الفصل الثالث عشر

التوزيع الجغرافي

توزع آهلات الماء العذب – قطان الجزر البحرية – فقدان المقعدات والثدييات البرية – العلاقة بين قطان الجزر وقطان أقرب أرض قارة – الاستعمار من أقرب مورد وحدوث تكيفات لاحقة – ملخص هذا الفصل والفصل السابق.

***

(١) آهلات الماء العذب

لما كانت البحيرات ومجموعات الأنهار منفصلة بعضها عن بعض بعوائق من الأرض، فقد يتفق أن يكون قد تبادر إلى البعض أن آهلات الماء العذب، لم يكن من الميسور أن تنتشر وتذيع ذيوعًا كبيرًا في حدود باحة بعينها، وأن البحر إذ هو عائق أعسر من الأرض، قد صدها أن تذيع في بقاع نائية، غير أن الواقع من الأمر مخالف لذلك الظن كل المخالفة، فلم يقتصر الأمر على أن أنواعًا من آهلات الماء العذب تابعة لطوائف مختلفة، يكون لها انتشار واسع، بل إن أنواعًا متآصرة تذيع في جميع أنحاء الدنيا على صورة جد رائعة، فقد أذكر عندما بدأت أجمع أحياء الماء العذب في البرازيل، أني أخذت بكثير من الحيرة والعجب، تلقاء مشابهة حشرات الماء العذب وأصدافه، وعدم مشابهة الأحياء الأرضية في الأنحاء المجاورة، عند مقابلة ذلك كله، بتلك التي تعيش في بريطانيا.

غير أن قدرة الانتشار التي تختص بها آهلات الماء العذب، يمكن تعليلها، في كثير من الأحوال، بأنها أصبحت صالحة — على نمط كبير الفائدة لها — لأن تهاجر هجرات قصار متواليات من بركة إلى بركة، أو من غدير إلى غدير، في نطاق باحات انتشارها. أما التأهل للانتشار الواسع، فيأتي تعقيبًا على حيازة هذه القدرة، ونتيجة ضرورية لها. وسأقتصر على ذكر بعض حالات قليلة، من أعقدها وأصعبها تعليلًا حالة الأسماك، فقد ظُن من قبل أن أنواعًا بذاتها من آهلات الماء العذب، لم توجد أبدًا في قارتين متقاصيتين، غير أن دكتور «جونتر» قد أوضح أخيرًا أن «اللَّابِن الوهِين»،١ يستوطن طسمانية ونيوزيلندة، وجزر فوكلند والأرض القارة من أمريكا الجنوبية، وهذه حالة تدعو إلى العجب، وقد تشير في الغالب إلى بدء الانتشار من مركز في منطقة الجمد الجنوبي في أثناء عصر دفيء سابق. وهذه الحالة على غرابتها، تبزها غرابة حقيقة أخرى، محصلها أن أنواع هذا الجنس لها القدرة على اختراق باحات واسعة من المحيط بوسائل غير مستبانة، فنقع على نوع خاص بزيلندة الجديدة وبجزر فوكلند، والفاصل بينهما باحة مداها ٢٣٠ ميلًا، وأسماك الماء العذب في قارة بذاتها تذيع ذيوعًا واسعًا، كما لو كان ذلك متعمدًا، ففي مجموعتين نهريتين متصلتين، قد يتفق أن تتماثل بعض الأنواع، ويتباين البعض الآخر.
لا يبعد أن تكون قد انتقلت مصادفة بما نسميه «الوسائل الاتفاقية» أو «العرضية» من ذلك أن أسماكًا حية، لا يندر مطلقًا أن يلقي بها إعصار مائي في أماكن بعيدة، كما أنه من المعروف أن البييضات٢ قد تحتفظ بحيويتها زمنًا طويلًا بعد أن تنتشل من الماء. وإذن قد يمكن أن يُعزى انتشارها أصلًا إلى تغيرات في مستوى الأرض، وقعت في العصر الحديث، كان من أثرها أن يندفق ماء بعض الأنهر في بعض، وكذلك يمكن أن نأتي بأمثال ترينا أن مثل ذلك قد وقع في أثناء الفيضانات، من غير أن يصيب مستوى الأرض أي تغير، والاختلاف الكبير الواقع بين الأسماك في جانبين متناظرين من سلسلتي جبال متصلتين غير منفصمتين، ومن شأنهما أن تكونا قد حالتا تبعًا لذلك حيلولة تامة بين تقادم مجموعة الأنهار عند الجانبين، قد تؤدي إلى هذه النتيجة نفسها، وبعض أسماك الماء العذب تنتمي إلى صور قديمة جدًّا، وبذلك يكون تطاول الزمن قد هيأ لحدوث تغيرات جغرافية عظمى، ومن ثمة تكون الوسيلة والزمن، قد مهَّد كلاهما لحدوث كثير من الهجرات، ولقد اضطر دكتور «جونتر»٣ منذ عهد قريب — مراعيًا كثيرًا من الاعتبارات الهامة — إلى القول — فيما يتعلق بالأسماك — بأن صورًا بذاتها قد يمتد بقاؤها طويلًا، وأسماك الماء الملح من الممكن بشيء من العناية والتمرس البطيء أن تعتاد العيش في الماء العذب. ويذهب «فالنسيين»٤ إلى أنه قلما توجد عشيرة واحدة كل أعضائها قد اقتصرت في العيش على محيط الماء العذب، ومن ثمة فإن نوعًا بحريًّا تابعًا لعشيرة من عشائر الماء العذب، قد يتفق أن يسافر مسافات طويلة على شواطئ البحار، ومن المحتمل أن يكون قادرًا على أن يتهيأ بغير صعوبة كبيرة للعيش في الماء العذب في أرض نائية.
إن بعض أنواع من أصداف الماء العذب لها انتشار واسع جهد المستطاع، وأنواعًا متآصرة، هي بمقتضى نظريتي، ينبغي لها أن تكون منحدرة من أصل واحد، وتنشأت في منبع واحد، يذيع انتشارها في جميع أنحاء العالم. على أن هذا التوزع الكبير قد أوقعني في حيرة أول الأمر؛ لأن بييضاتها لا يتوقع أن تنقلها الطيور، كما أن البييضات — وكذلك الأفراد البالغة — يقتلها ماء البحر قتلًا سريعًا، ولم أستطع أن أفقه، كيف أن بعض الأنواع المستوطنة قد انتشرت سراعًا في حدود باحة بعينها. غير أن حقيقتين وقعتُ عليهما — وإن كثيرًا من الحقائق سوف تُستكشف ولا ريب — قد أنارتا سبيلي إزاء هذا الموضوع، فقد لَحظتُ أن البط عندما يطفو من الغمر مثقلًا بحشيشة «غزل الماء»،٥ أن هذه النباتات تكون لاصقة بظهورها، رأيت ذلك مرتين. ولقد حدث أنني عندما نقلت بعضًا من «غزل الماء» من ممأى (حوض مائي)٦ إلى آخر، لم أتخيَّل أني على غير انتباه، قد أفعمت أحدهما بأصداف الماء العذب، نقلتها إليه من الحوض الآخر. غير أن عاملًا آخر قد يكون أبلغ أثرًا من هذا، فقد علقت قدم بطة في ممأى كان فيه كثير من بييضات أصداف الماء العذب، قد أخذت تنقف،٧ وعندئذٍ وجدت أن عددًا وفيرًا من الأصداف البالغة الصغر الحديثة النقف، قد عقلت بها متشبثة، بحيث إنها عندما أُخرجت من الماء لم يمكن فصلها عما تشبثت به، في حين أنها في دور متأخر من العمر، تنفصل ذاتيًّا. وهذه «الرخويات»٨ الحديثة النقف، بالرغم من أنها مائية بطبعها، قد عاشت على قدم البطة في هواء رطب زمنًا تراوح بين اثنتي عشرة وعشرين ساعة، وفي مثل هذه الفترة يمكن لبطة أو بلشون٩ أن يقطع ما لا يقل عن ستمائة أو سبعمائة ميل، وأنه إذا ما عصفت به الريح عبر البحر إلى جزيرة محيطية أو غيرها من البقاع القصية، فلا شك في أنها تحط في بركة أو غدير. وقد أخبرني «سير شارس لايل» أنه عثر على «دوطق»١٠ عالق به «أنقول»١١ (وهو محارة من محار الماء العذب تقرب من البطلينوس)١٢ متشبثًا به، وخنفساء مائية من الفصيلة نفسها Colymbetes قد سقطت طائرة على ظهر «البيجل»١٣ مرة، والسفينة على بُعد خمسة وأربعين ميلًا من البر، وما من أحدٍ يمكنه أن يتكهن إلى أي بُعد كان من الممكن أن تعصف بها ريح هوجاء.
من حيث النبات، عرف الناس منذ زمان بعيد إلى أي حدٍّ من السعة الكبيرة بلغ انتشار كثير من نباتات الماء العذب، بل من نباتات الأحراش والأجمات سواء في القارات أو في أقصى الجزر الأوقيانوسية، يظهر ذلك بوضوح — كما يقول «ألفونس دي كاندول» — في تلك العشائر الكبرى من النباتات البرية، التي يقل عدد أقربائها المائيات قلة ملحوظة، ذلك بأنه من الظاهر أن الأخارَى تكتسب انتشارًا واسعًا، كأنما لذلك علاقة بقلة عدد أقربائها المائيات، وعندي أن الوسائل المواتية للتوزع قد تفصح عن هذه الحقيقة، فقد سبق أن ذكرت أن الثرى قد يتعلق بأقدام الطيور ومناقيرها، والطيور الخواضة١٤ التي تغشى حوافي البرك الموحلة، إذا ما أُثيرت فجأة، فإنها تكون موحلة الأقدام في العادة. والطيور التي هي من هذه المرتبة أكثر تطوافًا من جميع ما عداها من مراتب الطير، وكثيرًا ما توجد في أبعد الجزر وأشدها جدبًا في عرض المحيط. ومما هو بعيد الاحتمال أن تخلد إلى سطح البحر، فأي وحل لاصق بأقدامها يظل ثابتًا عليها، فإذا ما بلغت الأرض، فمن المؤكد أنها تتابع الطيران إلى مآويها الطبيعية؛ أي برك الماء العذب. ولست أعتقد أن النباتيين على بصيرة بمقدار ما يحوي ماء البرك من البذور. ولقد أجريتُ بضع تجارب صغيرة في هذا الشأن، أقتصر الآن على ذكر الحالات ذات الشأن منها. في شهر فبراير أخذت ملء ثلاث ملاعق من الطين من ثلاثة أماكن متفرقة، واخترت أن آخذها من تحت الماء عند حافة بركة صغيرة، وعندما جفَّ هذا الطين لم يزن أكثر من أوقيات، واحتفظت بها مغطاة في مكتبي ستة أشهر كوامل، منتزعًا منه كل نبات ينبت فيه وقيدته لحصر العدد، فكانت النباتات من صنوف مختلفة، كما بلغت عدتها ٥٣٧ نباتًا. هذا مع أن هذا الطين اللازب كان موضوعًا في طبق صغير من أطباق المائدة، وبالتأمل من هذه الحقائق أرى أنه مما يعسر تفسيره ألَّا تنقل الطيور المائية بذور نباتات الماء العذب إلى برك وغدران بكر، قصية المكان بعيدة الموضع، على أن هذا العامل نفسه قد يمكن أن يكون ذا أثر في نقل بويضات بعض من حيوان الماء العذب الصغير الحجم.
هنالك عوامل أخرى مجهولة قد تأخذ بضلع في هذا الشأن، ولقد ذكرت من قبل أنَّ بعض أسماك الماء العذب تأكل بعض صنوف من البذور، ولو أنها تلفظ صنوفًا أخرى كثيرة بعد أن تبتلعها. دَعْ عنك أن أسماكًا صغارًا قد تبتلع بذورًا متوسطة الحجم، كبذور زنابق الماء١٥ (النيلوفر) وآلف النهر١٦ (وعلميًّا: الناهور)، والبلاشين١٧ وغيرها من الطيور، قد استمرت قرنًا بعد قرن، تغتذي بالأسماك، ثم هي تطير لتنزل في مياه أخرى، أو ربما يكتسحها الهواء عبر البحر، كما مر بنا أن البذور يمكن أن تحتفظ بقدرتها على الإنبات بعد أن تُنبذ ساعات طوالًا في صورة قريصات أو في المفرزات، وعندما اطلعت على بذور زنابق الماء (اللمبيوم)١٨ وكبر حجمها، وتذكرت ما لاحظ «ألفونس دي كاندول» في توزيع بذور هذا النبات، خُيل إليَّ أن طريقة انتشارها لا محالة ستظل لغزًا غير مستبين، لولا ما قرر «أوديبون» من أنه قد عثر على بذور «زنابق الماء الجنوبي»١٩ (ربما كان من نوع «اللمبيوم الأصيقر»٢٠ على قول هوكر) في معدة بلشون. والغالب أن هذا الطير يكون قد تنقل بين برك متباعدة، ومعدته مفعمة بهذه البذور، ثم فاز بوجبة ضخمة من السمك، مما يحملني على الاعتقاد، بأنه قد مجَّ البذور جملة، وهي في حالة استعداد كامل لإنبات.
إذا تدبرنا هذه الوسائل التوزيعية، فعلينا أن نتذكر أنه عندما يتكون غدير أو بركة أول مرة في جزيرة برزت بالتشامخ فوق الماء، فإنها تكون غير مأهولة، وبذرة واحدة أو بيضة مفردة يكون لها إذ ذاك أكبر فرصة في النجاح، وبالرغم من أنه لا بد من وجود وجه من التناحر على الحياة بين أهال بركة بعينها مهما قلت صنوفهم، فإن عددها وإن يكن صغيرًا بالقياس إلى عدد الأنواع التي تأهل بباحة مساوية لها من اليابسة، فإن التناحر بينها ربما يكون أقل قسوة منه بين الأنواع الأرضية، ومن ثمة كان أي دخيل من مياه باحة أجنبية، يتهيأ بفرصة تمكنه من احتلال مركزه، لا يفوز بمثله دخيل أرضي، كذلك علينا أن نتذكر أن كثيرًا من أهال الماء العذب هم أقل ارتقاء في سلم الأحياء، كما أنه لا يعوزنا السبب لأن نعتقد أن مثل هذه الأحياء تتكيف بصورة أبطأ من الأحياء الأكثر رقيًّا، وأن ذلك يتيح لها من الوقت ما يسمح بهجرة أنواع مائية. كذلك ليس لنا أن نغفل عن احتمالية أن كثيرًا من صور الماء العذب قد ذاعت من قبلُ وباستمرار، في باحات فسيحة مترامية الجنبات، ثم من بعد ذلك في بقاع وسطية،٢١ غير أن سعة ذيوع نباتات الماء العذب والحيوانات الدنيا، سواء احتفظت بنفس الصورة، أو كانت قد تكيفت بدرجة ما، فإنه يتوقف في الظاهر أساسيًّا على سعة انتشار بذورها وبيضها بوساطة الحيوان، وبخاصة بوساطة الطيور المائية، بما لها من قدرة فائقة على الطيران، وطبيعة تنقلها من موطن مائي إلى موطن آخر.

