الفصل الخامس عشر

مراجعة وخلاصة

مراجعة الاعترافات على نظرية الانتخاب الطبيعي – مراجعة الظروف العامة والخاصة التي تؤيدها – أسباب الاعتقاد العام في عدم تغير الأنواع – إلى أي حَدٍّ يمكن أن توسَّع نظرية الانتخاب الطبيعي – أثر الاعتقاد في النظرية على دراسة التاريخ الطبيعي – ملاحظات ختامية.

***

من حيث إن هذا الكتاب مناقشة واحدة مستفيضة، فقد يكون من المناسب أن نهيئَ للقارئ مراجعة مختصرة تضمُّ الحقائق والاستنتاجات الرئيسية.

وأنا لا أنكر أن هناك اعتراضات خطيرة وكثيرة، يمكن أن توجَّه ضد نظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي، ولقد حاولتُ جهدي أن أعطي تلك الاعتراضات قوتها كاملة، وليس يبدو شيء — لأول وهلة — أصعب تصديقًا من حتمية بلوغ الأعضاء المعقدة والغرائز مراتب الكمال، لا عن طريق وسيلة تفوق العقل البشري — ولو أنها تشبهه — ولكن عن طريق تراكُم تغيرات لا نهائية طفيفة كلها في صالح الفرد الذي تحْدُثُ فيه. ومع ذلك، فبالرغم من أن تلك الصعوبة تبدو في خيالنا عظيمة بشكل لا يغلب، فلا يمكن أن نعتبرها حقيقيةً لو أننا قبلنا الاقتراحات الآتية، وهي:
  • أنَّ التدرُّجات نحو الكمال بالنسبة لأي عضو أو غريزة، يمكن أنْ نعتبرها إمَّا قائمة الآن، أو إنْ أمكن وجودها في الماضي، وكلها في صالح النوع الذي توجد به.

  • أنَّ كل الأعضاء والغرائز قابلة للتغير ولو بأقل درجة ممكنة.

  • وأخيرًا — أنَّ هناك تنازعًا على البقاء يؤدي إلى الاحتفاظ بكل انحراف مفيد في التركيب أو الغريزة.

وأعتقد أنَّ حقيقة تلك الاقتراحات لا يمكن أنْ تكون محل جدل.

وما من شك في أنَّ مجرد التخمين في ماهية التدرجات التي وصلت تراكيب كثيرة عن طريقها إلى الكمال شيء صعب جدًّا وخاصة في المجموعات المتصدعة والآفلة من الكائنات العضوية، ولكننا نرى الكثير من التدرجات الغريبة في الطبيعة؛ حتى إنه يجب علينا أن نكون في منتهى الحرص عندما نقول: إن أي عضو أو غريزة أو أي كائن بأكمله لم يكن بإمكانه أنْ يصل إلى حالته الحاضرة عن طريق خطوات متدرجة عديدة. ويجب أن نعترف أن هناك حالات لصعوبات خاصة في سبيل نظرية الانتخاب الطبيعي، ووجود سلالتين أو ثلاث سلالات محددة من الشغالة أو الإناث العقيمة في نفس المستعْمَرة من النمل واحدة من أغرب تلك الصعوبات، وقد حاولت أن أوضح كيفية التغلب على تلك الصعوبة.

ولا بُدَّ لي بخصوص التناقض الملحوظ بين العقم الشامل تقريبًا الذي يحدث من تلقيح أنواع مختلفة لأول مرة وبين الخصب الشامل تقريبًا الذي يحدث من تلقيح الضروب المختلفة، أن أوجِّهَ نظر القارئ إلى مراجعة تلخيص الحقائق المذكورة في آخر الفصل الثامن، ويبدو لي أنَّ هذا يوضِّح بشكل نهائي أن ذلك العقم لا يُعد صفة مُكتَسبة خاصة أكثر مما يُعد فشل تطعيم شجرة بشجرة أخرى، بل هو عَرَض ناجم من اختلافات تركيبية أساسية بين أجهزة التناسل في الأنواع الملقحة. ويمكن أن نلمس صدق هذا الاستنتاج في الفَرق الشاسع في النتيجة عندما يتلاقح نوعان بعينهما بطريقة عكسية؛ أي عندما يُؤخذ ذكر واحد منهما في المرة الأولى مع أنثى من النوع الثاني، ثم تُؤخذ في المرحلة الثانية أنثى من النوع الأول مع ذكر من النوع الثاني.

وعندما تتلاقح الضروب أو يتلاقح نتاجها الهجين لا يمكن اعتبار خصب أي منهما شاملًا، وحتى خصبها الواسع الشيوع لا يدعو إلى العجب، لو أننا تذكَّرنا أنه ليس هناك ما يدعو لأن يكون تكوينهما أو أجهزتهما التناسلية قد تحورت تحورًا جذريًّا، وزيادة على ذلك فإن معظم الضروب التي أُجريت عليها التجارب قد أُنتِجت عن طريق الإيلاف، وبما أن الإيلاف — ولا أقصد هنا مجرد القيد أو الحبس — يبدو أنه يميل إلى القضاء على العُقم، فينبغي علينا ألا ننتظر أنه يؤدي إلى العقم.

ويعتبر عقم السلالات الهجين شيئًا مختلفًا تمامًا عن حالات التلاقح الأول؛ وذلك لأن أجهزتها التناسلية مُعطَّلة من الناحية الوظيفية تقريبًا، بينما في التلاقح الأول تكون هذه الأعضاء في كلا الجانبين في حالة طبيعية تمامًا. وما دمنا نرى باستمرار أن الكائنات من جميع الأصناف تصير عقيمة إلى حَدٍّ ما بسبب اضطراب تكوينها من التعرض لأحوال من الحياة جديدة ومختلفة اختلافًا طفيفًا، فليس هناك ما يدعونا إلى الدهشة عندما نرى النتاج الهجين عقيمًا إلى درجة ما؛ إذ إن تكوينه لا يُظن أن ينجو من الاضطراب عندما يتركب من طرازين مختلفين تمامًا من التنظيمات. وتدعم هذه المقارنة طائفة أخرى من الحقائق المشابهة، ولو أنها تتخذ الاتجاه المضادَّ تمامًا، وهي أنَّ القوة والخصب في كل الكائنات العضوية تزداد بتغيرات طفيفة في ظروف حياتها، وأن نتاج الأشكال أو الضروب المتحورة تحورًا طفيفًا يكتسب من تلاقحه زيادة في القوة والخصب. وعلى هذا، فإن التغيرات الكبيرة في ظروف الحياة والتلاقح بين الأشكال المتحوِّرة تحورًا كبيرًا يقلل من الخصب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التغيرات الأقل في ظروف الحياة والتلاقح بين الأشكال الأقل تحورًا تزيد من الخصوبة.

وإذا انتقلنا إلى التوزيع الجغرافي نجد أن الصعوبات التي تواجه نظرية التطور خطيرة بما فيه الكفاية، إن كل الأفراد التابعة لنفس النوع، والأنواع التابعة لنفس الجنين، وحتى في الرُّتبِ الأعلى، لا بد أن تكون قد تسلسلت من أسلاف مشتركة، وإذن فإن هذه الأفراد الموجودة في الأنحاء المختلفة من العالم الآن مهما بَعُدت تلك الأنحاء ومهما انعزلت، لا بُدَّ وأنها عبر الأجيال المتعاقبة قد مرت من مكان ما إلى الأماكن الأخرى، ونحن غالبًا ما نعجز تمامًا حتى عن مجرد التخمين في كيفية حدوث ذلك. ومع هذا فحيث إن لدينا من البراهين ما يجعلنا نعتقد أن بعض الأنواع قد احتفظت بصفاتها النوعية لفترات طويلة، طويلة جدًّا إذا قُدِّرت بالسنين، فلا يجوز الاهتمام كثيرًا بالصُّدف النادرة من الانتشار الواسع لهذه الأنواع؛ إذ إنه خلال فترات طويلة جدًّا من الزمن لا بد أنه سيكون هناك دائمًا فرص كافية للهجرة الواسعة بوسائل كثيرة، ويمكن غالبًا تفسير المدى الناقص أو المنقطع بانقراض الأنواع في المناطق المتوسطة. وممَّا لا يمكن إنكاره أننا ما زلنا نجهل كثيرًا المدى الكامل للتغيرات المناخية والجغرافية المختلفة التي انتابت الأرض خلال العصور الحديثة، ومثل تلك التغيرات لا بد أنها سهلت الهجرة كثيرًا. وعلى سبيل المثال فقد حاولت أن أوضِّح مدى فعالية تأثير العصر الجليدي على توزيع كل من الأنواع نفسها وما يمثلها في العالم كله، ونحن ما زلنا نجهل جهلًا مُطْبقًا الكثير من وسائل الانتقال العرضية، وحيث إن عملية التحور بالنسبة للأنواع المتباينة التابعة لنفس الجنس والقاطنة مناطق بعيدة ومنعزلة، كانت بالضرورة بطيئة، فلا بُدَّ أن كل وسائل الهجرة كانت ممكنة خلال فترة طويلة جدًّا من الزمن، وبالتالي فإن هذا يقلل إلى حَدٍّ ما من شأن الصعوبة الخاصة بالتوزيع الواسع للأنواع التابعة للجنس الواحد.

وحيث إنه على أساس نظرية الانتخاب الطبيعي لا بد أنه قد وُجِدَ عدد لا يُحْصَى من الأشكال المتوسطة التي تربط بين كل الأنواع في كل مجموعة بتدرجات تعدل في دِقَّتها ضروب حيواناتنا الحديثة، فلسائل أنْ يسأل: لماذا لا نرى كل تلك الأشكال الرابطة حولنا؟ لماذا لا تمتزج كل الكائنات العضوية في فوضى لا أول لها ولا آخر؟ أمَّا بالنسبة للكائنات الحالية فينبغي أن نذْكُر أنه ليس من حقنا أن نتوقع — إلا في حالات نادرة — أن نكتشف حلقات رابطة مباشرة فيما بينها، ولكن فقط بين كل منها وبعض أشكال منقرضة، وحتى لو أخذنا منطقة واسعة تكون قد بقيت متصلة خلال فترة طويلة، وكان تغير المناخ وظروف الحياة فيها غير محسوس، مع الانتقال من موقع يحتله نوع ما إلى موقع آخر وثيق الشَّبه به، فإنه في مثل تلك المنطقة ليس من حقنا — أيضًا في الغالب — أن نتوقع وجود ضروب متوسطة في المواقع المتوسطة؛ ذلك لأن لدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن عددًا قليلًا فقط من الأنواع هو الذي يتغير في فترة واحدة معينة، وأن كل التغيرات تحدث في بطء، وقد أوضحتُ أيضًا أن الضروب المتوسطة التي يُحتمل أن تكون قد وُجِدت في أول الأمر في المناطق المتوسطة تكون عُرضةً لأن تحلَّ محلَّها الأشكالُ المشابهةُ، وأنَّ تلك الأجهزة، بفضل وُجودِها في أعداد كبيرة، تتحور وتتحسن عمومًا بمعدل أسرع مما يحدث في حالة الضروب المتوسطة التي توجد في أعداد أقل، لدرجة أن الضروب المتوسطة تبيد مع مرور الزمن ويحل محلها غيرها.

