتى العصر الحاضر. وبذلك نعود رجعًا إلى دور بعيد جهد البعد، حتى إنَّ ظهور ما سُمي المجموعة الحيوانيَّة البدائيَّة «تلك التي قال بها بارنده» قد يمكن أنْ يعتبرها البعض حادثًا نسبيَّ الحداثة. و«العزون» من أحط شعوب الحيوانات المتعضية، ولكنه يُعتبر رفيع التعضي بالقياس إلى الشعب الذي يتبعه، ويوجد «العزون» متكاثرًا بكميات وفيرة العدد — كما قال دكتور «دوسن» — فلا بُدَّ من أنْ يكون قد عاش بافتراس غيره من العضويات الدقاق التي لا مشاحة في أنها وُجِدت بكميات غاية في الوفرة. وإذن تكون العبارات التي كتبتها في سنة ١٨٥٩ عن وجود كائنات حيَّة قبل الدور الكمبري بأزمان متطاولة، والتي هي بنفسها التي كررها «سير و. لوجان» قد ثبت صحتها. وبالرغم من ذلك، فإن الصعوبة القائمة في الوصول إلى سبب راجح، زد إليه عدم وجود صفوف من الطبقات الغنيَّة بالأحافير من تحت المجموعة الكمبرية، لصعوبة بينة، ولا يحتمل أنْ تكون أقدم القيعان قد تآكلت جملة وبريت بفعل التعرية، أو أنَّ أحافيرها قد انمحت كليَّة بفعل التحول الجيولوجي، فإن ذلك لو حصل فعلًا، لما عثرنا على غير بقايا من التكوينات التالية لها في العمر مباشرة، وأنها لا بُدَّ من أنْ توجد في حالة تحول جزئي. غير أنَّ الوصوف التي بين أيدينا والتي تتناول المرسبات السلورية في روسيا وشمالي أمريكا، لا تستقيم من القول بأن التكوين كلما كان أقدم، كان أكثر وقوعًا تحت تأثير التعرية والتحول بصورة أشد وأعنف.

ينبغي أنْ نترك هذه المسألة غير مفسَّرة في الوقت الحاضر، وقد يمكن بحق أنْ يُستدل بها على ما يخالف الآراء المقول بها هنا، غير أني من أجل أنْ أظهِر أنه ربما تفوز بتفسير في المستقبل، أضع الفرضية الآتية من طبيعة البقايا العضويَّة، التي لا يلوح لنا أنها عمرت أعماقًا بعيدة — سواء في التكوينات المتفرقة في أوروبا أو في أمريكا، ومن مقدار المترسبات التي تبلغ الأميال سُمكًا — والتي منها تتألف التكوينات، قد تستدل على أنَّ الجزر الكبيرة من أولها إلى آخرها، والباحات اليابسة التي استمدت منها المترسبات، قد حدثت بجوار قارتي أوروبا وشمالي أمريكا الحاليتين. ولقد أيَّد «أغاسيز» هذا الرأي كما أيده غيره، ولكننا على جهل تام بما كانت عليه الأحوال الطبيعيَّة في الفترات التي وقعت بين التكوينات المختلفة المتتابعة، وكذلك نجهل ما إذا كانت أوروبا والولايات المتحدة في أثناء ذلك أرضًا يابسة، أو باحات منغمرة بمقربة من سطح الماء، فلم يترسب عليها رصائف، أو كانت قيعانًا بحرية مفتوحة بعيدة الأغوار.

إذا نظرنا في المحيطات الحالية، وهي تكسو ثلاثة أضعاف المساحة التي تشغلها اليابسة، ألفيناها مشغولة بكثير من الجزر التي قلَّ أنْ تكون واحدة منها جزيرة محيطة١١٥ بالمعنى الصحيح — باستثناء زيلندة الجديدة إذا صحَّ أنْ تُسمى جزيرة محيطة — ولم يُعرف حتى الآن أنها تتزود حتى ببقايا من تكوين يرجع إلى الحقبين: الحياة القديمة والثاني. ومن هنا ربما جاز لها أنْ نستنتج أنه في خلال هذين الحقبين، لم توجد قارات أو جزر قارة في الباحات التي تمتد فيها البحار حاليًا؛ لأنها لو وُجدت — فإن تكوينات يغلب أنْ تكون قد تكدست من مرتصفات مستمدة من تمزقها وتآكلها الذاتي، وأنها من ناحية أخرى يمكن أنْ تكون قد ارتفعت وشمخت بتذبذبات قاعية — لا بُدَّ من أنْ تكون قد تخللت تلك الأدوار الزمانية المديدة.