(٢) قطَّان الجزر البحرية

نتكلم الآن في المدرج الثالث والأخير من جملة الحقائق التي اخترتها لتكون شاهدًا على أنَّ أنكى المصاعب التي تواجهنا في مباحث التوزيع الجغرافي، قائمة على أن أفراد النوع الواحد لم تهاجر من باحة معينة محدودة، بل إن الأنواع المتآصرة، ولو أنها تقطن الآن بقاعًا متباعدة، فإنها بدأت الهجرة من باحة واحدة — أي من منشأ أصولها الباكرة — ولقد أبديت من قبلُ براهيني التي أقمتها على شكي في تواصلية القارات في خلال الزمن الذي استغرقته أعمار الأنواع الحالية، وعلى نطاق واسع، بحيث إن كثيرًا من الجزائر الكائنة في البحار المختلفة، كانت قد أهلت بقطانها البريين المقيمين بها، إن هذا الرأي يزيح عنا كثيرًا من الصعاب، غير أنه لا يتفق مع جميع الحقائق المتعلقة بأهال الجزائر. وفي الإشارات التالية سوف لا أقتصر في الكلام على مجرد التوزع والانتشار، بل أتدبر حالات أخرى تتعلق بنظريتَي الخلق المستقل، والتطور عن طريق التكيف.

إن الأنواع التي تقطن الجزائر الأوقيانوسية على اختلاف صورها تكون قليلة العدد مقيسة بتلك التي تقطن باحات قارية لها ذات المساحة. ولقد أيد «ألفونس دي كاندول» هذا القول من حيث النبات، كما أيده «وولاستون» من حيث الحشرات. ونوزيلندة مثلًا، وهي تمتد أكثر من ٧٨٠ ميلًا على خطوط الطول، مع غيرها مثل جزائر «أوكلندة» و«كمبل» و«شاتام»، لا تحتوي في مجموعها على غير ٩٦٠ صنفًا من النباتات المزهرة، فإذا قسنا هذا العدد المعتدل بالأنواع التي تكتظ في مساحات مساوية لها في جنوب غربي أستراليا، أو رأس الرجاء الصالح، فلا مفر لنا من أن نسلم أن سببًا ما، بعيدًا عن اختلاف الحالات الطبيعية، قد ساق إلى هذا الفارق الكبير في عدد الأنواع. وفي «كونتيه كمبردج» على تناسق ظروفها الطبيعية، ٨٤٧ نباتًا، في حين أن جزيرة «أنجلسي» الصغيرة بها ٧٦٤، ولا يدخل في هذا غير قليل من السراخس٢٢ وبعض نباتات ودخيلة. كما أن الموازنة في بعض الاعتبارات غير صريحة تمامًا، ولدينا شواهد على أن جزيرة «أسنشون» الجرداء، لم يتأصل بها غير أقل من ستة أنواع من النباتات الزهرية، ومع ذلك فإن كثيرًا من الأنواع قد توطن بها، كما توطنت في «نوزيلندة» وفي كل الجزائر الأوقيانوسية الأخرى التي يمكن أن نذكرها. ولدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأن النباتات والحيوانات التي توطنت في جزيرة «القديسة هيلانة» قد أفنت أو كادت تُفني كثيرًا من الآهلات الأصلية. أما مَن يسلِّم بنظرية الخلق المستقل لكل نوع من الأنواع، فعليه أن يسلِّم كذلك أن عددًا كافيًا من النباتات والحيوانات الأكثر تهيؤًا، لم تكن قد خُلقت لتستقر في جزر «أوقيانوسية»، ذلك بأن الإنسان — على غير وعي منه — قد شحنها بالأحياء وبصورة أتم وأكمل مما فعلت الطبيعة.

