الفصل الرابع

الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح

الانتخاب الطبيعي – قدرته مقيسة بقدرة الإنسان في الانتخاب – تأثيره في الصفات القليلة الأهمية – تأثيره في كل دور من أدوار العمر وبيان ذلك في الزوجين: الذكر والأنثى – الانتخاب التناسلي – الكلام في المهاجنة بين أفراد النوع الواحد – الظروف الملائمة وغير الملائمة لنتائج الانتخاب الطبيعي كالمهاجنة والعزلة وعدد الأفراد – فعل الانتخاب بطيء – الانقراض راجع إلى الانتخاب الطبيعي – انحراف الصفات من حيث الصلة بتباين سكان بقعة من البقاع الصغيرة ومن حيث الرجون – فعل الانتخاب الطبيعي من طريق انحراف الصفات والانقراض في أخلاف أصل والدي واحد – تعليل وجود الكائنات العضوية في عشائر – ارتقاء النظام العضوي – حفظ الصور الدنيا وبقاؤها – تقارب الصفات – تكاثر الأنواع متتابع – الخلاصة.

***

كيف يؤثر التناحر على البقاء، الذي أوجزنا شرحه في الفصل السابق، في ظاهرة التحول؟ وهل يمكن لسُنة الانتخاب، وقد لمسنا أثرها الفعال واقعة بسلطة الإنسان، أن تؤثر في ظل الطبيعة؟ سوف يستبين لنا أن لها أثرًا ثابتًا فعالًا.

يجب أن نعي بادئ ذي بدء، ما يحدث في أنسال دواجننا، حيوانًا كانت أم نباتًا، من التحولات الطفيفة والتباينات الفردية، وأن نسبة ما يطرأ على الحيوانات والنباتات من التحول بتأثير الطبيعة الخالصة، أقل مما يطرأ عليها بتأثير الإيلاف، كذلك لا يغرب عن أفهامنا ما للملكات الوراثية من القوة والأثر البين، ولا جرم أن النظام العضوي يقبل التشكل إلى حد ما بتأثير الإيلاف، غير أن الإنسان بقوته المفردة لا يستطيع أن يكسب الدواجن، بطريق مباشر، ما نلحظه فيها من قابلية التحول، كما أبان «هوكر» و«آساجراي». كذلك ليس في مكنته أن يحدث الضروب، ولا أن يمنع حدوثها، بل هو قادر على أن يحتفظ بها ويضاعف عدد ما قد يحدث منها لا غير، فهو إذ يعرض الكائنات العضوية على غير عمد لتأثيرات أعراض الحياة المتغايرة المتجددة حالًا بعد حال، تتولد فيها من ثَم قابلية التحول، ولا جرم أن التحول الذي يقع في حالات الحياة لدى الإيلاف قد يحدث بتأثير الطبيعة الخالصة.

ولنعِ فوق ذلك أن الصلات المتشابكة والروابط المتبادلة بين الكائنات عامة، وتأثر هذه الكائنات بظروف حياتها الطبيعية، معقدة متخالطة تخالطًا غير محدود، وأن ذلك جوهري لحياتها، ولنتدبر ما قد يحدثه اختلاف صور الكائنات وتحولها غير المحدود؛ إذ تتأثر بحالات الحياة المتضاربة، من الفوائد الجلية. أيخامرنا الريب بعد أن ثبت لدينا حدوث تحولات ذات فائدة للإنسان، في أن تحولات أخرى ذات فائدة لكل كائن في معمعة الحياة الكبرى، قد حدثت على مر أجيال عديدة متعاقبة؟ فإذا ثبت لدينا ذلك، ووعينا أن ما يُولد من الأفراد العاجزين غير القادرين على البقاء، أكثر مما يقدر على البقاء، فهل تخالجنا الظنون في أن الأفراد التي تمتاز على غيرها، ولو بقليل من الامتياز، قد تفوز بحظ البقاء والتناسل، فيزيد عددها ويحفظ نوعها؟ وإنا لنعلم علم اليقين أنه لو كان في حدوث أي تحول، مهما كان طفيفًا، ضرر بالأنواع لَبادت ولَلحقت بما غبر خلال القرون، وحفظ تلك التباينات الفردية المفيدة، ثم إبادة الضار منها هو ما سميته «الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح». وأما التحولات التي لا تنفع ولا تضر، فلا أثر للانتخاب الطبيعي فيها، فإما أن تُهمل بوصفها عناصر غير ثابتة كما نشاهد أحيانًا في بعض الأنواع المتعددة الأشكال المتضاربة الهيئات، وإما أن تثبت أخيرًا على حال ما، وفاقًا لطبيعة ذلك الكائن وطبيعة حالات الحياة.

ولقد أخطأ بعض الكتاب فَهْم المقصود من «الانتخاب الطبيعي» أو اعترضوا عليه، وظن البعض الآخر أنه السبب الذي يُنتِج الاستعداد للتحول، مع أن تأثيره مقصور على حفظ التحولات التي تظهر في العضويات، وتكون مفيدة لها في حياتها الطبيعية، بيد أنهم لم يعترضوا على ما يقوله الزارعون من تأثير قوة الإنسان في الانتخاب؛ ذلك لأن التباينات الفردية التي تبدعها الطبيعة في صور الكائنات، والتي ينتخبها الإنسان لأمر ما، هي أول التباينات حدوثًا بحكم الضرورة، واعترض البعض على «الانتخاب» بأنه يدل على انتخاب الحيوانات التي تهذبت صفاتها انتخابًا مقصودًا بالذات لا غير، وبلغ بهم الإغراق إلى الاستدلال بأن النباتات إذ هي معدومة الإرادة والاختيار، فلا يكون للانتخاب الطبيعي عليها من سلطان، على أن اصطلاح «الانتخاب الطبيعي» ذاته ليس بصحيح من الوجهة اللفظية. بيد أنني لم أرَ من جهة أخرى اعتراضًا على علماء الكيمياء لدى كلامهم في «الخِصِّيات الانتخابية لكل عنصر من العناصر المختلفة»، في حين أنه لا يجوز أن يُقال: إن أي حمض من الأحماض يختار العنصر الذي يفضله للامتزاج به، ويكون الكلام صحيحًا من كل الوجوه! وقيل: إنني لم أتكلم في «الانتخاب الطبيعي» إلا باعتبار أنه قوة فاعلة غالبة، أو أنه مستمد من وراء الطبيعة، أفيعترض لهذا على أي من الكتاب لدى قوله: «إن جاذبية الثقل هي التي تضبط سير الأجرام السماوية وتحدد مقدارها؟» وغير خفي ما يُقصد بهذا الاصطلاح المجازي وما يُراد الاستدلال به، كذلك ليس من الهين أن تدع تجسيم لفظة «الطبيعة» في كل ذلك، ولست أقصد بالطبيعة سوى فعل الاستجماع مقرونًا بتأثير السُّنن الأخرى، كما أني لا أقصد بالسُّنن سوى تتابع وقوع الحوادث الكونية كما ثبتت حقائقها لدينا؛ لذلك ينبغي أن نغض الطرف عن هذه الاعتراضات الواهية وأمثالها، وإن كان لها بعض الشأن على اعتبارات عرضية صرفة.

ولا سبيل إلى تدبر الانتخاب الطبيعي ودرس مؤثراته إلا بالبحث في حالات إقليم يتغاير مناخه تغايرًا طبيعيًّا طفيفًا، فإن عدد الأفراد النسبي فيه يتغير تغيرًا سريعًا، ويغلب أن يذهب الانقراض ببعض أنواعه، ولقد تستنتج مما وعيناه من الاختلاط والترابط الذي يصل بعض سكان الأقاليم المختلفة ببعض، أن كل تغير يطرأ على نسبة عدد قطان بقعة من البقاع، بغير تأثير من تغاير المناخ ذاته، يؤثر فيما يأهل ببقعة أخرى تأثيرًا عظيمًا، فإذا كانت تخوم إقليم ما سهلة الاجتياز مفتوحة المسالك لكل طارق، فلا ريب في أن صورًا جديدة تهاجر إليه، فتتأثر بذلك علاقات بعض الأهلين الأصليين، وتضطرب صلاتهم اضطرابًا كبيرًا، وذلك بيِّن فيما فصلناه قبلُ من المؤثرات التي تترتب على إدخال شجرة أو حيوان ثديي في بقعة خلو منه. أما في الجزائر التي يحوطها الماء من كل صوب، أو الأقاليم التي تحدها تخوم طبيعية لا يسهل اجتيازها، بحيث لا تكون هجرة صور أجنبية أكثر ارتقاء وتهذيبًا مما هو متأصل فيها أمرًا سهلًا مستطاعًا، فلا نشك مطلق الشك في وجود مواضع في نظام أحيائها، يمكن أن تكون أكثر تكافؤًا وأضبط نسقًا إذا كانت أحياؤها الأصلية قد نالها شيء من التهذيب، أو انتابها نزر من تحول الصفات بشكل من الأشكال، ولو كان من المستطاع أن تهاجر إلى تلك البقاع صنوف من الكائنات، لتناسقت تلك المواضع غير المتكافئة، ولملأ فراغها كثير من الدخلاء. فإذا حدث تحول الصفات العرضي واقعًا لفائدة أفراد أي نوع من الأنواع، فتلك هي التي لا يتولاها الوهن، ولا تمتد إليها يد الزوال بحال؛ إذ إن ما يحدث فيها من التحولات يجعلها أتم عدة، وأكثر كفاءة لحالات حياتها المحيطة بها، ولا جرم يكون لتأثير الانتخاب الطبيعي غير المحدود في هذه الظروف وأمثالها، الأثر الأول في ارتقاء الكائنات وتهذيب صفاتها.

ولدينا من الأسباب ما يسوقنا إلى الإيمان بأن تغاير حالات الحياة التي أدلينا بها في الفصل الأول، تزيد من قابلية الاستعداد للتحول في الأنواع، بمثل ما تزيدها تأثيرات السُّنن التي ذكرتها في الأسطر السابقة في تغاير الحالات المحيطة بالكائنات؛ إذ تساعد الانتخاب الطبيعي على إبراز آثاره، وتهيئ للأنواع جمَّ الفرص للسيادة، بما تحدثه فيها من التحولات المفيدة، ولو لم تظهر تلك التحولات لما كان للانتخاب الطبيعي أثر ما، ولا يغرب عن أفهامنا أن بين ما نعنيه من «التحولات» و«التباينات الفردية» تضايقًا، وأن الأولى تشمل مدلول الثانية، فكما أن الإنسان يستطيع أن يحدث في الحيوانات والنباتات الداجنة آثارًا من التحول ذات بال، بما يزيده فيها بالوسائط العلمية، من التباينات الفردية في أي جزء من أجزائها، كذلك يفعل الانتخاب الطبيعي بالأنواع، وإن كان ظهور التباينات بتأثيره أقل صعوبة، فذلك لما يستغرقه في سبيل إبرازها من الزمان. ولست معتقدًا في أن أي تغير في الظروف البيئية المحيطة بالكائنات، كاختلاف المناخ، أو بُعد الشقة، أو انقطاع الصلات غير العادي الذي يحول دون المهاجرة ويقطع أسبابها، يكون ضروريًّا لإبراز آثار الانتخاب الطبيعي، حتى يسد — بما ينتجه من تهذيب، وما يحدثه من ارتقاء في بعض الكائنات المسوقة في سبيل التحول — النقصَ الذي تحدثه تلك المؤثرات في نظام العضويات. فكائنات إقليم ما، إذا مضت متناحرة بنسبة من القوة متوازنة توازنًا تامًّا، كان ما يطرأ على نوع من التحولات العرضية في التركيب أو العادات، من أكبر الأسباب التي تعده للتفوق على غيره، ولا جرم أن ازدياد هذا التحول في الصفات يضاعف من نتائج تلك الفوائد، ما دام النوع متأثرًا بحالات حياة واحدة، ممدًّا بما يحتاجه من ضرورات المعاش وعُدد الدفاع عن النفس. وليس من المستطاع أن نذكر إقليمًا واحدًا بقيت أنواعه الأهلية في هذا الزمان على حال من التناسق وموازنة بعضها لبعض، ولحالات حياتها الطبيعية التي تؤثر فيها، بحيث لا يتسنى لجزء منها أن يكون في المستقبل أكثر تناسقًا وتهذيبًا؛ ذلك لأن الكائنات الأهلية في كل بقاع الأرض قد هُوجمت بما نشأ في الطبيعة من صنوف الأحياء العضوية، حتى إنها أخلت السبيل لأنواع أجنبية استوطنت مواطنها الأصلية. وإذا كانت القاعدة أن يتغلب كل أجنبي على بعض الأهليات، لزمنا القول بأن لا بد من أن يطرأ على الآهلين الأصليين تكيف مفيد، حتى يتسنى لهم أن يقاوموا الدخلاء بحال من الأحوال.

وإذا ثبت لدينا أن الإنسان قد استحدث نتائج من التحول ذات شأن كبير بتأثير الانتخاب النسقي والانتخاب اللاشعوري (غير المقصود)، بل أحدثها فعلًا، فلمَ نحاول أن ننكر تأثير الانتخاب الطبيعي؟! على أن تأثير الإنسان مقصور على الصفات الظاهرة التي تقع تحت سلطان ما يجريه فيها من التجاريب، بيد أن الطبيعية — وأقصد بها بقاء الأصلح — لا تُعنى بالمظاهر الخارجية إلا بمقدار ما يكون فيها من الفائدة لأي كائن من الكائنات، تؤثر الطبيعة في كل عضو من الأعضاء الخفية، وفي كل الفروق التركيبية مهما ضعف شأنها واتضعت مرتبتها، بل في كل أجزاء الجسم الآلية التي تقوم عليها الحياة، بيد أن الإنسان لا ينتخب إلا ما يكون له فيه منفعة ذاتية. وأما الطبيعة فلا تأخذ بأسباب الانتخاب إلا لفائدة الكائن الذي تريد حفظه وبقاءه، وإن الطبيعة لتكاد تتخير كل صفة من الصفات المنتخبة، ويُستدل على ذلك استدلالًا قاطعًا بأنها تنتخب صفة دون سواها، والإنسان عدا ذلك يحتفظ بأهليات كثيرة من مختلف الأقاليم في بقعة واحدة، ويغلب أن يتخير كل صفة من الصفات المنتخبة بوسيلة من الوسائل الخاصة الملائمة له، وهو يغذي أنواع الحمام ذوات المنقار الطويل وذوات المنقار القصير بطعام واحد، ويغفل الانتفاع بالحيوانات الطويلة، المتون أو الطويلة السوق، كما يغفل تسخيرها بأية طريقة من الطرق الخاصة، ويعرض الأغنام طويلة الصوف وقصيرته لمؤثرات مناخ واحد، ولا يهيئ الأسباب للذكور ذوات القوة كاملة التركيب للتناحر في سبيل اختيار إناثها، ولا يعمل على استئصال الحيوانات المستضعفة المنحطة الصفات بما تقتضيه الحال من الخشونة والقسوة، بل يحفظ بكل الوسائل التي يصل إليها مبلغ اقتداره، كل صنوف الأنسال التي يحصل عليها خلال الفصول المتغايرة، وما كان لينتخب من الصور في الغالب إلا ما هو أقرب للشواذ الخلقية منه إلى التكافؤ الخلقي والوحدة القياسية، أو على الأقل تلك الصور التي يطرأ عليها من التغاير الوصفي ما يستبين للنظر المجرد، أو ما ينكشف له فيه منفعة خاصة. أما في الطبيعة فإن التحولات التي تلحق الشكل الظاهر أو التركيب تؤلِّف سببًا وجيهًا لحفظ التوازن في التناحر للبقاء، وبذلك يتعين حفظها ويتحتم بقاؤها، وما أسرع زوال رغبات الإنسان وانبتات تأثيره، بل ما أقصر أيامه، بل يجب أن نقول: ما أحقر شأن النتائج التي يُحدِثها وما أحط مكانتها، مقيسة بما استجمعته الطبيعة على مر الزمان التي تكونت فيها طبقات الأرض. أفنعجب بعد ذلك أن يكون ما تنتجه الطبيعة من الأنسال، وما تحدثه من التحولات، أثبت أساسًا وأمتن بناء مما ينتجه الإنسان، بل أتم تكيفًا لظروف البيئة المعقدة المحيطة به، وأنها جديرة بأن تُوسم بطابع أعظم من الدقة وحسن الصناعة؟!

وقد نستطيع أن نقول على سبيل المجاز: إن الانتخاب الطبيعي قوة دائبة الفعل كل يوم، بل كل ساعة في استجماع التحولات العرضية في العالم العضوي كافة، نافية كل ما كان منها مضرًّا، مبقية على كل ما كان منها مفيدًا صالحًا، تعمل في همودها وسكونها عملها الدائم، ما سمحت الفرص في كل زمان ومكان؛ لتهذيب كل كائن من الكائنات بما يلائم طبيعة حالات الحياة المحيطة به، ما اتصل منها بالموجودات العضوية وما اتصل بغير العضوية، غير أننا لا نلاحظ شيئًا من الترقي المنبعث عن هذا التحول البطيء، حتى يظهر لنا مر الزمان ما استدبر من الدهور في سبيل إبرازه. على أننا لا نعلم من الأمر شيئًا سوى أن صور الحياة في هذا العصر تغاير صور الزمان الماضي، ذلك ناشئ عن النقص والتخلخل الواقع في مواد النظر المستجمعة من البحث في أطوار تكوُّن الطبقات الجيولوجية التي عفت آثارها ودرست رسومها منذ أزمان موغلة في القدم.