وعلى أساس هذا المذهب القائل بانقراض أعداد لا تُحْصى من الحلقات الرابطة بين السكان الحاليين والمنقرضين في العالم، وبين الأنواع المنقرضة في كل فترة والأنواع الأقدم منها في فترة سابقة، لماذا لا يخصُّ كل تكوين جيولوجي بمثل تلك الحلقات؟ لماذا لا تزودنا كل مجموعة من البقايا الحفرية بشواهد واضحة على التدرُّجات والطفرات في أشكال الحياة؟ إننا لا نصادف مثل تلك الشواهد، وهذا هو أوضح وأقوى كل الاعتراضات الكثيرة التي يمكن أن توجَّه ضد نظريتي. ولماذا أيضًا تظهر مجموعات بأسرها من الأنواع المتشابهة، ولو أنها بالتأكيد تبدو — غالبًا — بشكلٍ كاذب، وكأنها ظهرت فجأة في المراحل الجيولوجية المختلفة؟ لماذا لا نجد أكداسًا كبيرة من الطبقات تحت السيلوري زاخرة ببقايا أسلاف مجموعات الحفريات السيلورية؟ فبالتأكيد على أساس نظريتي، لا بُدَّ أن تكون مثل هذه الطبقات قد ترسبت في مكان ما في أثناء تلك الحقب القديمة المجهولة تمامًا من تاريخ العالم.

لا يمكنني أن أجيب على تلك الأسئلة والاعتراضات الخطيرة إلا على فرض أن السَّجل الجيولوجي أبعد ما يكون عن الكمال أكثر مما يعتقد معظم الجيولوجيين، ولا يمكن أن يوجه اعتراضه بأنه لم يكن هناك زمن كافٍ لأي قَدْرٍ من التغير العضوي؛ ذلك لأن الزمان كان طويلًا جدًّا بالدرجة التي يقْصُرُ العقل البشري عن تقدير طوله أو تفهمه. إن عدد العينات الموجودة في متاحفنا ليس إلا «لا شيء» إطلاقًا عندما يُقارَن بالأجيال التي تُعد من الأنواع التي لا تُحصى والتي عاشت فعلًا. إننا لن نتمكن من التعرف على نوع ما على أنه سلف لأي نوع آخر، أو مجموعة أخرى من الأنواع، لو كان علينا أن نختبر كل تلك الأنواع اختبارًا دقيقًا جدًّا، إلا إذا توفَّر لدينا عدد كبير من الحلقات الرابطة المتوسطة بين أحوالها الماضية أو السلفية وأحوالها الحاضرة، ولا يمكن أن يكون لدينا أمل في أن ننتظر اكتشاف تلك الروابط الكثيرة، بالنسبة إلى نقص وقصور السِّجل الجيولوجي، وكثير من الأشكال غير المؤكَّدة الحاضرة يمكن اعتبارها — في أغلب الظن — في رتبة الضروب، ولكن مَن الذي يمكن أن يدَّعي أنه استكشف في العصور المستقبلة أعدادًا كبيرة من تلك الروابط الحفرية، حتى إن علماء التاريخ الطبيعي سيكون في قدرتهم أن يقرروا بواجهة النظر المشتركة أن تلك الأشكال الغامضة هي ضروب فعلًا؟ وطالما كانت معظم الحلقات الرابطة بين أي نوعين مجهولة، فإن أية حلقة رابطة أو ضرب متوسط يُكتَشف فسينصف ببساطة كنوع مستقل متميز. إن جانبًا صغيرًا فقط من العالم قد استكشف من الناحية الجيولوجية، والكائنات العضوية متى يمكن الاحتفاظ بها في الحالة الحضرية، على الأقل في أي أعداد كبيرة تتبع بعض الطوائف فقط. وأكثر الأنواع تغيرًا أو اختلافًا هي الأنواع ذات المدى الواسع، والضروب تكون في أول الأمر محلية، ويجعل كُلٌّ من هذين السببين اكتشاف الحلقات الرابطة المتوسطة أقل احتمالًا، والضروب المحلية لا تنتشر إلى أماكن أخرى ونائية وقَبلَ أن تُحرر وتتحسن كثيرًا، وهي عندما تنتشر فعلًا، لو أنها اكتُشفت في أحد التكاوين الجيولوجية فستبدو كأنما خُلِقت هناك فجأة، وستُصنف ببساطة على أنها أنواع جديدة. لقد كان تراكُم التكاوين الجيولوجية بشكل متقطع، وإني أميل إلى الاعتقاد أن مداها كان أقصر من متوسط المدى الذي تستغرقه الأنواع، ويفصل بين التكاوين المتتابعة فترات من الزمن خالية تمامًا؛ إذ إن التكاوين الحاملة للحفريات والغليظة بالدرجة التي تمكِّنها من مقاومة التآكل في المستقبل لا يمكن أن تتراكم إلا حيث تستقر رواسب كثيرة على قاع بحري هابط. أمَّا في أثناء فترات الارتفاع أو استقرار المنسوب التي تتبادل معها فسيكون السِّجل خاويًّا. والمحتمل أن تَغْلُب التغيرات في صور الحياة خلال تلك الفترات الأخيرة، بينما يَغْلُب الانقراض خلال فترات الهبوط.

ولا يمكنني بخصوص غياب التكاوين الحاملة للحفريات تحت أسفل الطبقات التابعة للعصر السيلوري، إلا الرجوع إلى الغرض المقدَّم في الفصل التاسع. إن الكل يعترف بأن السجل الجيولوجي قاصر، ولكن القليل فقط يميلون إلى الاعتراف بأنه قاصر بالدرجة التي تتطلبها وجهة نظري. وإذا تأمَّلنا فترات من الزمن الطويلة بالدرجة الكافية، فستفيدنا الجيولوجيا بوضوح أن كل الأنواع قد تغيرت، وأن تغيرها كان بالطريقة التي تتطلبها نظريتي؛ إذ إنها تغيرت ببطء وبشكل تدريجي، ونرى هذا بوضوح في البقايا الحفرية المجموعة من التكاوين المتعاقِبة المتتالية؛ إذ تكون دون استثناء أكثر تقاربًا من بعضها البعض ممَّا تكون عليه الحفريات المجموعة من تكاوين متباعدة تباعدًا زمنيًّا كبيرًا.

ذلك هو ملخص الاعتراضات والصعوبات الرئيسية المختلفة التي يمكن أن توجَّه بحق ضد نظريتي. وقد راجعت الآن باختصار الردود والتفسيرات التي يمكن أن تُساق لها، ولقد عانيت عبء تلك الصعوبات خلال سنين طويلة، ولمست من شدته ما لا يهوِّن من شأنها. ولكنه مما يستحق ملاحظة خاصة أن الاعتراضات الأكبر أهمية تتعلق بمسائل نجهلها دون إنكار، بل إننا لا نعرف حتى مدى جهلنا بها، نحن لا نعرف كل التدرُّجات الانتقالية بين أبسط الأعضاء وأكثرها كمالًا، ولا يمكن الادعاء بأننا نعلم كل الطُّرق المختلفة للتوزيع خلال الزمن الطويل من السنين، أو أننا نعلم مدى قصور السجل الجيولوجي، ومهما كانت خطورة هذه الصعوبات المختلفة كما تبدو، فهي في رأيي لا يمكن أن تقضي على نظرية التطور من عدد قليل من الأشكال الأولى عن طريق تحورات لاحقة لخَلْقها.

ولننتقل الآن إلى الجانب الآخر من المناقشة. إننا نرى كثيرًا من التغير نتيجةً لعمليات الإيلاف، ويبدو أن هذا يرجع أساسًا إلى أن جهاز التناسل حساس جدًّا للتغيرات في ظروف الحياة، لدرجة أنه إذا لم يُدفع إلى العجز التام، فإنه يقصر دون إنجاب خلف يشبه سلفه شبهًا تامًّا. ويتحكم في التغير عدد كبير من القوانين المعقَّدة — كترابط النمو، والاستعمال والإهمال والتأثير المباشر للظروف الطبيعية للحياة، وإنه لمن الصعب جدًّا أن نقدِّر — بالتأكيد — مدى ما تعرض إليه إنتاجنا بالإيلاف من تحور، ولكن يمكننا أن نستنتج باطمئنان أنه كثير، وأن التحورات يمكن أن تورَّث لمدد طويلة، وطالما بقيت ظروف الحياة كما هي، يكون لدينا من الحجة ما يجعلنا نعتقد أن أي تحور كان يورَّث أجيالًا عديدة، يمكن أن يظل متوارثًا عددًا من الأجيال يكاد يكون لا نهائيًّا. ومن الناحية الأخرى فإن لدينا من الشواهد ما يدلُّ على أن التغير بمجرد أن يظهر، لا يتوقف تمامًا، فهذه أقدم إنتاجاتنا الأليفة ما زالت تُنتِج أحيانًا ضروبًا جديدة.

إن الإنسان لا يستحدث التغيرات بالفعل، ولكنه يعرِّض الكائنات العضوية دون قصد إلى ظروف جديدة من الحياة، فتنشط الطبيعة في التأثير عليها محدثةً التغيرات، ولكن الإنسان يمكنه أن يختار من بين الاختلافات التي تزوده بها الطبيعة، وهو يصنع ذلك فعلًا، وهكذا يمكن أن يجمع منها القَدْرَ الذي يريد بالكيفية التي يريدها، وهو بذلك يكيِّفُ الحيوانات والنباتات لمصلحته وراحته، وقد يحقق ذلك بتدبير وتفكير أو بدون قصْدٍ عن طريق الاحتفاظِ بالأفراد الأكثر نفعًا له دون أي تفكيرٍ في تغيير السلالة. ومن المؤكد أن في قدرته أن يؤثر على صفات سلالة ما، بأن ينتخب في الأجيال المتعاقبة اختلافات فردية طفيفة جدًّا لا يمكن أن تلاحظها العين التي تعوزها الخبرة. ولقد كانت عملية الانتخاب هذه هي العامل الأكبر في إنتاج أكثر السلالات الأليفة امتيازًا ونفعًا، ومما يوضِّح أن الكثير من السلالات التي أنتجها الإنسان تتمتع إلى حد كبير بصفات الأنواع الطبيعية تلك الشكوك القوية، فيما إذا كان الكثير منها ضُروبًا أم أنواعًا أصلية.