وبالرغم من أنَّ الأنواع في الجزر «الأوقيانوسية» قليلة العدد، فإن نسبة الصنوف الأهلية الأصلية — أي تلك التي لا توجد في بقعة أخرى من العالم — غالبًا ما تكون بالغة حد الكثرة. فإذا قابلنا مثلًا عدد المحار الأهلي في ماديرة أو الطيور الأهلية في أرخبيل «جلاباجوس» بعدد الطيور الأهلية الموجودة في أية قارة من القارات، ثم قابلنا مساحة الجزيرة بمساحة القارة، ظهرت لنا صحة ذلك. وهذه الحقيقة قد يمكن أن تتوقع نظريًّا؛ إذ إنه طوعًا لما بينا من أن الأنواع التي تفد اتفاقًا بعد مضي فترات طويلة من الزمن في باحة جديدة منعزلة مهجورة، وإذ تضطر إلى منافسة مهاجرين جدد، لا بدَّ من أن تكون عرضة للتكيف إلى درجة كبيرة، وأن تخلف عشائر من الأنسال المكيفة. ولكن مما لا يُحتمل حدوثه، بسبب أي كل الأنواع التابعة لطائفة واحدة في جزيرة ما تكون ذات خصوصية معينة، أن تكون أنواع طائفة أخرى أو جزءًا من أنواع طائفة، ذات خصوصية معينة أيضًا. على أن هذا الفرق إنما يرجع في ظاهره إلى أن الأنواع التي لم تتكيف تكون قد هاجرت جملة، فلم تتأثر علاقاتها المتبادلة تأثرًا كبيرًا من ناحية، أو يرجع إلى وفود مهاجرين لم يتكيفوا بصورة مستمرة من باحات أصلية، وكانت قد تهاجنت مع الصور الجزرية من ناحية أخرى، ويجب علينا أن نعي أنَّ الأنسال الناتجة عن مثل هذا التهاجن، قد تحدِث من الأثر ما لم يُتوقع من قبلُ، وسآتي على بعض الأمثال التي تبين ذلك … ففي جزر «جلاباجوس» ٢٦ طيرًا بريًّا، ومن هذه ٢١ (أو ربما ٢٣) تختص بها الجزر، في حين أن نحوًا من ١١ طيرًا بحريًّا، ولا يوجد غير اثنين متأصلين بها، ومن الواضح أن الطيور البحرية من الميسور لها أن تصل إلى هذه الجزر، على العكس من الطيور البرية، ونجد أن جزيرة «برمودة» من ناحية أخرى، وهي تقع من شمالي أمريكا على نفس البعد الذي تقع عليه جزر «جلاباجوس» من جنوبي أمريكا، وثراها ذو خِصِّيات معينة، ليس بها نوع واحد أصلي من طير البر. وكذلك نعرف من مقالة «مستر جونس» الفريدة عن جزيرة «برمودة» أن كثيرًا جدًّا من طيور أمريكا الشمالية، قد وفد اتفاقًا أو عمدًا إلى هذه الجزيرة، وفي كل سنة على وجه التقريب — على ما أخبرني «مستر هركورت» — تنقل العواصف كثيرًا من الطيور الأوروبية والأفريقية إلى جزيرة «ماديرة». ويقطن في هذه الجزيرة ٩٩ صنفًا، ليس منها غير واحد خصيص بها، ولو أنه قريب الآصرة بصورة من الصور الأوروبية، في حين أن ثلاثة أنواع أو أربعة يقتصر موطنها على هذه الجزيرة وعلى جزر الكنار. ومن هنا كانت جزيرة «برمودة» و«ماديرة»، قد استوطنهما طيور وافدة عليهما من القارتين المجاورتين، ظلت تتناحر هنالك خلال أجيال مديدة، حتى أصبح بين بعضها وبعض ضرب من التهايؤ الخاص، ومن هنا فإنها عندما استقرت في موطنها الجديد، قد ظل كل منها بفعل الآخرين ملتزمًا مكانًا خاصًّا وعادات خاصة، ومن ثمة كانت أقل نزعة إلى التكيف والتطور، فإن كل ميل نحو التكيف لا بد من أن يكون قد غله وقيده وقوع التهاجن مع مهاجرين لم يتكيفوا، ينزحون من الباحة الأم. وفي جزيرة «ماديرة» عدد مذهل من الأصداف البرية، بينما لا يعيش في شواطئها نوع واحد من الأصداف البحرية خاص بها، أما ونحن على جهل بالكيفية التي تتوزع بها الأصداف البحرية، فإننا مع ذلك نرى أن بييضاتها ويرقاتها قد تعلق بعشب بحري أو بقطع الخشب الطافية، أو بأرجل بعض الطيور الخواضة، مما يمكنها أن تنتقل مسافة ثلاثمائة أو أربعمائة ميل في عرض البحر بأسهل مما تنتقل الأصداف البرية، أما مراتب الحشرات المختلفة التي تستوطن جزيرة «ماديرة»، فإنها تزودنا بحالات تشابه ما ذكرنا.

قد يتفق في بعض الأحيان أن تكون الجزر الأوقيانوسية قليلة الآهلات الحيوانية من طوائف معينة برمتها، وأن تحتل أماكنها طوائف أخرى، مثل ذلك الزواحف٢٣ في جزر «جلاباجوس»، والطيور اللاجناحية٢٤ الكبيرة في نوزيلندة، تلك التي مضت تحتل أو هي احتلت في العصر الحديث مراكز الثدييات.٢٥

وبالرغم من أننا نتكلم في نوزيلندة باعتبارها جزيرة أوقيانوسة، فمما هو مشكوك فيه بعض الشك أن تكون جديرة بأن تُوضع هذا الوضع، فإنها كبيرة الحجم ولا يفصلها عن أستراليا بحار عميقة الغور. ولقد قضى المحترم «و. ب. كلارك» مستندًا إلى خِصِّياتها الجيولوجية، واتجاه سلاسل جبالها، بأن هذه الجزيرة، وكذلك «نيوكاليدونية»، يجب أن تعتبر امتدادًا لأستراليا، فإذا رجعنا إلى النباتات ألفينا أن دكتور «هوكر» قد أظهر أن الأعداد النسبية للمراتب المختلفة في جزر «جلاباجوس» تختلف كل الاختلاف عما هي في بقاع أخرى وجميع هذه الفروق العددية، وفقدان عشائر معينة برمتها من الحيوان والنبات، إنما تُعزى في العادة إلى ما يفرض وجوده من اختلافات جمة في الحالات الطبيعية الخاصة بهذه الجزر. غير أن هذا التفسير قد يداخله قليل من الشك، فقد يظهر أن سهولة الهجرة كان لها من الأثر مثل ما للظروف الطبيعية

هنالك جملة من الحقائق الجزئية الهامة تتعلق بقطان الجزائر الأوقيانوسية، ففي بعض الجزر التي لا تأهل بشيء من الثدييات مثلًا، توجد نباتات أهلية بذورها مكلبة بصورة جميلة، في حين أنه ما من علاقات حيوية هي أبين من تلك الكلاليب صلةً بنقل البذور عالقة بصوف ذوات الأربع أو وبرها. غير أن بذرة مكلبة من الجائز أن تُنقل إلى جزيرة ما بطريقة أخرى، والنبات إذا ما تكيف، فقد يولف نوعًا أهليًّا، ويظل محتفظًا بكلاليبه، فتكون بمثابة زوائد لا فائدة منها، شأنها شأن تلك الأجنحة المنكمشة من تحت الأغطية الملتحمة في أجنحة كثير من الحشرات الجزرية. ثم إن الجزائر غالبًا ما تحتوي على أشجار وشجيرات تنتمي إلى طوائف لا ينطوي تحتها غير أنواع عشبية، والأشجار — كما أثبت «دي كاندول» — محدودة الذيوع، ومن ثمة فاحتمال أن تصل الأشجار إلى الجزائر الأوقيانوسية النائية، احتمال ضئيل. أما نبات عشبي لا فرصة له في منافسة أشجار بالغة النماء في قارة ما، فقد يتفق إذا ما استقر في جزيرة أن يؤتى فرصة جديدة على غيره من الأعشاب بأن يطول، ثم يطول حتى يستشرف غيره، وفي هذه الحال ينزع الانتخاب الطبيعي إلى الاستزادة في طول النبات، مهما تكن الطائفة التي يتبعها، وبذلك يتحول شُجيرة ثم يصير شجرة.