وإنه ليتعين عند حدوث أي نوع من الأنواع أن يتكرر وقوع التحول الوصفي عليه، وأن يحدث فيه من التباينات الفردية المفيدة له، ما لا يختلف في طبيعته عما طرأ عليه من قبل خلال فترات الزمان المتلاحقة، وأن تثبت فيه هذه الصفات فيأخذ في الترقي التدرجي حتى يتهذب وتتغاير صفاته تغايرًا كبيرًا. وإذ رأينا أن التباينات الفردية المتشابهة قد يتكرر وقوعها، فليس من الهين إذن أن يزعم بأنها من الفروض غير المبررة، وإذا كان هذا هو الواقع، فمن المستطاع أن نجعل حكمنا قائمًا على مقدار ما يكون من انطباق هذه السُّنن على الظواهر التي نشاهدها؛ ولذا كان الاعتقاد السائد في أن التحولات التي تطرأ على كل كائن من الكائنات محدودة بعدة حدود معينة لا نستبينها، مجرد ادعاء لا دليل عليه ولا مبرر له، والانتخاب الطبيعي إن تسنى له أن يعمل في الحيز الطبيعي لفائدة كل كائن من الكائنات، فإنه يؤثر كذلك في الصفات والأشكال الظاهرة، تلك التي نعتبرها في الغاية الأخيرة من اتضاع المكانة وحقارة الشأن، فإننا إذ نرى أن الحشرات التي تعيش على أوراق الأشجار خضراء اللون، والحشرات التي تعيش على لحائها مرقشة تضرب إلى اللون الرمادي عادة، وأن طير القطا الخاص بجبال الألب يكون خلال فصل الشتاء أبيض اللون، والقطا الأحمر الخاص بالجزائر البريطانية يكون بلون الخلنج، نعتقد اعتقادًا راسخًا بأن هذا التلون ذو فائدة لهذه الطيور وتلك الحشرات في حفظها من الأعاصير والأخطار المحدقة بها، ولا خفاء أن القطا الأحمر إذا لم يعتوره الهلاك خلال فترات دورية من حياته يتكاثر إلى غير حد. ولا يغيب عنا أن الطيور المفترسة تُلحِق بهذا النوع أذى كثيرًا، والبزاة١ تهتدي إلى فرائسها بقوة إبصارها، حتى حذر الناس، في بقاع كثيرة من القارة الأوروبية تربية الحمام الأبيض؛ لأنه أكثر تعرضًا من غيره لأذى البزاة، وعلى ذلك يكون الانتخاب الطبيعي السبب الفعال في تشكيل أنواع القطا، كل نوع بما يلائمه من الألوان، وجعلها لبوسًا دائمًا لها ما دعت الحاجة إليها. وليس ثمة من سبب يسوقنا إلى الاعتقاد بأن ما ينتاب أي حيوان من الحيوانات ذات الألوان الخاصة من أسباب الهلاك يكون تأثيره تافهًا، فإننا نعلم علم اليقين مقدار ما يكون من تأثير إعدام فرد أبيض من الغنم، فيه أثر بسيط من السواد، ولقد رأينا من قبل كيف أن لون الخنازير التي تعيش على بعض الجذور الصابغة في مقاطعة «فرجينيا» كان السبب الأول في وضع حد فاصل بين بقائها وفنائها، وكذلك الحال في النبات، فإن النباتيين لعلى اعتقاد بأن الزغب الذي يكون على قشر الثمار الخارجي، واللون الذي يكون للب الثمر ذاته، من الصفات التافهة غير الجديرة بالاعتبار. بينما يقول كثير من زراع الحدائق ذوي الخبرة والدراية إن ما تدمره أنواع خاصة من الجعلان والديدان من الثمار الملس في الولايات المتحدة، أزيد كثيرًا عما تدمره من الثمار ذوات الزغب، والبرقوق الأرجوني تنتابه بعض أمراض خاصة أكثر مما تنتاب البرقوق الأصفر. كذلك يتأثر الخوخ الأصفر اللب بأمراض، نسبة انتشارها فيه أكثر مما هي في صنوف الخوخ ذوات الألوان الأخرى. فإذا كانت هذه التباينات العرضية تُحدِث فروقًا كبيرة في زراعة ضروب الأشجار المختلفة حال خضوعها لتأثير ما كُشف عنه للإنسان من قواعد العلوم والفنون، فمن المحقق أن هذه الفروق وأمثالها في الحالة الطبيعية المطلقة، حيث يتسع مجال التناحر بين أنواع الأشجار وضروب الأعداء المحيطة بها، فتكون السبب المباشر في تحديد عدد الضروب، والعامل ذا الأثر الفعال في بقاء الأنواع ذوات الثمار الملس، أو ذوات الزغب، أو الأشجار ذوات الثمار الصفر، أو أرجوانية اللب، وتضع لذلك حدودًا طبيعية لا شواذ لها.

فإذا أردنا أن نتدبر كثيرًا من الفروق الشتى الواقعة بين الأنواع التي نعتبرها غاية ما تنتهي إليه الفروق من الشأن والخطر، والتي لا نستطيع أن نحكم عليها إلا بقدر ما يسمح لنا مبلغ علمنا بها، فلا يجب أن نغفل عن أن المناخ والغذاء وبقية المؤثرات الأخرى قد أثَّرت في إنتاجها تأثيرًا مباشرًا، ومن الواجب أن نعي دائمًا أنه إذا تحول جزء من أجزاء كائن ما، واستجمع الانتخاب الطبيعي كل التحولات التي قد تطرأ عليه، فلا بد من أن تحدث فيه تحولات وصفية أخرى، ولو لم يكن من المنتظر حدوثها، وفقًا لقانون العلة والمعلول.

ولقد نرى أن التحولات الحادثة بتأثير الإيلاف قد تظهر في دور خاص من أدوار العمر، ثم تُساق إلى الظهور في الأنسال عند بلوغها ذات الدور الذي ظهرت فيه أولًا في آبائها، تستبين ذلك في بذور كثير من ضروب خضر الطعام والنباتات المنزرعة من حيث أشكالها ومذاقها وأحجامها، وفي أنواع الفراش ودود القز٢ في حالتها الشرنقية، وبيض الدجاج العادي، ولون الزغب الذي يكون لأفراخه عند أول نقف البيض عنها، وقرون أغنامنا وأبقارنا عند دنوها من طور البلوغ. كذلك الحال في الطبيعة المطلقة، فإن الانتخاب الطبيعي قد ينفسح له السبيل في تهذيب صفات الأحياء في أي دور من أدوار عمرها، بما يستجمعه فيها من التحولات المفيدة لها بحسب ما يلائمها في أدوار حياتها، فتتوارثها أنسالها، وتظهر في دور من عمرها يناظر الدور الذي ظهرت فيه لأول مرة في أسلافها الغابرين، فإذا كان نثر الريح لبذور نبات ما في بقاع مختلفة من الأرض، حادث يعضده في حالات حياته، فلست أرى أن ما يقوم من الصعاب في سبيل القول بأن هذا النبات يتأثر فعلًا بمؤثرات الانتخاب الطبيعي، أكبر شأنًا مما يقول في وجه القائلين بما يجريه زراع القطن٣ على ضروبه من التجارب في سبيل ازدياد الألياف في لويزاته لتهذيبها بحيث توافق رغباتهم، والواقع أن الانتخاب الطبيعي قد يقلب يرقان بعض الحشرات لأول عهدها بالتكون في أطوار من التحول الوصفي، وينسق تراكيبها في عشرين وضعًا من الأوضاع العرضية، كل منها يباين تمام التباين تركيب أفراد هذه الحشرات حال بلوغها، وجائز أن ما يلحق بيرقان هذه الحشرات من التحول الوصفي حال تكوينها، قد يؤثر في تركيبها حال بلوغها، خضوعًا لسُنة التبادل النسبي في التحول والنماء، وعلى العكس من ذلك، نرى أن التحولات التي يرجح أن تطرأ على الحشرات البالغة تؤثر في تراكيب يرقاتها، والانتخاب الطبيعي، بوجه الإطلاق، لا يرسخ في طبائع الصور العضوية تحولًا من هذه التحولات، ما لم يكن غير مضر بها؛ إذ لو كان مضرًّا لانقرض النوع الذي تلحق به انقراضًا تامًّا.

ويحول الانتخاب الطبيعي من تراكيب صغار الأنسال من طريق اتصالها بآبائها، ويحول من صفات الآباء من طريق اتصالها بصغارها، كذلك يؤثر في كل فرد من أفراد الحيوانات التي تعيش في بيئات اجتماعية، تأثيرًا يجعلها على تمام التناسق والكفاءة لحاجات الجماعة وفائدتها المطلقة. ومن الأمور التي لا يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يأتي بها، أن يحول من صفات أنواع ما تحويلًا لا يكون فيه فائدة لأنواع أخرى غيرها، وإنه إن كان من الهين أن ننتزع من تاريخ الكائنات الطبيعي أمثلة كثيرة تؤيد ذلك، فلست أجد مثالًا واحدًا منها يحتمل أن يكون فيه من الغموض ما يوجب البحث والاستبصار، على أن تركيبًا ما من تراكيب العضويات إذا أصبح يومًا من التراكيب المفيدة لكائن من الكائنات الحية، بحيث يعضده في حالات حياته، أو أضحى من الأجزاء ذوات الشأن، فمن المرجح أن تتحول صفات هذا التركيب بتأثير الانتخاب الطبيعي. نجد لصنوف من الحشرات أفكاكًا كبيرة الحجم تستخدمها عادة لفتح الفيلجة (الشرنقة)، ولصغار الطيور عند أول نقفها قطعة صلبة من العظم في مقدمة المنقار تستخدمها لكسر البيضة عند النقف، ولقد حقق الباحثون أن متوسط ما يَنفُق بالموت من صغار الحمام القلب القصير الوجه في داخل البيض لعدم مقدرتها على كسر قشر البيضة، أكثر من متوسط ما يتيسر له الخروج منها؛ ولذا يساعد مربو الحمام صغاره على الخروج من البيضة لدى النقف. فإذا انقادت الطبيعة إلى تهذيب منقار هذا الطير حال بلوغه وجعله قصيرًا مسوقة بما يكون في ذلك من الفائدة له في حالات حياته، فإن تهذيب هذا العضو مما يوافق فائدة هذا الطير، لا بد من أن يكون بطيئًا متحولًا في درجات من التحول نحو هذا المرمى. ويستتبع ذلك أن الانتخاب الطبيعي يأخذ في تهذيبه بما يقتضي لذلك من العنف والقسوة، فيبقى من صغار هذا الطير التي لا تزال في دور تكوينها الجنيني، كل ما كان منسره صلبًا قويًّا، ويهلك كل ما كان منسره ضعيفًا لينًا، أو يبقى من البيض ما كان قشره سهل النقف؛ لأن سماكة قشر البيض قابلة للتحول الوصفي، شأن بقية التراكيب والصفات العضوية الأخرى.

ولقد يحسن بنا أن نعي في هذا الموطن أن الهلاك ينزل بالكائنات العضوية على اختلاف ضروبها خلال بعض الفصول، وأن هذا الهلاك لا يقف في حالة من الحالات فعل الانتخاب الطبيعي أو يمنع تأثيراته، فإن عددًا عظيمًا من البيض والبذور يهلك كل عام سواء باتخاذه طعامًا أو بغير ذلك من الأسباب، وليس للبيض والبذور أن تتحول صفاتهما بالانتخاب إلا من طريق واحد، هو أن يطرأ عليهما من التحولات الفردية، ما يدفع عنهما غائلة أعدائهما بشكل من الأشكال، ومما لا يبعد احتماله، أن يكون من بين ما يذهب به الفناء من بيض وبذر، ما هو أوفق لإنتاج أنسال أكثر كفاية لتحمل أعاصير الحياة، من الأفراد التي يُقدَّر لها البقاء. على أن عددًا عظيمًا من النباتات والحيوانات البالغة لا بد من أن تهلك كل عام بتأثير أسباب طارئة، سواء أكانت الأكثر كفاية لتحمل أعاصير الحياة المحيطة بها، أم كانت غير ذلك، والراجح أن تكون صفاتها غير منحطة على الأقل عن بقية صفات نوعها بما يحتمل أن يطرأ عليها من تحول آلي، جائز أن يكون ذا فائدة للنوع من جهات أخرى. ولندع ذلك، ثم لنفرض أن متوسط الفناء في الأفراد التي بلغت حد النماء يكون كبيرًا، إذا كان عدد القادرين على البقاء في أية بقعة من البقاع، لا يستطيع أن يحتفظ بكيانه متأثرًا بحالات طبيعية مثل التي مر ذكرها، أو نقول: إن متوسط الفناء في البيض والبذور يبلغ درجة لا يدركها الوهم، بفرض ألا يفرخ منها إلا بضع مئات أو آلاف فقط، فإنك لتجد من بعد هذا كله أن من الأفراد التي يتيسر لها البقاء، ما هو أكثر كفاية لتحمل أعاصير الطبيعة المحيطة بها من غيرها، ويحتمل أن يكون فيها استعداد لقبول التحول بكيفية مفيدة لبقائها، فيتكاثر عددها ويزيد على عدد الأفراد التي تكون صفاتها أقل من ذلك كفاية لحالات الحياة. فإذا احتفظت الطبيعة بكل الأفراد الناتجة، فقد تقصر يد الانتخاب دون إنتاج تحولات مفيدة في أنحاء خاصة، غير أن ذلك لا يصح أن يُعترض به على تأثير الانتخاب الطبيعي في حالات وظروف أخرى؛ إذ لا ينبغي أن يسوقنا ذلك إلى الزعم بأن أنواعًا كثيرة قد أخذت يومًا من الأيام في التحول والارتقاء دفعة واحدة ضمن حدود بقعة معينة.

(١) الانتخاب الجنسي٤

كما أن الخِصِّيات التي تظهر غالبًا في أحد الزوجين، الذكر والأنثى، بمؤثرات الإيلاف، قد تصبح من الخِصِّيات الوراثية الخصيصة بأحدهما، فلا ريبة في أن الخِصِّيات التي قد تظهر بمؤثرات الطبيعة المطلقة تصبح متوارثة؛ لذلك كان من المستطاع أن تتهذب صفات الذكر والأنثى معًا بالانتخاب الطبيعي من طريق اتصالهما بعادات الحياة المختلفة، كما يحدث في بعض الحالات، أو تتهذب صفات أحد الزوجين من طريق اتصاله بالزوج الآخر كما يحدث غالبًا، وذلك يسوقني بالطبع إلى الكلام فيما سميته «الانتخاب التناسلي»، فإن نتائج هذا الضرب من الانتخاب لا تئول إلى أثر التناحر للبقاء بين الكائنات العضوية، ولا إلى مؤثرات الحالات الخارجية التي تحيط بالأحياء، بل إن نتائجه هي الغاية المباشرة لما يقع من التناحر بين أفراد أحد الزوجين، وهم الذكور، في سبيل الحصول على الإناث، ونتائج هذا الانتخاب التناسلي لا تئول إلى إلحاق الهلاك أو الانقراض بالأفراد التي لا يتسنى لها التغلب، كما هي الحال في الانتخاب الطبيعي، بل إن الأفراد التي لا تقوى على حيازة الإناث، يقل نسلها شيئًا فشيئًا، أو يمتنع عليها أن تعقب بحالة من الحالات؛ ولذلك كانت نتائج «الانتخاب الجنسي» أقل من الانتخاب الطبيعي قسوة على العضويات في حالات حياتها، فإن أكثر الذكور قوة، وأشدهم جلَدًا، وأكبرهم كفاية لحالات الحياة الطبيعية المحيطة بهم، يفوزون بحظ التناسل وإعقاب العديد الأوفر من النسل بوجه عام. غير أننا كثيرًا ما نشاهد أن الغلبة لا تتفق مع حسن التركيب وقوة البنية بقدر ما يتفق للذكور من حسن الاستعداد أو القدرة على الجلاد بأن يكون لها ضروب من الأسلحة الخاصة تدفع به عن أنفسها غائلة منافسيها، فإن ذكورة صنف الوعول المعدومة القرون، أو الديكة المعدومة الأسلحة، لا تساعدها ظروف الحياة على إعقاب النسل إلا قليلًا. وإذا كان من نتائج الانتخاب التناسلي أن تُساق الأفراد الغالبة في معامع الحياة إلى التناسل وإعقاب العديد الأوفر من النسل، فإن هذا الضرب من الانتخاب يعطيها فوق ذلك من حب الحياة والشجاعة قوة لا تُقهر، ويجهزها بالأسلحة الصالحة والأجنحة القوية التي تناضل بها ذوي الأرجل المسلحة، بمثل ما يفعل مربو المقاتلة من أنواع الديكة؛ إذ ينتخبون من أنسالها ما يفي بغرضهم. أما ما تقع العضويات تحت عبئه من التجالد في سبيل تخليف النسل، ومقدار أثر الانتخاب الجنسي في الطبيعة الحية، فمما لا سبيل إلى معرفة مبلغه من التأثير، فإن ذكور القاطور٥ (التمساح الأمريكي) بعضها يقاتل بعضًا قتالًا عنيفًا، وتخور إذا اشتد القتال خوارًا شديدًا أشبه بخوار الثيران القوية، ويدور بعضها حول بعض، كما يفعل مستوحشو الهنود الحمر في رقصة الحرب عندهم، وشُوهد أن ذكور الصمون٦ (السلمون) تتقاتل يومًا بأكمله حتى يستقر لكل من الذكور نصيبه من الإناث. كذلك ذكور ضرب من الجعلان يُقال له: «الجعل الوعلي»،٧ قد تصيبها جراح خطرة هي نتيجة تلك المنافسة؛ إذ يقضم بعضها بعضًا بأفكاكها السفلى، ولاحظ مستر «فاير» أن ذكور بعض أنواع من الحشرات غشائية الأجنحة٨ تتقاتل قتالًا مرًّا، حيث تنتظرها عن كثب أنثى من إناثها تصبح غنيمة المنتصر منها.
وجائز أن تكون تلك الحرب الشعواء أشد قسوة بين ذكور الأنواع المتعددة الزوجات، وغير خافٍ أن ذكور هذه الأنواع غالبًا ما تكون ذوات أسلحة خاصة بها، ناهيك بذكور اللواحم٩ «فإنها تامة العدة بالسلاح، كما أن لها — كما لغيرها — وسائل أخرى، هي لزام لمؤثرات الانتخاب الجنسي، مثل «لبد الأسد» أو «فك الصمون» فإنه مدرع بأنياب قوية، ذلك فضلًا عما لها من السلاح؛ لأن الدرع الذي يتخذه المقاتل عدة للدفاع عن حياته، من أخطر دواعي الانتصار، ولا يقل شأنًا عما في السيف أو الحربة.»
والمنافسة بين الطيور أقل قسوة منها بين غيرها، وكل مَن له إلمام بالموضوع، لعلى اعتقاد تام بأن هذا التقاتل لا يبلغ منتهى درجات القسوة والشدة إلا بين الأنواع التي تجتذب ذكورها الإناث بحسن أصواتها الغنائية. ولقد ذُكر أن دج الصخور١٠ الذي يسكن جزائر «جيانا»، وطيور الجنة١١ وغيرها من صنوف الطير، قد تجتمع وتتقاتل، ثم تخرج الذكور الفائزة من المعركة وتنشر ريشها البهي الزاهي لتجذب إليها الإناث، ومن ثَم تأخذ في التضاحك بشكل عجيب. والإناث عن كثب يرمقنها ثم ينتخبن ما كان أشد جاذبية إليهن من الذكور، ولا يشك أحد ممن لاحظوا أنواع الطير حال أسرها واعتزالها حياتها الطبيعية المطلقة، في أنها تفضل بعض الأفراد على بعض، فإن السير «ر. هيرون» قد وصف كيف أن طاووسًا١٢ مرقشًا قد اجتذب إليه كل الإناث وتفرد بها، وأنه وإن لم يتسنَّ لي الإفاضة في هذا الموضوع، فإني لعلى يقين بأن الإنسان إذا استطاع أن يحسن في وقت قصير أنواع «البَنطم»١٣ وهو ضرب من الدجاج الداجن، بحيث يجعلها بديعة الألوان، رشيقة الصور، فلست أدري مانعًا يحول دون القول بأن إناثها إذا انتُخبت خلال آلاف من الأجيال تكون أشجى الذكور صوتًا، وأحسنها شكلًا، وفاق ما يلوح لها فيها من معاني الجمال، فقد يُحتمل أن يحدث فيها تأثيرات من التحول ذات بال. على أن لدينا من السُّنن الطبيعية الخصيصة بريش الذكور والإناث من الطير عند مقارنتها بريش صغارها ما لا يمكن تفسيره إلا إذا عُزي إلى مقدار ما يحدثه الانتخاب الجنسي من الآثار في التحولات التي تظهر خلال العصور، تلك التحولات التي قد يختص بها الذكور لا غير، أو يشترك فيها الزوجان، الذكر والأنثى معًا، خلال أدوار مختلف من العمر. غير أنه لا يتسنى لي أن أفيض في هذا الموضوع، حيث إن الإفاضة فيه تستغرق فراغًا كبيرًا.