وليست هناك حجة واضحة تفسِّر لماذا تعمل القوانين بكفاءة في عمليات الإيلاف، ولا تعمل في الظروف الطبيعية. إننا نرى في الاحتفاظ بالأفراد والسلالات المفضَّلة في أثناء عملية تنازع البقاء الدائمة أقوى وأنشط عوامل الانتخاب، وينشأ تنازع البقاء حتمًا من النسبة الهندسية العالية للازدياد المشتركة في كل الكائنات العضوية. وقد ثبت هذا المعدل العالي للازدياد بالحساب، بالزيادة السريعة في أعداد حيوانات ونباتات كثيرة خلال المواسم المتتابعة الغريبة، أو عندما تستوطن في منطقة جديدة. إن أفرادًا كثيرة تُولَد بأعداد أكثر مما يمكن أن يُقدَّر لها أن تعيش، إن أقل اختلاف طفيف في الميزان سيحدد أي فرد يُكتب له البقاء وأي فرد سيموت، وأي ضرب أو نوع سيزداد في العدد أو ستقل أعداده ويفنى نهائيًّا. وما دامت دوافع التنافس تكون أقرب ما يمكن من جميع النواحي بين الأفراد التابعة لنفس النوع، فسيكون الصراع إذن أشد ما يكون بين هذه الأفراد، وسيكون الصراع الذي يليه في الشَّدَّة بين الأنواع التابعة لنفس الجنس، ولكن الصراع سيكون في الغالب شديدًا جدًّا بين الكائنات الأبعد ما يمكن عن بعضها البعض في سلم الطبيعة. إن أقل ميزة في كائن ما على غيره من الكائنات التي يدخل معها في التنافس في أي مرحلة من عمره، أو في أي فصل من الفصول، أو أي تكيف أحسن مهما قلَّت أهميته بالنسبة للظروف الطبيعية المحيطة سيؤثر في الميزان.

وفي حالة الحيوانات ذات وحيدة الجنس سيكون في معظم الأحوال صراع بين الذكور على امتلاك الإناث، وسيكون الأفراد الأكثر قوة؛ أي الذين كانوا أكثر نجاحًا في صراعهم مع ظروف الحياة، هم — على وجه العموم — الذين سيتركون أكبر ذرية، ولكن النجاح سيتوقف غالبًا على امتلاك أسلحة خاصة، أو على وسائل خاصة للدفاع، أو على مدى سحر الذكور للإناث، وستقود أقل الميزات إلى النصر.

وحيث إن الجيولوجيا تقرِّر بوضوح أن كل قطعة من البر تعرضت لتغيرات طبيعية كبرى، فيجدر بنا أن نتوقع أن الكائنات العضوية قد تغيرت هي الأخرى تحت تأثير الطبيعة بنفس الطريقة التي تغيرت بها — عمومًا — تحت ظروف الإيلاف. وإذا كان هناك تغير يتم تحت ظروف الطبيعة فسيكون عدم نشاط عملية الانتخاب الطبيعي حقيقة لا يمكن تفسيرها. لقد كان مما يؤكَّد غالبًا — ولو أن هذا التأكيد ليس من الممكن إثباته — أن مقدار التغير في الطبيعة محدود جدًّا، فبالرغم من أن نشاط الإنسان في إحداث التغير يقتصر على الصفات الخارجية فقط، وهو نشاط يغلب عليه التقلب أيضًا، فإنَّه يمكِّن من استحداث نتيجة عظيمة في فترة قصيرة من تجميع مجرد اختلافات فردية في إنتاجه من الحيوانات الأليفة. ولا ينكر أحد أن هناك — على الأقل — اختلافات فردية في الأنواع تحت ظروف الطبيعة، ولكن إلى جانب تلك الاختلافات يعترف كل علماء التاريخ الطبيعي بوجود الضروب التي يعتبرونها متميزة بالقدر الذي يؤهلها للتسجيل في الأعمال التصنيفية. ولا يمكن لأحد أن يرسم حدودًا واضحة بين الاختلافات الفرعية والضروب البسيطة أو بين الضروب الأكثر وضوحًا والأنواع الفرعية أو الأنواع، ويجب أن نلاحظ كيف يختلف علماء التاريخ الطبيعي في الرتبة التي يعينونها لكثير من صور الحياة الممثَّلة في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية.

وإذن فإنه لو كانت هناك تغيرات تحت ظروف الطبيعة وعامل قوي على استعداد دائمًا للعمل والانتخاب، فلماذا نشُكُّ في أن التغيرات التي في صالح الكائنات بأي شكل من الأشكال تبقى وتتراكم وتُورث؟ وإذا كان الإنسان يستعين بالصبر على انتخاب الاختلافات الأكثر نفعًا له، فلماذا تفشل الطبيعة في انتخاب اختلافات مفيدة لإنتاجها الحي تحت الظروف المتغيرة للحياة؟ أية حدود يمكن أن تقف في وجه هذه القوة التي تعمل خلال الأزمنة الطويلة، فاحصةً تكوين كل مخلوق وتركيبه وعاداته منتقية الجيد وتاركة الرديء؟ إني لا أرى حدودًا لهذه القوة في تكييفها البطيء الجميل لكل كائن بالنسبة لأعْقَد علاقات الحياة المحيطة به، وتبدو نظرية الانتخاب الطبيعي — ولو أننا حتى لم ننظر إلى ما هو أبعد من ذلك — ممكنة في حد ذاتها. ولقد فرغتُ الآن بقدر ما يمكنني من مراجعة الصعوبات والاعتراضات ضد النظرية، ولننتقل إلى الحقائق الخاصة والبراهين التي في صفِّها.

وعلى أساس وجهة النظر القائلة بأن الأنواع ليست إلا ضروبًا ثابتة واضحة جدًّا، وبأن كل نوع كان في أول الأمر ضربًا من الضروب، يمكننا أن نلمس السِّرَّ في عدم إمكان تعيين الحدود بين الأنواع التي يُظنُّ — في العادة — أنها قامت إثر عمليات خَلْق خاصة، والضروب المعترف بأنها نتجت بواسطة قوانين ثانوية، وعلى نفس الأساس يمكننا أن نفهم كيف أنه إذا نتج عدد كبير من الأنواع التابعة لجنس واحدٍ، وازدهرت هذه الأنواع في منطقةٍ ما، فإنَّ تلك الأنواع يجب أن يكون قد نشأت فيها ضروب كثيرةإ إذ إنه يجْدُر بنا أن نتوقع — كقاعدة عامة — أنه حيث كان استحداث الأنواع جاريًا بنشاط فإنه يظل هكذا. وتلك هي نفس الحال إذا كنا نعتبر الضروب أنواعًا وليدة، وزيادة على ذلك فالأنواع التَّابعة للأجناس الكبيرة والتي يتفرَّع منها عددٌ أكبر من الضروب أو الأنواع الوليدة تحتفظ بدرجة معينة من صفات الضروب؛ إذ إن تلك الأنواع يختلف بعضها عن بعض بقدر أقل مما يوجد بين الأنواع التابعة للأجناس الأصغر، ويبدو أيضًا أن الأنواع الشديدة التقارب والتابعة للأجناس الكبيرة تكون ذات انتشار محدود، ومن ناحية علاقات القربى نجد أنها تتزاحم في مجموعات صغيرة حول أنواع أخرى، وهي في هذا تشبه الضروب، وتلك علاقات غريبة لو أُخذت على أساس الخلق المستقل لكل نوع على حدة، ولكنها معقولة لو أُخذت على أساس أن كل الأنواع قامت في أول الأمر على هيئة ضروب.

وحيث إن كل نوع يميل إلى الازدياد المفْرِط في العدد عن طريق التكاثر بمعدل المتوالية الهندسية، وحيث إن الأخلاف المتحورة لكل نوع ستتمكن من الازدياد بدرجة أكثر، فيتسع اختلافها في العادات والتركيب حتى نتمكن من احتلال أماكن كثيرة مختلفة في الاقتصاد الطبيعي، فسيكون هناك ميل دائم في الانتخاب الطبيعي لحفظ النِّتاج الأشد اختلافًا الناتج من أي نوع من الأنواع. وهكذا فإن الاختلافات الطفيفة المميزة للضروب التي تتبع النوع الواحد تميل خلال فترة التحور المستمر الطويلة إلى الازدياد، فتتحول إلى الاختلافات الأكبر التي تميز الأنواع، وستحل الضروب الجديدة المتحسنة محل الضروب الأقدم المتوسطة والأقل تحسنًا، وتقضي عليها. وهكذا تصير الأنواع محددة وواضحة إلى حد كبير، وتميل الأنواع السائدة التالية للمجموعات الكبيرة إلى إنتاج أشكال جديدة سائدة، حتى إن كل مجموعة كبيرة تميل إلى التضخم وإلى التشعب في الصفات. ولكن لما لم تكن كل المجموعات في قدرتها أن تنجح في الازدياد في الحجم؛ إذ إن العالم لن يحتمل ذلك، فإن المجموعات الأكثر سيادة ستغلب المجموعات الأقل سيادة، ويفسر ميل المجموعات الكبيرة إلى الازدياد المستمر في الحجم والتشعب في الصفات ومعه جانب كبير من الافتراض العرضي المحتَّم، يفسر كل هذا وجود كل صور الحياة منتظمة في مجموعات تحت مجموعات، تنتظم كلها تحت عدد قليل من الطوائف الكبرى، التي نراها الآن حولنا في كل مكان، والتي سادت طوال الأزمنة كلها. إن هذه الحقيقة الكبرى لانتظام كل الكائنات العضوية في مجموعات تحت مجموعات لتبدو لي غير ذات مدلول إطلاقًا على أساس نظرية الخَلْق.

وحيث إن الانتخاب الطبيعي لا يعمل فقط إلا بتجميع التغيرات الطفيفة المتعاقبة النافعة فليس في قدرته أنْ يُنتِج تحورات فجائية أو كبيرة، إنه يعمل فقط بخطوات قصيرة بطيئة. وهكذا فإن القانون الذي يقول: «ليس في الطبيعة طفرات» والذي نحيل كل إضافة جديدة إلى معلوماتنا نحو تأكيد صحته، يصبح على أساس هذه النظرية معقولًا بكل بساطة. ويمكننا أن نرى بوضوح: لماذا تكون الطبيعة مُفرِطة في تشعب الإنتاج إلا أنها شحيحة في الابتداع؟ ولكن لماذا يكون هذا قانونًا من قوانين الطبيعة لو أن كل نوع قد خُلِق خلقًا مستقلًّا؟ ليس في مقدور أحد أنْ يفسر ذلك.