(٣) فقدان المقعدات٢٦ والثدييات الأرضية في الجزائر الأوقيانوسية

من حيث فقدان رتب برمتها من الحيوان في الجزر الأوقيانوسية، لاحظ «بوري سنت فنسنت» منذ زمن طويل مضى، أن المقعدات (الضفادع٢٧ والتوائد٢٨ والنواويت)٢٩ لا وجود لها البتة في كثير من الجزر الكثيرة التي تفعم الأوقيانوسات. ولقد أجهدت نفسي في تحقيق هذا القول، فظهرت لي صحته باستثناء جزر «نوزيلندة» و«نوكاليدونية» و«أندمان»، وربما جزر «سولومون» و«سيشيل» أيضًا. غير أنني أبديت من قبلُ شكي في صحة اعتبار «نوزيلندة» و«نوكاليدونية» جزرًا أوقيانوسية. وإن هذا الاعتبار لأدخل في الشك فيما يتعلق بجزر «أندمان وسولومون وسيشيل»، وفقدان الضفادع والتوائد والنواويت فقدانًا عامًّا شاملًا في كثير من الجزر الأوقيانوسية الحقيقية، لا يمكن أن يُعزى إلى حالاتها الطبيعية. والحق — كما هو ظاهر — أن الجزر فيها صلاحية خاصة لاستيطان هذه الحيوانات، فإن الضفادع أُدخلت إلى «ماديرة» وجزر «أزورس» و«موريتيوس»، وتكاثرت حتى أصبحت من المنغصات، غير أن هذه الحيوانات وبيضها سرعان ما يقتلها التعرض لماء البحر — ما عدا نوع هندي واحد على ما وصل إلى علمي — فيكون من أصعب الأمور انتقالها عبر البحر، ومن ثمة نعرف لماذا لا توجد في الجزائر الأوقيانوسية، ولكن لماذا لم تُخلق في تلك الجزائر طوعًا لنظرية الخلق، فمن أعسر الأشياء تفسيرًا.
ولنا في الثدييات حالة أشبه بهذه، فلقد نبشتُ بعناية أقدم الرحلات القديمة، فلم أقع على إشارة واحدة لا يداخلها الشك، تشير إلى حيوان ثديي بري (باستثناء الحيوانات الداجنة التي يحتفظ بها الأهلون)، قد استوطن جزيرة تقع على بعد ٣٠٠ ميل من قارة، أو جزيرة قارية، وهنالك جزر تقع على مسافات أقل من هذه، هي خواء أجرد. فجزر «فوكلند» التي تأهل بنوع من الثعالب شبيه بالذئاب، هي أقرب شيء أن تكون استثناء من ذلك، غير أن هذه المجموعة الجزرية أبعد شيء عن أن تعتبر أوقيانوسية، ذلك بأنها تقع على منحدر بحري يتصل بالأرض القارة طوال مسافة لا تقل عن ٢٨٠ ميلًا، وبالإضافة إلى ذلك فإن جبال الثلج كثيرًا ما حملت سِهاء ضالة٣٠ إلى شواطئها الغربية، وربما كانت قد حملت معها ثعالب في سالف الزمن، كما يحدث ذلك كثيرًا في أرجاء منطقة الجمد، ومع هذا فليس من السداد في شيء أنْ يُقال: إنَّ الجزر الصغيرة لا تصلح لأن تؤوي ثدييات صغيرة على الأقل؛ لأنها توجد بالفعل في كثير من بقاع العالم مستوطنة جزرًا صغيرة إذا كانت بمقربة من قارة، وقلما يمكن أن نذكر جزيرة لم يتوطن بها شيء من ذوات الأربع الصغيرة وتكاثرت بها، إما طوعًا لنظرية الخلق المستقل، فيصعب أن يُقال إنه لم يكن هنالك وقت كافٍ لخلق الثدييات، فإن كثيرًا من الجزائر البركانية بالغة القدم، كما يُستدل على ذلك مما يبدو عليها من أثر الانجراد الشديد، وبما بها من طبقات العصر الثالث.٣١ كذلك كان هنالك متسع في الوقت لتنشئة أنواع أهلية من طوائف أخرى.

ومن المعروف أنه في القارات قد تظهر أنواع من الثدييات، كما تختفي أخرى بمعدل من الزمن أسرع مما تظهر أو تختفي به الحيوانات الدنيا، وبالرغم من أن الثدييات البرية لا توجد في الجزر الأوقيانوسية، فإن الثدييات الهوائية توجد في الأكثر الغالب من الجزر. فلكل من جزيرة «نورفولك» وأرخبيل «فيتي» وجزائر «يونين» و«موريتيوس» و«ماريانة»، خفافيشها الخاصة بها. وهنا قد نتساءل: لماذا شاءت قدرة الخلق أن تخلق خفافيش ولا غيرها من الثدييات في هذه الجزر القصية؟ أما بمقتضى نظريتي فإن من السهل الإجابة على هذا السؤال، ذلك بأنه يعسر أن ينتقل حيوان ثديي عبر باحة متسعة من البحر، ولكن الخفافيش في مقدرتها أن تطير إليها، ولقد رأيت الخفافيش طائرة فوق الأطلنطي نهارًا بعيدًا عن البر، ونوعين منها في شمالي أمريكا، يزوران جزر «برمودة» اتفاقًا أو بانتظام، على بعد ٦٠٠ ميل من الأرض القارة. ولقد علمت من «مستر تومس» وهو ممن أكب على درس هذه الفصيلة، أن كثيرًا من أنواعها ذات انتشار كبير، وأنها كما توجد في القارات، هي كذلك توجد في الجزر القصية، وإذن فليس أمامنا إلا أن نفرض أن مثل هذه الأنواع الطوافة قد تكيفت في مواطنها الجديدة بما يناسب مراكزها فيها. ومن ثمة نستطيع أن نفقه السبب في وجود خفافيش أهلية في الجزر الأوقيانوسية، وفقدان ما عداها من الثدييات الأرضية.

هنالك علاقة أخرى ذات بال، كائنة بين عمق البحر الذي يفصل بين جزيرتين بعضهما عن بعض، أو عن أقرب قارة، ودرجة العلاقة الطبيعية بين أهالها من الثدييات.

لمستر «وندسور إيرل» ملاحظات فريدة في هذا الباب، نمَّاها وزاد إليها مستر «ولاس» زيادة كبيرة فيما يتعلق بأرخبيل الملايو العظيم، ذلك الأرخبيل الذي يخترقه بمقربة من جزيرة «سليبيز» باحة عميقة من البحر، تفصل بين مجموعتين من الحيوانات الثديية، كل منها مستقلة عن الأخرى استقلالًا ظاهرًا. فعل كل الجانبين تقوم الجزائر على رصيف منغمر معتدل الغور، وتأهل هذه الجزر إما بذوات أربع معينة، وإما بذوات أربع قريبة الآصرة، ولم يتح لي بعد أن أتتبع هذا الموضوع في جميع أقطار الأرض، غير أن هذه العلاقة، بقدر ما أعلم، صحيحة وافية، فمثلًا نجد أن إنجلترا تنفصل عن أوروبا بممر ضحل، والثدييات واحدة على جانبيه. وعلى هذا نجد الحال في جميع الجزائر الواقعة بمقربة من شواطئ أستراليا. ونجد من ناحية أخرى أن جزر الهند الغربية تستقر على رصيف منغمر بعيد غوره المائي؛ إذ يقرب عمقه من ١٠٠٠ قامة، وهنالك تقع على الصور الأمريكية، ولو أن الأنواع وحتى الأجناس مستقلة تمامًا. ولما كان مقدار التكيف الذي يصيب الحيوان بجميع صنوفه يتوقف جزئيًّا على طول الزمن، ولما كانت الجزائر التي انفصل بعضها عن بعض، أو عن الأرض القارة ببواغير ضحلة، يغلب أن كانت موحدة متواصلة في أثناء عصر حديث، على غير ما كانت الجزائر المنفصلة ببواغير عميقة الغور، فمن هنا نستطيع أن نفقه كيف تقوم العلاقة بين عمق البحر الفاصل بين مجموعتين حيوانيتين من الثدييات، ودرجة تآصرها، وهي علاقة يتعذر تفسيرها بمقتضى نظرية الخلق المستقل.

الأقوال السالفة فيما يتعلق بقطان الجزائر الأوقيانوسية، وتنحصر في قلة الأنواع مع نسبة كبيرة تتألف من صور أهلية — تكيف أعضاء من عشائر معينة، دون العشائر الأخرى التابعة لطائفة بذاتها — فقدان رتب معينة برمتها كالمقعدات والثدييات البرية، بالرغم من وجود الخفافيش الهوائية — النسب المفردة لمراتب من النبات — وتحول الصور العشبية أشجارًا — وغير ذلك، عامة ذا يظهر لي أكثر مطاوعة للاعتقاد بصلاحية وسائل الانتقال والانتشار التي استمر أثرها ردَحًا طويلًا من الزمان، مما هو للاعتقاد باتصال كل الجزائر الأوقيانوسية بأقرب قارة إليها، ذلك بأنه — أخذًا بوجهة النظر الأخيرة — يكون من المحتمل أنَّ الطوائف المختلفة ينبغي لها أنْ تكون قد هاجرت بصورة أكثر اتساقًا، وأن الأنواع وقد نقلت زمرًا كبيرة لا بُدَّ من أنْ تكون قد اضطربت علاقاتها الحيوية، وبذا فهي إمَّا أنْ تكون قد ظلت غير متكيفة، أو أنَّ جميع الأنواع تكون قد تكيفت على وجه أرجح مساواة.

ولست أنكر أنَّ هنالك صعوبات مختلفة متفرقة في فهم الكيفية التي بها استطاع أهال الجزائر القصية، سواء احتفظوا بصورهم النوعية أم تكيفوا فيما بعد، أن يصلوا مواطنهم الحالية. ولكن احتمال أن تكون جزائر أخرى كانت قد وجدت، فاتخذت محطات للاستراحة، ولم يبقَ منها الآن أثر ولا عين، لا ينبغي لنا أن نهمل أمره.

وكل الجزائر الأوقيانوسية تقريبًا، حتى أشدها عزلة وأصغرها حجمًا، قد استوطنتها أصداف برية، وهي في العادة أنواع أهلية أصلية خاصة بها، ولكن لا يندر في بعض الأحوال أن يستوطنها أنواع توجد في بقاع أخرى — تلك الحالة التي أتى «مستر أ. أ. جولد» بأمثال فريدة لها، استمدها من جزر المحيط الهادي.

