الفصل الحادي عشر

التعاقب الجيولوجي للعضويات

ظهور الأنواع الجديدة ببطء متعاقبة – نسب تحولها المختلفة – في أنَّ الأنواع إذا فُقدت لا تعود إلى الظهور – عشائر الأنواع تخضع لنفس السُّنن التي يخضع لها كل نوع ظهورًا واختفاءً – الانقراض – تزامن التحولات في صور الحياة في جميع أنحاء الأرض – علاقة بعض الأنواع المنقرضة ببعض وبالأنواع الحيَّة – صفة التطور في الصور القديمة – تعاقب الطرز الواحدة في باحات بذاتها – تلخيص هذا الفصل والفصل السابق.

***

لنبدأ بالنظر في الحقائق المتفرقة والسُّنن المتعلقة بالتتابع الجيولوجي للعضويات؛ لنرَ أهي أدق مسايرة للقول بثبات الأنواع، أم للقول بنشوئها البطيء التدريجي عن طريق التحول والانتخاب الطبيعي.

نشأت الأنواع وظهرت ببطء كبير، واحدًا تلو آخر، سواء في اليابسة أو في الماء. ولقد أظهر «لايل» أنه من المستحيل أنْ ينكر الإنسان الأدلة المثبتة لهذه الظاهرة في كثير من مراحل العصر الثالث. وفي كل عام يمضي يُسد فراغ فجوة من الفجوات الكائنة بين هذه المراحل، بحيث تصبح النسبة بين الصور المفقودة والصور الحيَّة أكثر تدرجًا. ففي بعض من أحدث القيعان — تلك القيعان التي هي بلا شك عريقة في القدم إذا قيست بقياس السنين — نجد أنَّ نوعًا أو نوعين منقرضين، وأنَّ نوعًا أو نوعين حديثين، ظهرا هنالك لأول مرَّة إمَّا موضعيًّا، وإمَّا — على قدر ما نعلم — شيوعًا على سطح الأرض. والتعادين الثانوية أكثر تصدعًا من غيرها، غير أنَّ ظهور كثير من الأنواع المنطمرة في كل تكوين أو اختفاءها، لم يكن متزامنًا، كما أظهر البحاثة «برون».١
لم تتحول الأنواع التابعة للأجناس أو الطوائف المختلفة بنسبة أو بدرجة واحدة، وفي القيعان الثلاثة٢ القديمة، قد نقع على قليل من الأصداف الحيَّة وسط عدد وفير من الصور المنقرضة. ولقد أتى «فالكونار»٣ بمثَل رائع يؤيد حقيقةً أشبه بهذه؛ إذ ذكر أنَّ تمساحًا حيًّا يمت بحبل النسب إلى كثير من الثدييات، والبرمائيات المنطمرة في رواسب بجانب جبال هملاية،٤ واللنغول السلوري٥ — أي الذي عاش في العصر السلوري — لا يختلف إلَّا قليلًا عن النوع الحي التابع لذلك الجنس، في حين أنَّ أكثرية الرخويات السلورية٦ وكل القشريات،٧ قد تحولت تحولًا عظيمًا. ويظهر أنَّ آهلات اليابسة قد تحولت بنسبة أسرع من تحول آهلات الماء، استنادًا إلى مثال فريد عُثر عليه في سويسرة.
وهنالك أسباب تسوقنا إلى الاعتقاد بأن العضويات الراقية، تتحول بأسرع ما تتحول العضويات الدنيئة. على أن لدينا استثناءات لهذه القاعدة، ومقدار التحول العضوي — على ما يقول «بكتيه» — لا يكون من صبغة واحدة في كل من التكوينات المتعاقبة، ومع هذا فإننا إذا عمدنا إلى النظر نظرة موازنة بين التكوينات الشديدة الآصرة، فسوف نجد أنَّ كل الأنواع قد جرى عليها قدر ما من التحول، وأنَّ نوعًا من الأنواع إنْ اختفى مرَّة من ظهر الأرض، فليس لنا — استنادًا لأي سبب — أنْ نعتقد أنَّ صورة مماثلة له سوف تظهر ثانية بحال من الأحوال. أمَّا أقوى استثناء ظاهري للقاعدة الأخيرة، فما يسميه «مسيو بارنده» المستعمرات،٨ تلك التي تتدخل لعصر ما في تضاعيف تكوينات أكثر قدمًا، وبذلك تظهر مجموعات حيوانيَّة كانت موجودة من قبل. غير أنَّ تعليل «لايل» لهذه الظاهرة بأنها حالة من حالات الهجرة الموقوتة — تبدأ من باحة جغرافيَّة معيَّنة — لا يبعد أنْ يقنعنا ويرضينا.
تتفق هذه الحقائق اتفاقًا كبيرًا مع نظريتي؛ إذ هي لا تقول بسُنة ثابتة للتطور تقضي على أهال باحة بذاتها أنْ تتحول فجأة أو متزامنة أو بدرجة واحدة. إنَّ منهج التطور لا بُدَّ من أنْ يكون بطيئًا، ولا يتناول — بوجه عام — غير قليل من الأنواع في وقت واحد، ذلك بأن تحولية كل نوع من الأنواع — أي قابليته للتحول — مستقلَّة عن تحولية كل الأنواع الأخرى. أمَّا أن مثل هذه التحولات أو التباينات الفرديَّة التي قد تنشأ، ويمكن أنْ تُستجمع عن طريق الانتخاب الطبيعي بدرجة كبيرة أو ضئيلة، وبذلك تستحدِث قدرًا من التكيف الثابت العظيم أو التافه، فمرهون بكثير من الأسباب العارضة، ومنها أنْ تكون التحولات من طابع مفيد، ومنها حرية التهاجن، ومنها الحالات الطبيعيَّة المتغيرة تغيرًا بطيئًا في باحة من الباحات، ومنها هجرة مستعمرين جدد، ومنها طبيعة مستوطنين آخرين يتفق للأنواع المتحولة أو تتنافس وإياها. فلا غرابة إذن في أنْ يحتفظ نوع ما بنفس الصورة القياسيَّة أزمانًا أطول من غيره من الأنواع، فإذا تحوَّلَ كان تحولُه في نطاق أضيق وبدرجة أقل. وإنا لنقع على مثل هذه العلاقات بين أهال بقاع متباعدة، فنجد مثلًا أنَّ الأصداف البرية والحشرات الغمدية الأجنحة٩ في «ماديرة» تباين جد المباينة ذويها الأقربين في قارة أوروبا، في حين أنَّ الأصداف البحرية والطيور قد ظلَّت ثابتة لم تتباين، ويجوز أنْ تتباين، ويجوز أنْ نفهم السبب في سرعة التحول في الكائنات الأرضيَّة الراقية التعضي، مقيسة بالكائنات البحرية والكائنات الدنية للتعضي، بأن نعزو ذلك إلى أنَّ علاقات الكائنات الراقية بحالات حياتها العضويَّة وغير العضويَّة أشد تعقدًا — كما بينت في فصل سابق — فإن الكثير من أهال باحة من الباحات إذا تكيفت وارتقت، فهنالك تعرف مطاوعة لظاهرة التنافس، ومن العلاقات الكائنة بين بعض العضويات وبعض في معركة التناحر على الحياة، وهي علاقات بالغة الأهمية ولا شك. إن أية صورة لا تتكيف وترتقي إلى درجة ما، تكون غرضًا للانقراض وهدفًا له، ومن هنا نفقه لِمَ ينبغي لكل الأنواع الآهلة بصقع من الأصقاع، أنْ تتكيف وإلَّا فإنها تنقرض، غير ناسين تقدير ما يلزم لهذا من فترات طويلة من الزمن.

إنَّ نسبة التغير في أعضاء طائفة بذاتها، وفي خلال دورات طويلة متساوية من الزمن، قد يحتمل أنْ تكون متشابهة تقريبًا، ولكن لما كان تكدس التكوينات الصامدة الغنيَّة بالأحافير، يتوقف على وجود كتل كبيرة من المرتصفات تترسب في الباحات المتطامنة، فلا بُدَّ من أن تكون تكوينات الأرض قد تكدست في خلال فترات طويلة من الزمن تلاحقت متقطعة، ومن هنا كان التحول العضوي الذي يتجلى في الأحافير المنطمرة في التكوينات المتعاقبة غير متساوٍ. وعلى هذا الرأي لا يقوم كل تكوين شاهدًا على عمل تام من أعمال الخلق، وإنما يدل على منظر عابر وقع مصادفةً في الغالب، في أثناء تلك المأساة التحوليَّة البطيئة المتئدة.

نستطيع أنْ نفهم بوضوح لماذا لا يعود نوع من الأنواع إلى الظهور ثانية إذا فُقد؟ حتى إذا تكررت ظروف الحياة عضوية وغير عضوية، ذلك بأن نسل نوع ما ولو فُرض أن تكيف لأن يحتل مكان نوع آخر في نظام الطبيعة فيفنيه ويقوم مقامه، ولا شك أنَّ ذلك قد حدث في ظروف لا عداد لها، فإن الصورتين القديمة والحديثة، لا يمكن أنْ تكونا متماثلتين متوافقتين؛ لأن كليْهما لا بُدَّ من أنْ يرث — في الغالب — صفات تنتقل إليه عن أصوله الأولى. والعضويات الآخذة في التغير فعلًا، تمضي في التحول على أنماط مختلفة، ولنضرب مثلًا الحمام الهزَّاز، فإذا فرضنا أنَّ كل أفراد هذا الحمام قد فنيت فعلًا، فإن مربي الحمام في مكنتهم أنْ يولِّدوا نسلًا لا يكاد يفترق عن السلالة الحالية. ولكن إذا فني حمام الصخور، وهو أرومة الحمام الداجن، ولدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن الأصول الوالدية تفنيها أنسالها المترقية، فإن مما يبعد تصديقه أنَّ صورة من الهزَّاز مماثلة للسلالة الحالية، يمكن أنْ تُستولد من أي نوع من أنواع الحمام، أو حتى من سلالة ثابتة من الحمام الداجن؛ ذلك لأن التحولات المتتابعة من المحقق أنْ تكون مختلفة بعض الاختلاف، في حين أنَّ الضرب الجديد المستولد، يغلب أنْ يرث من أصله الوالدي الأول بعض التباينات الأساسيَّة.

إنَّ عشائر من الأنواع — ونقصد بها الأجناس والفصائل — تخضع في الظهور وفي الاختفاء لنفس السُّنن العامة التي يخضع لها النوع الواحد، فيزيد تغايرها أو يقل، وبدرجة كبيرة أو ضئيلة. وإن عشيرة إنْ اختفت مرة فلن تعود إلى الظهور، بمعنى أنَّ بقاءها يكون مستمرًّا متصلًا ما دامت موجودة كائنة. وإني لعلى علم بأن هنالك بعض الاستثناءات الظاهرية لهذه السُّنة، ولكنها قليلة قلة تدعو إلى العجب، بل هي من القلة بحيث يسلِّم بحقيقتها كل من «مستر فوريس» و«مسيو بكتيه» (بالرغم من معارضتهما للرأي الذي أؤيده)، وإذن فهي تتفق ونظريتي بدقة ملحوظة، فإن أنواع العشيرة الواحدة — مهما يكن من تطاول بقائها — إنما هم الأخلاف المترقية نوعًا عن نوع، وكلهم منحدر من أصل أرومي عام. وفي جنس «اللنغول» مثلًا، ظهرت الأنواع متعاقبة في كل العصور، فينبغي أنْ تكون مرتبطة بمنظومة غير مفصومة الحلقات من الأجيال، من أدنى طبقة سلورية حتى العصر الحاضر.