وهناك حقائق كثيرة — كما يبدو لي — يمكن تفسيرها على أساس هذه النظرية، فما أغرب أن يُخْلق طير في هيئة نقار الخشب لكي يكون غذاؤه الحشرات الأرضية! أو أنْ يُخْلق الإوز الجبلي الذي لا يمارس السباحة أبدًا، أو لا يمارسها إلَّا نادرًا وتكون له أقدام غشائية! أو أنْ يُخْلق السُّمَّاني ليغطس ويتغذى بالحشرات التي تعيش تحت الماء! أو يُخْلق طائر النوء وله عادات وتراكيب تجعله متكيفًا لحياة طير البطريق أو الغطاس! … وهكذا في عدد لا يُعدُّ من الحالات الأخرى، ولكن تلك الحقائق لن تبدو غريبة، بل ربما يكون حتى من الممكن التنبؤ بها لو نظرنا إليها في ضوء الرأي القائل بأن كل نوع يحاول الازدياد المستمر في العدد، وأن الانتخاب الطبيعي مستعِدٌّ دائمًا لتكييف الأخلاق المتحورة ببطء لأماكن خالية أو غير مكتظَّةٍ في الطبيعة.

وحيث إن الانتخاب الطبيعي يعمل عن طريق التنافس، فهو يكيِّف سكان كل منطقة على أساس درجة الكمال التي بلغها أسلافهم فقط؛ لذلك لا ينبغي أنْ يتملكنا العجب، إذا وجدنا أنَّ سكان منطقة ما قد غلبهم مستوطنون قادمون من أرض أخرى، وحلُّوا محلهم، رغم الرأي العادي الذي يفرض أن الأصليين خُلِقوا خصيصًا، وتكيفوا للحياة في تلك المنطقة، كما لا ينبغي أنْ ندهش إذا لم تكن كل المحاولات التي تقوم بها الطبيعة على درجة مُطلَقةٍ من الكمال على قدر حكمنا الشخصي، أو أن بعضها مَقيت بالنسبة لآرائنا في الصلاحية. لا ينبغي أنْ نعجب من لدغة النحلة التي تكون سببًا في موتها، أو من إنتاج ذكور النحل بكل هذا الإسراف من أجل عملية تلقيح واحدة من ذكر واحد، أمَّا الغلبة العظمى من تلك الذكور، فمصيرها الاغتيال من الزملاء العُقم، كما لا ينبغي أن تعجب من الإسراف العجيب في حبوب اللقاح التي تكوِّنها أشجار الغر،١ أو من الكراهية الغريزية عند ملكة النَّحلِ ضد بناتها الخصبة (الولودة)، أو من الأشنومونيات التي تتغذى باليرقات الحية … وحالات أخرى كثيرة. إن العجب في نظرية الانتخاب الطبيعي هو في حقيقة الأمر عدم ملاحظة مزيد من حالات الافتقار إلى الكمال المُطْلَق.

إن القوانين المعقدة غير المعروفة كثيرًا التي تتحكم في التغير، هي بقدر ما يمكننا أن نحكِّم نفس القوانين التي تحكمت في إنتاج ما يُسمَّى بالأنواع المميزة. ويبدو أن الظروف الطبيعية في كلتا الحالتين قد أحدثت بعض التأثير المباشر، ولكننا لا نستطيع تحديد مداه، ومع ذلك فإن الضروب عندما تدخل أية منطقة تكتسب بعضًا من صفات الأنواع الخاصة بتلك المنطقة. ويبدو أن الاستعمال وعدم الاستعمال قد أحدثا بعض التأثير في كل من الضروب والأنواع، وإنه لمن المستحيل أن نقاوم هذا الاستنتاج عندما نتأمل مثلًا البط المسمى بالأحمق ذي الأجنحة العاجزة عن الطيران، في نفس الظروف تقريبًا التي يوجد فيها البط الأليف، أو عندما نتأمل التيكوتيكو الحفار الذي يكون في بعض الأحيان أعمى، ثم نتأمَّل بعض أنواع الخُلد العمياء في العادة أو ذات الأعين المغطاة بالجلد، أو عندما نتأمَّل الحيوانات العمياء التي تسكن الكهوف المظلمة في أوروبا وأمريكا. ويبدو أن تناسب النمو قد لعب في كل من الضروب والأنواع دَورًا هامًّا جدًّا لدرجة أنه عندما يتحور جزء، تتحور أجزاء أخرى بالضرورة، ويحدث في كل من الضروب والأنواع عودة إلى صفات تكون قد فُقِدت منذ زمن بعيد. ما أصعب تفسير ظهور الخطوط أحيانًا على أكتاف وأرجل الأنواع المختلفة من جنس الحصان وبعض الهجن الناتجة من تَزاوُج أنواعه، وذلك على أساس نظرية الخلق! ولكن ما أسهل تفسير هذه الحقيقة لو كنا نعتقد أن هذه الأنواع قد انحدرت عن أصل مخطط كما انحدرت السلالات المستأنسة العديدة للحمام من الحمام البري الأزرق والمخطط!

لماذا، على أساس النظرية العادية بأن كل نوع خُلِق خلقًا مستقلًّا، تكون الصفات النوعية أو تلك التي تميز أنواع الجنس الواحد بعضها عن بعض، أكثر تغيرًا من الصفات الجنسية التي تتفق فيها هذه الأنواع جميعًا؟ وعلى سبيل المثال، لماذا يكون الاحتمال الأكثر أن يختلف لون زهرة في أي نوع من جنس ما، لو أن النوع الآخر المفروض أنه خُلق خلقًا مستقلًّا له زهور من ألوان مختلفة، أكثر مما لو تكون كل الأنواع التابعة لنفس الجنس لها نفس ألوان الزهور؟ ولو أن الأنواع كانت مجرد ضروب ملحوظة جدًّا صارت صفاتها ثابتة إلى حَدٍّ كبير، لأمكننا أن نفهم هذه الحقيقة؛ إذ إنها تكون قد تنوعت فعلًا في صفات معينة منذ أن تفرَّعت من سلف مشترك، وتكون قد صارت متميزة بتلك الصفات بشكل خاص. وعلى هذا فنفس هذه الصفات تكون قَمينةً بأن تظل قابلة للتغير أكثر من الصفات الجنسية، التي ورثتها دون تغير طوال فترة بالغة الطول. إنه لمن المتعذر على أساس نظرية الخلق أن نفسر: لماذا يكون العضو المتكوِّن بطريقة غير عادية في نوع من جنس ما، وبالتالي فهو — كما نستنتج طبيعيًّا — ذو أهمية كبرى للنوع؟ لماذا يكون ذلك العضو متعرضًا بدرجة فائقة للتغير؟ ولكن على أساس نظريتي يمكن تفسير ذلك بأن هذا العضو قد تعرَّض منذ تفرعت الأنواع المختلفة من أصل مشترك لقدر غير عادي من التغير والتحور، ومن ثَم، يمكننا أن نتوقع أن يظل هذا العضو قابلًا للتغير. ولكن يمكن لعضو أن ينشأ في حالة أغرب ما يمكن، ومثال ذلك جناح الخفُّاش، ومع ذلك لا يكون أكثر قابلية للتغير من أي تركيب آخر، لو أنه كان مشتركًا في أشكال كثيرة فرعية، بمعنى أنه يكون موروثًا طوال فترة طويلة؛ إذ إنه في تلك الحالة سيكتسب النبات عن طريق الانتخاب الطبيعي المستمر لمدة طويلة.

وإذا ألقينا نظرة على الغرائز، وهي عجيبة كما يبدو بعضها، فهي لا تُظهِر صعوبة أكبر مما تظهرها التراكيب الجسدية، إذا فُهِمت على أساس الانتخاب الطبيعي للتحورات النافعة الطفيفة المتتابعة، ويمكننا بهذا الشكل أن نفهم لماذا تتحرك الطبيعة بخطوات مُتدرِّجة عند منحها الغرائز المختلفة التابعة لنفس الطائفة. ولقد حاولتُ أن أوضح كم من الضوء تلقيه قاعدة التدرج على القوى الهندسية العجيبة لنحلة العسل، ولا شك أن العادة تلعب دورها أحيانًا في تحوير الغرائز، ولكنها بالتأكيد ليست ذات بال، كما نرى في حالة الحشرات اللاشقية العقيمة التي لا تترك نسلًا يرث نتائج العادات التي تلازمها طويلًا، وعلى أساس فكرة تسلسل كل الأنواع التابعة لجنس معين من سلف مشترك واشتراكها في وراثة الكثير من الصفات، يمكننا أن نفهم: لماذا تتخذ الأنواع المتقاربة نفس الغرائز تقريبًا حتى عندما تقع تحت ظروف من الحياة مختلفة تمامًا؟ فلماذا يُبطِّن سمان جنوب أمريكا مثلًا عُشَّه بالطين تمامًا كما يفعل نظيره في بريطانيا؟ وعلى أساس فكرة اكتساب الغرائز ببطء عن طريق الانتخاب الطبيعي لسنا في حاجة أن نعجب من أن تكون بعض الغرائز ناقصة نقصًا ظاهريًّا، وعُرضة للخطأ، أو من أن تكون غرائز كثيرة سببًا في تعرض حيوانات أخرى للمتاعب.

ولو أن الأنواع لم تكن سوى ضروب ثابتة ومتميزة تمامًا، لأمكننا في الحال أن نفهم السر في اتباع نتاجها بالتزاوج الخلطي لنفس القوانين المعقدة في درجات وأنواع تشابهها لأسلافها، في كونها تمتص وتندمج بعضها في بعض، بفضل تكرار التزاوج المختلَط، وفي نواحٍ أخرى مماثلة كما يصنع النِتاج الناشئ من هذا التزاوج بين الضروب المعروفة. ولا شك أن هذه تكون حقائق غريبة، لو أن الأنواع خُلِقت خلقًا مستقلًّا، أو أن الضروب نشأت عن طريق قوانين ثانوية.