وإني لأعتقد الآن اعتقادًا لا يوهنه الشك بأنه إن كانت ذكور الحيوانات وإناثها تتفق في العادات الخصيصة بها في حالات حياتها، فإنها تختلف في تراكيبها وألوانها وأشكالها الظاهرة، وإن أمثال هذه الفروق لا يمكن أن تُعزى لغير مؤثرات الانتخاب الجنسي، وتعليل ذلك مقصور على أن بعض الذكور كان لها من أسلحتها، أو عُدد الدفاع عن أنفسها، أو جمال أشكالها، ما اجتذب إليها الإناث فتفوقت على غيرها من الذكور وخلفت نسلًا ينزع إليها دون غيرها في أوصافها تلك. غير أني لا أقطع بأن كل الفروق الجنسية كانت نتيجة لمؤثرات هذا الضرب من الانتخاب، فإن في حيواناتنا الداجنة خِصِّيات ظهرت في ذكورها لا نستطيع أن نعزوها حسب ما يظهر لنا منها إلى أثر الانتخاب الصناعي الذي هو غرس يد الإنسان، فإن خصلة الشعر التي تنبت في صدور الديكة الرومية في حالتها الوحشية، ليس فيها من فائدة لهذا الصنف من الطير، ولو أن هناك شكًّا فيما إذا كان لها فائدة ما في استخلاص الإناث، ولا شك في أن هذه الخصلة لو ظهرت في الديكة الداجنة لعدها الناس من شواذ الخلق.

(٢) أمثال لفعل الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح

نأتي هنا بإيجاز على مثل تبين عن تأثير الانتخاب الطبيعي في الكائنات العضوية، وليسمح لي القارئ بإيراد مثل أو مثلين مفترضين، لاستجلاء حقيقة تلك القاعدة الطبيعية، وليكن الذئب مثالنا الأول: فإن هذا الحيوان يعيش على ضروب مختلفة من الحيوان يتغلب عليها طورًا بدهائه ومكايده، وطورًا آخر بقوته الجسمانية وسرعة عدوه، ولنفرض أن أسرع الحيوانات عدوًا، كالغزال مثلًا، قد زاد عدده في البقاع التي يقطنها الذئب زيادة كبيرة، وفاق ما يكون قد طرأ على ظروف الإقليم المحيطة به من المؤثرات التي تعين على زيادة عدده، وأن غيره من الفرائس قد تناقص، ولنفرض أيضًا أن هذه الزيادة قد طرأت على الغزال خلال فصل من الفصول تشتد وطأة الجوع على الذئاب فيه، ففي مثل هذه الظروف، تكون أشد الذئاب عدوًا، وأخفها أجسامًا، وأمتنها بنية، هي أكبر المجموع حظًّا من البقاء، وبهذا تحفظ نوعها وتنتخبها الطبيعة للبقاء فيها؛ إذ تكون قد استعادت في تلك الضائقة المعيشية قوتها التي بها تتغلب على فرائسها، سواء في هذا الفصل أو في غيره من الفصول، عندما تضطر إلى اقتناص فرائس أخر غير الغزلان.

ولست أرى في ذلك ما يحملنا على الشك في صحة هذه النتائج، وهي لا تختلف عما يتذرع به من الوسائل لتقوية عدو كلاب الصيد، بما يُبذل في سبيلها من العناية، وما يُنتخب من أفرادها المنتقاة انتخابًا منظمًا، أو بما يقع عليها من مؤثرات ذلك الضرب من الانتخاب الذي سميناه باللاشعوري، أو غير المقصود؛ إذ يُساق الإنسان إلى تربية أرقى أفراد الكلاب، ولو لم يكن مقصده الأول أن يحسِّن من صفات أنسالها شيئًا، ولنزد على ذلك ما قاله مستر «بيرس»؛ إذ ذكر أن ضربين من الذئاب يقطنان جبال «الكاتسكيل» في الولايات المتحدة بأمريكا، يشابه أحدهما كلاب الصيد العادية في خفة الجسم والشكل، وفرائسه الغزلان، والآخر أثقل جسمًا وأبطأ حركة وأقصر أرجلًا، وكثيرًا ما يهاجم قطعان الأغنام.

ولنعِ فوق ما تقدم أنني قصرت الكلام على أخف أنسال الذئاب عدوًا وأرشقها حركة، من غير أن أذكر شيئًا عما يكون فيها من التحولات ذوات الصفات المعينة الخصيصة بها دون غيرها، وتكلمت في طبعات هذا الكتاب الأولى مقتنعًا بأن مثل هذه التحولات مستمر الحدوث في العضويات، وانكشف لي إذ ذاك ما للتحولات الفردية من الخطر، وساقني ذلك إلى شرح قواعد الانتخاب اللاشعوري أو غير المقصود الذي هو غرس يد الإنسان، وتبيان نتائج تلك المؤثرات التي لا تخرج عن الاحتفاظ بأرقى الأنسال المنتقاة، أو الاحتفاظ بالأنسال التي تتوسط مرتبتها بين أرقى النوع وأدناه، وإفناء بقية الأنسال المستهجنة الصفات المنحطة المرتبة، واستبان لي أن الاحتفاظ بأي انحرافات تطرأ على تراكيب العضويات اتفاقًا في حالتها الطبيعية المطلقة، تلك الانحرافات التي تشابه شواذ الخلق في خروجها عن الجادة العامة ومخالفة القياس، أمر نادر الحدوث، وأن العضويات، إن احتفظت بها بادئ ذي بدء، فإنها لا محالة تفقدها على مر الزمان بما ينتج من مهاجناتها مع بقية الأنسال التي لم يطرأ عليها شيء من هذه الانحرافات التركيبية، ومع ذلك لم أقف على مقدار ثبات «التباينات الفردية» واستمرارها، سواء أكانت تافهة أم ذات أثر واضح في صفات العضويات، إلا بعد أن قرأت مقالًا قيمًا ظهر في مجلة «نورث رفيو» (عام ١٨٦٧)، فلقد جعل الكاتب أساس الكلام زوجًا من الحيوانات أنتج خلال حياته مائتي فرد لم يعش منها سوى اثنين فقط؛ ليحفظا ذلك النسل بعد أبويهما، وهلك الباقي بما أحاط به في الطبيعة من مسببات الهلاك. وهذا التقدير على ما به من المبالغة بالنسبة للسواد الأعظم من الحيوانات العليا، كثير الانطباق على العضويات الدنيا، وأظهر الكاتب من بعد ذلك أن هذا الزواج الذي فُرض بقاؤه من مجموع النسل، إذا لم يكن قد أنتج سوى فرد واحد حدثت فيه تحولات مفيدة تجعل حظه من الحياة والبقاء مضاعف ما يكون حظ بقية الأفراد الناتجة من هذا الزوج، فإن ذلك لا يكون معوانًا له على البقاء، بل على الضد من ذلك، مقدِّرًا أنه إذا فُرض وبقي هذا الفرد وتكاثر نسله، وأن نصف نسله هذا قد يرث عنه ذلك التحول الذي يساعده في حالات حياته، فإنه لا يكون لذلك النسل من حظ الحياة والقدرة على البقاء ما يكون لسلفه، وأن لذلك الحظ وتلك القدرة، تنضبان من صفات نسله شيئًا فشيئًا على مر الأجيال.

والحقائق التي بُنيت عليها هذه الاعتبارات لا يمكن المجادلة أو التشكك فيها بحال؛ لأننا إذا فرضنا أن نوعًا من الطير كان في منسره عقفة تساعده على تحصيل غذائه، وظهر من أنساله فرد منسره أكثر تعقفًا من مناسر بقية أفراد نوعه، وترتب على ذلك أن يزيد نسل هذا الفرد، فبالرغم من هذا يكون قليل الحظ من الإمعان في التناسل والبقاء حتى يتغلب على نوعه العام ويشغل مركزه من الوجود. أما حال تأثر هذا الفرد بمؤثرات الإيلاف، فلا يداخلنا الريب في أن سلالاته تأخذ مكان النوع الأصلي في الوجود، بما ينتج من حفظ عدد كبير من نسله، تكون مناسرها شديدة التعقف، أو عوانًا بين ذلك وبين مناسر النوع الأصلي، أو بما ينتج من إفناء العديد الأوفر من الأفراد التي لا يكون فيها من تلك الصفات شيء.

وخليق ألا يغيب عن أذهاننا أن بعض التحولات ذات الأثر الواضح في صفات العضويات، تلك التحولات التي لا يعتبرها أحد من التباينات الفردية١٤ غالبًا ما يتكرر وقوعها؛ إذ تتأثر النظامات العضوية المتشابهة بمؤثرات واحدة، وهذه حقيقة نستطيع أن ننتزع من صنوف محصولاتنا الأهلية أمثلة توضحها، حتى لو فرضنا جدلًا في هذه الحالات وأمثالها، أن الأفراد المتحولة؛ أي الآخذة في سبيل التحول، إن لم تنقل صفاتها الجديدة التي تطرأ عليها إلى نسلها، فلا ريبة في أن يزداد جنوح أنسالها إلى التحول بشكل ما، ما دامت متأثرة بمؤثرات بيئة واحدة لا يختلف فيها التأثير الطبيعي، وجائز أن يخامرنا الشك في أن الجنوح إلى التحول قد بلغ من شدة التأثير مبلغًا أفضى بكل الأنسال التابعة لنوع بعينه إلى الإمعان في التحول على نمط واحد ونموذج معين، من غير أن يستعين ذلك الجنوح المتأصل في طبيعة العضويات بصورة من صور الانتخاب، ولدينا من المشاهدات ما يسوقنا إلى القول بترجيح بأن ما يتأثر بتلك المؤثرات لا يعدو الثلث أو الخمس أو العشر من الأنسال. وذكر «جرابا» مؤيدًا ذلك، أن الخمس من صنف من الطيور البحرية التي تقطن جزائر «ألفارو» اسمه «الجلموت»١٥ تؤلف ضربًا معينًا وضعه الباحثون من قبل في طبقة الأنواع المعينة، وأطلقوا عليه اسمًا خاصًّا، فإذا كان التحول الذي يطرأ على العضويات في مثل هذه الظروف ذا فائدة ما، فإن الصور الحديثة المتحولة؛ أي الآخذة في سبيل التحول والارتقاء، لا تلبث أن تتغلب على الصور الأولية التي نشأت عنها خضوعًا لسُنة الانتخاب الطبيعي، وبقاء الأصلح.
ولسوف أعود إلى الكلام في تأثير المهاجنة في القضاء على التحولات بأنواعها، ولكن لا يفوتنا أن أكثر الحيوانات والنباتات تلزم مآويها ومآهلها، فلا تزايلها إلا لحاجة ماسة، نرى ذلك في الطيور المهاجرة،١٦ فإنها ترجع دائمًا إلى البقاع التي تكون قد زايلتها قبل هجرتها؛ ولذا نجد أن الضروب الحديثة عامة تكون من الكائنات الموضعية الخصيصة بالبقاء في بقعة محدودة، ويظهر من جهة أخرى أن هذه قاعدة عامة تخضع لها الضروب في حالتها الطبيعية المطلقة، حتى إن الأفراد المهذبة تأتلف وتكوِّن مجموعًا صغيرًا يتناسل بعضه من بعض في غالب الأحيان، فإذا أصاب الضرب الجديد نجاحًا في تناحره للبقاء مع غيره من الكائنات، وخرج من هذه الحرب الطبيعية فائزًا منتصرًا، أخذ في الانتشار بالتدريج من موطنه الموضعي الذي تأصل فيه، ضاربًا فيما يجاوره من البقاع، توسيعًا لدائرة انتشاره، منافسًا غيره من الأفراد التي لا تزال على حالتها الأولى، غازيًا أماكنها، مستعمرًا أرضها.
وجدير بنا أن نأتي على مثال آخر أكثر اشتباكًا في حلقات صلاته؛ لنظهِر مبلغ الانتخاب الطبيعي من التأثير، فإن بعض النباتات الخاصة تفرز رحيقًا حلو الطعم لتنقي عصارتها من بعض العناصر الضارة بها، وهذا الرحيق تفرزه غدد توجد في مؤخر أذينات الأوراق في نباتات الفصيلة القرنية،١٧ وفي ظهر الورقة في شجر الغار،١٨ وهذه العصارة على قلة ما يُفرز منها، تلتهمها الحشرات بشراهة كبيرة، ولا ريبة في أن ارتياد الحشرات لهذه النباتات لا تكسبها في الظاهر فائدة ما، لنفرض بعد ذلك أن أزهار عدد من النباتات الخاصة التابعة لنوع ما، تفرز هذه العصارة، فإن الحشرات إذ تسعى لجني هذا الرحيق، يحمل جسمها كمية كبيرة من حبوب اللقاح، فتنقله غالبًا في زهرة إلى أخرى، فتتم بذلك المهاجنة بين أزهار فردين خاصين تابعين لنوع معين، والنتيجة المباشرة لتأثير المهاجنة، كما هو معروف، وكما نستطيع أن نثبت بالبراهين القيمة، توليد شجيرات قوية التركيب تساعدها الظروف والحالات المحيطة بها، على التكاثر والنماء؛ إذ تكون من الحياة والبقاء أكبر حظًّا وأوفر نصيبًا، ويستتبع ما مر، أن النباتات التي تكون غدد أزهارها الرحيقية أكبر حجمًا، تكون بالطبيعة أكثر النباتات إفرازًا لهذا الرحيق؛ ولذا يغلب ارتياد الحشرات لها، وإذ ذاك تكون أكثر النباتات مهاجنة، فينشأ منها على مر الزمان وبتعاقب هذه المؤثرات، ضروب موضعية مهذبة الصفات، تختص بالمقام في بقعة محدودة. كذلك مما يساعد الأزهار على نقل لقاحها، وتهاجنها في ظروف حياتها، أن يكون وضع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث فيها، موافقًا لطبائع الحشرات التي ترتادها ملائمًا لعادتها وأحجامها، وجائز أن نسوق هذا المثل بحيث نجعل ارتياد الحشرات للأزهار أمرًا يدفعها إليه عشقها استجماع حبوب اللقاح، لا ارتشاف هذا الرحيق. وإذ كانت الفائدة من وجود اللقاح تنحصر في إعداد النبات للإثمار، فقد خُيل إلينا أن استهلاكه مضرة كبيرة، غير أننا نغفل دائمًا عن أن هذا اللقاح، إن لم تحمل منه الحشرات التي تغتذي به إلا القليل من زهرة إلى أخرى على غير عمد بادئ ذي بدء، حتى تعتاد حمله، فإن هذا الأمر يعود على النبات بنفع كبير؛ إذ يُحدِث فيه تهاجنًا، حتى لو فرضنا أن تسعة أعشار هذا اللقاح تستهلكه الحشرات، وفي هذه الحال وأمثالها تكون أكثر الأفراد إنتاجًا للقاح، ولها منك أكبر رعاية هي التي تُنتخب.
فإذا مضت تلك العوامل مؤثرة في هذا النبات أزمانًا متعاقبة، وأصبح هذا النبات أكثر جاذبية لصنوف الحشرات، فإنها تدفع بغريزتها إلى ارتياده فتحمل لقاحه من زهرة إلى أخرى. ومن الهين أن آتي على كثير من الحقائق لأثبت أن الحشرات لا تنفك ماضية في عملها على التعاقب، ولأذكر مثالًا واحدًا لأبين عن خطوة من الخطى التي تمضي النباتات متدرجة فيها نحو التمايز من حيث الذكورة والأنوثة، ذلك أن بعض أنواع السنديان١٩ (نوع من البلوط) لا تنتج إلا أزهارًا مذكرة لها أربع أسدية، لا تنتج إلا نزرًا يسيرًا من حبوب اللقاح، وكربلة أو مدقة «عَسَنِيَّة»٢٠ حديجة لا تنتهي إلى درجة البلوغ أبدًا. بيد أن ضروبًا أخرى لا تنتج من الأزهار إلا إناثًا تبلغ كرابلها حد الكمال، وأربع أسدية خديجية المتك ضعيفته، خالية من حبوب اللقاح، فأخذت جملة من المياسم جمعتها من عشرين زهرة على أفرع مختلفة من شجرتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى ستين ياردة، ثم فحصتها فحصًا مجهريًّا (ميكروسكوبيًّا) فوجدت أنها بغير استثناء تحمل لقاحًا، وأن القاح في بعضها يبلغ حد الوفرة. وإذ كانت الرياح قد ظلت ساكنة خلال أيام عديدة، خُيل إليَّ أنه لم يتأتَّ للقاح أن ينتقل بالريح، وكان الطقس باردًا، فلم يكن مواتيًا للنحل حتى ينشط، ورغم هذا كله وجدت أن إناث الأزهار التي فحصتها قد لقحها النحل لدى تنقله من شجرة إلى أخرى، باحثًا عن رحيق الأزهار.

ولنرجع بعد إذ فصَّلنا ما فصلناه، إلى الكلام في ذلك النبات الذي فرضناه، لنُظهر للباحث فعل الانتخاب الطبيعي، فإن ذلك النبات إذ يصبح أكثر جاذبية لأنواع الحشرات وصنوفها، لا تقتصر العوامل المؤثرة فيه على نقل لقحه من زهرة إلى أخرى، كلا بل يرجح أن تتعدى هذا الحد إلى طور آخر من أطوار التأثير، ولم يرْتَب أحد من الطبيعيين في صحة السُّنة التي اصطُلح الباحثون على تسميتها بقاعدة «توزيع العمل الفسيولوجي». ومن هذا نُساق إلى الاعتقاد بأنه من الفائدة لنبات ما، أن يثمر أعضاء تذكير في زهرة بعينها لا غير، أو أن تنفرد أشجار منه مجمل هذه الأعضاء، وينفرد غيرها من الأزهار أو الأشجار بإنتاج أعضاء تأنيث. فإننا نرى في نباتات مستزرعة تقع تحت تأثيرات حالات حياة طارئة، أن أعضاء التذكير — وفي بعض الأحيان أعضاء التأنيث — يزيد فيها القصور أو يقل، فإذا فرضنا أن هذا قد يحدث لنباتات بصفة غير محسوسة في حالتها الطبيعية، فإن الأفراد التي تتضاعف فيها مؤثرات تلك الخِصِّية، خِصِّية وجود أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث فيها منفصلة بعضها عن بعض في أزهار أو أشجار معينة، تصبح أكثر ملاءمة لمقتضيات الحالات المحيطة بها، ومن ثَم تعضدها الطبيعة للبقاء فيها حتى ينتهي الأمر وقتًا ما إلى انفصال الجنس في النبات وتمايزه من حيث الذكورة والأنوثة انفصالًا تامًّا، طالما كان انتقال اللقاح بصورة مطردة من زهرة إلى أخرى ذا فائدة لهذا النبات، وما دمنا قد علمنا أن تمام الفصل بين جنسي النبات، من حيث الذكورة والأنوثة، يعضد النبات في حالات حياته، خضوعًا لسُنة «توزيع العمل الفسيولوجي» ولا جرم أنه من المتعذر في هذا الموطن أن نظهِر تلك الخطى العديدة التي تمضي النباتات في الوقت الحاضر متدرجة فيها نحو التمايز في الجنسية من حيث الذكورة والأنوثة، أو أن نعدِّد كل المؤثرات التي نسوقها في هذه السبيل؛ لأن ذلك يستغرق فراغًا كبيرًا، وكل ما تصل إليه استطاعتي أن أضيف إلى ما سلف ذكره، أن بعض أنواع السنديان في شمال أمريكا، كما قال «آساجراي» قد بلغت الحلقة الوسطى من هذا التحول.