فإذا كان لنا أنْ نستنتج شيئًا من هذه الحقائق، صحَّ لنا أنْ نقضي بأنه حيثما تمتد بحارنا الحالية، ظلَّت هذه البحار كما هي منذ أبعد الأدوار الزمانية التي أمكن الكشف عنها. ومن جهة أخرى حيثما تقع القارات الحالية، وُجدت باحات شاسعات من الأرض، ظلَّت — بلا شك — غرضًا لتذبذبات كبيرة منذ العصر الكمبري. والخريطة الملوَّنة التي أثبتها في أول كتابي «الشعاب المرجانية»،١١٦ قد ساقتني إلى القول بأن المحيطات العظمى هي وما تزال باحات تطامن، وأنَّ الأرخبيلات الكبرى هي باحات تذبذب قاعي، وأنَّ القارات باحات شموخ. غير أنه لا يحق لنا أنْ نفرض أنَّ الأشياء قد ظلَّت على ما هي الآن منذ بداية الدنيا، ويلوح لي أنَّ قاراتنا قد تكوَّنت عن طريق رجحان قوة الشموخ في أثناء دورات التذبذب القاعي الكثيرة، ولكن ألا يصح أنْ تكون باحات الشموخ هذه قد تغايرت على مرِّ الدهور المتطاولة؟ في دور زماني سابق كثيرًا على العصر «الكمبري»، يحتمل أنْ تكون قارات قد وُجدت حيث تمتد رقعة المحيطات الآن، كما أنَّ بحارًا عريضة واسعة قد يتفق أنْ تكون قد غشيت الباحات التي تشغلها القارات الآن. كذلك لا حقَّ لنا في أنْ نفرض أنَّ قاع المحيط الهادي إذا تحوَّل قارة في العصر الحاضر مثلًا، فسوف نجد فيه تكوينات مرتصفة على صورة بيِّنة، بحيث تكون أقدم من الطبقات الكمبرية، متخيلين أنها قد ترسبت على ذلك المنوال فيما سبق من الأزمان. ذلك بأنه قد يتفق أنْ يقع أنَّ الطبقات التي تطامنت في مكان أقرب إلى مركز الأرض ببضعة أميال، والتي انضغطت تحت ثقل باهظ بما يتراكب عليها من الماء، تكون قد عانت من فعل التحول قدرًا أكبر كثيرًا من الطبقات التي ظلَّت دائمًا بمقربة من السطح. وباحات الصخور المتحولة العارية، ومنها باحات كبيرة في أمريكا الجنوبيَّة، والتي لا بُدَّ من أنْ تكون قد تعرضت لضغط شديد، قد أوحت إليَّ دائمًا بأن أمرها يحتاج إلى تعليل خاص، وربما يتفق لنا أنْ نذهب إلى أننا إنما نشهد في هذه الباحات الجسام، نفس تلك التكوينات العديدة التي تكونت قبل العصر الكمبري، وهي في حالة تامَّة من التحول والتعرية.
إنَّ الصعوبات التي ناقشناها والتي نجملها:
  • أولًا: في أنه بالرغم من أننا نجد في التكوينات الجيولوجية كثيرًا من الحلقات بين الأنواع الموجودة الآن والتي وُجدت من قبل، فإننا لا نقع على صور انتقالية دقيقة وفيرة العدد، تصل بينها وصلًا أحكم وأضبط.
  • ثانيًا: الطريقة الفجائيَّة التي بها تظهر عشائر متفرقة من الأنواع بداءة في التكاوين الأوروبيَّة.
  • ثالثًا: ندرة وجود التكاوين الغنيَّة بصور الأحافير قبل الطبقات الكمبرية، وفقًا لما بلغ إليه علمنا في العصر الحاضر، وأنَّ في جميع ذلك لصعوبات بيِّنة، ولقد نلمس ذلك من أن جلة المشتغلين بعلم الأحافير مثل «كوفييه» و«أغاسيز» و«بارنده» و«بكتيه» و«فالكونار» و«فوربس»، وجلة المشتغلين بعلم الجيولوجيا، مثل «لايل» و«ميرشيسون» و«سدجويك» وغيرهم، قد اعتنقوا، بل آمنوا بثبات الأنواع وعدم تحولها، غير أنَّ «سير تشارلس لايل» يؤيد الآن بما له من ثابت القدم، الرأي المناقض لهذا؛ أي تحول الأنواع.

أمَّا أولئك الذين يعتقدون أنَّ السجل الجيولوجي تام بصورة ما، فهم — ولا شك — يتوانون عن رفض النظرية. أمَّا من ناحيتي فإنني أومن بقولة «سير لايل»: إنَّ السجل الجيولوجي بوصفه تاريخًا لهذه الدنيا، إنما هو سجل ناقص ومكتوب بلهجات متغايرة على الدوام، وإننا لا نملك من هذا السجل إلَّا المجلد الأخير، ولم يبقَ كاملًا من هذا المجلد غير فصول قصار تناثرت هنا وهناك، كما لم يبقَ من كل صفحة منها إلَّا بضعة سطور، هذا هنا وذاك هنالك، في حين أنَّ كل كلمة من تلك اللغة المنظورة ببطء وهوادة، تختلف — إنْ قليلًا وإنْ كثيرًا — مع تتابع الفصول. وعامة ذا يمكن أنْ يُمثل به لصور الحياة المنطمرة في جوف التكوينات المتتالية، والتي تظهر لأعيننا خطأ، أنها قد ظهرت فجأة ودخلت الحياة عنوة. أمَّا إذا أخذنا بذلك، فإن الصعوبات التي ناقشناها قد تضمحل إلى درجة كبيرة، أو هي تُمحى بتةً.