على أنه من الذائع المعروف أن الأصداف البرية يقتلها ماء البحر بسهولة، كما أن بيضها — وذلك بقدر ما أعرف من تجاربي — يغطس فيه فيموت، ومع هذا فلا بد من أن يوجد سبب ذو أثر فعال، يسهل انتقالها في بعض الظروف، وإن كان غير معروف لدينا، أيمكن لصغارها عند النقف من البيض أن تكون قد التصقت بأرجل الطيور عند أرخامها على الأرض، وبذلك انتقلت؟ ولقد بدا لي أن الأصداف البرية عند الإسبات٣٢ ونشوء حجاب غشائي٣٣ من فوق فوهة الصدفة، قد يمكن أن تنتقل عائمة على قطع من الخشب السابحة مع التيار عبر أزقة بحرية معتدلة السعة. ولقد وجدت أن أنواعًا عديدة قد تقاوم التلف، وهي في تلك الحال إذا انغمرت في ماء البحر سبعة أيام كوامل، من غير أن تُصاب بأي ضرر. وهنالك نوع من الصدف هو «الألكس النهري»٣٤ بعد أن عُولج على الصورة السابقة، ثم أصابه الإسبات، غُمر في ماء البحر عشرين يومًا، فسلِم ولم يتلف، والصدفة في مثل هذه الفترة من الزمن، كان من الممكن أن تنتقل مع تيار متوسط السرعة، مسافة ٦٦٠ ميلًا جغرافيًّا، ولما كان لهذا النوع من «الألكس» صمة كلسية٣٥ فقد أزحتها، وبعد أن نشأ محلها حجاب غشائي، غمرت الصدفة في ماء البحر ١٤ يومًا، خرج بعدها الحيوان سليمًا وأخذ يزحف. ولقد مضى «بارون أو كابيتين» يُجري تجارب شبيهة بهذه منذ ذلك الحين، فوضع ١٠٠ صدفة برية تابعة لعشرة أنواع مختلفة في صندوق به ثقوب، وغمره في ماء البحر أسبوعين، فسلِم منها ٢٧ وتلفت الأخرى، والظاهر أن وجود الصمة كان ذا أهمية؛ لأن من اثني عشر فردًا من «الدونم الرشيق»٣٦ وهو من ذوات الصمم، سلِم أحد عشر، وإنه لمن أعجب الأشياء أن نرى كيف استطاع «الألكس النهري» أن يقاوم في تجربتي ماء البحر؛ إذ إن من ٤٥ فردًا تابعة لأنواع أخرى من «الألكس» جرَّب فيها «أوكابيتين» لم ينجُ فرد واحد. وإذن فمما لا يبعد احتماله أن تكون الأصداف البرية قد انتقلت بهذه الطريقة، أما أقدام الطيور فإنها — ولا شك — وسيلة أقرب احتمالًا.

(٤) العلاقة بين قطان الجزر وقطان أقرب أرض قارة

الحقيقة الرائعة التي تهمنا في هذا البحث، تنحصر في الآصرة بين الأنواع التي تقطن الجزائر وأنواع أقرب أرض قارة إليها، وهي ليست واحدة فعلًا. وفي مستطاعنا الإتيان على أمثال كثيرة، فأرخبيل «جلاباجوس» يقع تحت خط الاستواء، على بعد يتراوح بين ٥٠٠ و٦٠٠ ميل من شواطئ، أمريكا الجنوبية، وفيه نجد أن كل آهل من آهلاته — برية ومائية — له نفس سمات أهل القارة الأمريكية بصورة لا يخطئها النظر، فيه ستة وعشرون من الطيور الأرضية، منها واحد وعشرون أو ثلاثة وعشرون معتبرة أنواعًا مستقلة. ومن الممكن أن يدعي بأنها خُلِقت هنالك، ومع ذلك فإن الآصرة القريبة بين أكثر هذه الطيور والأنواع الأمريكية ظاهرة واضحة في كل خِصِّية من خِصِّياتها، وفي عاداتها وحركاتها ونغمة الصوت، وكذلك الحال مع بقية الحيوان، ومع نسبة كبيرة من النبات، كما أظهر دكتور «هوكر» في كتابه عن المجموعة النباتية للأرخبيل. والمواليدي إذا نظر إلى قطان هذه الجزر البركانية في المحيط الهادي، وهي تبعد بضع مئات من الأميال عن القارة؛ ليشعر أنه يقف على أرض أمريكية، فما هو السبب في ذلك؟ ولماذا يكون للأنواع التي يُفرض أنها خُلِقت في جزر «جلاباجوس» وليس في غيرها نفس الطابع والخِصِّيات التي تكون لتلك التي خُلِقَت في أمريكا؟ وليس في حالات الحياة أو في الصفة الجيولوجية لتلك الجزائر، سواء من ناحية شموخها أو مناخها، ولا في النسب التي تربط طوائفها العديدة في اللحمة، ما يقرب في الشبه من الحالات القائمة في شاطئ أمريكا الجنوبية، وفي الواقع أن هنالك قدرًا من التباين كبيرًا في جميع هذه الاعتبارات.

ونجد من ناحية أخرى أنَّ هنالك درجة كبيرة من المشابهة بين جزر «جلاباجوس» وأرخبيل الرأس الأخضر من حيث طبيعة التربة البركانية والإقليم والارتفاع وسعة الجزر. ولكن ما أشد الاختلاف والتباين بين قطانهما، فإن قطان جزائر الرأس الأخضر تنتمي إلى أهال أفريقيا، كما تنتمي قطان جزائر «جلاباجوس» إلى أهال أمريكا، وإن حقائق مثل هذه لا تقبل أي تفسير بمقتضى الرأي السائد من القول بالخلق المستقل، بينما نجد أنه بمقتضى وجهة النظر التي نبثها هنا، يكون من الظاهر أنَّ جزر «جلاباجوس» قد يمكن أن تستقبل مستعمرين من أمريكا، سواء أتم ذلك بوسائل انتقال اتفاقية عرضية أم — ولو أنني لا أومن بهذا الرأي — بتواصل الأرضين فيما سلف. كما قد يمكن أن تستقبل جزر الرأس الأخضر مستعمرين من أفريقيا، وإن مثل هؤلاء المستعمرين يكونون قابلين للتكيف، في حين أن حقائق الوراثة ما تزال تفصح عن حقيقة مآهلها الأصلية.

وفي مستطاعنا أنْ نأتي على كثير من الحقائق المقيسة بهذه، وفي الحق أنه يكاد يكون في حكم السُّنن المطردة أن قطان الجزائر الأصليين، يمتون بصلة إلى أولئك الذين يقطنون أقرب قارة، أو أقرب جزيرة كبرى، أما الاستثناء من ذلك فقليل، كما أنه من المستطاع تعليله. ومن هنا نرى أن جزيرة «كرجيلن» ولو أنها تقع أقرب إلى أفريقيا منها إلى أمريكا، فإن نباتها يمت إلى نباتات أمريكا، على ما يتضح لنا من مقررات دكتور «هوكر». غير أنه بمقتضى الرأي القائل بأن هذه الجزيرة قد شحنت أصلًا ببذور حملتها أبراج الجليد مع ما حملت من تربة وأحجار، مسيرة بالتيارات السائدة، يمحي هذا الشذوذ. وكذلك «نيوزيلندة»، فإنها من حيث مستواها، أقرب آصرة إلى أستراليا، وهي أقرب أرض قارة لها، منها إلى أي صقع آخر، وهذا ما يتوقعه أي باحث طبيعي، غير أنها مع ذلك أقرب آصرة بجنوبي أمريكا، التي بالرغم من أنها ثاني أقرب أرض قارة منها، فإنها البعد الشاسع عنها، بحيث تظهر هذه الحقيقة بمظهر أنها شاذة من الشواذ.

غير أن هذه الصعوبة قد تقل خطورتها بعض الشيء إذا ما قلنا بأن «نيوزيلندة» وجنوبي أمريكا وغيرهما من الأراضي الجنوبية، قد شُحنت جزئيًّا بالأحياء من بقعة متوسطة ولو أنها قصية، ونعني بها جزر منطقة الجمد الجنوبي عندما كانت مكتسية بزروع في أثناء عصر كان أكثر دفئًا، قبل أن يبدأ الدور الجليدي الأخير. وهنالك حالة أروع من ذلك تجتليها في أن آصرة النسب بين المجموعة النباتية للركن الجنوبي الغربي من أستراليا ورأس الرجاء الصالح، آصرة صحيحة رغم تفاهتها على ما يؤكده دكتور «هوكر»، غير أن هذه الآصرة مقصورة على النباتات، ولا بد من أن تُستوضح حقيقتها يومًا ما.

هذا القانون الذي يعين العلاقة بين قطان الجزر وأقرب أرض قارة منها، قد يكون له في بعض الأحيان دور من التأثير على نطاق أضيق، ولكن على صورة بالغة الأهمية، في حدود أرخبيل بذاته، فكل جزيرة من الجزر المتفرقة في أرخبيل «جلاباجوس» مأهولة بكثير من الأنواع المستقلة، وهي حقيقة بالغة الروعة، غير أن اتصال بعض هذه الأنواع ببعض أدنى كثيرًا من اتصالها بقطان القارة الأمريكية، أو بقطان أي صقع آخر من أصقاع الكرة الأرضية، وهذا ما ينبغي أن يكون قد توقعه الباحثون؛ لأن الجزر المستقرة بمثل هذا القرب بعضها من بعض، لا بد من أن تستقبل مهاجرين يأتونها من نفس المصدر الأصلي، ومن بعضها بعضًا. ولكن كيف نعلل أن كثيرًا من المهاجرين قد تكيفوا بصور مختلفة ولو تكيفًا تافهًا في جزائر كل منها على مرمى النظر من الأخرى، ولها نفس الطبيعة الجيولوجية، ونفس الارتفاع ونفس الإقليم، إلى غير ذلك.