ونحن إذا اعترفنا بالنقص الذريع في السجل الجيولوجي، فإن مثل تلك الحقائق كما يزودنا بها هذا السجل تدعم نظرية التطور بالتحور، لقد ظهرت الأنواع الجديدة على المسرح وحدها وعلى فترات متتالية. أمَّا مقدار التغير عقب كل فترة من الزمن فهو مختلف جدًّا في المجموعات المختلفة. إن انقراض الأنواع والمجموعات الكاملة، وهذه الظاهرة التي لعبت دورًا واضحًا جدًّا في تاريخ العالم العضوي ليكاد ثُبوتُه على أساس قاعدة الانتخاب الطبيعي يكون حتميًّا؛ إذ إن صورَ الحياة القديمة تحل محلها صور جديدة متحسنة، ولا تعود الأنواع المفردة، ولا مجموعات الأنواع إلى الظهور عندما تنقطع مرة سلسلة الجيل العادي، ويسبِّبُ الانتشار المتدرِّجُ للأشكال السائدة، ومعه التحور البطيء لأخلاف هذه الأشكال ظهور صور الحياة بعد فترات طويلة من الزمن، وكأنما تغيرت في نفس الوقت في كل العالم. إن حقيقة وجود البقايا الحفرية في كل تكوين على درجة متوسطة نوعًا من الصفات بين الحفريات التي تحويها التكاوين التي من أعلاه، والتي من أسفله، ليس لها تفسير إلا أنها متوسطة الوضع في سلسلة التطور، وكذلك فالحقيقة العظمى في أن كل الكائنات العضوية المنقرضة تتبع نفس النظام مع الكائنات الحديثة، بحيث تقع إمَّا في نفس المجموعات أو في مجموعات متوسطة ليس لها تفسير. غير أن الكائنات الحية والمنقرضة كلاهما نتاج لأصول مشتركة، وحيث إن المجموعات التي انحدرت عن سلف قديم، قد انحرفت عمومًا في الصفات، فإن ذلك السلف هو وأخلافه المبكرين سيكونون غالبًا متوسطين من حيث الصفات عند مقارنتهم بالأخلاف المتأخرة. ومن ثم، يمكننا أن نفهم: لماذا يغلب كلما كانت الحفريات أكثر قدمًا، أن نقف موقفًا متوسطًا بدرجة ما بين مجموعات حالية متقاربة؟ ونحن ننظر بوجه عام إلى صور الحياة الحاضرة، بإحساس غامض على أنها أرقى من الصور القديمة المنقرضة، وهي كذلك طالما غلبت الصور المتأخرة والأكثر تحسنًا في ميدان الصراع من أجل الحياة، وأخيرًا فإن قانون الصمود الطويل للأشكال المتقاربة على نفس القارة — كصمود الكيسيات في أستراليا وعديمة الأسنان في أمريكا، وغير تلك من الحالات المماثلة ليعتبر شيئًا معقولًا؛ إذ إن الحديث والمنقرض داخل منطقة محدودة لا بُدَّ أن يكونا متقاربين من ناحية التسلسل.

وإذا نظرنا إلى ، واعترفنا بأنه كانت هناك حركات هجرة كثيرة بين الأماكن المختلفة من العالم خلال العصور الطويلة بسبب التغيرات المناخية والجغرافية السابقة، ووسائل الانتشار الكثيرة غير المعروفة، لأمكننا أن نفهم على أساس نظرية التطور بالتحور أغلب الحقائق العظمى الرئيسية في الانتشار والتوزيع. ويمكننا أن نفهم: لماذا ينبغي أن يكون هناك كل هذا التشابه الملحوظ في توزيع الكائنات العضوية في المكان؟ وكذلك تتابعها الجيولوجي في الزمان؟ ففي كلتا الحالتين كانت الكائنات مرتبطة برباط الأجيال العادي، كما أن وسائل التحوُّر كانت واحدة، ويمكننا أيضًا أن نفهم المعنى الكامل للحقيقة المُدْهِشة التي لا بد أن لفتت نظر كل رَحَّالة، وهي أنه في نفس القارة وتحت أكثر الظروف اختلافًا، تحت الحرارة وتحت البرد، وفوق السهل والحزن وفي الصحراوات والمستنقعات، نجد أن معظم الأحياء من كل طائفة كبيرة متقاربة تقاربًا واضحًا؛ إذ إنهم سيكونون جميعًا خلفاء نفس الأسلاف والمستعمرين القدماء. وعلى أساس نفس قاعدة الهجرة السابقة المرتبة في معظم الأحيان بالتحور يمكننا أن نفهم بمساعدة الحقائق المستمرة من العصر الجليدي تشخيص بعض النباتات والتقارب الشديد في نباتات أخرى كثيرة فوق أبعد الجبال، وتحت أكثر المناخات اختلافًا. وبنفس الطريقة، يمكننا أن نفهم التقارب الشديد بين بعض سكان البحار في النطاقين المعتدلين: الشمالي والجنوبي، بالرغم من أنه يفصل بينهما محيط ما بين المدارين كله، فبالرغم من أن منطقتين قد تسودهما نفس الظروف الطبيعية للحياة، فإنَّه لا حاجة بنا أن نعجب من اختلاف سكانها اختلافًا واسعًا لو أن سكان كل منطقة كانوا منفصلين تمامًا عن سكان المنطقة الأخرى مدة طويلة، وحيث إن علاقة الكائن العضوي بكائن عضوي آخر هي أهمُّ العلاقات كلها، وأن كلًّا من المنطقتين ستستقبل مستعمرين من مصدر ثالث، أو من أي منهما في فترات مختلفة، وبنسب مختلفة، فإن طريق التحور في المنطقتين لا بد أن يكون مختلفًا.

ويمكننا على أساس فكرة الهجرة بتحورات لاحقة أن نفهم: لماذا ينبغي أن يقْطُن جزر المحيطات عدد قليل من أنواع، ولكن يكون من بينها الكثير من الأشكال الغريبة؟ ويمكننا أن نرى بوضوح: لماذا لا ينبغي للحيوانات التي لا يمكنها أن تعبر مساحات واسعة من المحيط مثل الضفادع والثدييات البرية أن تقطع الجزر المحيطية؟ ولماذا — من الناحية الأخرى — نجد أن أنواعًا جديدة وغريبة من الخفافيش التي يمكنها عبور المحيط تقطن في الغالب جزرًا بعيدة جدًّا عن أية قارة من القارات؟ ولا يمكن إطلاقًا أن يكون هناك تفسير لحقائق مثل وجود أنواع غريبة من الخفافيش في الجزر المحيطية مع اختفاء الثدييات الأخرى على أساس نظرية عمليات الخَلْق المستقِلَّة.

ويوحي وجود أنواع وثيقة القرابة أو أنواع بعينها في أية منطقتين على أساس نظرية التطور بالتحور بأن نفس الأسلاف قطنت كلتا المنطقتين، وإننا لنجد — بدون استثناء — أنه حيثما تقْطُن أنواع كثيرة وثيقة القربى منطقتين، توجد أنواع بعينها ما زالت مشتركة بينهما، وحيثما توجد أنواع كثيرة وثيقة القرابة فإنَّها متباينة، وتوجد كذلك أشكال وضروب كثيرة غير مؤكَّدة تتبع نفس تلك الأنواع، وإنها لقاعدة يمكن أن تُعمم درجة كبيرة. إن سكان كل منطقة مرتبطون بسكان أقرب مصدر يمكن أن تكون الهجرة قد حدثت منه، ونرى ذلك في جُلِّ نباتات وحيوانات أرخبيل «جالايا جوس» و«جوان فرناندز» وجزر أمريكية أخرى، فهي ترتبط بوشائج القربى بشكل ملحوظ جدًّا مع نباتات وحيوانات الأجزاء المجاورة للقارة، وكذلك الحال في أرخبيل رأس فردي (كاب درفر) والأجزاء المجاورة من القارة الأفريقية، ويجب أنْ نعترف بأن هذه الحقائق ليس لها تفسير على أساس نظرية الخلق.

فالحقيقة هي — كما رأينا — أن كل الكائنات العضوية الحاضرة والقديمة يمكن أن ينتظمها عدد قليل من الطوائف الكبيرة، تضم مجموعات وتحت مجموعات، كما يضم مجموعات منقرضة تقع غالبًا متوسطة بين مجموعات حديثة. هذه الحقيقة معقولة تمامًا على أساس نظرية الانتخاب الطبيعي، وما يلازمها من انقراض عرضي وانحراف في الصفات، وعلى نفس هذه الأسس، يمكننا أن نفهم: لماذا تكون علاقات القُربى المتبادَلة بين الأنواع والأجناس التابعة لكل طائفة من الطوائف على كل تلك الدرجة من التعقيد والتشابك.

ويمكن أن نفهم: لماذا تكون بعض الصفات أكثر فائدة من غيرها في مسائل التصنيف؟ لماذا لا تكاد الصفات التكيفية تكون ذات فائدة تُذكر في مسائل التصنيف رغم أهميتها القصوى بالنسبة للكائن الحي؟ ولماذا تكون الصفات المستمَدَّة من الأعضاء الأثرية ذات أهمية تصنيفية كبرى في الغالب، بينما هي غير ذات فائدة للكائن نفسه، ولماذا تكون الصفات الجنينية أهم الصفات جميعًا؟ إن علاقات القربى الحقيقية بين كل الكائنات العضوية لترجع إلى الوراثة أو التسلسل المشترك، وإن النظام الطبيعي لترتيب نسَبي علينا أن نكتشف خطوط الانحدار والتسلسل فيه بوساطة أكثر الصفات ثباتًا مهما تضاءلت قيمتها الحيوية.

إنَّ نظام العظام لهو نفسه في يد الإنسان، وفي جَناح الخفاش، وفي زعنفة سلحفاة الماء، وفي رجل الحصان، ونفس العدد من الفقرات هو هو في رقبة الزرافة، وفي رقبة الفيل، وحقائق أخرى لا تُعدُّ، كلها تغدو مفسَّرة واضحة في الحال، على أساس نظرية التطور عن طريق التحورات الطفيفة البطيئة المتتابعة. وكذلك تشابه النظام بين جناح الخفاش ورجله رغم استعمالهما في غرضين مختلفين، وبين فَكِّ سرطان البحر ورجله، وبين بتلات الزهرة وأسرتيها والمتاع، كلها يسهل فهمها على أساس التحور التدريجي للأجزاء أو الأعضاء التي كانت متشابهة في الأسلاف المبكرة في كل طائفة من الطوائف. وعلى أساس قاعدة عدم ظهور التغيرات المتتابعة دائمًا في مرحلة مبكرة من العمر ووراثتها في مراحل مناظرة، يمكننا أن نفهم بوضوح: لماذا تكون أجنحة الثدييات والطيور والأسماك شديدة الشبه بعضها ببعض؟ وفي نفس الوقت شديدة التباين من الأشكال البالغة؟ وربما لا يتولانا الدهش حين نرى جنين الحيوان الثديي الذي يتنفس الهواء، أو الطائر وبه الفتحات الخيشومية، والشرايين التي تجري في ثنيات كتلك التي نراها في السمكة التي تتنفس الهواء الذائب في الماء بوساطة خياشيم تامة النُّموِّ.