ولقد رأينا في الفصل السابق أنَّ عشائر برمتها من الأنواع، قد يلوح لنا من ظاهر أمرها خطأً أنها قد تنشَّأت فجأة، وحاولت أنْ أفسر هذه الحقيقة التي إنْ صحت، لكان فيها القضاء المبرم على مذهبي. غير أنَّ مثل هذه الحالات استثنائيَّة صرف، والقاعدة المطردة هي التكاثر التدريجي في العدد؛ حتى تبلغ العشيرة منتهى تكاثرها وذيوعها، ثم تأخذ في التناقص إن قريبًا أو بعيدًا. إذا مثلنا لعدد الأنواع التابعة لجنس أو لعدد من الأجناس التابعة لفصيلة، بخط رأسي مختلف السُّمك، يمضي صعدًا في التكوينات الجيولوجية، فإن هذا الخط قد يظهر في بعض الأحيان خطأً، كأنما هو لا يبدأ من طرفه الأسفل عند نقطة محدودة، بل يظهر كما لو كان ابتداؤه فجائيًّا، ثم يمضي في الاستعراض كلما صعد، مستمرًّا على عرض واحد مسافة ما، وبمقربة من نهايته يستدق عند القيعان العليا، مؤذنًا بتناقص النوع وإشرافه على الانقراض. إنَّ الزيادة التدريجيَّة في عدد الأنواع التابعة لعشيرة بذاتها، تتفق ونظريتي كل الاتفاق، إذا علمنا أنَّ الأنواع التابعة لجنس، والأجناس التابعة لفصيلة، لا يتيسر لها أنْ تتكاثر إلَّا تدريجيًّا وبصورة تقدميَّة ارتقائيَّة، ومنهاج التطور وتوليد مجموعة من الصور المتآصرة، هو بالضرورة منهاج بطيء تدريجي، فنوعٌ ما ينشِئ ضربين أو ثلاثة ضروب، ثم تنتقل هذه ببطء إلى طبقة الأنواع، فتمضي هي أيضًا متباطئة في إخلاف ضروب وأنواع، وهكذا كأنما هي تفريع شجرة كبيرة يخرج من جذع واحد، حتى تكبر العشيرة وتضخم.

(١) الانقراض

تكلمنا حتى الآن في اختفاء الأنواع والعشائر بطريقة عرضية، ولنا أنْ نعي أنه بمقتضى نظرية الانتخاب الطبيعي، ينبغي أنْ يكون انقراض الصورة القديمة، وظهور الصور الجديدة المرتقية، أمرين متلازمين أشد التلازم، والفكرة القديمة في أنَّ كل سكان الأرض كان يأخذهم الفناء الكامل بحلول نكبات في أدوار متعاقبة، فكرة نُبذت الآن، حتى من مؤيديها أمثال «إيلي ده بومونت» و«ميرشيسون» و«باونده»، أولئك الذين كانت آراؤهم بطبيعتها تقود إلى القول بها والنهاية إليها. بل على العكس من ذلك، لدينا من الأسباب الوثيقة ما يحملنا على الاعتقاد — إذا ما أكببنا على دراسة تكوينات العصر الثالث — بأن الأنواع وعشائر الأنواع تختفي تدرجًا، الواحد تلو صاحبه، بادئة بذلك من باحة بذاتها، ثم من أخرى، ثم من عالم الوجود كله، ولكن في بعض حالات قليلة، كانشقاق برزخ جديد، وما يترتب على ذلك من غزو عدد وفير من سكان جدد لبحر مجاور، أو بتطامن جزيرة حتى تختفي، تكون عملية الانقراض سريعة، وطول بقاء نوع واحد أو عشيرة من الأنواع يختلف مداه اختلافًا كبيرًا. فبعض العشائر — كما رأينا — قد ظلَّت باقية منذ فجر الحياة الباكر حتى العصر الحاضر، في حين أنَّ بعضها قد اختفى قبل نهاية حقب الحياة القديمة.١٠ والظاهر أن ليس هنالك من سُنة تحدد طول الزمن الذي يعيشه نوع أو جنس بذاته. وهنالك أسباب تقنعنا بأن انقراض عشيرة برمتها من الأنواع، عملية أقصر مدى على وجه عام من عملية تولدها، فإذا مثلنا لتولدها وانقراضها بخط رأسي يختلف سُمكه، فإن الخط يستدق بتدرج أسرع عند نهايته العليا، إشارة إلى تسارع الانقراض منه، عند بدايته التي تشير إلى بدء ظهورها، وتزايد عدد الأنواع في باكورة وجودها، وفي بعض الحالات كان انقراض عشائر برمتها فجائيًّا بصورة مذهلة، كانقراض العمونيات١١ عند نهاية الحقب الثاني.
إنَّ انقراض الأنواع ظاهرة اكتنفها كثير من الخفاء والغموض، حتى لقد ذهب بعض الكُتَّاب إلى أنه ما دام للفرد قدر محدود من الحياة، كذلك الأنواع لها قدر محدود من البقاء. ولا أظن أن من الباحثين مَن كان أكثر انبهارًا مني عندما آنس أن نوعًا قد تولاه الانقراض، ولقد أخذت بأشد العجب عندما عثرت في «لابلاته» على سِن حصان مندفن مع بقايا «المستودون»،١٢ و«المغثير»١٣ و«التكسود»١٤ وغيرهما من العمالقة المنقرضة، وجميعها عايشت في عصر جيولوجي متأخر جدًّا، أصدافًا لا تزال باقية حتى اليوم. أما وقد أعلم أنَّ الحصان قد استوحش منذ أدخله الإسبان في أمريكا الجنوبيَّة نازحًا في جميع أنحائها، متكاثرًا بنسبة عددية لا مثيل لها، فقد ساءلت نفسي: أي عوامل تلك التي أثرت في نوع الحصان القديم حتى أفنته في عصر حديث نسبيًّا، في ظل حالات حيويَّة تلوح على ظاهرها مواتية له كل المواتاة؟ غير أنَّ عجبي في هذا الأمر كان على غير أساس، فإن الأستاذ «أوين» سرعان ما أدرك أنَّ السن المستكشفة، إنْ شابهت سن الحصان الموجود الآن، فإنها سن لفرد من نوع منقرض، ولو أنَّ ذلك الحصان كان لا يزال حيًّا — وإنْ قلَّ عدده وندر بدرجة ما — فإن أي باحث طبيعي ما كان ليعجب من جراء ندرته، ذلك بأن الندرة هي خليقة العديد الأوفر من أنواع كل قبائل الحيوان في جميع بقاع الأرض. فإذا ساءلنا أنفسنا: لماذا يندر وجود هذا النوع أو ذاك؟ نجيب بأن هنالك شيئًا ما غير مُواتٍ لحالات حياته.

واستنادًا إلى الغرض بأن الحصان الأحفوري ما يزال موجودًا بوصفه نوعًا نادرًا، فإنا — ولا شك — نوقن قياسًا على كل الثدييات الأخرى، وحتى قياسًا على الفيل وهو بطيء التوالد، ومن تاريخ توطن الحصان الأليف في أمريكا الجنوبيَّة، بأنه في ظل ظروف أكثر ملاءمة من الظروف القائمة، كان ميسورًا لهذا النوع أنْ يستعمر القارة برمتها في سنوات قلائل ويفعمها بنسله. ولكنا لا نعلم ما هي تلك الظروف غير المواتية التي حالت دون تكاثره، أسبب واحد أم أسباب كثيرة؟ وفي أي طور من أطوار حياته؟ وإلى أية درجة أثَّرت فيه تلك السوانح العارضة؟ فإذا كانت ظروف الحياة قد مضت تتناقص ملاءمتها شيئًا بعد شيء «تدرجًا»، فإنا — ولا شك — كنَّا نعجز عن أن ندرك الحقيقة؟ ومع هذا فإن ذلك الحصان الأحفوري، لا بُدَّ أن قد مضى يندر ثم يندر حتى انقرض في النهاية، لقد احتل مركزه منافس آخر وأتاه النجاح.

يصعب علينا أنْ نذكر دائمًا أنَّ تكاثر أي حي من الأحياء، تصدُّه — على وجه الاستمرار — عوامل معادية خفية لا تُدرك، وأنَّ هذه العوامل الخفية بذاتها لها القدرة التامَّة على أن تسوق إلى الندرة، ومن ثمة إلى الانقراض، وقلما يُدرك هذا الأمر ويُستوعب، حتى إني شهدت معالم الحيرة والعجب ترتسم على الوجوه من أن عمالقة عظامًا ﮐ «المستودون»،١٥ ومن قبله «الدناصير»،١٦ قد انقرضت وبادت، كما لو أنَّ مجرد القوة البدنية كافية لأن تكسب النصر في معركة الحياة. نعم إنَّ ضخامة الجثة — على العكس من ذلك — قد تكون في بعض الظروف هي المسيطرة على حدوث الانقراض، كما قال «أوين» وفقًا لما يحتاج إليه صاحبها من كميات الغذاء الضرورية، ومن قبل أن يعمر الإنسان فجاج الهند وأفريقيا، لا بُدَّ من أنْ يكون قد جد من الأسباب ما عاق تكاثر الفيل الحالي. ويعتقد «فالكونار» — وهو من الأثبات الثقات — أنَّ الحشرات هي التي أنهكت الفيل الهندي وأضعفته، فعاقته عن التكاثر، وقال «بروس» بنفس هذا الرأي فيما يتعلق بالفيل الإفريقي في بلاد الحبشة. ولا مشاحة في أنَّ الحشرات ومواصَّ الدم من الخفافيش، هي التي تتحكم في بقاء ذوات الأربع المستوطنة في بقاع متفرقة من أمريكا الجنوبية.

نرى في حالات كثيرة — وبخاصة في التكوينات المتوسطة الحداثة للعصر الثالث — أنَّ الندرة تسبق الانقراض، ونعلم فوق ذلك أنَّ هذا كان مجرى الأحداث في تاريخ تلك الحيوانات التي فنت وبادت، إمَّا موضعيًّا أو كليًّا، بفعل الإنسان. وإني لأكرر هنا ما نشرتُ في سنة ١٨٤٥؛ إذ قلت: إنَّ الأنواع تندر — بوجه عام — إذا ما آذنت بالانقراض، فلا نشعر بشيء من العجب من ندرة نوع من الأنواع، ونُؤخذ بأشد العجب من أنَّ ذلك النوع قد أمسك عن الوجود، فيكون مثلنا كمثل من يوقن بأن مرض الفرد مقدمة للموت، ولكنه لا يعجب من حصول المرض، حتى إذا مات المريض أخذته بهرة التعجب، كأنما هو يشك في أنَّ موته قد وقع بفعلة عنيفة.

تقوم نظرية الانتخاب الطبيعي على الاعتقاد بأن كل ضرب جديد، ثم كل نوع جديد، إنما ينشأ ويسود بأن يحوز بعض الغلبة على الأنواع التي تقع بينها وبينه منافسة، أمَّا الانقراض الذي يتحتم أنْ يتلو هذه الحالة، فيتناول الصور التي هي أقل قدرة، وكذلك الحال في موجوداتنا الأليفة، فعندما يُستولد ضرب محسَّن ولو قليلًا، فإنه يتغلب أول الأمر على الضروب الأقل منه رقيًّا في البقاع المجاورة، فإذا زاد رقيًّا وتحسنًا، فإنه يصدَّر إلى أماكن قريبة وبعيدة — كما حدث لماشيتنا قصيرة القرون — ثم يحتل من ثمة مكانة غيره من السلالات في ممالك أخرى. من هنا كان ظهور الصور الجديدة واختفاء الصور القديمة — سواء أظهرت طبيعيًّا أم اصطناعيًّا — أمرين متلازمين. وفي العشائر المزدهرة المتكاثرة، نجد أنَّ عدد الصور النوعية التي نشأت في مدى زمن بذاته، كان في بعض أدوار حياتها، أكثر من عدد الصور النوعية القديمة التي استُؤصلت. غير أننا نعرف حق المعرفة أنَّ الأنواع لم تمضِ متكاثرة إلى غير حد، وذلك في الأحقاب الجيولوجية المتأخرة على الأقل، حتى إننا إذا نظرنا إلى الأزمان التالية، فقد نعتقد أنَّ تولد صور جديدة قد سبَّب انقراض ما يقرب من عددها من الصور القديمة.