ولنرجع هنيهة إلى الحشرات التي تغتذي بالرحيق، ولنفرض أن النبات الذي نتكلم فيه نبات عادي معروف، وأن رحيقه تدرَّج في الزيادة بفضل الانتخاب كما أسلفنا، وأن بعض أنواع الحشرات قد اقتصرت في الاغتذاء على رحيقه دون غيره من النباتات. وفي استطاعتي أن أذكر أمثالًا عديدة لأظهِر كيف يجاهد النحل في سبيل الاقتصاد في الوقت، ومن ذلك عادتها في ثقب جدار بعض الزهور لتتوصل بذلك إلى امتصاص رحيقها، دون الدخول من فوهتها بمزيد قليل من الجهد، فإذا وعينا أمثال هذه الحقائق وأصبح من الهين أن نعتقد أنه إذا حدثت تحولات فردية في نفوس خراطيم الحشرات أو استطالتها بصفة غير محسوسة، خضوعًا لمثل الاعتبارات التي أدلينا بها من قبل، فربما أفادت هذه التحولات شيئًا من النحل أو غيره من الحشرات، فتصبح بعض أفراده قادرة على تحصيل غذائها في وقت أقصر مما تحتاجه غيرها، وتمسي الجماعات التي تكون هذه الأفراد تابعة لها، أكثر قابلية للتكاثر والتفوق على كثير من تلك التي تبقى حافظة لصفاتها الأصلية. مثال ذلك: أن أنابيب التويج في البرسيم الأحمر٢١ والبرسيم الوردي٢٢ لا تختلف في الطول اختلافًا ما عند مجرد النظر، ومع هذا نجد أن نحل الخليات يسهل له أن يمتص رحيق أزهار البرسيم الوردي، ولا يسهل له ذلك في البرسيم الأحمر الذي يرتاده النحل الطنان٢٣ لا غير. فحقول البرسيم الأحمر إذن تنفح نحل الخليات بفيض من رحيقه الشهي، أما أن نحل الخليات يشتهي ذلك الرحيق، فأمر غير مشكوك فيه؛ لأنني لاحظت مرارًا خلال فصل الربيع أن كثيرًا من هذه النحل تمتص عصارة هذا البرسيم من ثقوب عند قاعدة أنبوب التويج، يكون النحل الكبير قد افتتحها من قبل. وهذان الصنفان من البرسيم، إذا كان اختلاف تويجات أزهارهما من حيث الطول ضئيلًا، فلا شك في أن هذا الاختلاف هو السبب الذي يمنع نحل الخليات من ارتياد البرسيم الأحمر، وحقق لي بعض الثقات أن هذا البرسيم إذا رُعي مرة، فإن أزهار المحصول الثاني تكون أصغر قليلًا من الأولى، فيرتادها إذ ذاك كثير من نحل الخليات. على أنني لم أحقق مبلغ انطباق هذا القول على الواقع، كما أنني لا أعلم مبلغ الصحة في قول قرأته بأن «نحل ليجورية»٢٤ يستطيع أن يصل إلى رحيق البرسيم الأحمر ويمتصه، مع أن هذه النحل تعتبر ضربًا من نحل الخليات وتتهاجن وإياه بحرية تامة، فإذا استطال خرطوم نحل الخليات أو تحور تركيبه في البقاع التي يتكاثر فيها البرسيم الأحمر، رجع ذلك بالفائدة العظمى على هذا النبات. ونرى من جهة أخرى، أنه ما دام إخصاب هذا البرسيم يتوقف على ارتياد الحشرات أزهاره، أصبح من فائدة هذا النبات أن تكون تويجاته أقصر مما هي الآن، أو أن يكون تويجها أكثر تشريقًا، إذا قلَّت أنواع النحل الطنان في بقعة بعينها، حتى يتمكن نحل الخليات من ارتياده وامتصاص رحيق أزهاره. ومن هنا أستطيع أن أفقه كيف أن الزهرة والنحلة تمضيان متدرجتين في تكييف الصفات وتتهايآن أدق التهايؤ، وذلك بالاحتفاظ بكل الأفراد التي يكون فيها شيء من الانحراف التركيبي، تتبادل منفعته النحلة والزهرة، سواء أظهر هذا التكافؤ فيهما في آنٍ واحد، أم تدرج فيه أحدهما بعد الآخر.

وإني لعلى يقين من أن سُنة الانتخاب الطبيعي التي صورناها للقارئ ممثلة في الفرض السابق، قد تصدق عليها ذات الاعتراضات التي اعتُرض بها من قبل على آراء «ليل» في «اتخاذ التغايرات الحديثة التي لا تزال تؤثر في السيار الأرضي أمثالًا تتبين بها تاريخ تكون طبقاته في سالف الأزمان»، ذلك على الرغم من أننا قلما نسمع الآن أن الأعاصير الطبيعية التي لا تنفك ماضية في عملها الدائم، والتي يُعزى إليها تكوُّن الأودية السحيقة وتجاويف الأرض، أو تكوُّن سلاسل الجبال الصخرية في بقاع هذا السيار، هي من توافه الظاهرات.

على أن تأثير الانتخاب الطبيعي لا يعدو الاحتفاظ بالتحولات العرضية الموروثة واستجماعها، إذا ما كانت ذات فائدة ما للكائن العضوي المحتفظ به. وكما أن علم الجيولوجيا الحديث قد نقض القول بأن الأودية السحيقة، وتجاويف الأرض العظيمة، قد تكونت دفعة واحدة من جرف سيل طوفاني، كذلك ينقض الانتخاب الطبيعي القول بخلق الكائنات خلقًا مستقلًّا خلال فترات الزمان، ويتعذر وقوع تغاير فجائي على تراكيبها الطبيعية طفرة.

(٣) مهاجنة الأفراد

تسوقني الحاجة إلى الانصراف بعض الشيء إلى استطراد ضروري، وإنه لمن الظاهر أنه في حالة الحيوانات والنباتات الأحادية الجنس، فيما عدا تلك الحالات الغامضة العجيبة (حالات التوالد البكري)٢٥ ينبغي لفردين أن يقترنا ليتم حمل مثمر. أما في حالة «الخناث»٢٦ فالأمر أبعد عن الوضوح وأمعن في الغموض، ومع هذا فإن كثيرًا من الاعتبارات الصحيحة يسوقنا إلى الاعتقاد بأن «الخناث» جميعًا، يتعاون فردان منها على حفظ نسلها. ولقد قال بهذا الرأي، مع الشك فيه، «سبرنجيل» و«تايت» و«وكولروتر» منذ زمان مضى. وسأوضح الآن مبلغ ما لهذه السُّنة من الشأن والخطر، رغم ما يدعوني إلى معالجتها بكل إيجاز، ولو أن لدي من المواد ما أستطيع به أن أبحثها البحث الوافي. إن كل الفقاريات٢٧ وكل الحشرات، وغير ذلك كثير من عشائر الحيوان لا يتم توالدها إلا باقتران فردين من أفرادها. ولقد أنقصت البحوث الحديثة عدد الخناث المقول به من قبل، واعترفت بأن عددًا عظيمًا من صورها الصحيحة يتزاوج؛ أي إن فردين من أفرادها يقترنان باطراد لحصول التوالد. وفي هذه المسألة ينحصر كل ما نحن قاصدون إليه من البحث. غير أن كثيرًا من خناثى الحيوانات تقترن عادة، بيد أن عددًا عظيمًا من النباتات، خناثى التركيب؛ ولذا نسأل أي وجه في هذه الحالة للقول بتعاون فردين تعاونًا مطردًا لحصول التوالد؟ وإذ كان من المتعذر علي أن أطنب في البحث، لزمني أن أقصره على بعض الاعتبارات العامة.

لقد استجمعت كثيرًا من الحقائق الثابتة لأول عهدي ببحث هذا الموضوع، وأجريت تجاريب عديدة للتثبت من صحة اعتقاد جل المشتغلين بمسائل التربية والاستيلاد في أن تهاجن الحيوانات يزيد من صبوة توالداتها، ويضاعف من قوة الإنتاج فيها، سواء أتى ذلك من تزاوج أفراد ضروب بعض الحيوانات ببعض، أو اختلاط ضروب النباتات بتلقيح بعضها بعضًا، أو وقوع ذلك بين أفراد ضرب تختلف أنساب سلالاته وأصوله، وأن استيلاد ذوي القربى يضعف تلك الصبوة، وينضب قوة الإنتاج في تولداتها، فساقتني هذه الحقائق وحدها إلى الاعتقاد بسُنة عامة محصلها أنه لا يوجد كائن عضوي يستطيع أن يحتفظ بقوة تناسله مخصبًا نفسه بنفسه مدى أجيال عديدة متعاقبة، كما أن تهاجنه اتفاقًا مع غيره من الأفراد، ضروري للاحتفاظ بتلك القوة، ولو حدث ذلك في فترات متباعدة من الزمان.

فإذا مضينا في البحث على اعتقاد أن تلك قاعدة طبيعية عامة، تيسَّر لنا، على ما أرى، أن نفقه حقائق جمة مثل ما سأذكره بعد، ما كنا لنعلم لولا ذلك الاعتقاد من مفصلاتها شيئًا. إن كل المهجنين ليعلمون حق العلم مبلغ التأثيرات السوأى التي تقع على قوة إنتاج زهرة ما لدى تعرضها للرطوبة، كما أنه لا يجدر بنا أن ننسى أن عددًا وفيرًا من الأزهار تتعرض متكها ومياسمها، إلى مؤثرات المناخ، فإذا كان وقوع التهاجن أمرًا محتومًا، بالرغم من أن متك النبات وكرابله تكون متقاربة الوضع بحيث يتيسر حدوث التلاقح الذاتي في الزهرة، فإن السهولة التامة التي بها يمكن دخول لقاح فرد آخر، تفسر لنا الحقيقة في تعرض أجهزة التناسل لمؤثرات المناخ.

ونجد من جهة أخرى في كثير من الأزهار أن أجهزة الإثمار فيها متدانية الوضع جد التداني، كما يُشاهد في الجناحيات؛ أي الفصيلة الحمصية،٢٨ ورغم هذا نشاهد في العديد الأكبر من هذه الفصائل تناسبًا جميلًا وتكافؤًا تركيبيًّا عجيبًا، يساعدان على ارتياد الحشرات لها، ومن ثَم يتضح لنا أن ارتياد النحل لكثير من أزهار النباتات الجناحية ضروري، حتى إن قوة الإنتاج فيها قد تضعف ضعفًا بينًا إذا تعذَّر على النحل ارتيادها بحالة من الحالات؛ ولذا قلَّ أن تتنقل الحشرات بين زهرة وأخرى بغير أن تحمل لقاح بعض الأزهار إلى بعض، مما يفيد النبات ذاته وما أشبه فعل الحشرات هنا بريشة الرسم، فإنه يكفي لإتمام اللقاح أن تمس أرجل الحشرات أو جسمها متك زهرة ما، ثم مياسم أخرى، غير أنه لا يجدر بنا أن نقول: إن النحل وحده قد يستطيع أن يستحدث بتأثيره هذا جمًّا غفيرًا من التهجين في أنواع معينة. فلقد أظهر «جارتنار» أنه إذا اختلط لقاح نوع ما بأجهزة التأنيث في زهرة، واختلط بها أيضًا لقاح تذكير من نوع آخر، فإن لقاح النوع الأول يكون له التفوق المطلق، حتى إنه يُهلك اللقاح الثاني ويفني تأثيره.
إذا رأينا أن السداة في زهرة ما قد أخذت في النماء دفعة واحدة مقتبلة الدقة (الكربلة) في نمائها، أو نمت هذه الأعضاء، العضو تلو الآخر، نماء بطيئًا متخذة ذات الاتجاه يظهر لنا أن الفائدة من هذه الحركة النمائية مقصورة على إتمام الإلقاح الذاتي في هذه الزهرة، ولا مشاحة في أنها مفيدة للوصول إلى هذه الغاية، غير أن فعل الحشرات رغم ذلك لازم في هذه الحال، وذلك ليؤثر في الأسدية تأثيرًا يسوقها إلى النماء، كما أظهر «كيولروتر» في نبات «بربريس»،٢٩ ومن الشائع أن هذا الجنس عينه — والظاهر أن له أداة خاصة يتم بها الإخصاب — إذا استُنبتت صوره المتلاحمة في النسب الطبيعي أو ضروبه، متقاربة بعضها من بعض، فإنه من الصعب أن ينتج في هذه الحال بادرات نقية غير مختلطة، مما يدل على طواعيتها للتهاجن الطبيعي. وفي كثير من الحالات الأخرى — تلك الحالات التي يظهر فيها أن الإخصاب الذاتي غير متيسر الوقوع، وفاقًا لحالة النبات ذاته — توجد وسائل خاصة تحول دون وصول اللقاح إلى الميسم٣٠ من نفس زهرة. وأستطيع أن أثبت ذلك من تجاريب «سبرنجيل» وغيره من أهل النظر، ومن اختياراتي في هذا الشأن، مثال ذلك: أن نوعًا من الطباق الهندي يُسمى «اللوبيل الوضيء»٣١ فيه أداة جميلة الصورة عجيبة التركيب، بها تكتسح صوب اللقاح الوفيرة وتبددها من المتك المتزاحمة في كل زهرة، قبل أن تتهيأ مياسم الزهرة لتقبلها، ولما كانت هذه الأزهار لا يرتادها من أنواع الحشرات شيء، وذلك بقدر ما خبرت ذلك في حديقتي، فهي لا تنتج بذورًا البتة، ولو أن نقل اللقاح من زهرة إلى ميسم أخرى اصطناعًا، قد ييسر لي ازدراع كثير من البادرات. وشاهدت أن نوعًا آخر من «اللوبيل» ترتاده الحشرات قد أنتج بذورًا كثيرة في حديقتي، وفي غير ذلك من الحالات الجمة، أستطيع أن أثبت كما أثبت «سبرنجيل» و«هلدبراند» من بعده، وغيرهما من الباحثين، أنه وإن لم يكن للنبات جهاز آلي يمنع الميسم من تلقي اللقاح من ذات الزهرة، فإن المتك إما أن تتفجر قبل أن تتهيأ الميسم للإخصاب، وإما أن يتهيأ الميسم للإخصاب قبل أن ينضج لقاح الزهرة، وهذه النباتات التي تُسمى «المفاوتة البلوغ»٣٢ هي في الحقيقة منفصلة الجنس، وينبغي لها أن تتهاجن على الدوام، وكذلك الحال في النباتات الديمورفية والتريمورفية التي مر ذكرها من قبل. كم تبهرنا هذه الحقائق، وكم تكون دهشة الباحث إذ ينكشف له أن اللقاح والسطح المستقل من الميسم لا يتبادلان الفائدة الطبيعية من وجودهما في حالات كثيرة، مهما قارب موضع أحدهما الآخر في الزهرة الواحدة، ولو أن وضعها بهذه الصورة، لا يترك مجالًا للريب في أن أعضاء الإنتاج فيها ملائم للإخصاب الذاتي؟ وكم يصبح فهم هذه الحقائق على الباحث هينًا، إذا مضى في بحثه مقتنعًا بأن المهاجنة بين أفراد معينة خِصِّية ذات فائدة للكائنات العضوية بل ضرورية لها.

إذا استُنبتت ضروب من الكرنب والفجل والبصل، وبعض النباتات الأخرى، كل ضرب منها بمفرده، بحيث يجاور بعضها بعضًا، فإن العديد الأكبر من نباتاتها يكون شاذ الخلقة، مثال ذلك: استُنبت ٢٣٣ شتلة من الكرنب، تابعة لضروب متفرقة بعضها يجاور بعضًا، فلم يبقَ منها صحيحًا مماثلًا لضروبه الأولى سوى ٧٨ شتلة، بيد أن بعضًا منها لم يكن يماثل ضروبه الأصلية مماثلة تامة، رغم أن زهرة الكرنب يحوطها من كل جانب مدقات (كرابل) الشجيرات المزروعة فيما يجاورها، مضافًا إليها ست أسدية لا غير، بل أسدية غيرها من الزهرات في النبتة الواحدة، واللقاح الناتج من كل زهرة من الأزهار ينتقل من تلقاء ذاته إلى المياسم بدون أن يحتاج إلى حشرات ما لإتمام ذلك، ومن الثابت أن النباتات التي يُحتفظ بها ويُحال بينها وبين الحشرات، تنتج عددًا كاملًا من القرون، فكيف يشذ هذا العدد الوفير عن الجادة الطبيعية والحال ما علمنا؟ لا مندوحة لنا إذن من الإذعان للقول بأن لقاحًا من ضروب معينة أخرى، قد أثَّر تأثيرًا عمليًّا في لقاح الزهرة، وأن هذا الأثر ليس إلا مظهرًا من مظاهر قاعدة طبيعية عامة، محصلها أن فائدة الكائنات العضوية من المهاجنة مقصورة على تخالط الأفراد المعينة من كل نوع بصورة مطردة. أما في تهاجن الأنواع المعينة وتخالطها، فالأمر على العكس من ذلك، لما تقرر لدينا من أن الأنواع المعينة عندما تتهاجن يمحو اللقاح الأصيل الذي يختلط بأجهزة الإنتاج في كل زهرة من الأزهار، أثر اللقاح الدخيل محوًا تامًّا، ولسوف نعود إلى هذا الموضوع في فصل آتٍ.