وكثيرًا ما يؤدي عدم الاستعمال بمساعدة الانتخاب الطبيعي أحيانًا إلى اختزال الأعضاء عندما تصير عديمة النفع نتيجة لتغير العادات، أو تحت الظروف المتغيرة للحياة، وعلى أساس هذه النظرية، يمكننا أن نفهم معنى الأعضاء الأثرية، ولكن عدم الاستعمال والانتخاب يعملانِ عمومًا في كل مخلوق عندما يبلغ مرحلة النضوج، ويمكن أن يلعب دَوره الكامل في الصراع من أجل الحياة، وهكذا لن يكون له قوة كبيرة في التأثير على أحد الأعضاء في أثناء الفترات المبكرة من الحياة، ومن ثم لن يُختزَلَ العضو كثيرًا أو يغدو أثريًّا في تلك المراحل المبكرة من العمر. فالعجل مثلًا قد ورث أسنانًا لا تشق لثة الفَكِّ العلوي أبدًا، لقد ورث تلك الأسنان من سلف قديم ذي أسنان تامة النمو، ويمكن أن نعتقد أن الأسنان في الحيوان البالغ قد اختُزِلت خلال أجيال متعاقبة نتيجة لعدم الاستعمال، أو لأن الانتخاب الطبيعي كان هيأ اللسان وسقف الحلق لرعي الخضرة دون مساعدة الأسنان، في حين أن الأسنان في العجل لم يمسها الانتخاب، أو عدم الاستعمال. وبمقتضى قاعدة الدراسة في مراحل متناظرة من العمر ورثت من عصور سحيقة حتى الآن، كيف يمكن أن نفهم على أساس نظرية الخلق الخاص لكل كائن عضوي وكل عضو مستقل معنى اتسام الأسنان في العجل وهو جنين، أو الأجنحة المغضَّنة تحت الأغطية الجناحية الملتحمة في بعض الخنافس، بطابع عدم الاستعمال الواضح! إنه ليمكن أنْ يُقال: إنَّ الطبيعة قد تحملت الكثير كي توضح لنا عن طريق الأعضاء الأثرية، والتراكيب الجنينية والمتشابهة، سُنتها في التحوير، ولكننا نتعامى عن فهم مراميها.

لقد راجعتُ الآن الحقائق والاعتبارات الرئيسية التي أقنعتني تمامًا أن الأنواع قد تحورت خلال آماد طويلة من التسلسل والانحدار، وذلك بواسطة الإبقاء على تغيرات عديدة متعاقبة طفيفة نافعة أو بانتخابها انتخابًا طبيعيًّا.

وقد ساعدتْ في ذلك بدرجة كبيرة التأثيرات الوراثية لاستعمال الأعضاء وعدم استعمالها، كما ساعدت بدرجة غير كبيرة التراكيب التكيفيَّة سواء في الماضي أو الحاضر، كذلك التأثير المباشر للظروف الخارجية، وكذلك التغيرات التي يبدو لنا — ربما جهلًا مِنَّا — أنها تنشأ ذاتيًّا، ويظهر أني كنت قد قللت من شأن هذه التغيرات من حيث إنها تؤدي إلى محورات مستديمة مستقلة عن تأثير الانتخاب الطبيعي. ولكن بما أن استنتاجاتي قد أُسيء تعليلها وعرضها، كما قيل إني أعزو تحور الأنواع كليَّةً إلى الانتخاب الطبيعي، فإني أرجو أن يُسمَح لي أني قد أشرت في الطبعة الأولى في موضع واضح جدًّا هو ختام المقدمة، فقد قلتُ بالنَّصِّ: «إني مقتنع أن الانتخاب الطبيعي كان الوسيلة الرئيسية — لا الوحيدة — للتحور.» ولم يكن لذلك من فائدة، فإن الإصرار على إساءة العرض لها أثر بالغ، ولكن لحسن الحظ أن تاريخ العِلم يدل على أن هذه القدرة لا تصمد طويلًا.

ولا يمكنني أن أفترض أن نظرية زائفة يمكنها أن تفسر تلك المجموعات الكبيرة العديدة من الحقائق التي بَنَيتها في هذا الكتاب، كما يبدو لي أن قد فسرتها نظرية الانتخاب الطبيعي.

وقد أعترضُ أخيرًا، أن هذه ليست طريقة مأمونة للمناقشة، ولكنها طريقة للحكم على حوادث مشتركة في الحياة، وقد كان يتبعها أعظم الفلاسفة الطبيعيين، فقد عرفنا النظرية المتموِّجة للضوء، ولم يكن ثمة دليل على أن الأرض تدور حول محورها، كما أنه ليس اعتراضًا حقيقيًّا أن العلم لم يُلقِ بعدُ ضوءًا على موضوع نشأة الحياة، ثم من ذا الذي يستطيع أن يفسر معنى الجاذبية، وإن لم يعارض أحد في شواهدها ونتائجها، ومع ذلك فقد اتَّهمَ «ليبتزُ» «نيوتنَ» بأنه يقحم المُعميات والمعجزات في الفلسفة.

ولا أرى أية أسباب وجيهة تجعل من الأفكار المتضمَّنة في هذا الكتاب ما يصدم الشعور الديني لأي إنسان، ولقد كتبَ إليَّ مؤلِّف ورجل من رجال الدين مشهور يقول إنه «قد تعوَّد بالتدريج أن ينظر إلى فكرة الألوهية على أساس الاعتقاد بأن الله قد خلق في الأصل عددًا قليلًا من الأشكال قادرة على النمو الذاتي والتحول إلى أشكال مطلوبة، على أنها فكرة على درجة من النُّبل كفكرة الاعتقاد بأن الله قد رجع إلى عملية خلق جديدة ليكمل الفراغات التي نتجت عن فعالية قوانينه.»

ولسائل أن يسأل: لماذا رفض كل فطاحل الطبيعيين والجيولوجيين الأحياء هذه النظرية الخاصة بقابلية الأنواع للتغير؟ إننا لا يمكن أن نثبت أن الكائنات العضوية في الحالة الطبيعية لا تتعرض للتغير، ولا يمكن أن نبرهن أن كمية التغير خلال عصور طويلة هي قدر محدود، كما أنه ليس هناك حدود واضحة يمكن رسمها بين الأنواع والضروب المتميزة، ولا يمكن التأكيد بأن الأنواع إذا تلاحقت تكون عقيمة دائمًا، أو أنَّ الضُّروب إذا تلاحقت تكون خصبة دائمًا، أو أن العقم مزية خاصة وعلامة من علامات الخلق. لقد كان الاعتقاد في أنَّ الأنواع إنتاج ثابت اعتقادًا يكاد يكون لا مَناصَ منه، طالما كان الناس يظنون أنَّ تاريخ العالم فترة قصيرة، ولكن الآن بعد أن كوَّنَّا فكرة عن طول ذلك الزمن، جدير بنا أن نفترض دون برهان أن السجل الجيولوجي على درجة من الكمال يمكن أن تكفي لتزويدنا بشواهد واضحة عن طفرة الأنواع، لو أنها تعرضت للطفرة فعلًا.

ولكنَّ السبب الرئيسي في عزوفنا الطبيعي عن أن نقرر بأن النوع يمكن أن ينشأ من نوع آخر مختلف عنه تمامًا، هو أننا نتَّسم دائمًا بالبطء في الاعتراف بأي تغير كبير لا نرى الخطوات التي تؤدي إليه. إن الصعوبة هي نفسها التي كان يلمسها من الجيولوجيين عندما أصر «لايل» أول مرة على أن الخطوط الطويلة من الجروف الأرضية والأودية العظمى قد تكونت نتيجة للعمل البطيء الذي لا تزال تؤديه العوامل المختلفة. إن العقل ليقْصُر عن الإحاطة بالمعنى الكامل للمصطلح «مليون عام» … ولا يمكنه أن يجمع أو يتفهم الأثر الكامل للتغيرات العديدة الطفيفة التي تتراكم خلال عدد من الأجيال يكاد يكون لا نهائيًّا.

وعلى الرغم من أنني مقتنع تمامًا بصحة كل الآراء التي وردت في هذا الكتاب في شكل خلاصة، فإني لا أنتظر — بأي شكل من الأشكال — أن أقنع أحدًا من علماء التاريخ الطبيعي المتمرسين، المشحونة عقولهم بعديد من الحقائق التي رأوها خلال سنين طويلة من وجهة نظر مضادة تمامًا لوجهة نظري. إنه لمن السهل جدًّا أن نخفي جهلنا وراء تعبيرات مثل: «نظام الخليقة» و«وحدة النظام» … إلخ، ونظن أننا قدمنا تفسيرًا عندما نكون قد أعدنا فقط ذكرى حقيقة من الحقائق. إن أيَّ أحد يقوده استعداده إلى الاهتمام بالصعوبات التي تفتقر إلى التفسير أكثر من اهتمامه بتفسير عدد معين من الحقائق سيرفض نظريتي بالتأكيد. إن عددًا قليلًا من علماء التاريخ الطبيعي الموهوبين بمرونة العقل، والذين أخذوا يشكُّون في ثَبات الأنواع هم الذين قد يتأثرون بهذا الكتاب، ولكني أرنو بثقة إلى المستقبل، إلى علماء التاريخ الطبيعي من الشبان الصاعدين الذين سيمكنهم النظر إلى كل من جانبي المسألة دون تحيُّزٍ، إن أي أحد يجد أنه اعتقد في تغير الأنواع سيؤدي خدمة جليلة، إذا عبَّر عن اعتقاده بضمير خالص؛ إذ بهذا الشكل فقط يمكن أن يُرفعَ عبء التحيز الذي ران على هذا الموضوع.

ولقد نشر عدد من فطاحل علماء التاريخ الطبيعي أخيرًا اعتقادهم في أن عددًا كبيرًا من الأنواع المشهورة في كل جنس من الأجناس ليست أنواعًا حقيقية، ولكن أنواعًا أخرى هي الحقيقية؛ أي إنها خُلِقت خلقًا مستقلًّا، ويبدو لي أن هذا استنتاج غريب. إنهم يعترفون بأن عددًا كبيرًا من الأشكال التي كانوا يظنون هم أنفسهم — حتى عهد قريب — أنها خُلِقت خلقًا خاصًّا، والتي ما زال ينظر إليها أغلب علماء التاريخ بنفس النظرة، والتي تتوفَّر بها بالتالي كل الصفات الخارجية المتميزة للأنواع الحقيقية، يعترفون أن تلك الأنواع نشأت عن طريق التغير، ولكنهم يرفضون مَدَّ وجهة النظر نفسها كي تشمل أشكالًا أخرى تختلف اختلافًا طفيفًا.