على أنَّ المنافسة إنما تبلغ الغاية في قسوتها بوجه عام، ووفقًا لما بينت من قبل، ولما ضربت من الأمثال بين الصور المتشابهة في كثير من الاعتبارات، ومن هنا كانت الأخلاف المكيفة المرتقية لنوع من الأنواع، من خليقتها أن تسبب استئصال الأنواع الوالدة بوجه عام. وإذا نشأ كثير من الصور الجديدة عن نوع بذاته، فأقرب الصور لحمة لذلك النوع — أي أنواع الجنس الواحد — تكون أكثر الصور تعرضًا للاستئصال، وبهذا — وعلى ما أعتقد — فإن عددًا من الأنواع الجديدة متولدة عن نوع واحد، وأعني بذلك جنسًا جديدًا، محتوم أنْ يحل محل جنس قديم، تابع لنفس الفصيلة، ولكن لا بُدَّ من أنْ يكون قد وقع في حالات كثيرة، أن نوعًا تابعًا لعشيرة ما قد احتلَّ مكانًا كان يحتله نوع تابع لعشيرة أخرى مستقلة عن تلك، فاستأصله استئصالًا، فإذا تولَّد كثير من الصور المتآصرة من ذلك النوع الدخيل، فإن كثيرًا من الصور الأخرى لا بُدَّ من أن تتنحى عن مراكزها، وبذلك تكون الصور المتآصرة هي أكثر الصور معاناة لعوامل الفناء، وفقًا لما فيها من نقائص موروثة شائعة فيها. وسواء أكانت أنواع تابعة لقبيلة بذاتها أو لقبيلة أخرى مستقلة، هي التي تنحت عن مراكزها لأنواع أُخر تكيفت وارتقت، فإن قليلًا من المغلوبين على أمرهم قد يتفق أنْ يظلوا باقين زمانًا طويلًا، بأن يكونوا أكثر تهيؤًا لنمط خاص من أنماط الحياة، أو بأن يكونوا منعزلين في بقعة بعيدة يعيشون فيها، فيتفادون بذلك عنف معركة التنافس. ولنضرب لذلك مثلًا ببعض أنواع «الطرغون»١٧ — وهو جنس عظيم من أصداف التكوينات الثانوية، لا يزال باقيًا في بحار أستراليا — وبعض أعضاء في عشيرة «الإصديفيات»١٨ الكبرى التي شارفت الانقراض، لا تزال تستوطن مياهنا العذبة. ومن هنا نرى أنَّ انقراض عشيرة انقراضًا تامًّا، عملية أبطأ كثيرًا من عملية تولدها، وفقًا لما بينا.
أمَّا استئصال فصائل أو رتب برمتها استئصالًا فجائيًّا في الظاهر — كما حدث «الطرلوبيات»١٩ في أواخر خصب الحياة القديمة ﻟ «العمونيات» في أواخر العصر الثاني — فأمر ينبغي لنا أنْ نتذكر دائمًا إذا تأملنا منه، ما سبق لنا الكلام فيه، من احتمال مرور فترات من الزمان واسعة بين كل رصيص وآخر من الرصائص المتتابعة، وأنه في خلال تلك الفترات، كانت عملية الاستئصال بطيئة جدًّا. وإلى هذا نضيف أنه بوقوع الهجرة المفاجئة، أو بحدوث تطور سريع، احتلت أنواع كثيرة تابعة لعشائر جديدة باحة ما، فترتب على ذلك استئصال كثير من الأنواع القديمة بسرعة توازي سرعة تولُّد الأنواع الجديدة، وأنَّ الصور التي تتنحى عن مراكزها لا بُدَّ من أنْ تكون في الأكثر متآصرة النسب؛ لأنها تشترك في النقائص التي تذيع فيها جميعًا.

ومن هنا يلوح لي أنَّ النهج الذي يلابس انقراض نوع بذاته أو عشائر برمتها من الأنواع، يساير بدقة نظرية الانتخاب الطبيعي، ولا يحق لنا أنْ نعجب من حدوث الانقراض، وإنْ صحَّ لنا أنْ ننبهر ونعجب، فمن أن نتوهم لحظة واحدة بأننا نفقه حقيقة تلك العوامل التي تسوق إلى وجود الأنواع وبقائها، فإذا ما غفلنا لحظة عن أنَّ كل نوع إنما ينزع للتكاثر إلى غير حد أو غاية، وأنَّ حائلًا من الحوائل لا بُدَّ من أنْ يقف دائمًا في سبيل تكاثره، ولكن قلما ندركه، فإن نظام الأحياء الطبيعي — لا محالة — يغمض علينا أمره ويستغلق إلى حدٍّ كبير، فإذا ما أصبح في مكنتنا أنْ نعرف لماذا يزيد عدد أفراد هذا النوع عن أفراد ذاك؟ ولماذا يتيسر توطن هذا النوع في صقع بذاته، ويستحيل ذلك على غيره؟ فهنالك، وهنالك فقط، يصح لنا أنْ نعجب من عجزنا عن تعليل الانقراض إذ يصيب نوعًا أو عشيرة من الأنواع.

(٢) تزامن التحولات في صورة الحياة في جميع أنحاء الأرض

ما من استكشاف أحفوري هو أبلغ تأثيرًا في نفوسنا من حقيقة أنَّ صور الحياة تتغير متزامنة في أنحاء الأرض جميعًا. فالتكوين الطباشيري في أوروبا يمكن أنْ يُستدل على أشباهه في كثير أصقاع نائية؛ حيث يختلف الأقاليم والجو أكبر اختلاف؛ وحيث لا يمكن العثور على شظية واحدة من معدن الطباشير، نلحظ ذلك في شمالي أفريقيا، وفي أمريكا الجنوبية الاستوائيَّة، وفي جزر أرض النار، وفي رأس الرجاء الصالح، وفي شبه جزيرة الهند. ففي هذه الأماكن القصية، تماثل البقايا العضوية المنطمرة في بعض القيعان، بقايا العضويات في الطباشير، مماثلة كبيرة، وليس معنى ذلك أننا نعثر على النوع نفسه في كل منها، ذلك بأننا في بعض الحالات لا نعثر على نوع واحد بذاته في الناحيتين، بل نجدها تابعة لنفس الفصائل أو الأجناس أو توابع الأجناس، وقد تكون في بعض الأحيان متقاربة الصفات في بعض التفاصيل التافهة، كأنما ذلك مجرد ترقيش زهيد. وفضلًا عن ذلك فإن صورًا لا توجد في طباشير أوروبا، بل توجد في تكوينات من فوقه أو من تحته — وهي تابعة تصنيفيًّا لنفس الشعب — في تلك البقاع النائية من الأرض. وفي كثير من تكوينات حقب الحياة القديمة في روسية وغربي أوروبا وأمريكا الشمالية، موازاة من المشابهة في صور الحياة، لحظها كثير من المؤلفين. وكذلك الحال — على ما يقول «لايل» — في الرُّسابات التابعة للعصر الثالث في أوروبا وأمريكا الشمالية، وحتى إذا فرضنا واختفت عنَّا جميع الأنواع الأحفورية التي تذيع في العالمين القديم والحديث، فإن الموازاة العامة بين صور الحياة المتتالية لتظهر لنا جلية واضحة في مراحل حقب الحياة القديمة العصر الثالث، كما يمكن الكشف عن تبادل العلاقة بين التكوينات المتفرقة.

هذه المشاهدات — على أية حال — مقصورة على أهالي الباحات البحرية في أنحاء الأرض، فليس لدينا من معلومات كافية لأن نحكم فيما إذا كان قطان اليابسة أو قطان الماء العذب في أصقاع متنائية، تتغير متوازية على نمط واحد، وإنا لنشك في أنها قد تغيرت على هذا الخط، فإن «المغثير»،٢٠ و«المَيْلود»،٢١ و«المكروش»،٢٢ و«التكسود»،٢٣ قد نُقلت إلى أوروبا في بقاع «لابلاته»، بدون أنْ نعلم أي شيء عن موطنها الجغرافي، إذن لتعذر على أي من الناس أنْ يظن أنها عاصرت أصدافًا بحرية لا تزال موجودة حتى اليوم، ولكن لما كانت هذه العمالقة المتشابهة قد عاصرت «المستودون»٢٤ والحصان، فلا أقل من أن يُستنتج من ذلك أنها عاشت في أثناء المراحل المتأخرة من العصر الثالث.
عندما يُقال إنَّ صور الحياة قد تغيرت متزامنة في أنحاء الدنيا، فإن هذا التعبير لا يدل على أنَّ ذلك وقع في نفس السُّنة أو نفس القرن، أو أنَّ له أي معنى دقيق من وجهة النظر الجيولوجية بحال من الأحوال، ذلك بأن الحيوانات البحرية التي تعيش في أوروبا الآن، وتلك التي عاشت في أوروبا في أثناء «العصر البلوستسين»٢٥ — وهو عصر بعيد جدًّا إذا قيس بالسنين، ويتضمن كل الزمن الجليدي — إذا قُورنت بتلك التي تعيش الآن في أمريكا الجنوبية أو في أستراليا، فإن أمهر المواليديين قد يصعب عليه أنْ يقضي فيما إذا كان قطان أوروبا في العصر الحاضر أو في «العصر البلوستسين»، تشابه مشابهة قريبة قطان نصف لكرة الجنوبي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كثيرًا من ثقات الباحثين، يؤمنون بأن آهلات الولايات المتحدة الحالية أكثر تآصرًا، وتلك التي عاشت بأوروبا في خلال مرحلة متأخرة من مراحل العصر الثالث، مما هي لآهلات أوروبا الحالية. فإذا كان الأمر كذلك، فمن الجلي إذن أنَّ القيعان الأحفورية التي ارتصفت الآن على شواطئ الولايات المتحدة، قد يمكن فيما بعد أنْ تكون صالحة لأن تُلحق ببعض القيعان الأوروبيَّة الأقدم عهدًا، ومع كل هذا فإننا إذا ترامت أنظارنا إلى عصر بعيد في المستقبل، فهنالك لا يساورنا غير قليل من الشك في أنَّ كل التكوينات «البحرية» التي هي أكثر جدة، وتخصيصًا «العصر البلوسسين»٢٦ و«العصر البلوستسين»، والقيعان الأوروبية الجديدة، وأمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، بما أنها تحتوي على بقايا أحفورية متآصرة بدرجة ما، وبما أنها لا تحتوي على تلك الصور التي لا توجد إلَّا في الرُّسابات القاعية القديمة، تعتبر بحق متزامنة بمعنى جيولوجي.

إنَّ حقيقة، أنَّ صور الحياة تمضي متزامنة في التغير بذلك المعنى الواسع الذي بيَّناه، وفي بقاع متنائية من الأرض، قد أخذت بلب باحثَين من أفره البحاث هما «مسيو دي فرني» و«مسيو دارشيا»، فبعد أنْ أشارا إلى الموازاة الملحوظة في صور الحياة في حقب الحياة القديمة في كثير من أنحاء أوروبا قالا: «أما وقد بهرتنا هذه النتائج، فإنا نرجع النظر كرة إلى أمريكا الشمالية؛ لنستكشف منظومة من الظاهرات المتجانسة، من شأنها أنْ تقنعنا بأن كل تلك التكيفات التي تمضي فيها الأنواع، ثم انقراضها ونشوء أنواع جديدة، لا يمكن أنْ ترجع إلى مجرد تغايرات تصيب التيارات البحرية أو غير ذلك من الأسباب الموضعية المؤقتة زادت أم قلت، وإنما ترجع إلى سُنن عامة تحتكم في عالم الحيوان برمته.» ولقد أبدى «مسيو بارنده» شواهد تؤيد هذا القول تأييدًا. وإنه لمن الشطط أنْ ننظر في تلك التغايرات التي تصيب التيارات والمناخ وغيرهما من الحالات الطبيعيَّة، باعتبار أنها السبب في تلك التحولات الفجائيَّة في صور الحياة الذائعة في أنحاء الأرض، متأثرة بأشد الحالات الجدية اختلافًا، بل الواجب على ما ذهب «مسيو بارنده» أنْ نبحث عن سُنة خاصة ذات صبغة ما، ولقد نستبين ذلك بصورة أجلى، إذا ما عالجنا استيطان الكائنات العضوية، فنعرف كم هي تافهة تلك العلاقة التي تربط بين الحالات الطبيعيَّة في كل إقليم من الأقاليم، وطبيعة أحيائه التي تتوطنه.

هذه الحقيقة الكبرى — حقيقة التعاقب المتوازي لصور الحياة في أرجاء الأرض — يمكن تفسيرها بنظرية الانتخاب الطبيعي، فإن الأنواع إنما تنشأ بأن يكون لها الغلبة على غيرها من الصور القديمة، والصور التي تكون قد تمت لها الغلبة والسلطان، ويكون لها شيء من قدرة التسود على غيرها من الصور في موطنها، تخلف العدد الأكبر من الضروب أو الأنواع المبدئية. وبين أيدينا كثير من المشاهدات الثابتة على هذا الرأي، نستجليها في النباتات ذوات الغلبة والتسود، بمعنى أنها الأكثر ذيوعًا والأكثر انتشارًا، منشئة لأكبر عدد من الضروب الجديدة.

كذلك من الطبيعي أنَّ الأنواع الغالبة المتحولة الذائعة الانتشار، والتي استطاعت أنْ تغزو — إلى حدٍّ ما — مواطن غيرها من الأنواع، هي التي تملك أعظم فرصة للانتشار أبعد مما انتشرت، وتنشئة ضروب وأنواع أخرى في المواطن الجديدة. على أنَّ عملية الانتشار قد يتفق أنْ تكون — في غالب الأمر — بطيئة جهد البطء، وفقًا للتغيرات الماضية والجغرافية، أو الأحداث غير المتوقعة، وللتأقلم التدريجي الذي تمضي فيه الأنواع الجديدة متأقلمة بمختلف الأجواء التي يتفق أنْ تمر بها. غير أنه بمرور الزمن تنجح الصور الغالبة في الانتشار حتى تذيع في النهاية كل الذيوع. وكذلك الأمر في «الذيوع» فقد يكون في حالة الأحياء البرية التي تقطن باحات مقفلة أبطأ — في الغالب — من ذيوع الأحياء البحرية التي تقطن بحارًا متواصلة، ومن هنا يصح لنا أنْ نتوقع أن نعثر — كما عثرنا من قبل — على درجة من الموازاة أقل تعينًا في تتابع أحياء البر، عما نعثر عليه في تتابع أحياء الماء.