أما الأشجار الكبيرة التي تغطيها أزهار لا عدد لها، فحال قد يعترض عليها بعض الكتاب بأن اللقاح لا يغلب أن ينتقل من شجرة إلى أخرى، أو من زهرة إلى زهرة في شجرة بعينها على الأقل، وأن الأزهار التي تحملها شجرة ما، يمكن اعتبارها متميزة٣٣ بمعنى محدود. واعتقادي أنه من المستطاع أن يكون لهذا الاعتراض وزن، لولا أن الطبيعة قد خصت النباتات بأزهار تختلف في الجنس من حيث الذكورة والأنوثة، فلا يصدق عليها هذا الاعتراض، وساقتها في هذا السبيل سوقًا، فإن حال النباتات لدى اختلاف أزهارها في الجنسية من حيث الذكورة والأنوثة، ولو أن ذكور الأزهار وإناثها قد تنتج في شجرة بذاتها، وقد يسوق اللقح إلى الانتقال من زهرة إلى أخرى حتى يتم التلقيح، فتصبح هذه الخِصِّية صفة من الصفات التي تمهد للقاح سبيل الانتقال من شجرة إلى أخرى انتقالًا مطردًا. وأما كون النباتات التابعة للمراتب النباتية العليا قد يغلب أن تكون أحادية الجنس، فأمر حققته في نباتات بريطانيا، ورغبت إلى دكتور «هوكر» أن يرتب نباتات «زيلاندة» الجديدة، وإلى دكتور «آساجراي» أن يرتب نباتات الولايات المتحدة، كلاهما في جداول حسب مراتبها وأوصافها الطبيعية، فجاءت النتيجة كما كنت أتوقع، وأخبرني دكتور «هوكر» أن هذه القاعدة لا تصدق على نباتات أستراليا، ولكن إذا كان أكثر نباتات أستراليا كافة من النباتات «المفاوتة البلوغ» فمن المحقق ألا يكون هناك فرق بين النتائج في كلتا الحالين، كما لو كانت هذه النباتات تحمل أزهارًا أحادية الجنس. وأما هذه الملاحظات فقد أتيت عليها استجماعًا لانتباه القارئ إلى لب الموضوع.
فإذا أعدنا النظر في الحيوانات، وجدنا أن عددًا عظيمًا من الأنواع الأرضية خناثى مثل الحيوانات الرخوة أو الرخويات،٣٤ والخراطين٣٥ (ديدان الأرض)، غير أنها تتزاوج فيجتمع فردان منها لإتمام الإنتاج، ولا إنتاج بغير هذا. ولم أجد حيوانًا أرضيًّا واحدًا قد أعدته الطبيعة لتلقيح نفسه بنفسه. وهذه الحقيقة على ما بها من التضاد التام لحالات النبات، لا يمكن إدراكها إلا مع اعتقاد أن تهاجن بعض الأفراد ببعض تهاجنًا اتفاقيًّا، حقيقة ضرورية راهنة، فإذا نظرنا إلى طبيعة عناصر الإخصاب ذاتها، لم نجد في الحيوان من وسائل يشابه تأثيرها تأثير الحشرات أو الرياح في عالم النبات، بها تستطيع الحيوانات البرية أن تختلط بعضها مع بعض، وتتلاقح تلاقحًا اتفاقيًّا من غير أن يجتمع فردان منها لإتمام ذلك، وعلى العكس من هذا يظهر لنا أن كثيرًا من خناثى الحيوانات المائية تتهاجن ذاتيًّا، بيد أن تيار الماء واسطة من أدق الوسائط لحصول التهاجن بين هذه الأنواع، ولقد حاولت أن أجد حيوانًا واحدًا من الخناثى، أعضاء التناسل فيه مكتنفة بما يحوطها حتى يتيسر الوصول إليها، فأخفقت في ذلك بعد أن باحثت جهبذًا من أهل النظر والبحث، هو الأستاذ «هكسلي» وأطلت وإياه البحث والتنقيب، فوضح لنا أن ذلك في الحيوانات أمر مستحيل الوقوع من الوجهة الطبيعية، كما هي الحال في أزهار النباتات، واعترضت بحثي الحيوانات السلكية الأرجل أو السلكيات٣٦ مقتنعًا بما يناقض هذه القاعدة، صعاب جمة، حتى هُيئت لي فرصة نادرة أن أثبت أن فردين من الأفراد، ولو كانا من الخناثى الذاتية الإخصاب، لا بد من أن يتهاجنا بعض الأحيان ويتخالطا تخالطًا طبيعيًّا.

ومما يأخذ بلب الباحث أن توجد أنواع من فصيلة واحدة، وربما كانت من جنس واحد، متصلة في أنسابها، متقاربة في صفاتها، متحدة في نظامها التركيبي ويكون بعضها من الخناثى، والبعض الآخر من الحيوانات الوحيدة الجنس، ولا جدال في أن الطبيعيين قد اعتبروا ذلك تهوشًا وخللًا سادا طبائع الكائنات، فإذا علمنا أن الخناثى تتهاجن اتفاقًا، كان الفرق بينها وبين الحيوانات الوحيدة الجنس ضئيلًا، على قدر ما يتعلق ذلك بوظائفها العملية، وهنا تنقشع عن أبصارنا غياهب تلك الريب التي تحوطنا.

ولقد ينكشف لنا من كثير من الاعتبارات الصحيحة، والحقائق الجمة التي استجمعتها، أن مهاجنة أفراد معينة من الحيوان والنبات اتفاقًا، قاعدة كثيرة الانطباق على طبائع الكائنات، إن لم تكن من السُّنن الطبيعية العامة التي تخضع لآثارها العضويات.

(٤) الظروف الملائمة لنشوء صور جديدة بتأثير الانتخاب الطبيعي

يعتبر هذا البحث من أكثر البحوث اشتباكًا وأشدها تعقيدًا وإشكالًا، ونرى أن من أكبر الأسباب التي تسوق إلى استحداث الصور، أن في العضويات استعدادًا كبيرًا لقبول التحول، الذي يشمل مدلوله التباينات الفردية في كل الحالات فإذا هيأت الفرص والأسباب جمعًا عظيمًا من الأفراد لقبول تحولات مفيدة تظهر في تراكيبه، نجد في هذه الحال أن تلك الظروف قد جعلت استعداد كل الأفراد متوازيًا، حتى لقد تصبح الأفراد التي هي غير كاملة الاستعداد، تماثل أكثرها قبولًا لتلك الصفة، وإني لأعتقد أن هذه السُّنة من أكبر أسباب النجاح، على أن الطبيعة إن كانت تترك للانتخاب الطبيعي دهورًا طوالًا لكي يتم نتائجه، فقد جعلت لإتمام تلك النتائج حدودًا مرهونة بأزمانها، ولما كانت الكائنات مسوقة إلى التناحر والمنافسة في سبيل الاستيلاء على كل مرتبة من مراتب النظام الطبيعي واحتلالها، فلا بد من أن ينقرض استتباعًا لذلك أي نوع من الأنواع لا تتحول خِصِّياته، ولا تتهذب صفاته، تهذيبًا يضارع ما يطرأ على منافسيه في حياتهم. والتحولات المفيدة إن لم تكن معدة لأن تنتقل بالوراثة إلى نزر يسير من الأعقاب على الأقل، بطل فعل الانتخاب الطبيعي، وقصرت يده عن التأثير في نظام الأحياء. والعضويات إذ كانت مسوقة إلى الرجعى إلى صفات أصولها الأولية، فربما يزعم البعض أن هذه الخِصِّية عقبة تمنع الانتخاب الطبيعي عن إتمام عمله وإبراز أثره، غير أن العضويات إذ هي مسوقة في هذه السبيل، لم يمتنع على الإنسان أن يستحدث فيها بالانتخاب العملي، الجم الوفير من السلالات الداجنة، فلمَ يمتنع ذلك على الانتخاب الطبيعي والحال ما علمنا؟

نرى في الانتخاب النظامي أن المشتغل بالتربية والاستيلاد ينتخب تربية صور معينة ونصب عينيه غرض محدود يحاول الوصول إليه، فإذا تيسر للأفراد إذ ذاك أن تملك حريتها المطلقة في التهاجن، أخفق سعيه وضاعت جهوده هباءً، ونجد من وجهة أخرى أن الناس إذ تجمع بين مخيلاتهم فكرة الوصول إلى حد الكمال، يحتفظون بأرقى الحيوانات المنتقاة ويستولدونها، فتتهذب صفات أفرادها تهذيبًا متتابعًا درجة درجة، وحالًا على حال، بما ينجم من آثار مقومة الانتخاب اللاشعوري أو غير المقصود، ولو لم يكن مقصدهم أن يحسنوا من صفاتها شيئًا، ذلك على الرغم من أنهم لا يفصلون بين أكثرها رقيًّا وبين بقية الأفراد التي يحتفظون بها. كذلك حال الكائنات متأثرة بمؤثرات الطبيعة الخالصة، فإذا نظرنا في بقعة محدودة من البقاع، في موضع من مواضع نظام الكائنات التي تأهل بها وتتسق مراتبها فراغًا ما، نجد أن كل الأفراد الممعنة في سبيل التغاير على النحو المفيد لها في حياتها تُساق إلى البقاء، وإن اختلف تغايرها كمًّا وكيفًا. غير أن تلك البقعة إذا كانت كبيرة المساحة، مترامية الأطراف، غلب أن يختص كل إقليم من أقاليمها المتعددة بحالات حياة تباين حالات الإقليم الآخر، وعلى ذلك فإن الضروب المستحدثة تتهاجن في أطراف من حدود كل إقليم، إذا سيق نوع بذاته إلى تحول الصفات في أقاليم مختلفة، ولسوف نرى في الفصل السادس كيف أن الضروب التي تربط بعض الأنواع ببعض، والتي تقطن أقاليم تتاخم إقليمًا ما، لا بد من أن يخلفها في كل الحالات ضرب من الضروب المتصلة بها في النسب. على أن التهاجن غالبًا ما يكون تأثيره مقصورًا على الحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكل ميلاد، والتي تكثر من الهجرة وارتياد الأماكن المختلفة، فلا يزداد نسلها بنسبة كبيرة، فالحيوانات التي تكون لها هذه الصفات، كالطيور مثلًا، تختص ضروبها بالبقاع المنفصلة مواقعها الجغرافية، غير المتصلة الحدود، ولقد صدقت تلك السُّنة على كل الحالات التي خبرتها. أما العضويات الخناثى، والتي لا يقع التهاجن بين أفرادها إلا اتفاقًا، والحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكيل ميلاد، إذا كانت قليلة الارتحال والتنقل، وكان عدد أنسالها يزداد بنسبة كبيرة على العكس من الحال الأولى، فقد يمكن أن تحتفظ بعنصرها وتؤلف جماعة مستقلة تأخذ فيما بعد في الانتشار والذيوع، حتى إن أفراد الضرب الجديد قد تتهاجن في الغالب بعد مضي زمن ما، واتباعًا لهذه القاعدة يفضل المشتغلون بتربية النبات أن يحتفظوا ببذور يجمعونها من مجموع نباتات عديدة؛ لأن الظروف المهيئة للمهاجنة تضعف ويقل عملها بتأثير ذلك.

وخليق ألا يسبق إلى حدسنا أن حرية التهاجن في الحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكل ميلاد، والحيوانات البطيئة التوالد، قد تعطل في كل الحالات، تأثير الانتخاب الطبيعي، ففي مكنتي أن أذكر كثيرًا من الحقائق الثابتة لكي أظهِر أن ضربين من الضروب، تابعين لنوع من الحيوان، قد يظلان متميزين غير مختلطين ضمن حدود بقعة بعينها، وقد يرجع ذلك إلى بقائهما في مكان واحد لا يبرحانه ولا ينشطان منه، أو إلى توالدهما في فصلين من فصول العام مختلفين اختلافًا يسيرًا، أو إلى أن أفرادهما مسوقة إلى المزواجة، كل ذكر منها بأنثى من نوعه.

إن المهاجنة لتؤثر في الطبيعة العضوية تأثيرًا كبيرًا، فهي توازن بين صفات الأفراد، أفراد كل نوع من الأنواع أو ضرب من ضروبها، وتساوي بينها حتى يتم تكافؤها، ولا خفاء في أن فائدة تأثيرها في الحيوانات المزاوجة يكون أبين مما هي في غيرها. ولكن لدينا من الاعتبارات الصحيحة ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن التهاجن الاتفاقي قد يقع للحيوانات والنباتات كافة كما مر ذكره، وإن كان وقوعه خلال فترات متباعدة من الزمان، وإن كان وقوعه يزيد من قوة إنتاج الأنسال الناشئة في تلك الحال ويضاعف صبوتها على صبوة الأنسال التي تنتج بوساطة الإخصاب الذاتي مدى أزمان طويلة، فيكون لها من البقاء وحفظ النوع حظ كبير ونصيب موفور، يتضح من ذلك أن استمرار هذا التأثير — تأثير التهاجن — كبير، وإن طرأ على العضويات خلال فترات متباعدة من الزمان. أما الكائنات الدنيا المعتبرة أحط مراتب النظام العضوي، وهي التي لا تتوالد بالتكاثر الجنسي — أي اختلاط عنصر التذكير بعنصر التأنيث في الحيوانات والنباتات الراقية — أو تلك الكائنات العضوية التي لا تتزاوج والتي لا يتيسر لها بحال أن تتهاجن، فجائز أن نعزو توازن صفاتها، وتكافؤ بعضها لبعض، متأثرة بحالات حياة واحدة، إلى سُنة الوراثة وإلى الانتخاب الطبيعي؛ إذ يفنى كل الأفراد التي تنحط صفاتها عن صفات الصور الكاملة بشكل ما، فإذا تنافرت حالات الحياة أو تغيرت، وأمعنت صورة من الصور في تحول الصفات، فإن توازنها ومساواة صفات بعض الأنسال لبعض، لا يحصل إلا من تأثير الانتخاب الطبيعي؛ إذ يُساق إلى حفظ التحولات المتشابهة المفيدة للكائنات في حالات حياتها.

كذلك لا يجدر بنا أن ننسى أن «العزلة» وانقطاع بعض البقاع عن المعمور من الأرض، عامل ذو شأن في تحول صفات الأنواع بتأثير الانتخاب الطبيعي. نرى في البقاع المنعزلة النائية، إذا لم تكن متسعة مترامية الأطراف، أن حالات الحياة العضوية وغير العضوية تكون على وجه عام متعادلة بعيدة عن الانحراف، فيُساق الانتخاب الطبيعي إذ ذاك إلى تغيير صفات الأفراد — أفراد النوع الواحد — إذ تمضي ممعنة في سبيل التهذيب والارتقاء على نمط واحد ودرجة معينة، والانفراد والعزلة، على ما مر ذكره، يمتنع معها على الأفراد أن تتهاجن مع الكائنات القاطنة بأقاليم أخرى. ولقد وضع «موريتز فجنر» رسالة قيمة في هذا الموضوع — طُبعت أخيرًا — أظهر فيها أن التأثير الذي يحدثه الانفراد والعزلة عن بقية الأطراف المعمورة — كالجزائر النائية والبقاع المحدودة بتخوم طبيعية يتعذر اجتيازها، أو الخصيصة بحالات حياة يغلب فيها الانحراف — لا يقف عند الحد الذي سبق إليه حدسي في تهاجن أفراد الضروب الناشئة في الطبيعة حديثًا، بل يتخطى أثره تلك الحدود التي ظننت أنها المدى الأخير لما يمكن أن تبلغ إليه من التأثير في طبائع الكائنات.

غير أني لا أتفق مع هذا العالم الطبيعي؛ إذ يعتبر أن هجرة الكائنات الحية من جهة، أو أن انقطاعها عن المعمور من البقاع من جهة أخرى، مؤثران ضروريان لتكوين الأنواع المستحدثة، أما أن ذلك يناقض كثيرًا من الاعتبارات الثابتة، ورأيي الذي لن أتبدل به رأيًا آخر، أن تأثير الانفراد لا يعظم شأنه، ولا يشتد خطره، إلا حينما يطرأ تغاير طبيعي على الحالات الظاهرة المحيطة بالأحياء كالمناخ أو ارتفاع الأرض وانخفاضها أو غير ذلك؛ إذ تحول مثل هذه العوائق من بُعد الشقة وانقطاع الأسباب دون مهاجرة عضويات هي أكثر مناسبة لطبيعة تلك المواطن من غيرها، فيبقى في نظام الكائنات العام في هذا الإقليم فجوات خالية تحتلها على مدى الزمان صور الأحياء الخصيصة بذلك الإقليم بمضيها متدرجة في تحول الصفات، ولا مشاحة في أن انقطاع البقاع عن المعمور في بعض الأحيان، يكون ذا شأن كبير في تهذيب الضروب تهذيبًا بطيئًا على مر الأجيال، وقد يكون ذلك وقتًا ما في الغاية القصوى من الشأن والخطر، فإذا فرضنا وجود بقعة صغيرة المساحة من البقاع النائية المنقطعة الأسباب، إما لإحاطة الحواجز الطبيعية بتخومها، أو لاختصاصها بحالات طبيعية شاذة غير مألوفة، نجد أن عدد الأحياء الآهلة بها قليل، وهذه الظروف بالطبع تؤجل استحداث الأنواع الجديدة بوساطة الانتخاب أزمانًا متطاولة؛ إذ تنقص معها مهيئات تلك القوة الطبيعية التي تحدِث التحولات المفيدة للكائنات في حالات حياتها.

إن مضي الأزمان المتتابعة وحده لا يُحدِث في الانتخاب الطبيعي أثرًا ما، إيجابًا أو سلبًا، ولقد اضطررت إلى الكلام في هذا المبحث؛ لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف الأعصار الأثر الكلي في تحويل صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تحول الصفات بتأثير سُنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها، بيد أن مضي الأعصار وتلاحق الدهور لا يتعدى تأثيره تهيئة الظروف لظهور التغيرات المفيدة للكائنات، وانتخابها انتخابًا طبيعيًّا، واستجماعها ثم تثبيتها في طبائع الصور العضوية. ولا جرم أن لذلك أثرًا بينًا، غير أنه بعيد عما يتوهمون، كذلك يهيئ مضي الوقت طبائع الكائنات، من حيث تركيبها الآلي؛ لقبول تأثير حالات الحياة الطبيعية قبولًا مباشرًا.

فإذا رجعنا إلى الطبيعة لنعرف مبلغ هذه الاعتبارات من الصحة وانطباقها على الواقع، ونظرنا في أية بقعة من البقاع صغيرة المساحة كجزيرة من الجزائر التي لفظتها الطبيعة في جوف محيط زاخر، تبين أنه إن كان عدد الأنواع الآهلة بها صغيرًا، كان جلها من الأنواع المستحدثة في تلك البقعة الخصيصة بها دون بقية البقاع، كما سنرى في الفصل الثاني عشر المقصور على التوطن وتوزيع الكائنات على بقاع الأرض. من هنا يظهر للباحث لأول عهده بالبحث أن تلك الجزيرة مهيأة تمام التهيؤ لإحداث الأنواع، غير أننا كثيرًا ما نخدع أنفسنا؛ لأننا إذا أردنا أن نبحث عن أي البقاع أكثر إنتاجًا لصور الأحياء العضوية واستحداثها، أهي تلك البقاع الصغيرة المنعزلة عن المعمور من الأرض، أم القارات المتسعة المترامية، لزمنا أن نقصر المقارنة على ما استغرقه تكوين تلك الأنواع من الزمان في كلتا البقعتين، وهذا ما ليس في استطاعتنا أن نصل إليه.