ومع ذلك فهم لا يدَّعون أنهم يمكنهم أن يحددوا — أو حتى يفكروا في تحديد — أي هذه الصور من الحياة خُلِقت خلقًا، وأيها تُبحث عن طريق قوانين ثانوية، إنهم يعترفون بالتغير كسبب حقيقي في حالة من الحالات، ثم يرفضونه رفضًا تحكميًّا في حالة أخرى دون تحديد أي تمييز في كلتا الحالتين. وسيأتي اليوم الذي يُضرَب فيه هذا كمثال عجيب للتعامي المتسبب عن تصور سابق للأفكار. هؤلاء المؤلِّفون لا يبدو أنهم يُؤخذون من عملية الخلق المعجزة أكثر مما يُؤخذون من عملية ولادة عادية، ولكن هل يعتقدون حقًّا أنه في عدد كبير من الفترات في تاريخ الأرض قد أوحى إلى بعض ذرات العناصر أن تتحول فجأة إلى أنسجة حية؟ هل يعتقدون أنه عند كل عملية مزعومة من عمليات الخلق نشأ فرد أو عدد من الأفراد؟ أخُلِقت الأعداد اللانهائية من أصناف الحيوانات والنباتات في هيئة بيض أو بذور أم في هيئة أفراد بالغين؟ وفي حالة الثدييات، هل خُلِقت وعليها علامات مزيفة للتغذية من الأم؟ ومما لا شك فيه أن مثل هذه الأسئلة لا يستطيع أن يحيبها الذين يعتقدون بظهور أو خلق صور محدودة للحياة أو صورة واحدة فقط. ومن رأي عدد من العلماء أن من السهولة أن نصدق بخلق مليون من الكائنات كما نصدق بخلق كائن واحد، ولكن العقل أميل لتصديق العدد الأقل، وعلينا ألا نصدق أن ما لا يُحصى من الكائنات من كل طائفة كبيرة، قد خُلِقت بسهولة، حاملة علامات التسلسل من أب مفرد، وإذا حاولت تلخيص ما سبق من أن علماء التاريخ الطبيعي يعتقدون بالخلق المستقل لكل نوع، وكان هذا هو الرأي السائد عندما ظهرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب. وكثيرًا ما تحدثتُ إلى عدد منهم في موضوع التطور، ولم أجد منهم عطفًا وموافقة على الفكرة، ومن الجائز أن يكون بعضهم قد آمن بها، ولكنهم إمَّا أنْ يلوذوا بالصمت، أو يعبرون عن آرائهم مما يبدو معقدًا غير مفهوم، ولكنَّ الأمور تغيرت الآن، وأخذوا جميعًا بفكرة التطور، ومع ذلك، فما زال بعضهم يعتقد أن الأنواع قد أُنتجت فجأة لصور مختلفة تمامًا. وقد ذكرتُ أنه من الممكن التدليل على عدم صِحَّة هذا التحور المفاجئ، وأنه لا فضل لهذا الاعتقاد على القول بخلق الأنواع من تراب الأرض.

إن علماء التاريخ الطبيعي على الرغم من أنهم يطالبون — ومعهم كل الحق — في مسألة تغير الأنواع بتفسير كامل لكل صعوبة، فإنهم من جانبهم يجهلون موضوع «الظهور الأول للأنواع» كله وراء ستار ما يعتبرونه صمت التوقير والتبجيل.

ولسائل أن يسأل: إلى أي حَدٍّ أذهب في توسيع مذهب تغير الأنواع؟ وفي الإجابة على هذا السؤال صعوبة؛ لأنه كلما تميزت الأشكال التي نعالجها تدهورت قوة الحجج التي تُساق لها، ولكن بعض الحجج البالغة الأهمية قد تمتد وتُوسَّع كثيرًا. إن جميع الأفراد في طوائف بأسرها ليمكن أن تُربط بعضها ببعض بسلاسل من وشائج القربى، كما يمكن تصنيفها جميعًا على نفس الأسس في مجموعات تحت مجموعات، وتميل البقايا الحفرية أحيانًا إلى ملء الفراغات الواسعة بين الرتب الحالية، وتوضِّح الأعضاء الأثرية أن السلف القديم كانت به تلك الأعضاء في حالةٍ كاملة النمو، ويوحي هذا — بالضرورة — في بعض الحالات بقدر كبير من التغير في الخلف، وتتكوَّن تراكيب مختلفة من نفس الطراز في طوائف بأسرها من أولها إلى آخرها، وتشبه الأنواع بعضها بعضًا شهبًا وثيقًا في مرحلة الجنين. وعلى هذا فلا يمكنني أن أشك في أن نظرية التطور بالتغير تشمل كل الأفراد المنتمية للطائفة الواحدة. إني أعتقد أن الحيوانات قد انحدرت من أربعة أو خمسة أسلاف فقط على أكثر تقدير، وأن النباتات قد انحدرت عن عدد من الأسلاف مساوٍ لهذا العدد أو أقل منه.

وقد تقودني المقارنة والتماثُل إلى خطوة أخرى: وهي الاعتقاد بأن كل الحيوانات والنباتات قد انحدرت من أصل بدائي واحد، ولكن المقارنة قد تكون دليلًا خادعًا، ومع ذلك فكل الأشياء الحية تشترك في الكثير: في تركيبها الكيماوي، وفي تركيبها الخلوي، وفي القوانين التي تحكم في نموها، وفي تكاثرها، وفي تأثرها بالمؤثرات الضارة. ونحن نرى ذلك حتى في أمثلة غاية في التفاهة، كما في حالة السُّم نفسه الذي يؤثر غالبًا تأثيرًا مشابهًا على النباتات والحيوانات، أو السم الذي تفرزه ذبابة العفص، فيؤدي إلى أورام غريبة في الورد البري، وفي شجرة السنديان. ولذلك فلا بد لي أن أستنتج من المقارنة والتحليل بالمثل أنه من المحتمل أنْ تكون كل الكائنات العضوية التي عاشت فوق هذه الأرض قد انحدرت على شكل واحد أصلي بدائي، نفخ الله فيه الحياة أول مرة، ففي كل الكائنات العضوية — ربما عدا بعض الدنيا منها — فإن التكاثر الجنسي فيها متشابه، وفيها جميعًا كما هي الحال الآن، فإن الخلية الجرثومية واحدة. وعلى ذلك، فإن كل الكائنات العضوية لها أصل مشترك، وإذا نظرنا إلى القسمين الرئيسيين (عالمي الحيوان والنبات) فإن بعض الصور الدنيا تبدو متوسطة الصفات، حتى إن العلماء تنازعوا نسبتها إلى أي العالمين. وكما أشار الأستاذ «آسا جراي» فإن الأبواغ والأجسام التكاثرية الأخرى في كثير من الطحالب الدنيا كان لها وجود حيواني، ثم وجود نباتي. وعلى أساس الانتخاب الطبيعي مع تحور في الصفات، فمن المحتمل أنْ تنشأ من هذه الصور الأولية المتوسطة كل من الحيوانات والنباتات، وإذا قررنا ذلك وجب أنْ نقرر كذلك أن كل الكائنات العضوية التي عاشت على سطح الأرض قد تسلسلت من أصل بدائي واحد. وممَّا لا شك فيه أن من المحتمل كما يقول «المستر ج. ﻫ. لويس»: إنه في بدء الحياة، نشأت صور مختلفة كثيرة، وإذا كان الأمر كذلك، فإن قليلًا جدًّا منها ترك خلقًا متحورًا. وكما لاحظتُ أخيرًا بالنسبة لأفراد كل قسم كبير كالفقاريات، والمفصليات فهنالك أدلة كثيرة من الأجنة، والتجانس، والأعضاء الأثرية، مما يدل على أنَّ الأفراد جميعًا قد تسلسلت من أصل واحد.٢

وعندما تحظى أفكاري التي قدَّمتها في هذا الكتاب، وكذلك أفكار «المستر ولاس» في المجلة اللينية، والأفكار المشابهة عن أصل الأنواع، عندما تحظى بالاعتراف العام، يمكننا أن نتنبأ — إلى حدٍّ ما — بأنه ستكون هناك ثورة لا يُستهان بها في التاريخ الطبيعي، وسيكون في مقدور المصنِّفين أن يتابعوا جهودهم كما يفعلون الآن، ولكنهم لن يرزحوا باستمرار تحت كابوس الشك فيما إذا كان هذا الشكل أو ذاك — في حقيقة الأمر — نوعًا من الأنواع. وإنِّي لأشكُّ كما أني أتكلم من وحي التجربة أن هذا لن يكون نجدة بسيطة، وسيتوقف النزاع اللانهائي بخصوص ما إذا كانت الأنواع الخمسون من نبات العُليق البريطاني أنواعًا حقيقية أم لا؟! ولن يكون على المصنفين إلَّا أنْ يقرروا — ولن يكون هذا سهلًا — ما إذا كان شكل من الأشكال ثابت بالدرجة الكافية ومتميز عن غيره حتى يمكن تعريفه؟ وإذا كان قابلًا للتعريف، فهل تكون الفروق على درجة كافية من الأهمية حتى يستحق اسمًا نوعيًّا؟ وستصير هذه النقطة الأخيرة موضوعًا أكثر أهمية عمَّا هي عليه الآن؛ إذ إن الفروق مهما ضؤلت بين أي شكلين إذا لم تكن ممتزجة بتدرجات متنوعة بينهما، فإن معظم علماء التاريخ الطبيعي يعتبرونها كافية لرفع كل من الشكلين إلى رتبة النوع، وسنجد أنفسنا فيما بعد مضطرين للإقرار بأن التمييز الوحيد بين الأنواع والضروب الواضحة هو أن الأخيرة معروفة بأنها، أو يعتقد أنها مرتبطة حتى يومنا الحاضر بتدرجات متوسطة، بينما الأنواع كانت مرتبطة هكذا في الماضي. وهكذا بدون أن نرفض موضوع وجود التدرجات المتوسطة بين أي شكلين من الأشكال الآن سيكونون موجهين لكي نَزِنَ كمية الفرق الحقيقية بينهما، ونقدرها بدقة أكثر. إنه لمن الممكن تمامًا أن بعض الأشكال المعترف بها عمومًا الآن كمجرد ضروب قد تُعتبر فيما بعد حَرِيَّة بأسماء نوعية، وعندئذٍ ستتفق اللغة الدارجة واللغة العامية. وبالاختصار فإننا سنعالج الأنواع بنفس الطريقة التي يعالِج بها هؤلاء الطبيعيون الأجناس ليست إلَّا تجميعات صناعية مناسبة. وقد لا يكون هذا أملًا سعيدًا، ولكننا على الأقل سنتحرر من البحث دون جدوى عن المعنى غير المكتَشف والذي لن يُكتشف للمصطلح «نوع».

وستسمو الأقسام الأخرى العامة من التاريخ الطبيعي سموًّا كبيرًا في مقاصدها فستتوقف المصطلحات التي يستعملها علماء التاريخ الطبيعي: كعلاقات القربى، ووحدة الطراز، والأبوة والمورفولوجيا، والصفات التكيفية، والأعضاء الأثرية … إلخ.

ستتوقف كلها عن كونها مجرد مصطلحات استعارية، وستكتسب معاني واضحة، وعندما نُقْلِع عن النظر إلى الكائن العضوي كما ينظر الإنسان البدائي إلى السفينة كشيء بعيد كل البعد عن مدى قوة إدراكه، وعندما نعتبر كل إنتاج من إنتاج الطبيعة له تاريخه، وعندما نتأمل كل تركيب معقد، وكل غريزة على أنها حصيلة المحاولات كثيرة كل منها مفيدة لصاحبها، نتأملها تقريبًا بنفس الطريقة التي نتأمل بها أي اختراع ميكانيكي عظيم على أنه حصيلة الجهد والتجربة والمنطق وحتى أخطاء وطيش عدد كبير من العمال، عندما يُنظر هكذا إلى كل كائن عضوي، فكم ستكون دراسة التاريخ الطبيعي عندئذٍ مشوِّقة حقًّا! وإني لأقول هذا من وحي التجربة نفسها.