من هنا — وبحسب ما يظهر لي — كان التوازي مفهومًا بأوسع معانيه، بين صور الحياة المتماثلة في أرجاء الأرض جميعًا، وتزامنها وتتابعها، يتفق بدقة وسُنة أنَّ الأنواع الجديدة — وقد تنشأت عن أنواع غالبة سائدة — تذيع بسرعة متحولة عن أصولها. والأنواع الجديدة التي تتولد، بما أنها تكون أيضًا ذات غلبة وتسود، وفقًا لما يكون لها من بعض التفوق على آبائها التي تكون هي أيضًا غالبة في بيئاتها، تذيع وتتحول بدورها منشئة صورًا جديدة، أمَّا الصور القديمة المنهزمة — والتي تتخلى عن مراكزها للصور الجديدة المنتصرة — فتتجمع عشائر متآصرة، خصوصًا لما ترث من أوجه القصور التي تعمها جميعًا، وبذلك فإن العشائر الجديدة المرتقية عندما تذيع في أنحاء الأرض، تختفي العشائر القديمة من الوجود، ومن ثمة ينزع تتابع الصور في كل مكان إلى الظهور بمظهر الموازنة والتقابل، سواء عند أول ظهورها، أو عند اختفائها.

بقيت لدينا إشارة واحدة يحسن أنْ نذكرها في هذا الباب، لقد أتيت من قبل على الأسباب التي أدَّت بي إلى الاعتقاد بأن التكوينات العظمى الغنيَّة بصور الأحافير، قد ترسبت في أثناء دورات التطامن،٢٧ وأنَّ فترات غفلًا طويلة الآماد — وبقدر ما يتصل من ذلك بوجود الأحافير — قد حدثت في خلال أدوار من الزمن، كان قاع البحر إمَّا ساكنًا وإمَّا آخذًا في الشموخ. وكذلك عندما كان الارتصاف قد تراكم واستقرَّ بسرعة تكفي؛ لكي يطمر البقايا العضوية ويحفظها من التلف، وكذلك افرض أنه في أثناء تلك الفترات الغفل قد حدث قدر كبير من التكيف والانقراض، وأنه وقعت هجرات كثيرة من أنحاء متفرقة من الأرض، ولما كان لدينا من الأسباب ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن بقاعًا كثيرة قد تأثرت بنفس هذه الحركات الطبيعيَّة، فمن المحتمل إذن أنْ تكون الرصائص المتعاصرة تعاصرًا تامًّا، قد تراكمت من فوق باحات مفرطة السعة في جانب بذاته من جوانب الدنيا. غير أننا نكون أبعد شيء عن الصحة والحق إذا ما قضينا بأن هذا النهج كان متواترًا وبلا استثناء، وأنَّ باحات كبرى قد تأثرت بنفس هذه التحركات، فإن تكوينين إذا ما ترسبا في صقعين في زمن باكر — وإن لم يتزامنا تمامًا — فإننا نجد في كليهما — وفقًا للأسباب التي سقناها في العبارات السابقة — نفس التتابع في صور الحياة. غير أنَّ الأنواع لا تتشاكل تمامًا، ذلك بأنه لا بُدَّ من أنْ يمر زمن في صقع أطول مما مر بآخر، يسمح بحدوث التكيف والانقراض والهجرة.
وإني لأتوقع أنَّ شيئًا من طبيعة هذه الحالات قد حدث في أوروبا، فقد أبان «مستر برستوتش» في مذكرات قيِّمة كتبها عن رسابات العصر الأيوسيني٢٨ في إنجلترا وفرنسا، عن الموازاة العامة الكائنة بين المراحل المتعاقبة في المملكتين، ولكنه عندما عمد إلى الموازنة بين مراحل معينة في إنجلترا ومثيلاتها في فرنسا، وجد أنه بالرغم من أن في كليهما توافقًا عجيبًا في عدد الأنواع التابعة لأجناس بذاتها، فإن الأنواع تتباين على نمط من الصعب أنْ يُعلل السبب فيه؛ نظرًا لتقارب الباحَتين، ما لم يُفرَض أنَّ برزخًا كان يفصل قديمًا بين بحرين، وكان مأهولًا بمجموعة حيوانية، إنْ استقلت صورها، فإنها عاشت متعاصرة.

ولقد أبان «سير لايل» عن مثل ذلك في تكوينات العصر الثالث المتأخرة، كما أظهر «بارنده» عن أنَّ هنالك موازاة شاملة بين رسابات العصر السلوري المتعاقبة في بوهيمية وإسكنديناوة، ولكنه مع ذلك يقع على قدر كبير من التباين بين الأنواع، فإذا كانت التكوينات في تلك الأصقاع لم ترتصف في ذلك الزمن نفسه — وتكون في صقع بذاته غالبًا ما يكون مقابلًا لفترة غفل في غيره — وإذا كانت الأنواع قد مضت تتحول متباطئة في كلا الصقعين في أثناء تراكم التكوينات المتفرقة، وفي أثناء الفترات الطويلة التي تفصل بينهما زمانيًّا، ففي مثل هذه الحال يمكن ترتيب التكوينات في كلا الصقعين على نسق واحد يُراعى فيه التعاقب العام لصور الحياة، فيلوح ذلك النسق خطأً كأن به توازيًا تامًّا، في حين أنَّ الأنواع سوف لا تكون واحدة في المراحل التي تلوح لنا متقابلة في الصقعين.

(٣) علاقة بعض الأنواع المنقرضة ببعض وبالصور الحيَّة

ولننظر الآن في العلاقات المتبادلة بين الأنواع المنقرضة والأنواع الحيَّة، هي جميعًا تقع ضمن عدد قليل من طوائف كبرى. ولقد تتضح لنا هذه الحقيقة معللة على مبدأ النشوء والتطور، فكلما كانت الصورة العضوية أقدم، كانت أكثر مباينة للصور الحالية على وجه عام، غير أنَّ الأنواع المنقرضة — على ما بيَّن «بوكلند» من قبل — يمكن أنْ تبوَّب جميعًا إمَّا في عشائر لا تزال موجودة حتى اليوم، وإمَّا فيما بينها. أمَّا أنَّ صور الحياة المنقرضة تساعدنا على أن نسد الفراغات الكائنة بين الأجناس والفصائل والرتب الموجودة الآن، فأمر واقع لا مردَّ فيه. ولما كان هذا الواقع الثابت قد أُهمل أو أُنكر بتة، فيحسن بنا أنْ نمضي في تفصيله ونورد بعض الأمثال عنه، فإننا إذا قصرنا النظر على الأنواع المنقرضة التابعة لطائفة بذاتها، فإن المنظومة تكون أقل التئامًا بكثير، مما لو أننا سلكنا الأنواع، حية ومنقرضة، في مجموعة عامة واحدة، وكثيرًا ما نقع فيما كتب الأستاذ «أوين» بعبارة المعممة٢٩ مشيرًا بها إلى الحيوانات المنقرضة. كما تقع فيما كتب «أغاسير» على عبارة «الطرز التركيبيَّة أو التفسيريَّة».٣٠
وتدل هذه العبارات على أنَّ مثل هذه الصور إنما هي حلقات وسطى أو حلقات واصلة. كذلك أظهر «مسيو جودي» — عالم الأحفوريات المعروف — بأدق ما يمكن، أنَّ كثيرًا من الثدييات المنقرضة التي استُكشف بقاياها في «أتيكا» تسد كثيرًا من الفراغات المشهورة بين الأجناس الحيَّة. كذلك نجد أنَّ «كوفييه» قد صنَّف المجترات٣١ والشَّثنيات،٣٢ فجعلهما رتبتين من الثدييات منفصلتين تمام الانفصال. غير أنه قد استُكشف عدد كبير من الحلقات الأحفورية، حتى إنَّ «أوين» قد اضطرَّ إلى تحوير التصنيف برمته، واضعًا بعض الشثنيات في قبيلة واحدة من المجترات، فنرى مثلًا أنه وضع تدرجات قضى بها على الفراغ الكائن بين الخنزير والجمل، والأناعيم — أي ذوات الظلف والخف والحافر — قد بُوِّبت الآن قسمين: أحادية الأباخس وثنائية الأباخس، ولكن المكروشين٣٣ الذي هو في جنوبي أمريكا، يربط — على وجه ما — بين هذين القسمين الكبيرين. ولا ينكر أحد أنَّ «الحبرون»،٣٤ حلقة وسطى بين الحصان وصور قديمة من الأناعيم، وما أبهر تلك الحلقة الوسطى التي يمثلها «الطُّبْثُور»٣٥ في سلسلة الثدييات، وهو أحفورة من جنوبي أمريكا وصفها وسماها الأستاذ «جرفيه»؛ إذ إنه يتعذر إلحاقها بطائفة الطوائف الموجودة، والخيلان٣٦ تؤلِّف عشيرة معينة من الثدييات. ومن أخص الخصائص في «الأطوم»٣٧ و«المَنْطين»،٣٨ فقدان الطرفين المؤخرين فقدانًا تامًّا، من غير أن يتبقى منهما أي أثر. غير أن «اليمُّوم»٣٩ المنقرض — على ما يذهب إليه الأستاذ «فلاور» — كان له عظم فخذي، يتداور في حق٤٠ بالحوض، حسن التصوير. فيدل ذلك على تقارب نحو الأناعيم، التي تتصل بها «الخيلان» على بعض الاعتبارات، والحيتان٤١ — أو القاطوسيات — تختلف عن بقية الثدييات اختلافًا كبيرًا، ولكن «الزكوي»٤٢ والإسقلدون،٤٣ اللذين عاشا في أثناء العصر الثالث، وأفرد لهما بعض المواليديين طائفة خاصة في التصنيف، اعتبرهما «هكسلي» من الحيتان الأصلية، وأنهما «يؤلفان حلقة وسطى تربط الحيتان باللواحم البحرية.»
أمَّا ذلك الفراغ الكبير القائم بين الطيور والزواحف، فقد أوضح «هكسلي» أنَّ من الممكن أنْ يسد جزئيًّا بالنعام و«الخِبْطِير»٤٤ المنقرض من ناحية، و«الريشق»٤٥ من الدناصير،٤٦ وهي أضخم عشائر الزواحف الأرضية، من ناحية أخرى. فإذا عدنا إلى النظر في اللافقاريات، أكد لنا «بارنده» — وهو مَن لا نستطيع أنْ نذكر مَن هو أثبت منه قدمًا في هذا الموضوع — أنه يستبين يومًا بعد يوم أنَّ الحيوانات التي عاشت في حقب الحياة القديمة،٤٧ يمكن أنْ تُلحَق تصنيفيًّا بالعشائر الموجودة اليوم، بالرغم من أنه في ذلك العصر البعيد، لم تكن العشائر منفصلة بعضها عن بعض انفصالها اليوم.

وقد اعترض بعض الكُتَّاب على القول بأن أي نوع منقرض أو عشيرة من الأنواع، يمكن اعتبارها حلقة تربط بين نوعين عائشين أو عشيرة من الأنواع، أمَّا إذا كانوا يعنون بذلك أنَّ صورة منقرضة هي في جميع خِصِّياتها حلقة مباشرة بين صورتين أو عشيرتين حيتين، فإن الاعتراض قد يكون وجيهًا وقائمًا، ولكن في مجال التصنيف الطبيعي نجد أنَّ كثيرًا من الأنواع الأحفورية، تربط تحقيقًا بين أنواع حيَّة، وبعض الأجناس المنقرضة بين أجناس حيَّة، وحتى بين أجناس تابعة لفصائل مستقلَّة معيَّنة، ولدينا حالة معروفة بينة، وبخاصة فيما يتعلق بعشائر مستقلَّة تمام الاستقلال كالأسماك والزواحف، تظهرنا فيما أرى فرضًا، بأنها تفترق الآن في عشرين خِصِّية، فإن الصور القديمة تفترق في عدد أقل من الخِصِّيات، وبذلك تكون العشيرتان قد تقاربتا من قبل، أكثر مما هما الآن.