وانعزال البقاع عن المعمور إن كان ذا شأن كبير في استحداث أنواع جديدة، فإني مسوق إلى الاعتقاد بأن اتساع المساحة التي تقطن بها الأنواع أكبر شأنًا وأبعد خطرًا، لا سيما في استحداث أنواع أكثر قدرة على البقاء أجيالًا طويلة متعاقبة، والانتشار انتشارًا كبيرًا، ضاربة فيما يجاورها من البقاع، واتساع تلك المساحة التي تأهل بها الأنواع، وسهولة اجتياز تخومها الطبيعية، لا يقتصر تأثيره على تهيئة الظروف التي تنتج التغايرات المفيدة المستحدثة في الأنواع بتأثير ائتلاف عدد عظيم من أفراد النوع الواحد في بقعة معينة تلائمها الحالات الطبيعية فيها، بل إن حالات الحياة ذاتها تكون إذ ذاك مختلطة الأطراف مشتبكة الحلقات جد الاشتباك، وفاق يترتب على كثرة عدد الأفراد التابعة لأنواع شتى في بقعة ما، فإذا وقع لعدد معين من الأنواع التي تأهل بها تلك الأرض تحول مفيد لها، أو تهذيب في صفاتها، يكسبانها قوة جديدة، فإن الأنواع الأخرى يجب أن تتحول تحولًا يعادل كمه وكيفه ما طرأ على الآخرين، وإلا فالانقراض نصيبها المحتوم. على أن أية صورة من الصور إذا تحسنت صفاتها أو تهذبت غرائزها الطبيعية تهذيبًا ذا شأن، فإنها تصبح قادرة على الانتشار في البقاع التي تجاور منبتها الذي تأصلت فيه ونمت، وبذلك تقع في تنافس شديد مع كثير من الصور الأخر، وفوق ذلك فإن البقاع المترامية الأطراف التي تظهر لنا في الوقت الحاضر قطعة واحدة بعضها متصل ببعض تمام الاتصال، يغلب أن يكون قد مضى عليها في الأزمان الغابرة عهد كانت فيه من البقاع المنعزلة عن بقية المعمور من الأرض، بنسبة ما كان يعتور سطح سيارنا هذا من التغايرات الطبيعية الشتى، مما يحملنا على التسليم بأن التأثيرات الجُلَّى التي يحدثها الانعزال، قد طرأت على الأنواع التي كانت تقطن تلك الأقاليم بصفة محدودة، ومعتقدي أن البقاع الصغيرة المنقطعة في أطراف الأرض، على بعض الاعتبارات، ذات خصوصيات معينة في استحداث أنواع جديدة، بيد أن تحول صفات الأنواع أو تهذيب صفاتها وغرائزها الطبيعية المفيدة لها في حياتها، كان أبين أثرًا، وأسرع حدوثًا في الأنواع التي تأهل بها الأقاليم المترامية الأطراف. على أن ما هو أبين من ذلك في تهذيب صفات الأنواع أثرًا، أن الصور المتأصلة في الأقاليم الكبيرة المتسعة، والتي تم لها الانتصار والغلبة على كثير من المنافسين الآخرين، هي التي يكثر انتشارها وتتسع الأقاليم التي تأهل بها، وتنتج العديد الأكبر من الضروب والأنواع. وبذلك يكون لها الخطر الأول في حدوث التقلبات التي نلحظها في تاريخ العضويات في حالاتها الطبيعية.

وإنني لأرجح، استنادًا على هذه الاعتبارات، أننا نستطيع أن نفقه بعض الحقائق العامة، مثل التي نستنتجها من النظر فيما أنتجته جزيرة أستراليا في الوقت الحاضر من العضويات الأهلية، مقيسة بما أنتجته سهول أوروبا وآسيا المترامية الأطراف، تلك الحقائق التي سوف أشير إليها عند البحث في التوزيع الجغرافي، وسيتضح لنا مع ذلك أن أكثر ما شُوهد تأقلم المحصولات الأهلية التي أنتجتها القارات في الجزر التي نُقلت إليها عامة؛ ذلك لأن التناحر على الحياة في الجزائر الصغيرة، أقل شدة وقسوة منه في القارات الكبيرة، فقلَّت صنوف التحولات ونقصت نسبة الانقراض فيها، ومن هنا نستطيع أن نفقه كيف أن نباتات جزر «ماديرة» في الوقت الحاضر كما قال «أوسوالدهير» تشابه إلى درجة ما الفلورة التي كانت تستوطن أوروبا خلال العصر الثالث من العصور الجيولوجية. وإذا نظرنا في المساحة التي يغمرها الماء العذب في الوقت الحاضر أو في الأزمان الغابرة، وضح لنا أنها صغيرة بالنسبة إلى المساحات العظيمة التي تغمرها المياه أو الأرض اليابسة، الأمر الذي يسوقنا إلى التيقن من أن التناحر بين العضويات التي تأصلت في المياه العذبة، كان أقل شدة، وأخف قسوة مما كان بين العضويات التي أهلت بها بقية بقاع الكرة الأرضية، وأن حدوث صور جديدة فيها كان بطيئًا، شأن الصور القديمة في الانقراض منها، إذا قسنا بذلك نسبة الحدوث والانقراض في بقية البقاع. وفي المياه العذبة دون سواها نجد سبعة أجناس من «الإصديفيات»٣٧ هي البقية الباقية من تلك المرتبة الكبيرة من الأسماك التي كان لها وقتًا ما قوةُ الغلبة والسلطان في المناطق التي أهلت بها، وفيها نجد بعضًا من صور «النِّفْطير»٣٨ أي «خلد الماء» و«اليردوغ»٣٩ تعتبر بمثابة أحافير. إنها حلقات تصل بشكل ما بين كثير من المراتب المتباعدة الأنساب في النظام الطبيعي العام في حالتها الحاضرة، وهذه الصور الشاذة يمكننا أن ندعوها «الأحافير الحية»، فلشد ما تحملت من أعاصير الحياة خلال تلك القرون الموغلة في القدم، مقصورة في البقاء على بقعة محدودة من البقاع، غير متأثرة بمؤثرات التناحر وشدته إلا قليلًا.

ولنخلص الآن، بقدر ما يسمح به هذا الموضوع المتشابك إلى الإحاطة بتلك الظروف الموافقة وغير الموافقة لاستحداث أنواع جديدة، عن طريق الانتخاب الطبيعي.

إن نجاد الأرض وسهولها المتسعة التي تعاورتها تغيرات كثيرة على سطحها، لهي أكثر المواطن ملاءمة لظهور كثير من صور الحياة المختلفة، كما وأنها كانت في الأعصر الغابرة أكثر الأماكن المعمورة إنتاجًا للعديد الأوفر من صور عضويات جديدة مهيأة تمام التهيؤ للبقاء مدى أزمان طويلة، والانتشار انتشارًا ذا بال. فإن قطعة الأرض إذ تكون قارة كبيرة منفردة قائمة بذاتها، لا بد من أن تكون كثيرة الأنواع وافرة الصور، وبذلك تخضع أهلياتها لتأثيرات تناحر شديد، يزيده التزاحم شدة، واشتباك المنافع قسوة، فإذا تقطعت تلك القارة العظيمة جزرًا منفصلًا بعضها تمام الانفصال عن بعض، بتأثير التغايرات الشتى التي كانت تنتاب الأرض ولا تزال تنتابها، يكون قد بقيت أفراد كثيرة من كل نوع بعينه في كل جزيرة من تلك الجزر، ولا مشاحة في أن المهاجنة بين الأنواع الجديدة فيها تمتنع امتناعًا كليًّا ضمن حدود البقاع التي أهلت بها تلك الأنواع. ومما لا خفاء فيه أن التغايرات الطبيعية التي كانت تنتاب الأرض، قد يعقبها وقوف الهجرة من بقعة إلى أخرى، فتصبح الأنواع محصورة في بقعة معينة من البقاع، فيتجدد في كل جزيرة من تلك الجزر مراكز خالية في نظامها الطبيعي ومراتب العضويات فيها، يجب أن يكون قد سد فراغها تحولات طرأت خلال الدهور الأولى على الصور القديمة التي قطنتها، وأن الضروب التي كانت فيها قد تحولت وتهذبت صفاتها على مر الأزمان، فإذا تجمعت تلك الجزر تارة أخرى بتأثير التغيرات الجيولوجولية، وأصبحت وقتًا ما قارة واحدة، فلا بد من أن يكون قد وقع بين الصور التي كانت تقطنها تناحر فاقت شدته حد التصور، فالضرب التي كانت خِصِّياتها أكثر ملاءمة للإقليم، وصفاتها أكثر تهذيبًا وأتم تكوينًا، أمست بالطبيعة أتم عدة وأكبر قدرة على الانتشار والذيوع، ولا بد من أن يكون قد انقرض عدد وافر من الصور التي هي أحط مرتبة منها في التكوين، وأقل درجة في الصفات، وأنه قد طرأ تفارق في عدد الأفراد في تلك الجزائر بعد أن أصبحت قارة بتمامها متصلة الأطراف. بذلك يتسع المجال للانتخاب الطبيعي للإمعان في تهذيب الصور الحية التي تكون في تلك البقعة، ونشوء أنواع جديدة حينًا بعد حين.

وإني لأقرر أن تأثير الانتخاب الطبيعي بطيء جهد البطء، على أن تأثيره لا يقع إلا حيثما يكون في إقليم ما نقص في نظام الكائنات الطبيعي يمكن أن يسد فراغه تهذيب ما يطرأ على صفات العضويات الآهلة به، وما ذلك الفراغ الذي نراه في ترتيب الكائنات في بعض الأقاليم، وذلك التهوش الذي نلحظه سائدًا في تناسق مراتبها ونسب بعضها إلى بعض، إلا نتيجة التقلبات البطيئة التي تطرأ على طبيعة الإقليم ذاته، وتعذر المهاجرة إليه، بامتناعها على عضويات تكون أتقن تركيبًا، وأرقى صفات مما يشغله، فإذا طرأ على بعض الكائنات القديمة الخصيصة بذلك الإقليم تهذيب ما في صفاتها، فلا بد من أن يقع اضطراب في علاقات ما بقي منها محتفظًا بحاله الأولى، وهذا مما يخلي في نظامها الطبيعي مراكز تصبح بطبيعة الحال معدة لأن تحتلها صور أرقى من تلك في مراتب الوجود العضوي، وهذه العوامل عامة، بطيئة التأثير، يقتضي إبراز نتائجها الزمان الطويل، فأفراد النوع الواحد، إن كانت تتباين تباينًا لا يُدرك، فإن هذا التباين يطرأ على الأفراد قبل أن يحدث في نظام الأنواع العام تحولات يعتد بها بأزمان مديدة. وهذا التأثير ناتج في غالب الأمر من حرية التهاجن، بين أفراد أنواع شتى، ويقول البعض: إن هذه الأسباب عامتها كافية للاعتقاد بأن الانتخاب الطبيعي قوة غريزية في الكائنات تلازم فطرتها على مر الأجيال، غير أني لا أرى ذلك الرأي، ورأيي أن تأثير الانتخاب الطبيعي على وجه الإطلاق بطيء لا يظهر إلا خلال فترات متباعدة من الزمان، ولا يطرأ إلا للنزر اليسير من سكان بقعة بذاتها دون غيرهم، ومعتقدي أن هذه النتائج البطيئة المنقطعة تتفق وما أثبته علم الجيولوجيا من الحقائق المتعلقة بما وقع لسكان الكرة الأرضية من التطورات والتقلبات كمًّا وكيفًا.

على أن تأثير الانتخاب مهما كان بطؤه، فإن ما ظهر من مقدرة الإنسان، على ضعفه وعجزه، في إبراز ما أبرز من روائع النتائج بالانتخاب الاصطناعي؛ ليدل واضح الدلالة على أن مقدار التحولات لا يتناهى في إحداث تلك الصور الجميلة التي نراها، ومشتبك تلك الحقائق والنسب التي نلحظها في نظام الكائنات، وتكافؤ بعضها لبعض، ولما يحيط بها من ظروف الحياة، تلك الروائع التي يرجح أن تكون قد طرأت على الكائنات بتأثير انتخاب الطبيعة الذاتي، تأثيرًا بطيئًا على مر أزمان متعاقبة، بحفظها الأصلح من أفراد العضويات للبقاء فيها.

(٥) الانقراض نتيجة للانتخاب الطبيعي

الانقراض موضوع سنفصله فيما سوف نكتبه في الجيولوجيا، وما حدا بنا إلى ذكره هنا إلا أن له صلة بالانتخاب الطبيعي لا انفكاك لها.

وقد عرفنا مما فصلناه أن تأثير الانتخاب الطبيعي مقصور على الاحتفاظ بضروب التحولات التي تكون بحال ما ذات فائدة للصور الحية، احتفاظًا يجعلها فيما بعد من الصفات الخاصة بتلك الصور الراسخة في طبائعها، والكائنات العضوية إذ كانت بطبيعتها تزداد زيادة مستمرة بنسبة هندسية كبيرة، فإن كل بقعة من البقاع تصبح مشحونة بما يأهل بها، يستتبع ذلك أن الصور المهذبة المنتقاة تزداد في العدد، حيث ينقص عدد الصور المنحطة المستضعفة، فإذا استبان لنا أن الندرة أول درجة من درجات الانقراض الظاهر، كما يُستدل عليه من علم الجيولوجيا، استطعنا أن نستنتج أن صورة ما من صور العضويات إن قل عدد أفرادها، فذلك شوط بعيد تقطعه في سبيل انقراض محتوم يهيئ أسبابه تقلب الأعاصير الطبيعية خلال فصول السَّنة، أو تضاعف عدد أفراد منافسيها الذين ينازعونها مركزها الطبيعي في الوجود. وليست المسألة مقصورة على ذلك، فإنه إذا ثبت لدينا أن الصور النوعية تستطيع أن تزداد في العدد زيادة غير محدودة، فإن كثيرًا من صورها القديمة ينقرض عند ظهور صور جديدة في عالم الحياة، وعلم الجيولوجيا خير دليل يثبت لنا أن الصور النوعية لم يزد عدد أفرادها زيادة غير محدودة في حالة من الحالات، وسنظهِر الآن كيف أن عدد أفراد الأنواع لم يبلغ النهاية القصوى في الازدياد في أي بقعة من بقاع العالم.

استبان لنا من قبل أن أكثر الأنواع أفرادًا أكبرها حظًّا في إنتاج تحولات مفيدة في زمن معين، ودليلنا على ذلك حقائق أوردناها في الفصل الثاني من هذا الكتاب، أثبتنا فيها أن الأنواع العامة السائدة، أوفر الأنواع إنتاجًا للضروب، وعلى ذلك تكون الأنواع النادرة أقل قبولًا للتهذيب واستحداثًا لضروب الارتقاء خلال زمن ما، فيضرب عليها الاستضعاف في معمعة التناحر على الحياة مستهدفة لغارة شعواء تشنها عليها أعقاب الأنواع المحسنة.

تسوقنا هذه الاعتبارات إلى التسليم بأنه كلما جد الانتخاب الطبيعي في استحداث أنواع جديدة خلال تعاقب الأجيال، مضت أنواع غيرها ممعنة في سبيل الندرة درجة بعد درجة، حتى يأتي عليها الانقراض. والصور التي تكون أشد احتكاكًا في المنافسة بتلك الأنواع المهذبة الراقية، أكثر الصور معاناة لتلك المؤثرات. ولقد رأينا في الفصل الذي عقدناه في التناحر على البقاء أن التنافس أشد ما يكون بين الصور المتقاربة الأنساب كضروب النوع الواحد، أو أنواع جنس بعينه، أو الأجناس ذوات اللحمة الطبيعية، وذلك لتشابه أشكالها وتراكيبها وعاداتها واشتباك مصالحها. كذلك الضروب أو الأنواع الجديدة؛ إذ تكون ممعنة في سبيل التكون، تتناحر مع أقرب الصور لحمة لها في النسب الطبيعي، وتمضي مؤثرة في سبيل إعدامها من الوجود، وإننا لنرى الانقراض دائم الأثر في محصولاتنا الأهلية؛ إذ ينتخب الإنسان دائمًا أرقى الصور ويعدم ما دونها. وفي مكنتنا أن نورد من الأمثال ما نستدل به على أن أنسالًا من الماشية والأغنام وغيرها من الحيوانات وضروبًا من الزهور، قد تحل من الاعتبار والنفع محل القديمة المنحطة، فتغلب عليها، والتاريخ يدلنا على أن نوع الماشية طويلة القرون قد حل محل الماشية السوداء في مقاطعة «يورك»، وأن القصير القرون «قد اكتسحت الأولى كما يكتسحها وباء قتال»، كما قال بعض الكتاب.

(٦) انحراف الصفات

إن القاعدة التي يشير إليها اصطلاح «انحراف الصفات» لذات شأن كبير، عدا ملابستها كما أعتقد لكثير من الحقائق الأخرى، فإن الضروب إذا كانت متميزة وكان لها فوق ذلك شيء من صفات الأنواع يحوط تعيين مرتبتها الحقة بالشك، فمن المحقق أن يكون تباين بعضها عن بعض أقل كثيرًا من تباين الأنواع الصحيحة الممتازة بصفاتها الخاصة، ومع هذا فليست الضروب على ما أرى غير أنواع آخذة في سبيل التكون، أو كما دعوتها «أنواع أولية»، ونريد أن نعرف الآن كيف أن ما يقع من التباين القليل بين الضروب، قد يستحيل بالازدياد إلى تباين كبير يفرق بين الأنواع؟ أما أن ذلك قد يحدث بالفعل، فدليلنا عليه تباين تلك الأنواع الصحيحة المتميزة بصفاتها الخاصة التي نلحظها في النظام العضوي مما يخطئه العد، بينما نرى أن الضروب — وهي التي نعتبرها الصور الأولية لأنواع صحيحة معينة سيشهدها في المستقبل النظام الطبيعي — لا يباين بعضها بعضًا إلا بفروق ضئيلة من المستصعب تعريفها، والمصادفة العمياء — تلك السُّنة المبهمة المستغلقة التي ندعوها مصادفة — ربما تسوق ضربًا من الضروب إلى التحول عن صفات أصوله، ومن ثم تمعن أنساله من بعده في التحول عن صفات آبائها، كما تحولت أسلافها عن صفات أصولها الأقدمين، غير أن التحول وحده، لا يؤدي بها إلى بلوغ درجة من التباين تعدل تباين أنواع الجنس الواحد.