١  Fantail.
٢  Pouter.
٣  Columba biria: حمامة الصخور أو الحمامة الطرآنية.
٤  Columba oenas.
٥  Tapir، وفي لغة العلم: Tapirus: والسناد حيوان على صفة الفيل إلَّا أنه أصغر منه جثة، وأعظم من الثور (انظر حياة الحيوان الدميري، نقلًا عن القزويني).
٦  Denudation.
٧  Deposition.
٨  Erosion.
٩  Ramasay.
١٠  Jukes.
١١  Geikie.
١٢  Croll.
١٣  Subaerial Degradation.
١٤  Whitaker.
١٥  sea-cliffs.
١٦  Suboerial Denudation.
١٧  Sedimentary Formations.
١٨  Volcanic Islands Cliffs.
١٩  Cliffs.
٢٠  Lava-Streams.
٢١  Faults.
٢٢  Craven Fault.
٢٣  Displacement.
٢٤  Lowering.
٢٥  Sedimentary Rocks.
٢٦  Conglomerate.
٢٧  Sediments.
٢٨  Pebbles.
٢٩  Sedimentary Rocks.
٣٠  Croll.
٣١  Subaerial Denudation.
٣٢  New sub-breeds.
٣٣  Methodical Selection.
٣٤  Unconscious selection.
٣٥  Individual Variations.
٣٦  Chthamalinae.
٣٧  Sub-family.
٣٨  Sessile Cirripedes.
٣٩  Tertiary Formations.
٤٠  Chthamalus.
٤١  Chalk Period.
٤٢  Flysch Formation.
٤٣  Shale.
٤٤  Sandstome.
٤٥  Carboniferous Strata.
٤٦  Lias Liassic Formations.
٤٧  Lacustrine Beds.
٤٨  Degradation.
٤٩  Grinding Action.
٥٠  Coast-waves (or) Coastal Waves.
٥١  Denudation.
٥٢  Oscillations.
٥٣  Elevation.
٥٤  Subside.
٥٥  Accumulations.
٥٦  sedimentary Beds.
٥٧  Metamorphic Schist.
٥٨  Plutamic Rocks.
٥٩  Bimordial.
٦٠  Solidification.
٦١  Crystallisation.
٦٢  Netamorphic Action.
٦٣  Gneiss.
٦٤  Mica-scbist.
٦٥  Granite.
٦٦  Diorite.
٦٧  Psriwe.
٦٨  Ammonites.
٦٩  Planovtis nultidomis.
٧٠  Sediments.
٧١  Glacial Period.
٧٢  Sedrimentary Deposilts.
٧٣  Fossilized trees.
٧٤  Carboniferous Beds.
٧٥  Paloeontologists.
٧٦  Conchologists.
٧٧  Secondary Formations.
٧٨  Elevation or Rising.
٧٩  أو القيعان المرتصفة Sedimentary Beds.
٨٠  Penguin.
٨١  Logger-headed Duck.
٨٢  Mammalia (Mammals).
٨٣  Tertiary Series.
٨٤  Monkey.
٨٥  Miocene stage.
٨٦  Eocene.
٨٧  Archaeo Ptery.
٨٨  Oolitic Slates.
٨٩  Fossil Sessile Cirripedes.
٩٠  Tertiay Series.
٩١  Tertiay Beds.
٩٢  Sessile Cirripedes.
٩٣  Seconday Perioda.
٩٤  Chthamalus.
٩٥  Tertiary Stratum.
٩٦  Pyrgoma: الفرغوم
٩٧  Teleo Steau Fishes.
٩٨  Jurassic.
٩٩  Triassic.
١٠٠  Palaeozoic.
١٠١  Chalk Formation.
١٠٢  Trilobites.
١٠٣  Cambrian.
١٠٤  Silorian.
١٠٥  Nautilus.
١٠٦  Lingula.
١٠٧  Cambrian system.
١٠٨  Silurian stratum.
١٠٩  Silurian system.
١١٠  Trilobites.
١١١  Phosphatic Nodules.
١١٢  Bituminous Matler.
١١٣  Eogoon: حيوان الفجر.
١١٤  Palaeozoic snries.
١١٥  Oceanic Island.
١١٦  Coral Refso.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