من المعتقدات السائدة أنَّ الصور العضوية كلما كانت أكثر إيغالًا في القدم، أصبحت أقرب إلى أن تربط ببعض خِصِّياتها، بين عشائر تباين الآن بعضها بعضًا مباينة واسعة. على أنَّ هذا الاعتقاد يجب أنْ يقتصر على تلك العشائر التي جرى عليها كثير من التغيرات في خلال العصور الجيولوجية، ولقد يكون من المتعذر أنْ يقوم الدليل على صحة هذا القول، فقد يُستكشف بين حين وحين حيوان حي كاليردوغ،٤٨ له صفات تتصل بصفات عشائر مستقلَّة، ومع هذا فإننا إذ قابلنا بين الزواحف القديمة والمقعدات،٤٩ والأسماك القديمة الرأس قدميات٥٠ وثدييات العصر الأيوسيني،٥١ والصور الحديثة التي تتبع نفس هذه الطوائف، فلا مهرب لنا من أنْ نسلِّم أنَّ في هذا القول كثيرًا من الصحة.
ولنمضِ الآن ناظرين في هذه الحقائق والآراء؛ لنرَ إلى أي حدٍّ تتمشى مع نظرية النشوء عن طريق التكيف. وهذا الموضوع إذ هو عَقِدٌ مشعَّب الأطراف، أرغب إلى القارئ أنْ يرجع إلى الرسم البياني الذي ألحقته بالفصل الرابع من هذا الكتاب، ونفرض أنَّ الحروف المعينة بالأرقام تشير إلى أجناس، وأنَّ السطور المنقطة التي تنفصل عنها تشير إلى الأنواع التي تتولد عن هذه الأجناس، وهذا الرسم البياني غاية في السهولة لأن يقتصر على عدد قليل من الأجناس، وكذلك على عدد قليل من الأنواع، غير أنَّ هذا ليس بذي بال في بحثنا هذا، أمَّا الخطوط الأفقيَّة فقد تشير إلى التكوينات الجيولوجية٥٢ المتعاقبة، كما تشير إلى أنَّ كل الصور الواقعة تحت الخط الأعلى تعتبر صورًا منقرضة، فالأجناس الموجودة الآن «ا١٤» و«ب١٤» و«ج١٤» تؤلِّف فصيلة. و«د١٤» و«ﻫ١٤» فصيلة تمتُّ إليها بحبل النسب أو تشير إلى فصيلة. و«و١٤» و«ز١٤» و«ح١٤» فصيلة ثالثة. هذه الفصائل الثلاث، مع عديد من الأجناس المنقرضة المشار إليها على سطور التتابع المنحرفة عن الصورة الوالدة «ا» تؤلف رتبة؛٥٣ لأن جميعها لا بُدَّ من أنْ تكون قد ورثت عن أصلها القديم، صفات عامة تشيع فيها، ووفقًا لمبدأ الميل نحو الانحراف الوصفي المستمر الذي شرحناه في ذلك الرسم البياني، فإن الصور العضوية كلما كانت أجد، نزعت إلى الاختلاف عن أصولها القديمة بصورة مطردة. ومن هنا يمكننا أنْ ندرك القاعدة الثابتة في أنَّ أكثر الصور الأحفورية قدمًا، هي أكثر الصور مباينة للصور الموجودة الآن. على أنه ينبغي لنا ألَّا نفرض أنَّ انحراف الصفات لازمة ضرورية، ذلك بأنه إنما يعود أساسًا إلى أنَّ السلائل المتولدة من نوع ما، تكون قادرة على أن تتسود في بقاع كثيرة مختلفة الظروف في نظام الطبيعة؛ لهذا يصبح من الممكن — على ما رأينا من قبل في بعض الصور السلورية٥٤ — أنَّ نوعًا يمضي في التكيف تكيفًا ضئيلًا، وفقًا لتغير بسيط في حالات الحياة، ومع ذلك يظل محتفظًا بخِصِّياته العامة عصرًا مديدًا متطاولًا، وهذه الحالة ممثل لها في الرسم البياني بالحرف «و١٤».
كل الصور المتولدة عن «ا» حيَّة ومنقرضة، تؤلِّف رتبة٥٥ وفقًا لما قدمنا، وهذه الرتبة — خضوعًا للمؤثرات المفضية إلى الانقراض وانحراف الصفات على وجه الدوام — قد انقسم بعضها عدة فصيلات وفصائل، هلك بعضها في أدوار زمانية مختلفة، وبقي بعضها حيًّا إلى يومنا هذا.
إذا نظرنا في الرسم البياني استطعنا أنْ نلحظ أنَّ كثيرًا من الصور المنقرضة المفروض أنها اندفنت في التكوينات المتعاقبة، قد استُكْشِفت عند مواضع منخفضة من منظومة التراص، فإن ثلاث الفصائل التي هي عند أعلى الخط، تصبح — بلا ريب — أقل استقلالًا بعضها عن بعض، فالأجناس «ا١» و«ا٥» و«ا١٠» و«ج٨» و«ح٣» و«ح٦» و«ح٩» إذا احتُفرت، فإن هذه الفصائل الثلاث تظهر متصلة جهد الاتصال، حتى لا يبعد أنْ تتوحد في فصيلة كبرى، كما هي الحال في المجترات٥٦ والشَّثنيَّات.٥٧ على أن ذاك الذي يَعْترض على اعتبار الأجناس المنقرضة حلقات وسطى فتصل بين الأجناس الحية التابعة للفصائل الثلاث، يمكن أن يكون له بعض الحق؛ لأن توسطيتها ليست مباشرة، ولكن بطريق طويل كثير العطفات والاستدارات تنقلًا في صور شديدة التباين، فإذا استُكْشف كثير من الصور المنقرضة من فوق خط من الخطوط الأفقية الوسطى التي تمثل التكوينات الجيولوجية — فوق الخط «٦» مثلًا — ولم يُسْتكشف شيء أسفل هذا الخط، فحينئذٍ لا تتوحد غير فصيلتين اثنتين، هما اللتان إلى الناحية اليسرى؛ أي «ا١٤» و«ب١٤» وما بعدها. وبذلك تتبقى فصيلتان، أقل استقلالًا بعضها عن بعض عما كانتا قبل استكشاف تلك الأحفوريات. ثم إن ثلاث فصائل تتألف من ثمانية أجناس «ا١٤» و«ح١٤» عند الخط الأعلى، ويفرض أنها تباين بعضها بعضًا في ست خِصِّيات ذات بال، فإن الفصائل المشار إليها أنها وجدت في الدور المشار إليه «ب٦» لا بُدَّ من أنْ تكون قد تغايرت بعضها عن بعض بعدد أقل من الخِصِّيات، ذلك بأنها في تلك المرحلة المبكرة من النشوء، تكون قد باينت أصلها الأول بدرجة أقل، ويترتب على ذلك أن الأجناس القديمة والمنقرضة يغلب أن تتوسط صفاتها — إنْ قليلًا وإنْ كثيرًا — بين أخلافها المكيفة، أو بين شُعَب هذه الأخلاف.

هذه المنظومة التطورية تصبح في ظل الطبيعة أكثر تعقدًا وتشعبًا مما فُرض في هذا الرسم البياني، ذلك بأن العشائر تكون أوفر عددًا، كما تكون قد عاشت في خلال أشواط من الزمن تختلف آمادها اختلافًا كبيرًا، وتكيفت على درجات متباينة. وبما أننا لا نملك من السجلات الجيولوجية غير الجزء الأخير منها، وبه من النقص والفجوات ما نعلم، فليس لنا أن نتوقع — اللهم إلا في حالات استثنائية نادرة — أن نسد تلك الفراغات الواسعة التي نشهدها في بيان الطبيعة، وبها نربط بين الفصائل والشعوب المتفارقة. وكل ما نطمع في أن نتوقعه، أن تلك العشائر التي أصابها كثير من التكيف في خلال الأدوار الجيولوجية، قد يقارب بعضها بعضًا مقاربة يسيرةً في الرصائص القديمة؛ وبذلك تختلف الصور الأقدم شيئًا ما، اختلافًا مسيرًا في بعض خِصِّياتها، عما تختلف الصور الحية التابعة للعشائر نفسها. وهذا ما أثبته ثقات علماء الأحافير بصورة واضحة.

من هنا نقضي بأن الحقائق الجوهرية المتعلقة بظاهرة تبادل الخِصِّيات بين الصور المنقرضة بعضها ببعض وبالصورة الحية، تكون قد فُسرت بطريقة مرضية، في ضوء نظرية التطور بتكيف الصفات، ولا يستقيم تفسير هذه الحقائق بغير ذلك.

من الواضح — وفقًا لهذه النظرية — أنَّ المجموعة الحيوانية في خلال أي دور طويل من تاريخ الأرض، تتوسط صفاتها العامة دائمًا بين سوابقها ولواحقها، ومن هنا تكون الأنواع التي عاشت في المرحلة الزمانية السادسة من مراحل النشوء الكبرى في الرسم البياني، هي السلائل المكيفة المخلفة عن تلك التي عاشت في خلال المرحلة الخامسة، وأنهم بذواتهم أسلاف الذين أصبحوا أكثر تكيفًا في المرحلة السابقة، ومن هنا لا يختلفون عن أن يكونوا وسطاء شيئًا ما في صفاتهم بين صور الحياة، ما سبقهم منها، وما لحق بهم. ولهذا وجب علينا أن نسلِّم بانقراض بعض الصور السابقة وفي بقعة بعينها، حتى تتهيأ بذلك فرصة الهجرة لصور جديدة من بقاع أخرى، وحدوث قَدْر من التَّكيُّف في خلال تلك الفترة الغفل الطوال التي تقع بين التكوينات٥٨ المتعاقبة، ومطاوعة لما نسلِّم به من هذا تكون المجموعة الحيوانية في كل دور من العصور الجيولوجية هي حتمًا واسطة العقد من حيث الصفات بين المجموعتين الحيوانيتين السابقة عليها واللاحقة بها. ولا أحتاج هنا إلى غير مثل واحد أضربه، هو أن نمط التعاقب في أحافير المجموعات الديفونية٥٩ عندما استُكشفت، قد حمل علماء الأحافير على أن يعترفوا بما فيها من مجالي التوسط بين تلك التي وُجِدَت فيما يعلوها في المجموعات الفحمية،٦٠ وما هو تحتها في المجموعات السلورية،٦١ غير أن هذا لا يقتضي أن تكون كل مجموعة حيوانية كاملة التوسط على وجه اللزوم؛ لأن فترات غير متساوية من الزمن قد مرت بين كل من التكوينات المتعاقبة.
ولست أرى من قوة في الاعتراض الذي يُقام على حقيقة أن المجموعة الحيوانية الخاصة بكل عصر هي في مجموعها وسط من حيث الخصائص بين المجموعات الحيوانية السابقة عليها واللاحقة بها؛ لأن بعض الأجناس تظهِرنا على استثناء من هذه القاعدة، فإنه عندما صنَّف دكتور «فالكونار» أنواع المسادين٦٢ والفيلة في منظمتين: الأولى بحسب خِصِّياتها المتبادلة، والثانية بحسب عصور وجودها، لم تتسايرا في الترتيب، فأمعن الأنواع انحرافًا في الصفات، ليست هي الأقدم ولا الأحدث، ولا ذوات الصفات التوسطية، هي التي تتوسط في الزمان. غير أننا إذا فرضنا في مثل هذه الحالات وأشباهها، أن السجل الدال على أول ظهور الأنواع وأول اختفائها كان كاملًا، وذلك أبعد ما يكون عن الواقع، فلا يكون لدينا من سند نستند إليه في الاعتقاد بأن الصور التي تولدت متعاقبة، لا بدَّ من أن تبقى حتمًا أزمانًا متساوية الطول، فإن صورة ما موغلة في القدم، قد يتفق لها أن تظل باقية زمانًا أطول كثيرًا من صورة تولَّدت بعدها في مكان آخر، وبخاصة في المستولدات الأرضية التي تقطن بقاعًا منفصلة. ولا بأس من أن نقابل الأشياء الصغرى بالكبرى، فإننا إذا صنَّفنا سلالات الحمام الداجن، الموجود منها والمنقرض مؤتمين بتسلسل خِصِّياتها، فإن هذا التصنيف لا يتفق مع الترتيب الزماني لوجودها، كما يكون أقل اتفاقًا مع الترتيب الزماني لاختفائها، فإن الحمام الطرآني — حمام الصخور — وهو الأصل الذي تولدت منه هذه السلالات، لا يزال موجودًا، كما أن كثيرًا من الضروب التي تصل الحمام الطرآني بالحمام الزاجل قد انقرضت، والزاجل يُوصف بأنه من السلالات التي بلغت منتهى التحول في طول المنقار، قد تأصل قبل المغربي القصير المنقار، الذي هو النقيض في المنظومة من حيث هذه الصفة.
ومما يتصل بهذا الأمر أوثق الاتصال من القول بأن البقايا العضوية التي في تكوين أوسط، يكون لها صفات توسطية بقدر ما، حقيقة أصرَّ عليها كل علماء الأحافير؛ إذ يعتقدون بأن الأحافير التي في تكوينين متتابعين، تكون أكثر تقاربًا بعضها من بعض، من الأحافير التي في تكوينين تباعدا في الزمن. ومن الأمثال على ذلك ما ذكره «بكتيه» تلك المشابهة العامة بين البقايا العضويَّة التي يعثر عليها في مراحل متفرقة من التكوين الطباشيري، ولو أن الأنواع في كل مرحلة تكون معينة تمامًا بعضها من بعض، والظاهر أن هذه الحقيقة وحدها، قد زعزعت اعتقاد الأستاذ «بكتيه» في ثبات الأنواع وعدم تطورها؛ فإن ذاك الذي يلم باستيطان الأنواع الحية وتوزعها الجغرافي في أنحاء الكرة الأرضية، لا يحاول مطلقًا أن يعلل التشابه القريب بين الأنواع المعينة في الرصائص المتتابعة بالأحوال الطبيعية التي سادت الباحات القديمة، وظلت على وتيرة واحدة تقريبًا. وإذن فلنذكر دائمًا أنَّ صور الحياة — وقطان البحار منها على الأقل — قد تحولت في أزمان واحدة في أنحاء الأرض، وبذا يكون تحولها قد تم في ظل حالات شديدة التباين، وعلينا أن نعي حالات المناخ القاسية في أثناء العصر البلوستسين٦٣ وهو الذي يتضمن كل العصر الجليدي، وألَّا نغفل عن أن الصور النوعية من قطان البحار لم تتأثر بها إلا قليلًا جدًّا.
ووفقًا لنظرية التطور، يتضح لنا السبب كاملًا في أن البقايا الأحفورية في التكاوين المتعاقبة المتدانية في الزمن، تكون قريبة النسب بعضها من بعض، ولو أنها تعتبر أنواعًا معينة. وبما أن كل تكوين قد أصابه الاضطراب غالبًا، وبما أننا نقع على فترات غفل تتوسط بين التكاوين المتتابعة، فلا ينبغي لنا أن نتوقع العثور على ضروب وسطى، تربط بين الأنواع التي تكون قد ظهرت في العصور المبكرة أو العصور القريبة من ذلك، ولكن نعثر بعد فترات ما — وهي فترات طويلة إذا قيست بالسنين، قصيرةٌ إذا قيست جيولوجيًّا — صورًا متقاربة الأنساب، أو كما سماها بعض المؤلفين «أنواع مثالية»،٦٤ وهذه عندما نعثر عليها تحقيقًا، هنالك نجد ولا شك شواهد تثبت حقيقة الخطى البطيئة التي قلما تُحس في تغير صور الأنواع.