ولقد تدبرت هذا الأمر قليلًا، شأني في كل تجاريبي وبحوثي، وطبَّقته على محصولاتنا الأهلية، فوضح لي فيها أشياء مماثلة لما تقدم. ولنعِ بادئ ذي بدء أن إنتاج أنسال يبلغ ما بينها من التباين مبلغ ما بين البقر القصير القرون، وبقر مقاطعة «هيرفورد» الطويل القرون، أو ما بين خيل السباق وخيل العجلات، أو ما بين أنسال الحمام المختلفة من التباين، لا يمكن بحال أن يكون نتيجة تأثير المصادفة المطلقة في استجماع التحولات المتشابهة خلال تعاقب أجيال عديدة، هذا مربٍ للحمام عُني مثلًا بفرد من الحمام منقاره أقصر قليلًا عن متوسط ما يبلغ قصر المنقار في نوعه، وذلك آخر عُني مثلًا بفرد من الحمام منقاره أطول قليلًا عن ذلك المتوسط، فهما بالطبع يمعنان في اختيار أنسال هذين الفردين ويستولدانهما لينتجا نسلًا مناقيره أعظم طولًا، وأشد قصرًا عن متوسط ما لضربهما الأصلي، كما حدث ذلك كثيرًا في تولدات الحمام القلب، وذلك استنادًا على ما يُعرف عن الهواة، فإنهم لا ينتخبون من الأفراد ما توسطت أوصافه حدي الإبداع: فإما قصر غير عادي، وإما طول خارج عن القياس. ولنفرض أيضًا أنه في عصر من أعصر التاريخ احتاجت أمة من الأمم، أو جماعة من الجماعات، تقطن مقاطعة ما خيلًا سريعة العدو، واحتاجت أخرى خيلًا قوية الأساطين كبيرة الأحجام، فلا نشك في أن الفروق بين ما يربيه كل من الجماعتين من الخيل، تكون بداءة ذي بدء حقيرة لا يُعتد بها، ثم تزداد تلك الفروق على مر الزمان، ولا تلبث أن تتكون ضروب من الخيل، باستمرار العناية بها والاحتفاظ بأنسال خيل سريعة العدو في الحال الأولى، وأنسال قوية كبيرة الأحجام في الثانية، حتى يصبح هذان الصنفان باستمرار ذلك التأثير، نسلين معينين مختلفين بعد مضي عدة قرون، وكلما أمعنا في سبيل التباين وازداد تحولهما، انقطع بالطبع استيلاد ما يبقى من نسلهما محتفظًا بشيء من صفات أصوله الأولى، بأن يكون أبطأ عدوًا، أو أصغر جسمًا، أو أقل قوة، من بقية أفراد النسلين في ذلك العصر، بذلك تُساق تلك الصور الوسطى إلى الانقراض على مر الأيام، ومن هنا نرى صلة تلك السُّنة — سُنة «انحراف الصفات» بما ينتجه الإنسان من المدجنات وتأثيرها فيها — أنها تستحدث الانحرافات الوصفية فتكون في أول الأمر ضئيلة قليلة الظهور، ثم تزداد من بعد ذلك درجة، حتى تتحول أوصاف الأنسال تحولًا يفرق بين بعضها وبعض وبين أصولها القديمة.

وقد يسأل سائل: كيف يكون تطبيق هذه السُّنة، أو ما يشابهها من السُّنن، على ما تحدث الطبيعة من تحول؟ ولقد لبثت رَدَحًا من الزمان استغلقت دوني فيه وجوه الرشد حتى استبان لي أنها تؤثر في الطبيعة تأثيرًا بينًا، كما أعتقد الآن؛ إذ انكشف لي أنه كلما أمعنت سلالة نوع من الأنواع في تحول الصفات، من حيث التكوين والتركيب الآلي والعادات، ازدادت مقدرتها على الذيوع والانتشار في النظام الطبيعي، وأصبحت أقدر على ذلك من غيرها من السلالات، فتتهيأ لها أسباب الازدياد والتكاثر.

ولقد ندرك حقيقة ذلك، إذا بحثنا حالة صنف من الحيوانات ذوات العادات لنفرض حيوانًا مفترسًا من ذوات الأربع بلغ عدد أفراده غاية ما يمكن أن يبلغ في بقعة من البقاع على أكبر متوسط، فإن احتفظ بقوته الطبيعية في التناسل والتكاثر العددي، وكانت تلك البقعة لا تتغير ظروف البيئة فيها، فذلك الحيوان لا يستطيع أن يستمر في الازدياد العددي، إلا إذا احتلت سلالاته التي تكون إذ ذاك ممعنة في تحول الصفات مراكز غيرها من الحيوانات التي تشغل النظام الطبيعي في تلك البقعة، وتنافسها بما يُحتمل أن يحدث في تلك السلالات، من جموع تعتاد الاغتذاء على ألوان من الرزق حية كانت أو ميتة، غير التي كانت تغتذي بها من قبل، وأخرى تقطن مواطن جديدة، وثالثة تتعود تسلق الأشجار أو ارتياد مناقع الماء، ورابعة تقل فيها غريزة الافتراس، وكلما تحولت أوصاف سلالات ذلك الحيوان وتبدلت تراكيبها وعاداتها تهيأت لها سبل الغزو والاستعمار، وما يصدق تطبيقه على حيوان ما، يصح تطبيقه كذلك على بقية الحيوانات في كل الأزمان، فإذا تحول حيوان، كان التحول سُنة تخضع لها بقية صنوف الحيوانات كافة، ولو وقع غير ذلك لما كان للانتخاب الطبيعي من سلطان، كذلك الحال في النباتات، فقد أثبتت التجارب أنه إذا زُرعت قطعة صغيرة من الأرض نوعًا من الحشائش، وزُرعت قطعة أخرى تساويها في المساحة عدة ضروب مختلفة، أنتجت الثانية من النباتات عددًا أوفر، وأثمرت من المواد الجافة كمية أكبر زنة مما تنتجه الأولى، وهكذا القمح إذا زرعته في قطعتين متساويتين من الأرض، ضرب منه في واحدة، وعدة ضروب مختلطة في أخرى، ومن ثم نجد أنه إذا زُرع نوع من الحشائش موغل في تحول الصفات مع ضروب انتُخبت انتخابًا مستمرًّا، بحيث يباين بعضها بعضًا بدرجة واحدة وعلى نمط معين، فإن هذا النوع وما يتبعه من السلالات المتحولة الأوصاف التي تكون مختلطة بالضروب، تفوز بحظ البقاء والسيادة في تلك البقعة مهما كانت المباينة بين تلك الضروب المزروعة حقيرة، شأن أنواع الحشائش وأجناسها، ونحن نعلم من جهة أخرى أن كل نوع من الحشائش أو ضرب منها تنتج من الحب كل عام ما لا يحصيه عد، تجالد بذلك في سبيل التكاثر العددي إلى الغاية القصوى، ويستتبع ما تقدم أن أخصَّ ضروب الحشائش التابعة لنوع ما وأرقاها صفات، هي التي تفوز بحظ البقاء والتكاثر بعد مضي بضعة آلاف من الأجيال، بذلك تتغلب على بقية الضروب التي تنزل عنها مرتبة في التكوين، حتى إذا ما بلغت الضروب من الامتياز بصفات معينة صحيحة مبلغًا كبيرًا، أضحت في طبقة الأنواع.

إن الغالبية من صور الأحياء لا يؤيد بقاءها إلا تحول كبير يطرأ على صفاتها التركيبية، قول يثبته كثير من المشاهدات الطبيعية العامة، خذ بقعة من الأرض بلغت غاية ما يمكن أن تبلغ قطعة أرض من ضيق المساحة بحيث يصح مع ذلك اعتبارها مثالًا تُطبق فيه مشاهدات التاريخ الطبيعي، ولم يقم من تخومها عوائق تحول دون الهجرة إليها، فكملت للأفراد التي تأهل بها مهيئات المنافسة، واشتدت قسوة تناحرهم على الحياة فيها، تجد أن الصور التي تقطنها قد بلغت من تحول الصفات، الشأو الأبعد، مثال ذلك: وجدت أن قطعة أرض مساحتها ثلاث أقدام عرضًا في أربع طولًا، ظلت الظروف الطبيعية التي تحوطها على حال واحدة بضع سنين متتابعة، قد عضدت عشرين نوعًا من النباتات تابعة لثمانية عشر جنسًا ملحقة بثماني مراتب من النظام النباتي، وحال النباتات والحشرات في الجزيرات وضحاضح الماء العذب لا تختلف عن ذلك شيئًا. ومن القواعد المعروفة عند الزراع أنهم يستطيعون أن يحصلوا على أكبر كمية من المحصولات الغذائية بالتناوب في زراعة نباتات تابعة لمراتب مختلفة، قاعدة يصح أن نصرف عليها اصطلاح «التناوب المشترك الدورات»، على أن أكثر الحيوانات والنباتات التي تعيش متجاورة في بقعة صغيرة من بقاع الأرض، قد تعضدها فتعيش فيها، مع احتمال أن تكون طبيعة تلك البقعة ليست بذات خصائص معينة، ويجوز أن يُقال فضلًا عن ذلك إن هذه الحيوانات والنباتات قد تكافح بأقصى ما يصل إليه جهد استطاعتها في سبيل الاحتفاظ بهذا الموطن. بيد أن المشاهد أنه حيثما تبلغ المنافسة بين صور الأحياء أقصى غايتها، تكون نتائج التحول الذي يطرأ على أوصافها، وما يقع من تحول في عاداتها ودقائق تكوينها، السبب الذي يحدد مراكز أشد الصور مزاحمة بعضها لبعض ضمن حدود تلك البقعة، ويكون لها الحكم المطلق فيها إذا كانت تلحق بما ندعوه الأجناس، أو الرتب في النظام العضوي.

تنطبق هذه القاعدة على النباتات لدى ارتدادها إلى حالة طبيعية صرفة في بقاع أجنبية عن مواطنها الأصلية، تُنقل إليها بالوسائط العملية، وقد يسبق إلى حدسنا أن النباتات التي تفلح بشكل ما في التوطن نباتات دخيلة في بقعة ما من البقاع، يجب أن تكون قريبة النسب بأهليات تلك البقعة، وذلك لاعتقادنا بأن هذه النباتات قد خُلقت خلقًا خاصًّا، موافقًا لطبيعة الإقليم الذي توطنت فيه، وربما نتوقع أن النباتات التي تتوطن في أي إقليم تدخله كانت نبعتها الأصلية من عشائر فطرتها أكثر موافقة لحالات بقاع مخصوصة، مما هي لبقاع أخرى في موطنها الجديد، والحقيقة تختلف عن ذلك جهد الاختلاف؛ فقد أظهر «مسيو ألفونس دي كاندول» في كتابه القيم، أن ما تحرزه أجناس الأزهار الحديثة من الفوائد بواسطة التوطن، أبين أثرًا فيها مما هي في الأنواع، إذا قسنا ذلك بنسبة عدد الأجناس والأنواع الأهلية في البقعة التي تتوطن فيها، وإليك مثالًا واحدًا: فقد أحصى الأستاذ «آساجراي» في آخر طبعات كتابه الذي وضعه في نباتات الولايات المتحدة ٢٦٠ نباتًا تتبع ١٦٢ جنسًا قد وطنت في تلك البقاع. من هنا نجد أن طبائع هذه النباتات تختلف الاختلاف كله، وهي على اختلاف بعضها عن بعض تباين نباتات البقعة التي وطنت فيها مباينة عظمى نستدل عليها بأن هذه الأجناس، إن بلغت ١٦٢ جنسًا، فإن منها ما لا يقل عن ١٠٠ جنس لا تمت بحبل النسب للنباتات الأهلية في تلك الأقاليم، بذلك يكون عدد كبير من الأجناس قد أُضيف إلى ما كانت تأهل به الولايات المتحدة، كما يتضح مما سبق القول فيه.

فإذا رجعنا إلى النباتات أو الحيوانات التي مضت في التناحر متفوقة على أهليات أية بقعة من البقاع حتى توطنت، تيسر لنا أن ننتزع من فكرة عامة عن مقدار ما يجب أن يطرأ على بعض الأهليات من تحول الصفات حتى تنال من قوة الغلبة على منافسيها ما يضمن لها البقاء، وذلك دليل على أن تحول الصفات التركيبي الذي يضاعف مقدار ما يقع بين الأجناس من الفروق والمباينات، ذو فائدة جليلة لأهليات هذه الأقاليم.

إن الفائدة التي تحرزها أهليات أي إقليم معين من تحول صفاتها التركيبي في تدبر أصل الأنواع، أمر يناظر ما في بحث توزيع العمل على أعضاء الجسم حسب وظائفها العضوية، في تدبر وظائف الأعضاء. ولقد أوضح «ملن إدواروز» هذا الموضوع. فلا ينكر الآن أي مشتغل بعلم وظائف الأعضاء أن معدة أي حيوان ما دامت قد هُيئت لهضم المواد النباتية أو المواد الحيوانية لا غير، يستمد من هذه المواد دون غيرها معظم ما يقوم به الحسم على ما يُشاهد في نظام أية بقعة من بقاع الكرة الأرضية؛ إذ كلما اشتد تحول صفات الحيوانات أو النباتات التي تأهل بها تلك البقعة، وكانت صفاتها أكثر ملاءمة لمقتضيات الحالات والظروف المحيطة بها في الحياة، أصبح العديد الأوفر من أفرادها أكبر قدرة على البقاء والاحتفاظ بكيانه، وفئة من الحيوانات لم يلحق تركيب بنيتها من التغاير الوصفي إلا النزر اليسير، تكون منافستها لغيرها مما قاربت تحولاته الوصفية درجة الكمال، صعبة محدودة؛ لذلك تختلجنا الريب في أن ذوات الكيس (الجلبانيات)٤٠ الخصيصة بأستراليا، وهي لا تنقسم في مراتب النظام العضوي إلا إلى بضعة فصائل لا يفرق بين بعضها وبعض إلا تباينات ضعيفة الأثر، قد تنجح في منافسة حيواناتنا التابعة للمراتب العالية في النظام الحيواني كاللواحم،٤١ أو القواضم،٤٢ أو المجترات،٤٣ في حين أن ذوات الكيس تعتبر في أستراليا، بنسبة نظامها العضوي، كما قال «ووترهوس» وغيره من الكتاب، نظائر تلك في بلادنا، وما ذوات الثدي في أستراليا إلا مثالًا حيًّا يشهد بأن نظامًا غير كامل من نظم التحول الوصفي، لا يزال في أول درجات التحول والنماء.

(٧) المؤثرات التي يحتمل أن يحدثها الانتخاب الطبيعي بالتحول الوصفي، والانقراض في السلالات التي تنحدر من أصل مشترك

يحق لنا بعد الذي قطعناه ولخَّصناه من البحث، أن نقول: إن السلالات المتحولة التابعة لنوع من الأنواع، تكون أكبر حظًّا من النجاح في الحياة كلها أمعنت في تحول الصفات والتركيب العضوي، فتمضي في الذيوع ضاربة فيما يجاورها من بقاع تأهل بها ضروب أخرى من الكائنات العضوية. ولنعمل الآن جهد المستطاع لكي نعرف كيف تؤثر تلك السُّنة الطبيعية، سُنة ما تحرزه العضويات من الفوائد العظمى المستمدة من تحول صفاتها، مقرونة بسنن الانتخاب الطبيعي والانقراض.

والجدول الذي أتينا به خير ما يكفل لنا فَهم هذا الموضوع، على ما فيه من تعقيد وما نلحظه خلال سطوره من روعة، فلنفرض أن الحروف التي وضعناها في أسفل الجدول من حرف «أ» إلى «ك» يدل كل حرف منها على نوع من أنواع جنس يعتبر من الأجناس الكبرى ضمن حدود مواطنه الأصلية، مع اعتبار أن مماثلة بعض هذه الأنواع لبعض غير متوازنة، كما هو الواقع في الطبيعة العضوية، وكما يظهر للقارئ ممثلًا له في الجدول بوضع الأحرف ذاتها بحيث يفصل بين أحدها والآخر مسافات غير متساوية. ولنفرض أن الجنس الذي تلحق به هذه الأنواع يكون من الأجناس الكبرى، وفقًا لما رأينا في الفصل الثاني من أن متوسط ما يلحق بالأجناس الكبرى من الأنواع الممعنة في التحول، أكثر من نسبة ما يلحق بالأجناس الصغرى، وأن ما يلحق بأنواع الأجناس الأولى المتدرجة في أسباب التحول من الضروب، أكثر عددًا مما يلحق بأنواع الأجناس الثانية، مضافًا إلى ذلك ما قد ثبت لنا من قبل من أن الأنواع الكثيرة الذيوع والانتشار ذوات السيادة، تكون أكثر تحولًا من الأنواع المستضعفة المحدودة المآهل.

وإذن فلنجعل «أ» نوعًا من الأنواع المنتشرة ذوات الغلبة ضمن حدود بقعة بعينها تابعًا لجنس من الأجناس الكبرى في موطنه الذي يأهل به، والخطوط المنقطة المتساوية الأبعاد المتفرعة من «أ» تمثل سلالات ذلك النوع الآخذة في أسباب التحول والنماء. ولنفرض أن طبيعة التحولات التي مضت هذه السلالات متدرجة فيها ليست بذات شأن كبير من الوجهة النوعية الصرفة، وإن بلغت غاية ما يمكن أن تبلغ التحولات من التنوع والاختلاف، وأنها لم تظهر طفرة، بل حدثت خلال فترات متباعدة من الزمان، ولم تمكث في صفات السلالات أعصرًا متساوية، فالتحولات التي تكون بحال ما ذات فائدة للأفراد هي التي تبقى في صفاتها أو تُنتخب للبقاء فيها انتخابًا طبيعيًّا.

من هنا يتضح لنا خطر ما تحرزه العضويات من الفوائد المستمدة من التحول الوصفي؛ إذ تُساق بذلك أشد التحولات اختلافًا وأكثرها نفعًا، وهي المعرفة بالخطوط المنقطة المتفرعة من الخط الأصلي، للبقاء في صور الأحياء ليستجمعها الانتخاب الطبيعي استجماعًا مطردًا على مر الزمان، فإذا بلغ خط من الخطوط المنقطة آخر من الخطوط الأفقية، نوَّهنا عن نقطة تقابلهما بحرف معرَّف بعدد مخصوص للدلالة على أن كمية من التغاير الوصفي قد استجمعت على مر الزمان، كافية لاستحداث ضرب من الضروب الراقية، جدير باعتبار الباحث في تبويب الصور العضوية.

والمسافات الواقعة بين الخطوط الأفقية في الجدول، تدل كل مسافة منها على عصر لا يقل عن ألف جيل أو أكثر، فإذا فرضنا أن النوع «أ» بعد مضي ألف جيل أنتج ضربين راقيين هما «أ١» و«ح١» فكل من هذين الضربين يكون واقعًا تحت تأثير الحالات التي أحدثت في أصوله قابلية التحول، وإذ كانت قابلية التحول ذاتها وراثية، نتج من ذلك أن يُساق كل ضرب إلى التحول على نسق يغلب أن يقارب النسق الذي مضت آباؤها الأول متدرجة فيه، وهذان الضربان إذا كانا صورتين تحولتا تحويلًا قليلًا، فإنهما يُساقان إلى توارث تلك الميزات التي جعلت عدد أفراد نوعهما الأصلي «أ» أكبر عددًا من أفراد كثير من أهليات البقعة التي تأصل فيها، فضلًا عن أنهما يشتركان مع الجنس الذي يلحق به نوعهما الأول في الصفات العامة التي جعلت معتبرًا من الأجناس الكبرى ضمن حدود مواطنه التي تأهل به، وكل هذه الظروف الطبيعية مجتمعة، ذات أثر عام في استحداث ضروب جديدة.
وهذان الضربان إن كانا قابلين للتهذيب، فإن أكثر تحولاتهما إمعانًا في تباين الصفات، هي التي تبقى خلال الألف جيل التالية، وبعد مضي تلك الفترة نرى في الجدول أن الضرب «أ١» قد استحدث الضرب «أ٢» فكان الضرب الثاني اشد اختلافًا من الأول «أ١». إذا قيس كل منهما بنوعهما الأصلي «أ». أما الضرب «ح١» فقد فرض أنه أنتج ضربين هما «ح٢» و«ر٢» بعضهما يباين بعضًا، وكلاهما يزداد تباينًا من النوع الأصلي «أ» وقد نواصل هذا التدرج متتبعين خطاه المتشابهة إلى أبعد الأزمان، فارضين من عندياتنا، نظر ما يحدث في الطبيعة، أن بعض الأنواع قد أحدثت على التتابع خلال كل ألف جيل ضربًا واحدًا، فيتكون بذلك بعد مضي بضعة آلاف من الأجيال ضروب تتبعه وتتدرج في التحول على مر الأزمان، وأن أنواعًا غيرها قد أنتجت ضربين أو ثلاثة، وأخرى لم تخلف من الضروب شيئًا، بذلك تُساق الضروب، وهي السلالات المهذبة التابعة للنوع الأصلي «أ» إلى التكاثر العددي، والتغاير الوصفي، مقترنين. ويقودنا الجدول بالتدرج إلى عشرة آلاف جيل، ومن ثَم إلى أربعة عشر ألف جيل، بأسلوب أقل اختلاطًا في النهاية منه في الابتداء.