لقد لاحت لي هذه الحالة من المعضلات مدة من الزمن، غير أن هذه المعضلة إنما تقوم في أكثر أمرها من خطأ رسيس ينطوي على اعتبار أن الظروف الطبيعية في باحة ما، هي أهم العوامل، في حين أنه مما لا مشاحة فيه، أن طبيعة الأنواع الأخرى التي يُفرض على كل نوع أن يجابهها منافسًا، لا تقل عن الظروف الطبيعية شأنًا وقيمة، بل إنها بوجه عام عنصر أبلغ أثرًا في إحراز النجاح.

والآن، إذا نظرنا في الأنواع التي تقطن أرخبيل «جلاباجوس»، والتي يوجد لها أشباه في بقاع أخرى من الأرض، فإننا نجد أنها تختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا في حدود كل جزيرة من الجزر. على أن هذه الاختلافات — ولا شك — مما يُتوقع حدوثه لو أن الجزر كانت قد استُعمرت عن طريق الانتقال العرضي الاتفاقي، كأن تكون بذرة نبات قد وفدت على جزيرة منها، وبذرة نبات آخر على جزيرة أخرى، في حين تكون البذرتان صادرتين عن مكان واحد وفدتا منه، ومن ثمة نقول: إنه عندما كان يستقر في الأزمان الأُول مهاجر في إحدى هذه الجزر أو عندما ينتشر من واحدة إلى أخرى، فلا بد من أن يتعرض لحالات مختلفة في الجزر المتفرقة، دع عنك أنه يكون ملزمًا بأن ينافس مجموعة جديدة من العضويات، فنبات ما قد يجد مثلًا أن التربة الأصلح لبقائه قد استعمرها أنواع مختلفة في الجزر المتفرقة، وأنه فوق ذلك محمول على أن يعاني هجمات أعداء تختلف عن أعدائه الأُول بعض الاختلاف، فإذا أخذ في التحول، فإن الانتخاب الطبيعي يعاضد الضروب المتباينة في مختلف الجزر. وقد يتفق أن ينتشر نوع ويذيع، محتفظًا بنفس صفاته الأولى في مجموعة الجزر، على نفس الصورة التي نلحظها في انتشار أنواع في قارة برمتها، ثابتة على ما كانت عليه من صفات.

أمَّا الحالة التي تستوجب حيرتنا لدى النظر في أرخبيل «جلاباجوس» وبدرجة أقل في حالات مشابهة لها، أن كلًّا من الأنواع الجديدة بعد أن يتكون ويستقر في إحدى الجزر، لا ينتشر بسرعة في الجزر الأخرى. غير أن الجزائر برغم أنها بمقربة بعضها من بعض، تنفصل بأزقة عميقة من البحر، وهي في أكثر الأحيان أكثر سعة من بوغاز «دوفر»، وليس هنالك من سبب يحملنا على أن نفرض أنها كانت في أي عصر من العصور السالفة قد اتحدت وتواصلت، في حين أن تيارات البحر سريعة، وتكتنس سطح البحر فيما بين مواقع الجزر، وهبوب العواصف نادر إلى درجة غير عادية، ومن ثمة تكون الجزائر أقل بعضها عن بعض مما تلوح فوق المصورة الجغرافية، ومع ذلك فإن بعض الأنواع، ما يذيع منها في بقاع أخرى من الأرض، وما يقتصر وجوده على الأرخبيل، يذيع في كثير من الجزر، وإنه ليحق لنا من النظر في توزيعها الجغرافي الحاضر، أن نقضي بانتشارها من جزيرة إلى أخرى. غير أني أرى أننا كثيرًا ما نخطئ النظر، فنقول باحتمالية أن تكون أنواع قريبة الآصرة قد غزا بعضها أرض بعض، عندما تتبادل صلاتها تبادلًا طليقًا.

ومما لا شك فيه أنه إذا كان لأي نوع ميزة على غيره، فإنه سوف يستأصله من محله كليًّا أو جزئيًّا في وقت قصير جدًّا، ولكنهما إذا كانا على درجة واحدة من الصلاحية في مستقرهما، فإن من الراجح أن كليهما سوف يحتفظ بمستقره زمانًا مهما يطل. ولما كان المواليديون على علم بأن كثيرًا من الأنواع التي استوطنت بفعل الإنسان، قد ذاعت وانتشرت بسرعة مذهلة في باحات واسعة مترامية، فإننا قد نميل إلى القول بأن أكثر الأنواع في مستطاعها أن تنتشر ذلك الانتشار، ولكن علينا أن نذكر دائمًا الأنواع التي استوطنت بهذه الطريقة في بقاع جديدة، ليست على وجه عام قريبة الآصرة بالآهلات الأصلية، بل هي صورة مختلفة تمامًا، تابعة في أكثر الظروف لأجناس مستقلة، كما أبان عن ذلك «ألفونس كاندول». وقد نرى في خليج جلاباجوس كثيرًا من الأنواع ومنها طيور، بالرغم من أنها مهيأة للطيران تمام التهيؤ من جزيرة إلى أخرى، تختلف في مختلف الجزر، وهنالك ثلاثة أنواع قريبة الآصرة من «الدج الماجن» كل منها يختص بجزيرة بذاتها، ولنفرض الآن أن «الدج الماجن»٣٧ المقيم في جزيرة «شتام» قد رمته العواصف إلى جزيرة «تشارلس» التي يقيم بها نوع آخر من «الدج الماجن»، فأي من الأسباب تجعله يفلح في الاستقرار هنالك؟ لنا أن نقول آمنين العِثار إن جزيرة «تشارلس» قد شُحنت شحنًا تامًّا بنوعها الخاص بها، بدليل أنه يلقى فيها من البيض وينقف عن صغاره أزيد بكثير مما يشب ويكبر منها، كما أنَّ لنا أنْ نقول بنفس الثقة: إنَّ «الدج الماجن» في جزيرة «تشارلس» به من الصلاحية لأحوال موطنه، مثل ما للنوع المقيم في جزيرة «شتام»، ولقد زودني سير «تشارلس لايل» ومستر «وولاستون» بحقائق ذات بال تتعلق بهذا الموضوع، محصلها أنَّ «ماديرة» وجزيرة «بورتو سانتو» القريبة منها، تحتوي على كثير من الأنواع المعيَّنة الرئيسة من الأصداف الأرضيَّة، يعيش بعضها من جنيات الصخور، وبالرغم من أنَّ كمية كبيرة من الصخور تُنقل كل سنة من «بورتو سانتو» إلى «ماديرة»، فإن هذه الجزيرة الأخيرة لم يستعمرها النوع الذي يعيش في «بورتو سانتو»، ومع هذا فإن كلتا الجزيرتين قد استعمرتهما الأصداف البريَّة الأوروبيَّة، التي هي — ولا شك — لها صلاحية أفضل من الأنواع الأهلية، وإزاء هذه الاعتبارات، أرى أن لا حاجة بنا إلى التعجب من أنَّ الأنواع الأهلية التي تقطن الجزر المتفرقة في أرخبيل جلاباجوس، لم تذع وتنتشر من جزيرة إلى أخرى. ومن هنا نرى أنه في القارات الكبرى أيضًا، أنَّ السابق إلى استعمار البقاع، ربما يكون قد خلَّف أثرًا ذا بال في الحيلولة، دون تدامج الأنواع التي تقطن أصقاعًا مختلفة لها على وجه التقريب نفس البيئة والمناخ، فإن الركنين الجنوبي الشرقي والجنوبي الغربي من أستراليا، تسود فيهما حالات طبيعيَّة واحدة تقريبًا، غير أنه يستوطنهما عدد كبير من الثدييات المعينة، وكذلك من الطير والنبات. واعتمادًا على تحقيق مستر «بيتس» تتكرر هذه الظاهرة في الفراش وغيره من صنوف الحيوان، في تلك الوديان المتسعة المترامية الأطراف، وديان الأمازون.
إنَّ نفس السُّنن التي تتحكم في المجالي العامة لأهال الجزر الأوقيانوسية، والتي نجملها في العلاقة القائمة بين المصدر الذي هو أكثر سهولة ويسرًا لاستمداد المستعمرين منه وما ينالهم بعد ذلك من وجوه التكيف، من أوسع السُّنن تطبيقًا في الطبيعة، نشهد ذلك في قمة كل جبال، وفي كل بحيرة، وفي كل بطيحة. أمَّا فيما يتعلق بالأنواع الألبية،٣٨ ما عدا ما يكون منها قد اتسع انتشاره وذيوعه في أثناء العصر الجليدي، فإنها جميعًا تمت بصلة إلى أنواع الأراضي المنخفضة المحيطة بمواطنها. فقد نجد في أمريكا الجنوبية طيورًا ألبية طنانة٣٩ وقواضم ألبية ونباتات ألبية، وغير ذلك، وجميعها من طور أمريكية أصيلة. ومن المعروف أن جبلًا ما إذا ما شرع يتشامخ ويعلو، فإنه يستوطن من أهال الأرض المنخفضة المحيطة به، وكذلك الحال مع أهال البحيرات والبطائح، ما عدا صورًا بذاتها تنتج لها سهولة الانتقال أن تنتشر في باحات مترامية من رقعة الأرض، وقد نلحظ صدق هذه السُّنة في صفات أكثر الحيوانات العمي التي تقطن كهوف أمريكية وأوروبية. وهنالك حقائق من مثل هذه يمكن ذكرها، فإنه مما لا يخرج عن جادة الواقع بحال، أنه حينما يوجد في صقعين، مهما يكن من تنائيهما وتقاصيهما كثيرًا من الصور المتآصرة أو الأنواع الرئيسة بها، يصحب ذلك وجود أنواع متماثلة، وحيثما يكون أنواع متقاربة الصلة، توجد صور كثيرة يعتبرها المواليديون أنواعًا مستقلة، في حين يعتبرها غيرهم مجرد ضروب، وهذه الصور المشكوك فيها هي التي تظهرنا على الخطوات التقدمية لعملية التكيف.
إنَّ العلاقة بين القدرة على الهجرة ومداها في بعض الأنواع — سواء أفي العصر أم فيما غبر من العصور — ووجود أنواع متآصرة في رقاع قصية من الأرض، كل ذلك يمكن الإفصاح عنه بطريقة أخرى أكثر تعميمًا. فقد أخبرني مستر «جولد» أن في أجناس الطير التي تنتشر في أرجاء الأرض جميعًا، يكون لبعض أنواعها ذيوع واسع جدًّا، وقلَّما أستطيع أن أشك في صحة هذا القول، ولو أنه من العسير إقامة البرهان عليه، فإذا نظرنا في الثدييات، وجدناه ماثلًا بوضوح في الخفافيش،٤٠ وبدرجة أقل في المنوريات٤١ والكلبيات.٤٢ وكذلك تشهد نفس السُّنة واقعة في توزع الفراش والخنافس، ثم في أكثر أهليات الماء العذب؛ ذلك بأن كثيرًا من الأجناس في أكثر الطوائف استقلالًا بصفاتها، يمتد انتشارها في أرجاء الأرض، وأن بعض أنواعها مفرطة الذيوع، ولست أقصد بذلك أن كل أنواع هذه الأجناس المنتشرة الواسعة التوزع، بل بعضها لا غير، هو الذي له في العادة ذيوع كبير، كما لا يُقصد به أنَّ أنواعًا مثل هذه الأجناس تكون نسبيًّا مفرطة الانتشار؛ لأن ذلك كله إنما يتوقف على أية درجة بلغ التكيف منها، ولنضرب لذلك مثلًا بضربين لنوع بذاته يَقْطُنان أمريكا وأوروبا، فيُقال إنَّ النوع واسع الانتشار. غير أن التحول إذا تقدم بهما خطوة، فإن الضربين يعتبران نوعين مستقلين وبذلك ينكمش انتشارهما. وأقل من ذلك اعتبارًا في نظرنا القول بأن الأنواع التي هي ذات قدرة على اجتياز العوائق وسعة الانتشار، كتلك الطيور ذوات القدرة الفائقة على الطيران، تكون بالضرورة واسعة الانتشار، ذلك بأنه لا ينبغي لنا أنْ ننسى أنَّ سعة الانتشار لا تتوقف على القدرة على اجتياز العوائق، بل حيازة ما هو أهم من ذلك، ونعني به المقدرة على أن تظل منتصرة في معركة التناحر على البقاء على نظراتها الآخرين، في تلك البقاع القصية عن موطنها. غير أنه بمقتضى الرأي القائل بأن أنواع كل جنس — مهما يكن توزعها في بقاع قصية من العالم — إنما هي أخلاف لأصل أولي واحد، كان علينا أن نجد — وكما أعتقد أنه لا بد لنا من أن نجد — أن بعض الأنواع يبلغ انتشارها حدَّ الإفراط.