(٤) علاقة بعض الصور المنقرضة ببعض الصور الحية

رأينا في الفصل الرابع أن درجة التخلق والتخصص في أعضاء الكائنات الحية، إذا ما وصلت حد البلوغ هي أمثل مقياس عُرِف حتى الآن، يُقاس عليه مقدار كمالها ورقيها، وكذلك رأينا أيضًا، أن التخصص في الأعضاء بما أن فيه نفعًا لكل كائن حي، كذلك الانتخاب الطبيعي، يتجه دائمًا إلى جعل التكوين العضوي لكل كائن حي أكثر تخصصًا وكمالًا، فيصبح بذلك أكثر رقيًّا، في حين أنه قد يخلف كثيرًا من المخلوقات ذوات التراكيب البسيطة غير المحسة متلائمة مع حالات بسيطة من حالات الحياة، كما أنه قد يزيد التركيب العضوي بساطة في بعض الحالات أو ينزل من تعقده، جاعلًا مثل هذه التراكيب المبسطة أكثر تلاؤمًا مع منازعها الجديدة في الحياة، وأنه في حالات أخرى أكثر شيوعًا في الأحياء، تصبح الأنواع الجديدة أكثر رقيًّا وتسودًا على أسلافها، ذلك بأنها مسوقة إلى أن تهزم في معركة التناحر على البقاء، كل الصور القديمة التي تتنافس وإياها عن قرب. من هنا نستنتج أن سكان الأرض في العصر الأيوسيني٦٥ إذا أمكن أن يقع بينها وبين أحياء الأرض الحاليين تنافس في ظل حالات مساحية متشابهة تقريبًا، فإن أحياء العصر الأيوسيني لا بد من أن يهزمهم ويفنيهم أحياء الأرض الحاليون، كما قد يقع تمامًا بين أحياء العصر الثاني٦٦ مع أحياء العصر الأيوسيني، أو أحياء حقب الحياة القديمة٦٧ مع أحياء العصر الثاني. وبمقتضى هذا المحك الثابت للانتصار في معركة الحياة، وبمقتضى معيار التخصص في الأعضاء، يكون محتومًا على الصُّور الجديدة، خضوعًا لسُنة الانتخاب الطبيعي أن تكون أكثر ارتقاءً من الصور القديمة، فهل هذا هو الواقع في الطبيعة؟ إن كثيرًا من علماء الأحافير يردون على هذا السؤال إيجابًا، ويظهر لي أن إيجابهم هذا، يجب أن يُتخذ على أنه صحيح ثابت، وإن عسر إقامة البرهان عليه.
وقد اعتُرض على هذه النتائج بأن بعضًا من «ذراعية الأقدام»٦٨ لم تتكيف إلَّا قليلًا منذ عصور جيولوجية مُوغِلةٍ في القدم، وأنَّ بعض الأصداف الأرضية وأصداف الماء العذب قد ظلت كما كانت منذ ذلك الزمن الذي وُجِدَتْ فيه على قدر ما نحدس من الحكم على أول ظهورها. وليس لهذا الاعتراض نصيب من القوة، وليس في القول بأن «الثقبيات»٦٩ لم ترقَ عضويًّا منذ العصر اللورنتي٧٠ على ما قضى به دكتور «كربنتر» من صعوبة لا تُقتحم. ذلك بأن بعض العضويات قد يتفق أن تكون قد ظلَّت صالحة للبقاء في ظل حالات بسيطة من حالات الحياة، وأيٌّ من الأحياء هو أمثل صلاحية لذلك من تلك الأوالي٧١ البسيطة التركيب؟ إنَّ الاعتراض السابق وما يماثله، إنما يكون هادمًا لنظريتي، إذا ما استند إلى أن الارتقاء في النظام العضوي أمر ضروري الحدوث، وكذلك يكون هادمًا لها إذا ما قام الدليل على أن «الثقبيات» — التي أشرنا إليها قبل — قد برزت إلى الوجود في أثناء العصر «اللورنتي»، أو من فوق ذراعيات الأقدام في أثناء التكوين الكمبري. فمن غير الممكن — في مثل هذه الحال — أن يكون قد توفر الزمن الكافي لتحول هذه الكائنات وارتقائها حتى تبلغ المستوى الذي بلغته إذ ذاك، كما أنها إذا ما بلغت من الرقي مبلغًا معينًا، أصبح من غير الضروري لها، وفقًا لنظرية الانتخاب الطبيعي، أنْ تستمر في الارتقاء والتحوُّل، ذلك بالرغم من أنه من المحتوم عليها أنْ تتكيف، تكيفًا قليلًا في خلال العصور المتعاقبة، حتى يتيسر لها أنْ تحتفظ بمكانتها من حيث علاقتها بالتغيرات البسيطة التي تصيب الحالات السائدة. على أنَّ للمعترضات السابقة صلة بمسألة ما إذا كنا نعرف على وجه التحقيق كيف كانت الدنيا القديمة؟ وفي أي عصر من أعصر عمرها ظهرت الحياة أول مرة؟ وجميع هذه الأمور يَسهُل فيها الجدل.
إنَّ البحث في مسألة ما إذا كان النظام العضوي — على وجه العموم — قد ارتقى وتقدم، هو في كثير من وجوهه معقَّد شديد التشعب. فالسِّجل الجيولوجي ناقص نقصًا كبيرًا في جميع عصوره، ولا يتصل بالماضي اتصالًا كافيًا حتى يظهِرنا بجلاء على أن النظام العضوي قد ارتقى ارتقاء عظيمًا في خلال تاريخ الدنيا المعروف. ولقد نرى — حتى في عصرنا الحاضر — أن المواليديين إذا ما نظروا في صور مرتبة بعينها، لا يتفقون جميعًا على أيٍّ من تلك الصور هي أحق بأن تكون رأس القائمة. ومن هنا يرى بعضهم أن «القروش»٧٢ من حيث قربها من بعض التراكيب الهامة إلى الزواحف، هي أرقى الأسماك، في حين أن غيرهم يرى أن «العظميَّات»٧٣ هي الأرقى، والإصديفيات٧٤ درجة بين السيلاشيات٧٥ والعظميات، والأخيرة في عصرنا الحاضر هي صاحبة التفوق والسيادة من حيث العدد والكثرة، وإن تفرد الإصديفيات والسيلاشيات بالوجود من قبل ذلك. وفي هذه الحال، وبمقتضى المعيار الذي نقيس به درجة الارتقاء، هل نقضي بأن الأسماك قد ارتقت؟ أم انحطت من ناحية قوامها العضوي؟ ومحاولة المقارنة بين أعضاء الطُّرز المعينة بمقياس الارتقاء أمر ميئوس منه، فمن ذا الذي في مستطاعه أن يحكم على أن «الحبَّار»٧٦ أرقى من «النحلة»؟ تلك الحشرة التي قال فيها «فون باير» إنها «في الحقيقة أرقى عضويًّا من السمكة، ولكن على طراز آخر.» وفي معركة التناحر على البقاء، تلك المعركة المعقدة المشعبة الأطراف، قد نسلِّم بحق أن «القشريات»،٧٧ وليست معتبرة من أرقى أعضاء مرتبتها، قد تنتصر على الرأس القدميات،٧٨ وهي أرقى «الرخويات».٧٩ على أن مثل هذه القشريات، ولو أنها لم تبلغ من التطوُّر مبلغًا عظيمًا، قد تنزل منزلة عليا في عالم اللافقاريات،٨٠ إذا ما حُكِم عليها من ناحية قدرتها على التفوق في أعنف التجارب — أي قانون التناحر، إلى جانب هذه الصعوبات الطبيعية في الحكم على أي من الصور هي الأرقى عضويًّا — ينبغي أن نقصر المقارنة على أرقى أعضاء المرتبة في عصرين مفروضين من العصور، ولو أنَّ ذلك — وبلا شك — هو أهم عنصر، بل العنصر الأوحد، في قيام الموازنة بينهما، بل علينا أن نقارن بين جميع أعضاء المرتبة، راقية ومتخلفة، في العصرين معًا. في عصر قديم نرى أن الحيوانات الرخوانية،٨١ وعلى وجه الحصر الحيوانات الرأس القدمية والذراع القدمية، قد تكاثر عددها تكاثرًا كبيرًا. أما في العصر الحاضر فقد تناقص عدد العشيرتين جد التناقص، بينما عشائر أخرى توسطيَّة من حيث الرقي العضوي، قد ازداد عددها بصورة واضحة. واستنادًا إلى ذلك ذهب بعض المواليديين إلى أن الرخويات فيما مضى كانت أكثر رُقيًّا مما هي الآن. غير أنَّ دليلًا آخر يمكن أنْ ينتقص هذا الرأي، إذا ما وعينا تناقص الذراعية الأقدام، بالإضافة إلى الحقيقة المعروفة من أنَّ الرأس القدميات — ولو أنها قليلة العدد — فإنها أكثر رقيًّا من الحيثية العضوية من ممثليها القدامى. كذلك ينبغي علينا أنْ نقارن بين الأعداد النسبية التقريبية الكائنة بين أرقى المراتب وأدناها في جميع بقاع الأرض في خلال عصرين من العصور، فإذا قلنا مثلًا إنه يوجد الآن خمسون ألف صورة من الفقاريات، وعرفنا أنه لم يوجد منها في عصر سابق إلا عشرة آلاف، وجب علينا أن ننظر في هذه الزيادة العددية للمرتبة العليا، والتي تدلُّ على إزاحة عدد كبير من الصور الدنيا، على أنه ارتقاء مقطوع به في عالم العضويات. ومن هنا تتضح لنا تلك الصعوبة التي تواجهنا إذا ما عمدنا إلى المقارنة السليمة في ظل مثل هذه العلاقات البالغة منتهى التهوُّش والتخالُط، ونعني بها معيار الرقي العضوي للمجموعات الحيوانية في العصور الزمانية المتعاقبة، على قلة معرفتنا بها.