وسيُفتح ميدان عظيم بكر تقريبًا من البحوث المتصلة بأسباب وقوانين التغير وتناسب النمو، وتأثير الاستعمال وعدم الاستعمال، والتأثير المباشر للظروف الخارجية وغير ذلك، وسترتفع قيمة دراسة إنتاج الضروب المستأنسة كثيرًا، وسيكون الضرب الجديد من إنتاج الإنسان موضوعًا أكثر أهمية وطرافة بالنسبة للدراسة من أي نوع جديد يُضاف إلى السجل اللانهائي من الأنواع المعروفة. وستبدأ التصانيف التي تقوم بها، بالقدر الذي سنوجهه من عناية إليها، في أنْ تكون تصانيف نسبية، وفي ذلك الوقت ستزودنا بما يمكن أن يُقال عنه بحق: نظام الخليقة، وستكون قواعد التصنيف أكثر بساطة بدون شك عندما يكون لدينا هدف محدد من ذلك، إننا ليس لدينا أنظمة نسبية، وعلينا أن نكتشف ونتبع خطوطًا للتسلسل كثيرة منحرفة ومتشعبة في نسبياتنا الطبيعية، بالاستعانة بصفات من أي صنف تكون قد ورثت خلال أزمنة طويلة. وستتحدث الأعضاء الأثرية في عصمة من الخطأ، عن التراكيب المفقودة منذ عصور طويلة، وستساعدنا الأنواع أو مجموعات الأنواع التي تُسمَّى بالأنواع الشاذة، والتي يروق لنا أن نسميها بالحفريات الحية، ستساعدنا على تكوين صورة من الأشكال العتيقة للحياة، وسيكشف لنا عِلم الأجنة عن التركيب الغامض نوعًا للأصول البدائية لكل طائفة من الطوائف الكبرى.

وعندما يمكننا أن نشعر بثقة أن كل الأفراد المنتمين إلى كل نوع من الأنواع، وأن كل الأنواع الوثيقة القرابة المنتمية إلى معظم الأجناس، قد انحدرت — في حدود فترة ليست بسحيقة جدًّا — عن أصل واحد، وهاجرت من مسقط رأسي واحد، وعندما تُعرَف الوسائل المختلفة للهجرة بشكل أحسن. عندئذٍ، وبفضل الضوء الذي يلقيه علم الجيولوجيا الآن، والذي سيظل يلقيه على التغيرات السابقة في المناخ ومنسوب البر، سنتمكن — بالتأكيد — من أن نتتبع بشكل مدهش حركات الهجرة السابقة لسكان هذا العالم، وحتى في الوقت الحالي، يمكننا من مقارنة الفروق بين الأحياء البحرية على كل من جانبي قارة من القارات، وبين طبيعة الأحياء المختلفة التي تقطن تلك القارة بالنسبة لوسائل الهجرة الظاهرية لتلك الأحياء، يمكننا أنْ نسلِّط بعض الضوء على الجغرافية القديمة.

إنَّ علم الجيولوجيا النبيل ليفقد شيئًا من جلاله بسبب النقص الذريع في السجل الجيولوجي، فلا ينبغي أنْ ننظر إلى قشرة الأرض وما تحويه من بقايا مدفونة على أنها مُتحف مليءٌ تمامًا، بل على أنها مجموعة هزيلة جُمعت من مراحل قليلة وعرضية، ويجب أن يُؤخذ كل تراكم ضخم للكل تكوين حامل للحفريات على أن وجوده توقف على سيادة غير عادية لظروف معينة، وأن المسافات الخالية بين المراحل المتتابعة تمثل عصورًا بالغة الطول، ولكن سيكون في مقدورنا أن نقدر — بأمان — طول تلك المراحل من المقارنة بالأشكال العضوية السابقة واللاحقة. ولا بد أن نكون على حذر من أن نحاول نسبة اثنين من التكاوين واحد منهما للآخر عندما لا يحوي أيٌّ منهما غير عدد قليل من نفس الأنواع الموجودة بالآخر، وذلك بطريقة التتابع العام لصور الحياة فيهما. ولمَّا كانت الأنواع تنشأ وتنقرض نتيجة لأسباب تعمل في بطء، وما زالت قائمة حتى الآن، وليس نتيجة لعمليات خلقية معجزة أو ظواهر كوارثية، ولمَّا كان أهم كل أسباب التغير العضوي سببًا يكاد يكون مستقلًّا عن الظروف الطبيعية المتغيرة، أو ربما تلك التي تتغير فجأة، ألا وهو العلاقة المتبادَلة بين الكائنات العضوية — بمعنى أن تحسُّن أحد الأحياء يتبعه تحسُّن غيره أو انقراضه — فإن مقدار التغير العضوي في حفريات التكاوين المتتابعة، قد يساعد كمقياس معقول لانصرام الزمن الحقيقي. وعلى أي حالٍ، فقد يبقى عدد من الأنواع في مكان واحد ثابتًا لمدة طويلة، بينما قد يتحور عدد منها خلال نفس المدة عن طريق الهجرة إلى مناطق جديدة، والدخول في منافسة مع أقران أجانب، لدرجة أننا لا ينبغي أنْ نبالغ في دِقَّة التغير العضوي كمقياس للزمن. وربما كان معدل التغير في أثناء الفترات الأولى من تاريخ الأرض أكثر بطئًا عندما كانت صور الحياة — أغلب الظن — أقل وأبسط منها فيما بعد. وإبان الفجر المبكر للحياة، حينما لم يكن هنا غير عدد قليل من أبسط الأشكال تركيبًا، ربما كان معدل التغير بطيئًا بدرجة متناهية. إن تاريخ العالم — كله كما هو معروف الآن — سيعتبر بالرغم من طوله الذي لا يحيط به العقل، مجرد لحظة من الزمن إذا قُورن بالآماد التي انصرمت منذ ظهر أول مخلوق أو الجَّدُّ الأعلى لعدد لا يُعدُّ من الأخلاف المنقرضة والحية.

إني لألمح في المستقبل ميادين مفتوحة لبحوث أكثر أهمية، سيقوم علم النفس على أسس جديدة، وتلك هي أنَّ الاكتساب اللازم لكل قوة وكفاءة عقلية يتم بالتدريج، وهكذا سيسطع الضوء على أصل الإنسان وتاريخه.

ويبدو أنَّ فطاحل المؤلِّفين مقتنعون تمامًا وبوجهة النظر القائلة بخلق كل نوع مستقلٍّ عن غيره. أما بالنسبة لتفكيري، فإن مذهب نشوء وانقراض الأحياء القديمة والحالية في هذا العالم على أساس أنه يرجع إلى أسباب ثانوية، ليتفق أكثر مع ما نعرف من قوانين طبعها الخالق على المادة، كتلك القوانين التي تعيِّن مولد القرد وموته. إنني عندما أنظر إلى كل الطائفات على أنها ليست نتائج عمليات خلق خاصة بها، على أنها أخلاف متسلسلة بعضها عن بعض، نشأت من عدد قليل من الكائنات التي عاشت قديمًا جدًّا قبل ترسُّب أول طبقة في النظام السيلوري، فإنه يبدو لي أن تلك الكائنات قد ازدادت قدرًا وشرفًا. ويمكننا أن نستنتج — بأمان بناء على حكمنا من الماضي — أن النوع لن يورِّث صفاته دون تغير إلى الأجيال المستقبِلة، وبالنسبة للأنواع الحاضرة، فإن النزر اليسير منها فقط هو الذي سيترك أخلافًا من أي نوع للمستَقْبَل البعيد؛ إذ الطريقة التي تنتظم بها كل الكائنات العضوية توضح أن العدد الأكبر من الأنواع تحت كل جنس، وأن كل الأنواع تحت أجناس كثيرة لم تترك أخلافًا، ولكنها انقرضت تمامًا. وهنا يمكننا أنْ نرسل لمحة إلى المستَقْبَل لنتنبأ بأن الأنواع الشائعة الواسعة الانتشار التي تتبع المجموعات الكبيرة الغالبة هي التي ستسود أخيرًا، وتنتج أنواعًا جديدة غالبة. وحيث إن كل الصور الحالية من الحياة هي الأخلاف المتسلسلة من تلك التي عاشت من زمن طويل قبل العصر السيلوري، فيجدر بنا أن نثق في أنَّ التتابع العادي للأجيال لم يتوقف أبدًا، وأنه لم تحل بالدنيا كارثة دمَّرتها في الماضي. ومن ثَم، يمكننا أنْ نتطلع بشيء من الثقة إلى مستَقْبَلٍ مأمون، لا يَقِلُّ طوله الذي لا يمكن حسابه عن طول ما سبقه من الزَّمان. وحيث إن الانتخاب الطبيعي يعمل فقط لصالح الكائن الحي، ويدافع عنه، فإن جميع المواهب الجسدية والعقلية ستميل إلى التقدُّمِ نحو الكمال.

إنه لمن الممتع أنْ نرْقُب ضِفة يكسوها العديد من النباتات من كل الأنواع، تصدح بها الطيور على الشجيرات، وتحوم فيها الحشرات من كل صنف، وتزحف الديدان مخترقة التربة الرطبة، ثم نتأمل كيف أن تلك الصور الحية المبنية أحسن بنيان، والتي يختلف بعضها عن البعض كثيرًا، والتي يعتمد كل منها على الآخر بكيفية غاية في التعقيد، كيف نشأت كلها بقوانين تعمل حولنا. وهذه القوانين لو أُخذت بأوسع المعاني تكون هي: النمو مع التكاثر، والتغير بالفعل المباشر وغير المباشر للظروف الخارجية للحياة ولظاهرة الاستعمال وعدم الاستعمال، ونسبة للازدياد عظيمة تؤدِّي إلى قيام صراع من أجل الحياة، وبالتالي إلى الانتخاب الطبيعي المنطوي على انحراف الصفات وانقراض صور الحياة الأقل تحسنًا وملاءمة للظروف. وهكذا فإن أسمى هدف في هذا العالم — ألا وهو نشوء الحيوانات الراقية — ليتحقق مباشرة من حرب الطبيعة، ومن الجوع والموت. إن هناك جمالًا وجلالًا في هذه النظرة عن الحياة بقواها العديدة التي نفخها الخالق لأول مرة في عدد قليل من الصور، أو في صورة واحدة. وإنه بينما ظَلَّ هذا الكوكب يدور طبقًا لقوانين الجاذبية الثابتة، كانت وما زالت تتطور من مثل تلك البداية البسيطة صور لا نهائية من الحياة غاية في الجمال وغاية في العجب.

١  الاسم العلمي — Fir tree من المخروطيات.
٢  Gall flay.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