ينبغي لنا أن نعي دائمًا أن كثيرًا من الأجناس التابعة لجميع الطوائف هي من أصول قديمة، وبذلك تكون فرصة الزمن قد امتدت أمام الأنواع حتى تذيع ثم تتكيف، كذلك لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد — استنادًا على شواهد جيولوجية — أنه في نطاق كل من الطوائف العظمى، تتحول العضويات الدنيا بدرجة أبطأ مما تفعل العضويات العليا، مما يترتب عليه أن تُتاح لها فرصة أوفى للانتشار انتشارًا أوسع، ومن ثمة يُتاح لها أيضًا الاحتفاظ بخِصِّياتها النوعيَّة، وهذه الحقيقة، مضافًا إليها أن بذور أحط العضويات وبييضاتها إذ هي صغيرة الحجوم، وأكثر صلاحية للانتقال البعيد، ربما كانت السبب في القول بسُنة قيل بها من قبل، وناقش فيها «ألفونس دي كاندول» منذ قريب، وبخاصة فيما يتعلق بالنبات، مؤداها أن الكائن العضوي كلما كان أدنى مرتبة، كان أوسع انتشارًا.

إنَّ العلاقات التي سبق أن تكلمنا فيها، ومحصلها أن العضويات الدنيا تكون أوسع انتشارًا من العليا، وأن بعض الأنواع الواسعة الانتشار، هي كذلك يتسع انتشارها، فإن هذه الحقائق، مضافًا إليها أن الآهلات الألبية والبحيرية والبطيحية، تمت عمومًا بصلة إلى آهلات الأرض المنخفضة والباحات الجافة، وكذلك العلاقة التي تربط بين قطان الجزائر وأقرب أرض قارة إليها، ثم تلك العلاقة الأقرب، علاقة الآهلات المستقلة القاطنة بجزر أرخبيل واحد، جميعها ظواهر لا تعلل بنظرية خلق الأنواع، ولكنها تكون سائغة التعليل إذا ما سلَّمنا بنظرية الاستعمار من أقرب مصدر إليها وأيسره، وما يترتب على ذلك من تكيف المستعمرين وتهيئهم لمواطنهم الجديدة.

ملخص هذا الفصل والفصل السابق

حاولت في الفصلين السابقين أن أظهِر أننا إذا سلَّمنا بما يجب أن نعترف به جهلًا بتغيرات المناخ ومستوى الأرض التي لا بُدَّ من أنْ تكون قد حدثت فعلًا في حدود العصور الحديثة، وإذا تذكرنا إلى أي حد يصل جهلنا بالكثير من تلك الوسائل العجيبة التي تؤدي إلى النقلة الاتفاقية والانتشار العرضي، ووعينا دائمًا — وذلك من أهم ما ينبغي لنا أنْ نعي من الاعتبارات — أنَّ نوعًا يتفق له أنْ يذيع باستمرار في باحة واسعة من الأرض، ثم ما يَلْبَث أن يَنْقَرض عند التخوم الفاصلة بين الباحات المتجاورة، فإن الصعوبة التي تعترض بحثنا، لا تستعصي علينا إذا ما اعتقدنا بأن كل أفراد النوع الواحد — حيثما وجدت — إنما هي أخلاف أب واحد، ونحن إنما نُساق إلى هذا الاستنتاج الذي سلَّم به كثير من المواليديين متصورين أن هنالك مراكز معينة تم فيها الخلق، مستندين إلى كثير من الاعتبارات العامة، وبخاصة بأهمية العوائق المختلفة، والتوزيع الجغرافي المتماثل للجنسيات والأجناس والفصائل.

أمَّا من حيث الأنواع المستقلة المتميزة التابعة لجنس بذاته، والتي انتشرت من مستقر واحد، فإننا إذا سلَّمنا إزاءه بمثل ما سلَّمنا به من جهل من قبل، وتذكرنا أن بعض صور الحياة قد تحولت ببطء عظيم، وأنَّ أزمانًا طويلة جهد الطول لا بد من أن تكون قد استغرقت حتى تمت هجرتها، فإن الصعوبات — ولا شك — تزداد أمامنا قوة وعنادًا، وفي هذه الحال — كما هي إزاء أفراد النوع الواحد — تزيد الصعوبات عن ذي قبل.

وتفسيرًا لمؤثرات التغايرات المناخية على التوزيع الجغرافي، حاولت أن أظهر أهمية الأثر الذي خلفه العصر الجليدي الأخير، ذاك الذي تغلغل فعله حتى بلغ الأقطار الاستوائية، والذي في خلال مناوبات البرد في الشمال وفي الجنوب قد أدَّى إلى اختلاط آهلات نصفي الكرة المتقابلين، وخلَّف بعضها معزولًا في رءوس الجبال في جميع أنحاء الأرض. ولما رأيت أن وسائل النقلة الاتفاقية كثيرة متفرقة، اضطررت إلى الكلام بتوسع في أسباب انتشار آهلات الماء العذب.