نستطيع أنْ ندرك هذه الصعوبة بصورة أوضح، إذا نظرنا في مجموعات نباتية وحيوانية موجودة الآن، فمما نشاهد من طريقة انتشار الأحياء الأوروبية في نيوزيلندة حديثًا؛ إذ استطاعت أن تحتلَّ بقاعًا كان يحتلها من قبل أهال تلك الجزر، نستطيع أن نقضي بأن كل حيوانات بريطانيا ونباتاتها إذا انتقلت إلى نيوزيلندة وأُطلقت حُرَّة فيها، فإن عددًا عظيمًا من الصور البريطانية لا بد من أن يتوطن نهائيًا فيها بمرور الزمن، وأن تبيد كثيرًا أهلياتها. ومن جهة أخرى، واستنادًا إلى حقيقة أنه ما من مُستوطِن واحد من مستوطني نصف الكرة الجنوبي قد استوحش في أية بقعة من أوروبا، نشك في أن عددًا كبيرًا من أهليات نيوزيلندة، يستطيع أنْ يحتل مراكز تحتلها الآن نباتاتنا وحيواناتنا الأهلية، إذا ما أطلقت مرة في أرض بريطانيا، ووفقًا لهذا تكون أهليات بريطانيا أرقى في سُلَّم الطبيعة من أهليات نيوزيلندة، ومع هذا فإن أفره المواليديين، بإكبابهم على دراسة أنواع كل من القطرين، لم يستطيعوا أن يستشفوا هذه النتيجة.

إن كثيرًا من أنجب المواليديين وعلى رأسهم «أغاسيز» يقولون بأن الحيوانات القديمة، تُشابِه — إلى حدٍّ ما — أجنة الحيوانات الحديثة، إذا كانت تابعة لذات المراتب، وإن التعاقُب الجيولوجي للصور المنقرضة، يقابل — على وجه التقريب — التطور الجنيني للصور الحية. إن هذه النظرة تتمشى مع نظريتي تمشيًا تامًّا، وسأحاول في فصل آتٍ أن أظهِر أن الفرد البالغ يختلف عن جنينه؛ لأن التحولات التي تدخلت بينهما لم تحدث في عصر باكر، بل ورثت في أعمار متناظِرة. وهذا المنهج الطبيعي إذ يخلف الجنين ثابتًا غير متغير، يضيف إلى الفرد البالغ — وعلى مر الأجيال المتعاقبة — تحولات تتوالى عليه. وإذن يصبح الجنين كأنه لوحة مرسومة تحتفظ بها الطبيعة عنوانًا على حالة النوع السابقة قبل أن يتولاها التكيف الوصفي. على أن هذا الرأي قد يكون صحيحًا، ومع هذا فقد يكون من أعسر ما يُقام عليه الدليل، فإننا إذ نرى أن أقدم الثدييات والزواحف والأسماك المعروفة، وكلها تنتمي إلى مراتبها الطبيعية انتماء لا شائبة فيه، ولو أن بعضًا من هذه الصور القديمة هي أقلُّ استقلالًا بعضها عن بعض بدرجة تافهة، عما هو واقع بين الأعضاء الطرازية لنفس العشائر في العصر الحاضر، فإنه من العبث أن نبحث عن حيوانات لها نفس الصفات الجنينية العامة للفقاريات، قبل أن نستكشف قيعانًا جيولوجية غنية بصورة الأحافير، على بُعْدٍ كبير تحت أدنى الطبقات الكمبرية، وذلك مطلب قلَّ أن يساورنا فيه أمل كبير.

(٥) تعاقُب الطُّرز الواحدة في نفس الباحات في أثناء العصر الثالث المتأخر

منذ بضع سنين مضين، أثبت «مستر كليفث» أن الثدييات الأحفورية التي عثر على بقاياها في كهوف أستراليا، كانت تمتُّ بقرابة وثيقة إلى الكيسيات٨٢ التي تعيش الآن في تلك القارَّة. وفي أمريكا الجنوبية تقع على مثل هذه العلاقة ظاهرة حتى لمن لم يمرَّن على هذا البحث، في تلك الدروع الهائلة، كتلك التي تكون للدُّوِيرِع، متناثرة في بقاع كثيرة من «اللابلاتا». ولقد أظهر الأستاذ «أوين» بوضوح تام أن أكثر الثدييات الأحفورية المنطمرة هنالك بكثرة بالغة، ذات نَسبٍ قريب بالطُّرز التي أهلت بها أمريكا الجنوبية، وأبين ما تكون هذه العلاقة النسبية في تلك المجموعة العجيبة من العظام الأحفورية التي جمعها مسيو «لند» ومسيو «كلوزن» من كهوف البرازيل. ولقد أخذتُ بهذه الحقائق حتى إني اعتقدتُ (سنة ١٨٣٩ وسنة ١٨٤٥) بصحة سُنَّة «تعاقب الطرز» قائمة على «تلك العلاقة العجيبة بين المنقرض والحي في قارة بعينها.» ولقد طَبَّق الأستاذ «أوين» ذلك بتعميم أوسع على ثدييات الدنيا القديمة … وإنا لنجد هذه السُّنة نفسها جلية فيما كشف عنه هذا الأستاذ الكبير من بقايا طيور نيوزيلندة الهائلة، بعد أن بنى هياكلها من تلك البقايا، وكذلك نرى أثر هذه السُّنة في الطيور التي وُجِدَت بقاياها في كهوف البرازيل. وأظهر «مستر وودوارد» أن هذه السُّنة تنطبق على الأصداف البحرية، غير أنها لا تظهر آثارها فيها ظُهورًا جليًّا بسبب انتشار «الرخويات» انتشارًا واسعًا في بقاع الأرض. وفي مستطاعنا أن نضيف حالات أخرى إلى ما ذكرنا، كالصلة بين ما انقرض من الأصداف الأرضية وما هو باقٍ منها في «جزر ماديرة» والصلة بين المنقرض والحي من أصداف الماء الكَدِر في بحر «أورال» و«قزوين».
والآن أية حقائق توحي بها إلينا هذه السُّنة الرائعة، سُنة تعاقُبِ الطرز الواحدة في باحة بعينها؟ وإنه لمن أكثر الناس جرأة، ذاك الذي يحاول، بعد أن يقابل بين مناخ أستراليا وأجزاء من أمريكا الجنوبية واقعة على خطوط عرض واحدة، أن يعلل مُستنِدًا إلى اختلاف الظروف الطبيعية من ناحية السبب في تباين أهليات القارتين، أو يعلل مستندًا إلى تشابه الظروف الطبيعية من ناحية أخرى، السبب في تشابه الطرز في كلتيهما في خصر العصر الثالث٨٣ المتأخر. كذلك لا يمكن أن يدَّعي أحد أن من السُّنن الثابتة أن يقتصر تولُّد «الجلبانيات» (ذوات الكيس) جميعها أو أكثرها وأهمها في أستراليا دون غيرها، أو أن «الدرداوات»٨٤ وغيرها من الطرز الأمريكية قد اقتصر نشوءُها على أمريكا الجنوبية، ذلك بأننا نعلم أن أوروبا في الأعصر القديمة قد أهلت بكثير من الكيسيات. ولقد ذكرت في كثير مما نشرت قبلًا أن سُنة توزع الثدييات الأرضية في أمريكا كانت تختلف قديمًا عنها الآن، فإن أمريكا الشمالية كان لها نصيب من الشركة كبير في حالات النصف الجنوبي من القارة، وأن النصف الجنوبي كان أوثق صلة بالنصف الشمالي، وبصورة مشابهة لهذه نعرف من كشوف «فالكونار» و«كوتلي» أن ثدييات شمالي الهند كانت من قبل أوثق صلة بثدييات أفريقيا مما هي الآن. وهنالك حقائق مثل هذه فيما يتعلق باستيطان الحيوانات البحرية.

بمقتضى نظرية النشوء عن طريق التكيف العضوي، يمكن تعليل سُنة تعاقب الطرز الواحدة تعاقبًا طويل الأمد في باحات معينة، ولا يتضمن هذا أنها ثابتة لا تتحول، ذلك بأن قطان كل صقع من أصقاع الدنيا، لا بد من أن تخلف في ذلك الصقع، وفي أثناء كل دَور زماني معقب على سابقه، أخلافًا إن تقاربت في النسب، فإنها تكون قد تكيفت بدرجة ما، فإذا كانت أهليات قارة من القارات قد اختلفت كثيرًا عن أهليات أخرى، كذلك أخلافها المكيَّفة، تختلف بنفس الصورة وبنفس المقياس، ولكن بعد مرور فترات مُتطاوِلة من الزمن، ووقوع تغيرات جغرافية كبيرة تسمح بتبادل كبير في هجرات الأحياء، يتراجع الضعفاء أمام الأقوياء، ولا يبقى من شيء ثابت غير متحول في توزيع الكائنات الحية.

قد يتساءل البعض هازئين بهذه الحقائق، عما إذا كنتُ أعني بذلك أنَّ «المَغَثير»٨٥ وغيره من العمالقة الذين يتصلون به نسبًا مما عاش في أمريكا الجنوبيَّة، قد خلفوا من بعدهم أجناسًا مُضمَحِلة كالحَسير٨٦ والدويرع٨٧ وآكل النمل٨٨ هذا مما لا يسعنا التسليم به لحظة واحدة. إن هذه العمالقة قد انقرضت انقراضًا كاملًا، غير مُعقِّبة من ورائها خلفًا، غير أننا نجد في كهوف البرازيل أنواعًا كثيرة مُنقرضة، تمت بحبل الصلة القريب من حيث الحجم وفي جميع خِصِّياتها الرئيسة، للأنواع التي لا تزال موجودة في أمريكا الجنوبية، وربما كان بعض من هذه الأنواع هي أسلاف هذه الأنواع الحية، ولا ينبغي لنا أنْ ننسى أنه بمقتضى نظريتي تكون كل الأنواع التابعة لجنس معين، هي أخلاف نوع واحد بذاته، فإذا وُجِدَت ستة أجناس لكل منها ثمانية أنواع في تكوين جيولوجي واحد، ووجدنا أنَّ تكوين آخر مُعقِّب على الأول ستة أجناس متلاحمة الصلة؛ أي أجناس رئيسة لكل منها نفس العدد في الأنواع، فقد نستنتج من ذلك أن نوعًا واحدًا من كل جنس هو الذي ترك أخلافًا متكيفة هي التي تؤلِّف الأجناس الجديدة التي تتضمن عديدًا من الأنواع المتفرقة، أمَّا كل من سبعة الأنواع الأخرى التي تتبع كلًّا من الأجناس القديمة فإنها تنقرض غير معقبة نسلًا، أو أن نوعين أو ثلاثة أنواع من جنسين أو ثلاثة أجناس من ستة الأجناس القديمة، سوف تؤلِّف أسلاف أجناس الجديدة، وهي حالة أكثر حدوثًا في مجرى التطور، ذلك في حين أن الأنواع والأجناس الأخرى تكون قد انقرضت تمامًا. وفي المراتب الآخذة في الاضمحلال، والتي تكثر فيها الأنواع والأجناس الماضية في التناقُصِ العددي، كما هي الحال في «درداوات» أمريكا الجنوبية، تقِلُّ الأجناس والأنواع التي تنجح في إخلاف أعقاب من دمها مكيفة الصفات.

ملخص هذا الفصل والفصل السابق

حاولت أنْ أُظْهِر أنَّ السجل الجيولوجي ناقص نقصًا كبيرًا، وأنَّ جزءًا صغيرًا من كرة الأرض هو الذي تمَّ استكشافه جيولوجيًّا بعناية، وأنَّ بعضًا من مراتب الكائنات العضوية هي التي حفظت آثارها الأحفورية على نِطاق كبير، وأنَّ عدد كل من النماذج المفردة والأنواع التي يُحتفظ بها في متاحفنا، تكاد تكون شيئًا غير مذكور إلى جانب ذلك العدد الكبير من الأجيال التي قد مضت حتى في خلال تراكُم تكوين واحد من التكوينات الجيولوجية، وكذلك أظهرتُ أنَّ التطامُن السطحي بما أنه ضروري ضرورة مطلقة لاستجماع الرُّسابات الغنية بالأنواع الأحفورية الشتيتة الصور، فلا بد من انقضاء فترات بالغة الطول من الزمان بين الكثير من التكوينات المتعاقبة. ثم إنه قد وقع كثير من الانقراض في أثناء التطامن في الغالب، كما حدث كثير من التحول في أثناء الشُّموخ، وأنه في أثناء الشموخ كان الاحتفاظ بالسجل الجيولوجي أقل ما يكون اكتمالًا، وأن كل تكوين جيولوجي بمفرده، لم يترسب بصور متصلة، وأن بقاء كل تكوين كان قصيرًا مقيس على متوسط بقاء الصور النوعية، وأنَّ الهجرة كان لها أثر كبير في ظهور الصور الجديدة في كل باحة من الباحات وفي كل تكوين، وأن الأنواع الكبيرة الذُّيوع والانتشار، هي تلك التي تحولت دراكًا، وغلب أن تكون قد أنشأت أنواعًا جديدة، وأنَّ الضروب كانت موضعية الوجود في أول أمرها، وأنَّ كل نوع — ولو أنه من المحتوم أن يكون قد مر بكثير من المراحل الانتقالية — فإنه يغلب أن تكون الأدوار الزمانية التي جرى التكيف في أثنائها عليه، بالرغم من كثرتها وطول مداها مقيسة بالسنين، كانت قصيرة إذا قيست على الأدوار التي ظل في أثنائها ثابتًا لا يتحول. وهذه الأسباب إذا أُخِذت في مجموعها، تفسر إلى حد كبير — بالرغم من أننا نجد كثيرًا من الحلقات الوسطى — لماذا لا نعثر على ضروب توسطية تربط بين جميع الصور الحية والمنقرضة بأدق الخطوات التدرجية. كذلك ينبغي لنا أنْ نعي في عقولنا دائمًا أن أيًّا من الضروب التوسطية بين صورتين مما قد يُعْثَر عليه لا بد من أن تعتبر أنواعًا جديدة مستقلة، ما لم يتيسر لنا العثور على حلقات السلسلة كاملة، ذلك بأننا لا ندعي بأن لدينا دستورًا يمكن به التفريق بين الأنواع والضروب.

إنَّ ذاك الذي ينكر حقيقة النقص في السِّجل الجيولوجي، يكون على حق إذا هو رفض النظرية جملة، ذلك بألا يني أن يتساءل يائسًا: أين هي تلك الحلقات الوسطى الوفيرة التي ينبغي أنْ تكون قد وصلت من قبل بين الأنواع الرئيسة المتقاربة اللُّحمة، والتي يجب أنْ توجد في المراحل المتعاقبة لكل تكوين بذاته من التكوينات الجيولوجية؟ وقد يخامره الشك في حدوث تلك الفترات الزمانية المتطاوِلة التي يجب أنْ تكون قد انقضت بين التكوينات المتتالية، كما أنه ربما فاته مقدار الأثر الذي أحدثته هجرة الأحياء إذا ما تدبَّر طبيعة التكوينات الجيولوجية في أي صقع كبير، كتكوينات أوروبا مثلًا، ومن الهَيِّن أن يُؤخذ بظاهر ما يلوح له خطأ أنَّه ظهور فُجائي، كعشائر برمتها من الأنواع.

وربما نتساءل: أين هي بقايا تلك العضويات العديدة غير المتناهية الصور التي يجب أن تكون قد وُجِدت قبل أن تترسب المجموعة الكمبرية بأزمان طويلة؟ وإننا لنعرف أنه لم يعش في ذلك العصر غير حيوان واحد. غير أني لا أستطيع الرد على هذا التساؤل، إلا بأن أفرض أن رقعة بحارنا الحالية قد امتدت حيث هي الآن آمادًا عظيمة المقدار، وأن رقعة قاراتنا المتذبذبة غير المستقرة شموخًا وتطامنًا، قد ظلَّت كما هي منذ بداءة المجموعة الكمبرية، غير أنه من قبل ذلك العصر بزمان طويل كان للدنيا مجلى يختلف تمامًا عن مجلاها الحاضر، وأن القارات القديمة التي تألَّفت من تكاوين أقدم من كل التكوينات المعروفة اليوم، إنما هي بقايا أصبحت الآن في حالة تحول جيولوجي، أو هي لا تزال حتى اليوم مندفنة تحت المحيطات.

أما وقد اجتزنا هذه الصعوبات، فإننا نقع على الحقائق الكبرى الماثلة في علم الأحافير، وهي تؤيد بوضوح نظرية التطور عن طريق التكيف بتأثير التحول والانتخاب الطبيعي، فإننا بذلك نعرف كيف أن الأنواع الجديدة تبرز في الوجود ببطء وتعاقُب، وكيف أن أنواع المراتب المختلفة لا يتحتَّم عليها أن تتحول وتتغاير معًا أو بنسبة واحدة أو بدرجة محدودة، ومع ذلك فإنها على مدى الزمن تتكيف جميعًا إلى درجة ما، وأن انقراض الصور القديمة هو النتيجة المحتومة لظهور صور جديدة في أغلب الأمر. ومن هنا ندرك كيف أن نوعًا من الأنواع إذا اختفى من الوجود فلن يعود إلى الظهور ثانية، وأن عشائر من الأنواع تزداد في العدد ببطء، وأنها تَظَلُّ باقية أحقابًا مختلفة من الزمان؛ لأن عملية التكيف بطيئة الأثر، كما تخضع لكثير من العوامل المعقدة، والأنواع المتسودة التابعة لعشائر ذات غلبة وقدرة، تنزع إلى أعقاب كثير من الأنسال المكيفة الصفات، فتؤلِّف بدورها عشيرات، فإذا تكوَّنت هذه العشائر، نزعت أنواع العشائر التي هي أقل عنفوانًا من غيرها، لانحدارها متوارثة نقائص منشئها الأول، إلى الانقراض في وقت معًا، ولا تخلِّف أنسالًا متكيفة على وجه الأرض. غير أنَّ انقراض عشيرة برُمَّتها من عشائر الأنواع، كانت في بعض الأحيان عملية بطيئة، وفقًا لبقاء قليل من أعقابها تمرح في باحات معزولة، وبمنأى من غيرها، فإذا اختفت عشيرة مرة اختفاء كاملًا، فإنها لا تظهر ثانية بحال من الأحوال، ذلك بأن حلقة التواصل الجيلي تكون قد فُصِمَت.

نستطيع أنْ نفهم كيف أنَّ الصور الغالبة التي تنتشر انتشارًا واسعًا، والتي تعقب أكثر عدد من الضروب، تمضي في استعمار الأرض بأنسالها المتكيِّفة ذوات اللُّحمة بها، فتنجح في إزاحة العشائر التي هي أقصر منها باعًا في معرفة البقاء، ومن ثمة، وبعد فترات طويلة من الزمان، يظهر لنا خطأ أن جميع الأحياء قد تغيرت متزامنة؛ أي في وقت واحد.

وكذلك نستطيع أن نفْقَه: كيف يتأتى أن كل صور الحياة قديمة وحديثة، تؤلِّف قليلًا من المراتب الكبرى، وأن الصورة كلما كانت أقدم، أصبحت بوجه عام أنزع إلى التغايُر من الصور الحية، خضوعًا لجنوحها المتواصل إلى الانحراف الوصفي، ولماذا يغلب أن تجنح الصور القديمة والصور المنقرضة إلى سَدِّ فجوات تقع بين الصور الحية، فتوجد في بعض الأحيان بين عشيرتين اعتُبرتا من قبل مُستقِلتين، كما أنها في أحيان أخرى تقارب بينهما بعض الشيء. وكلما كانت الصورة أقدم، غلب أن تتوسط — إلى درجة ما — بين عشائر هي الآن مستقلة، ذلك بأن الصورة كلما كانت أقدم، كانت أكثر اقترابًا ومشابهة من السلف العام للعشائر التي انحرفت صفاتها انحرافًا كبيرًا، والصور المنقرضة قلما تتوسط بين الصور الحية، بل إنها تتوسط فقط بطريقة التفافية طويلة من ناحية اتصالها بصور كثيرة منقرضة، وفي مستطاعنا أن نرى بوضوح: لماذا تتقارب البقايا العضوية في التكوينات المتقاربة التعاقب، ذلك بأنها تتصل اتصالًا وثيقًا بالتولُّد بعضها من بعض، وكذلك يسهل علينا أن ندرك السبب في أن البقايا الكائنة في تكوين متوسط، تكون توسطية في صفاتها.

إنَّ سكان الأرض على تعاقب الأدوار الزمانية في جميع تاريخها قد هزمت أسلافها في التسابق على البقاء، وإنها لذلك كانت أرقى منزلة في سُلَّم الطبيعة، كما أصبح تركيبها — العضوي بوجه عام — أكثر تخصصًا. وقد يكون هذا سببًا فيما يعتقد به علماء الأحافير من أنَّ النظام العضوي برُمَّته قد أمعن في الارتقاء والتطور، والحيوانات المنقرضة وكذلك الحيوانات القديمة، تُشابِه — إلى درجة ما — أجنة الحيوانات الأكثر حداثة والتابعة لمراتب واحدة، وإنَّ هذه الحقيقة الباهرة يمكن أنْ تفسر ببساطة وفقًا لمذهبي. كذلك نرى أنَّ تعاقب الطرز التركيبية الواحدة في باحات بذاتها في أثناء العصور الجيولوجية المتأخرة، تفقد كثيرًا مما يكتنفها من غموض، إذ يمكن تعليلها استنادًا إلى سُنَّة الوراثة.

فإذا كان السجل الجيولوجي على ما يُرى فيه من نقص وبُعْد عن الكمال، بالإضافة إلى يقيننا بأن لا دليل على أنَّ هذا السجل سوف يصبح أكمل مما هو، فإن المعترضات الجوهرية التي قامت على سُنة الانتخاب الطبيعي تتهافت كثيرًا أو هي تختفي جملة، ونلمس — من ناحية أخرى — أنَّ قواعد علم الأحافير الأساسية، توحي إلينا بفصيح العبارة، كما أرى، بأن الأنواع قد تولَّدت بطريقة التواصل الجيلي؛ أي إنَّ الصور القديمة تقتلعها صور أخرى من صور الحياة أكثر جدة وأمعن ارتقاء، نشَّأها التحوُّل وبقاء الأصلح.

١  Braun.
٢  Tertiary Beds.
٣  Falconer.
٤  Himalaya.
٥  Silurian Luigula.
٦  Silurian Molluses.
٧  Crustaceans.
٨  Colonies.
٩  Coleoptera.
١٠  Paloeozoic Period.
١١  Aurmonites.
١٢  Mastodon.
١٣  Megatherium.
١٤  Toxodon.
١٥  Mastodon.
١٦  Dinausaurians، والمفرد: الدنصور.
١٧  Trigona.
١٨  Ganoid.
١٩  Trilobites.
٢٠  Megatherium.
٢١  Mylodon.
٢٢  Macrauchenia.
٢٣  Toxodon.
٢٤  Mastodon.
٢٥  Pleistocene Period.
٢٦  Pliocene.
٢٧  Subsidence.
٢٨  Eocene Period.
٢٩  Generalised Form.
٣٠  Prophetic or synthetic Forms.
٣١  Ruminants.
٣٢  Pachyderms.
٣٣  Macrauchenia.
٣٤  Hipparion.
٣٥  Typotherium.
٣٦  Sirenia.
٣٧  Dugong.
٣٨  Lamentin.
٣٩  Halitherium.
٤٠  Acetabulum.
٤١  Cetacea.
٤٢  zenglodon.
٤٣  Squalodon.
٤٤  Archaeopteryx.
٤٥  Compsognat hus.
٤٦  Dinausorians.
٤٧  Palaeozoic.
٤٨  Lepidosiren.
٤٩  Batrachians.
٥٠  Cephalopoda: رأسية الأرجل، ذوات القوائم الرأسيَّة.
٥١  Eocene.
٥٢  Geological Formations.
٥٣  Order.
٥٤  Silurian Forms.
٥٥  Class.
٥٦  Rumirants.
٥٧  Pochyderms.
٥٨  Formations.
٥٩  Devonian Systems.
٦٠  Carboirferous Systems.
٦١  Silurian Systems.
٦٢  جمع مستودون Mastodon.
٦٣  Pleistocene.
٦٤  Representative Species.
٦٥  Eocene.
٦٦  Secondary Period.
٦٧  Paloeozoic.
٦٨  Brachiopod أي ذراعية الأرجل.
٦٩  Foraminifera.
٧٠  Laurentian Epoch.
٧١  Protozoa.
٧٢  Sharks.
٧٣  teleosteans.
٧٤  Ganoids.
٧٥  Selaceans.
٧٦  Cuttle-fish.
٧٧  Crustaceans.
٧٨  Cephalopods.
٧٩  Molluses.
٨٠  Invertabrata.
٨١  Molluscoidal Animals.
٨٢  Marsupials.
٨٣  Tertiary.
٨٤  Edentata.
٨٥  Megatherium.
٨٦  Sloth.
٨٧  Armadillo.
٨٨  Ant-eater.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