إذا كان التسليم بأنه في مطاوي الأزمان الطويلة لم تتولد أفراد النوع الواحد، وكذلك الأنواع المتفرقة التابعة لجنس بعينه من منبع واحد، تعترضه صعوبات لا يمكن اجتيازها، إذن فكل الحقائق الرئيسية المتعلقة بالتوزيع الجغرافي لا تفسر استنادًا إلى نظرية الهجرة، مع ما يتبعها من القول بتكيف الصفات وتكاثر الصور الجديدة، من هنا نستطيع أن نقدر الأهمية الكبرى للعوائق — سواء أكانت أرضًا أم ماءً — لا من حيث الفصل بين الأجزاء، بل من حيث تكوين الأقاليم الحيوانية والنباتية المختلفة، ومن ثمة تفهم السبب في تكدس الأنواع المتآصرة في باحة بذاتها، وكيف أنه في حدود خطوط طول مختلفة — كما هي الحال في أمريكا الجنوبية — تتآصر أهال السهول والجبال وأهال الغابات والبطائح والصحارى، وإنها كذلك تمت بصلة إلى العضويات المنقرضة التي عاشت في نفس هذه الباحات. فإذا ما وعينا في أذهاننا دائمًا أن الصلة المتبادلة بين كائن عضوي وآخر أمر بالغ الخطورة والأهمية، فإننا بذلك ندرك لماذا يحدث أن باحثين لهما نفس الحالات الطبيعية قد تأهلا بصور من الأحياء مختلفات جهد الاختلاف.

وإنه وفقًا لطول الوقت الذي انقضى منذ أن دخل المهاجرون إحدى الباحتين أو كلتيهما، ووفقًا لطبيعة المواصلات التي يسرت الدخول لصور معينة دون غيرها، وبنسبة عددية كبيرة أم ضئيلة، ووفقًا لما يتعرض له القادمون من قسوة المنافسة أو امتناعها بعضها وبعض، أو بينهم وبين السكان الأصلاء، ووفقًا لأن المهاجرين كانوا أكثر أو أقل استعدادًا للتحول والتكيف وبسرعة أم ببطء، لا بد من أن يترتب على ذلك حدوث حالات حيوية متفرقة مختلفة مستمرة، مستقلة عن الحالات الطبيعية، ولا بد من أن ينشأ قدر كبير من الفعل والانفعال الحيويين غير منقطع الأثر، ولا بد من أن نقع على بعض عشائر من الكائنات الحية تكيفت كثيرًا وأخرى قليلًا، وإن بعضها تكاثر بقوة وعنفوان، وبعضها ظل نحيف العدد قبل الأفراد، وذلك ما نشهده في الباحات الجغرافية الكبرى في أنحاء الأرض.

مطاوعةً لهذه المبادئ نستطيع أن نفقه — كما حاولت أن أظهِر من قبلُ — لمَ لا تحتوي الجزر الأوقيانوسية على غير قليل من الآهلات، وأن عددًا كبيرًا منها يكون أهليًّا أو خاصًّا بها، ولم تجد تبعًا لوسائل الهجرة، أو عشيرة ما من الأحياء تكون جميع أنواعها خصيصة بها، وعشيرة أخرى — ولو كانت من نفس الطائفة — تكون جميع أنواعها مماثلة لأنواع العشائر الذائعة فيما يجاورها من باحات الأرض. ولقد نستطيع أن نقع على عشائر برمتها من العضويات كالمقعدات والثدييات الأرضية، قد تكون غير موجودة من الجزر الأوقيانوسية، في حين أن أشد الجزر بعدًا وانقطاعًا يكون لها أنواعها الخاصة من الثدييات الهوائية أي الخفافيش، وكذلك نفقه — كما يحدث في الجزر — أن تكون هنالك علاقة بين وجود الثدييات في حالة من التكيف تزيد أو تقل، وعمق البحر الواقع بين هذه الجزر والأرض القارة، وأن كل آهلات أرخبيل بذاته، ولو أنها تكون معينة الصفات في كل جزيرة بذاتها، ينبغي أن تكون متآصرة قريبة اللحمة، ومن ثمة تكون ذات آصرة، ولكن بنسبة أقل، بآهلات أقرب قارة، أو غيرها من المصادر التي يمكن أن يكون المهاجرون قد رحلوا منها.

وإني لأعتقد — وفقًا لما ذهب إليه «إدوارد فوربس» — أن هنالك «موازاة» عجيبة في سُنن الحياة عبر الزمان وفي المكان، فإن السُّنن التي تتحكم في توالي الصور الحية في الأزمان القديمة، هي على وجه التقريب السُّنن التي تحتكم في المباينات التي نلحظها في الباحات المختلفة، ويؤيد هذا كثير من الحقائق، منها أن بقاء كل نوع وكل عشيرة من الأنواع مستمر في الزمان، وأن المستثنيات الظاهرة من هذه القاعدة قليلة، حتى لقد يمكن أن تُعزى إلى أننا لم نوفَّق حتى الآن إلى استكشاف بقايا صورة معينة في رواسب وسطية، مع أنها توجد فيما قبلها وفيما بعدها. وكذلك الحال في المكان، نرى أن القاعدة العامة أن كل باحة يقطنها نوع واحد أو عشيرة من الأنواع، تكون متواصلة، وأن المستثنيات من ذلك وهي ليست نادرة، قد تُعلل، كما حاولت أن أبين من قبلُ، بحدوث هجرات سابقة في ظل حالات مختلفة أو عن طريق وسائل خاصة للانتقال، أو عن طريق انقراض بعض الأنواع في الباحات الوسطية. والأنواع وعشائر الأنواع — سواء في الزمان أو المكان — لها أرفع مستويات نمائها وتكاثرها. وعشائر الأنواع التي تعيش في خلال دور بعينه من الزمان أو التي تعيش في باحة بذاتها، قد تشترك في بعض الظواهر الطفيفة، كالنقش أو اللون. أما إذا نظرنا في تتابع الأعصر الماضية، وكذلك إذا نظرنا في الباحات القصية البعيدة التي تتضمنها كرة الأرض، فإننا نجد أنَّ الأنواع التابعة لبعض الطوائف يقل اختلاف بعضها عن بعض، بينما نجد أنَّ تلك التي تتبع طوائف أخرى، أو تكون تابعة لقسم بعينه من مرتبة، يزيد تباينها ويَعْظُم.

وفي خلال الزمان والمكان، نجد أن الأعضاء الدنية التركيب من كل طائفة، أقل تحولًا من الأعضاء الراقية التراكيب، غير أن للحالتين مستثنيات لهذه السُّنة، ووفقًا لمذهبي تكون جميع هذه العلاقات الثابتة في خلال الزمان والمكان مما يُفهم ويُعلل. فإنه سواء أنظرنا في صور الأحياء المتآصرة التي تحولت وتغيرت في خلال الأزمان المتتالية، أم في تلك التي تحولت بعد أن هاجرت إلى بقاع نائية، ففي كلتا الحالتين نجدها خاضعة لنفس سُنن التباين.

لقد ظلت سُنن التحول واحدة في كلتا الحالتين، وإن التكيفات قد استجمعت بنفس الوسيلة، وسيلة الانتخاب الطبيعي.

١  Galaxias attenuatus.
٢  يُقصد بذلك ببيضات السمك.
٣  Gunther.
٤  Valenciennes.
٥  Duck-weed، واصطلاحًا: اللوسون الصغير، Lawzonia minor ويُسمى «غزل الماء» إذا كان خيوطًا متصلة (النبات، لأحمد عيسى ص١٠٦).
٦  Aquarium.
٧  أي تخرج صغارها من البيض أو البييضات.
٨  Mollusks.
٩  Heron.
١٠  Dytiscus.
١١  Ancylus.
١٢  Linipet (المعلوف: ١٥١).
١٣  Beagle: السفينة التي أقلَّت «داروين» في رحلته حول الأرض.
١٤  Wading-Birds.
١٥  Water-lily: زنبق الماء (النيلوفر)، (عيسى: ١٢٥).
١٦  Potamogeton: سميته آلف النهر، واصطلاحًا «الناهور» وزان فاعول، قياسًا على السماع.
١٧  Herons، مفردها: بلشون.
١٨  Nelumbium: الاسم الاصطلاحي لجنس زنبق الماء Water-lily.
١٩  Sonthern water-lily.
٢٠  Nelumbium luteum.
٢١  Intermediate.
٢٢  السراخس Ferns: مفردها سرخس.
٢٣  Reptiles.
٢٤  winrgless Birds.
٢٥  Mammals.
٢٦  Batrachia.
٢٧  Frogs.
٢٨  التوأد: ج التوائد Teoads معرب.
٢٩  الناووت: ج النواويت Nemts معرب.
٣٠  Erratic Boulders: السهوة: Boulder: كتلة أو جلمد من الصخر فصلته عوامل الطقس ونقلته الأعاصير الطبيعية مسافات بعيدة أو قريبة من موضع الصخرة الأصلية التي انفصل عنها وتركته عاريًا على سطح الأرض أو طمرته في رسابات سطحية. وفي اللغة السهوة: الصخرة (المخصص: ٩١ ج١٠).
٣١  Tertiary strata.
٣٢  Hybernation: حال خمود تصيب بعض الأحياء في أطوار معينة.
٣٣  Membranous diaphrgm.
٣٤  Helix potamia.
٣٥  Operculum.
٣٦  Cyclostoma Elessus.
٣٧  mocking Thrush.
٣٨  الألبي Alpine: نسبة إلى جبال الألب، أو مع التوسع، إلى الأصقاع العالية من سلسلة جبال، وتخصيصًا يشير الاصطلاح إلى صقع جبلي يستوي من بعد منطقة الغابات المؤلفة من أشجار المخروطيات، وتحت مستوى الثلج الدائم؛ أي بين خط الخشب وخط الثلج، في أية بقعة من بقاع الأرض.
٣٩  Humming.
٤٠  Bats.
٤١  Felidae.
٤٢  Canidae.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