ولا يفوتني أن أذكر أن النظام العضوي لا يمكن أن يمضي في سبيل الارتقاء، متبعًا ذلك النمط الذي نلحظه في الجدول، ولا أن العضويات يطرد تحولها من غير انقطاع، ولو أني بذلت ما في وسعي لأضع الجدول بحيث يظهر فيه بعض التفاوت والاختلاف، وفاق ما رجح عندي من أن كل صورة من الصور تبقى زمانًا طويلًا محتفظة بصفاتها، فلا يطرأ عليها تحول ما، ثم تأخذ في تحول الصفات من بعد ذلك. ولا أقول بأن الضروب التي بلغت من التحول الحد الأقصى تبقى محتفظة بصفاتها فلا تتحول بعد بلوغ تلك الغاية، فلقد تُعَمَّر صورة من الصور الوسطى عهدًا مديدًا ولا تعقب إلا سلالة واحدة، وقد تعقب سلالات عديدة نالها شيء من التهذيب، وانتابها نزر من الارتقاء، والانتخاب الطبيعي لا يؤثر في النظم العضوية إلا بحسب طبيعة المراكز التي تشغلها الأحياء في البقاع التي تأهل بها، فالبقاع إما أن تكون غير مستعمرة البتة، وإما أن يكون في نظامها العام مراكز خالية لم تحتلها عضويات ما، وبنسبة ذلك يكون تأثير الانتخاب الطبيعي، والعمدة في كل ذلك على الصلات المختلطة غير المتناهية التي تقع بين صور الأحياء في حياتها الطبيعية، والقاعدة العامة أنه كلما أمعنت السلالات في الاستعداد لقبول التحول التركيبي أكثر من أي نوع من الأنواع، اتسعت المناطق التي تأهل بها، وازداد عدد أعقابها المتحولة على مر الأحقاب. وترى في الجدول أن خط التعاقب قد ينقطع خلال فترات متلاحقة نعينها بحروف معرفة بأعداد مخصوصة؛ للدلالة على أن صورًا متعاقبة في التكوين قد بلغت من التحول حدًّا يكفي لوضعها في مرتبة الضروب الصحيحة، غير أن هذه التقاطعات تصورية محضة، أدمجناها في الجدول على أبعاد تدل على مضي أحقاب تكفي لاستجماع كمية كبيرة من التحولات الوصفية في الصور الحية.

على أن أعقابًا مهذبة لنوع من أنواع الأجناس الكبرى ذاع انتشارها، وتوافرت لديها تكيفات السيادة، قد تُساق إلى مشاطرة أسلافها تلكم الفوائد التي هيأتها للتفوق في غمرات الحياة من قبل، فتمضي ممعنة في الزيادة العددية وتحول الصفات، ولقد رأينا تفصيل ذلك ممثلًا له في الجدول بفروع الحرف «أ» نقطتها المركزية، والأنسال المهذبة التي تنتجها الصور الأخيرة، المعتبرة أرقى الصور التي تمثلها الفروع في مراتب التسلسل والتعاقب، يغلب أن تحتل مراكز الصور التي تتقدمها في الوجود وتفنيها بما تفضلها به من الصفات، ونجد ذلك ممثلًا له في الجدول ببضعة فروع قصيرة لم تصل بعد إلى الخطوط الأفقية العليا، وقد نحصر في بعض الحالات التحول الوصفي في خط من خطوط التعاقب، وبذلك لا يزداد عدد الأعقاب المهذبة التابعة لأصل معين، ولو أن كمية التحول الوصفي التي تطرأ على تلك الأعقاب تكون وفيرة، ويسهل عليك أن تمثل لهذه الحالة في الجدول إذا استثنيت كل الخطوط المبتدئة من حرف «أ» وأبقيت الخط الذي يبتدئ تعريفه بحرف «أ١» وينتهي بحرف «أ١٠» فإن خيل السباق، وكلاب الصيد المرشدة في بريطانيا العظمى، خضوعًا لهذه السُّنة، واعتمادًا على ما يظهر من حالاتها العامة في الوقت الحاضر، قد مضت ممعنة في التحول الوصفي حتى تحولت عن أسلافها الأول تمامًا، ولكنها لم تحدث فروعًا أو سلالات جديدة، خلال تعاقب أجيالها.
والفرض الذي بنينا عليه البحث هو أن النوع «أ» قد أنتج بعد مضي عشرة آلاف جيل ثلاث صور هي «أ١٠» و«ج١٠» و«ح١٠» قد أخذت في تحول الصفات خلال أجيال متعاقبة متباعدة حتى بلغت من التباين بعضها من بعض، ومن أسلافها الأول حدًّا، إن كان كبيرًا في كيفيته فلم يكن متوازنًا في كميته ومقداره، فإذا فرضنا أن مقدار التباين الذي يطرأ على الصور الحية خلال الزمن الذي تستدبره في المسافة الواقعة بين كل خطين من الخطوط الأفقية في الجدول، يكون ضئيلًا لا يُعتد به، فيحتمل ألا تبلغ هذه الصور الثلاث في سلم الارتقاء إلا طبقة الضروب المميزة بصفات خاصة.
غير أننا نجعل أساس الفرض أن الخطى التي تمضي فيها الصور ممعنة في تغاير الصفات تكون كثيرة في عددها، كبيرة في مقدارها، لدرجة تسلم بهذه الصور الثلاث، بعد مضي تلك الأجيال، إلى طبقة الأنواع المبهمة، أو على الأقل إلى طبقة الأنواع الممتازة ببضع صفات معينة، وعلى ذلك يظهر جليًّا أن الجدول يمثل أحسن تمثيل تلك الخطى التي بها تتكاثر الفروق الضئيلة المميزة للضروب، حتى تصبح فروقًا خطيرة ثابتة في معالم الصور الحية، تفرق بين الأنواع. ومن تتابع هذه المؤثرات عينها، وتوالي وقوعها للعضويات عددًا من الأجيال أوسع مدى مما سبق، كما يظهر من الجدول في كلتا الحالتين، حالة التخالط والاشتباك، وحالة الغرارة والانفراد، نستخلص ثمانية أنواع معرفة بالأحرف من «أ١٤» إلى «ح١٤» كلها متسلسلة عن «أ»، ومن هذه السبيل — سبيل تكاثر الأنواع — تُستحدث الأجناس في رأيي.
ولا يبعد أن يأخذ في التحول أكثر من نوع واحد من أنواع جنس من الأجناس الكبرى، ففرضت لذلك في الجدول أن نوعًا ثانيًا «ط» قد أنتج بمضيه متدرجًا في خطوات متوازنة مداها الزماني عشرة آلاف جيل صورتين فقط هما «ك١٠» و«ل١٠» إلحاقهما بطبقة الضروب المعينة بصفاتها الخاصة، أو الأنواع المستقلة، مرهون على تقديرنا بكمية التحول التي يعرض أن تطرأ عليهما في الزمان الذي نقدره للمسافات الواقعة بين الخطوط الأفقية، ثم فرضنا بعد ذلك أنه بعد مضي أربعة عشر ألف جيل قد تكونت خمسة أنواع معرفة بأحرف من «ط١٤» إلى «م١٤» وفي كل جنس من الأجناس نجد أن الأنواع التي يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا في صفاتها، عامة كانت أم خاصة، تسلق إلى استحداث العديد الأوفر من أعقاب مهذبة صفاتها؛ إذ تكون بطبيعة الحال أقدر الصور وأوفرها حظًّا من استعمار مواطن متفرقة في نظام الطبيعة العامة؛ لذلك وقع اختياري على النوعين الواقعين في طرفي الجدول «أ» و«ط» لأمثل بهما للأنواع التي تحولت التحول الأوفى، فأنتجت ضروبًا جديدة وأنواعًا لم تكن من قبل. أما تسعة الأنواع الأخرى المعرفة بالأحرف «ب، ج، د، ﻫ، و، ز، ح، ي، ك» وهي التي يتكون منها الجنس الأصلي الذي نتبعه فيحتمل أن نوفد إلى عالم الوجود، خلال دهور متلاحقة طويلة غير متساوية، أعقابًا لم ينلها شيء من الرقي الوصفي، وقد مثلنا لذلك في الجدول بخطوط متقطعة قد بلغت أبعادًا غير متساوية في التدرج.

ولقد لعب الانقراض دورًا ذا شأن عظيم، خلال الفترات التي وقعت فيها تلك التحولات الوصفية، وقد مثلنا لها في الجدول؛ إذ لا يغرب عن أفهمانا أن الانتخاب الطبيعي في كل البقاع المشحونة بصور الأحياء العضوية، لا يفتأ يعمل على تفوق الصور ذوات الصفات العليا التابعة لأي نوع من الأنواع على غيرها، فتزيد مقدرتها، وتعظم كفاءتها لسيادة أسلافها وإعدام أصولها الأولية من الوجود، خلال خطى التسلسل المطردة على مدى الأزمان، وظاهر مما تقدم أن المنافسة الحيوية أبلغ ما تكون من الشدة والقسوة بين أكثر الصور تقاربًا في اللحمة والعادات والتكوين والشكل، فيسارع الانقراض بكل الصور الوسطى التي تربط بين الأصول وآخر الفروع ظهورًا في عالم الحياة؛ أي بين أحط صور النوع وأرقاها، كما يقع النوع الأصلي الذي تسلسلت عنه بادئ ذي بدء، ولقد يغلب وقوع الانقراض لكثير من سلالات الأحياء ذوات اللحمة الطبيعية فتغزوها سلالات أخرى أكثر منها جِدَّة في التعاقب الزماني، وأعلى منها مرتبة في سلم الارتقاء، فإذا احتل نسل من أنسال نوع من الأنواع الراقية إقليمًا بعينه، أو طرأ عليه من الصفات ما هيأ له سبيل البقاء في بقعة ما لم يألفها من قبل، كان بقاء الأصل الأوَّلي والنسل الجديد معًا في تلك البقعة وحياتهما فيه، مرهونًا على امتناع البواعث التي تدعوهما إلى المنافسة بحال ما.

فإذا جعلنا أساس البحث في الجدول الذي وضعناه، أن السلالات الممثل لها فيه قد وقع لها من التحول النصيب الأوفر، وجب علينا أن نعتبر أن النوع «أ» وكان ضروبه الأولى قد سيقت إلى الانقراض واستبدلت بها ثمانية أنواع جديدة ممثل لها في الجدول بالأحرف الواقعة بين «أ١٤» و«ح١٤» وأن النوع «ط» قد استبدل بخمسة أنواع جديدة ممثل لها بالأحرف «ط١٤» إلى «م١٤».

غير أنه ينبغي لنا أن نتدرج بالبحث إلى أبعد من ذلك، فقد فرضنا أن الأنواع الأصلية التي اعتبرناها متسلسلة عن الجنس الأول يشابه بعضها بعضًا كما هي الحال في الطبيعة عامة، مشابهة غير متكافئة في الكَم والكَيف، آتية من أن النوع «أ» مثلًا أقرب في اللحمة الطبيعية إلى «ب» و«ج» و«د»، وأن النوع «ط» أقرب إلى «ز» و«ح» و«ي» من غيرهما من الأنواع، ثم اعتبرنا أن النوعين «أ» و«ط» كانا أكثر الأنواع انتشارًا لاتصافهما بصفات خاصة أتمت لهما الغلبة والتفوق على غالب أنواع الجنس الأخرى، وعلى هذا الأساس يغلب أن ترث أعقابهما المهذبة في الألف الرابع من أجيالها الأربعة عشر، بعض تلك الصفات المفيدة التي بها تفوقت أصولها على أقرانها في معركة الحياة، ناهيك بما يطرأ عليها من ضروب التغاير وصنوف التهذيب المختلفة في مشتبك حلقات التدرج على مضي الأحقاب، حتى تتوطن في كثير من البقاع المتجاورة ضمن نظام الطبيعة الذي يشمل الإقليم الآهل بها. ومما سبق يظهر للباحث غالبًا أن هذه الأجيال لم تقتصر نتيجة تفوقها على إعدام أصولها الأولية «أ» و«ط» فقط، واحتلال مركزها في الوجود، بل تعدت دائرة تفوقها وانتصارها إلى بعض الأنواع الأصلية التي تشتد لحمتها بأصول تلك الأجيال فساقتها إلى الانقراض؛ لذلك يكون ما اختلط بالتهاجن من دم هذه الأصول بجيل الألف الرابع من هذه الأجيال قليلًا، على اعتبار أن نوعًا واحدًا هو النوع «و» من النوعين الأصليين «ﻫ» و«و» وهما أقل الأنواع صلة بالتسعة الأنواع الأصلية الأخرى، قد تسنى له أن يختلط من طريق التهاجن بآخر مراتب التدرج المعروفة في جدولنا.

فإذا نظرنا بعد ذلك إلى الجدول فوجدنا أن الأنواع الناتجة من الأحد عشر نوعًا الأولى قد بلغت خمسة عشر نوعًا، ألفينا أن مقدار الفروق الوصفية بين النوعين «أ١٤» و«م١٤» من تلك الأنواع الجديدة، أبلغ مما هو بين أخص أنواع الأحد عشرة نوعًا الأصلية خضوعًا لسُنة الانتخاب الطبيعي الدائبة على تغيير صور العضويات وتنويعها في فترات الزمان. واستتباعًا لذلك نرى أن الأنواع الجديدة تكون لحمتها أشد مشاكلة، ورابطة نسبها أكبر اتساعًا، مقيسة بالأنواع الأولى. ومن الثمانية الأنواع المتسلسلة عن «أ» ثلاثة تشتد لحمتها هي «أ١٤» و«ب١٤» و«ج١٤» لقرب تسلسلها من «أ١٠»، أما النوعان «ﻫ١٤» و«د١٤» فتكون مميزة عن الثلاثة الأنواع الأولى بصفات خاصة بها لتسلسلها عن «أ٥» في زمان أبعد عن الزمان الذي تسلسلت فيه الأنواع الأولى، ثم نجد أن الأنواع: «و١٤» و«ز١٤» و«ح١٤» قريبة اللحمة، لكنها لسبقها بالابتداء في تحول الصفات منذ أول درجات تحول هذه السلسلة، تكون مختلفة جهد الاختلاف عن الخمسة الأنواع الأخرى، وربما اعتُبرت جُنَيْسات أو جنسًا مستقلًّا قائمًا بنفسه.

أما الأنسال الستة الناتجة من النوع «ط» فتكونُ جُنَيْسين أو جنسين مستقلين، غير أن النوع الأصلي «ط» إن كان شديد المباينة للنوع «أ» لوجوده في آخر السلسلة المتحولة عن الجنس الأصلي، فستُّ السلالات الناشئة عن «ط» تباين ثماني السلالات الناشئة عن «أ» التباين كله، بفضل سُنة الوراثة وحدها، أما العشيرتان معًا فقد اعتبرتا ماضيتين في سبيل التباين الوصفي متبعتين مناحي مختلفة مشعبة، كذلك الأنواع الوسطى التي تربط النوعين الأصليين «أ» و«ط» ما عدا النوع «و» فقد انقرضت من غير أن تعقب من الأنسال شيئًا. وإذا تدبرنا ذلك وضح لنا كيف أن ستة الأنواع الجديدة المتسلسلة عن «ط» وثمانية الأنواع المتسلسلة عن «أ» يجب أن تُوضع في مرتبة الأجناس المعينة، أو على الأقل في مرتبة الفصيلات المميزة بصفاتها الخاصة.

ومعتقدي أن هذه الطريقة التي أتممنا شرحها هي بعينها قاعدة التحول الوصفي المثلى التي يتكون بتأثيرها جنسان أو أكثر من الأجناس ينتجها نوعان أو أكثر من أنواع جنس بعينه. أما النوعان الأصليان أو الأنواع الأصلية، كيفما تكون الحال، فمفروض أنها متسلسلة من نوع آخر تابع لجنس أعرق من هذه قدمًا، ولقد مثلنا لذلك في الجدول بخطوط مبتورة وُضعت تحت الأحرف الكبيرة مشعبة في عدة خطوط ثانوية آخذة في الانحدار إلى نقطة واحدة، عندها ينتهي التدرج إلى النوع الأصلي الذي اشتُقت منه مختلف الأجناس والجنيسات.

وحق علينا، بعد الذي قطعناه من البحث والاستبصار، أن نلقي نظرة تأمل على صفات النوع الجديد «و١٤» الذي لم تتغير صفاته الخلقية كثيرًا عن «و»، بل احتفظ بصفات نوعه الأصلي بدون تشكيل فيها أو انحراف عنها، وإنه احتفظ بطابعه مع تغيير ضئيل غير محسوس على الأكثر. هنا نجد أن خِصِّيات ذلك النوع في علاقاتها بخِصِّيات الأربعة عشر نوعًا الجديدة التي أشرنا إليها قبلًا، كثيرة التشعب، حلقاتها غريبة الاتصال، وتسلسله عن صورة عضوية ركزتها الطبيعة في منزلة بين النوعين الأصليين «أ» و«ط»، وهما النوعان اللذان انقرضا كما وصفنا، قد يسوقنا إلى اعتباره حلقة وسطى تربط إحدى الفصيلتين المسلسلتين عن النوعين الأصليين الناشئين عنهما بالأخرى. لكن هاتين الفصيلتين لمضيهما متدرجتين في سبيل التحول الوصفي عما كانت عليه أصولهما الأولية، لا يجعل النوع «و١٤» حلقة مباشرة تصل بينهما، بل الأحرى به أن يصبح حلقة وسطى بين الصور الأصلية التي عنها استُحدثت هاتان الفصيلتان، ولا جرم أن كل طبيعي في مستطاعه أن يستخلص من الطبيعة أمثالًا حقيقية تثبت ذلك بما لا يترك للريب مجالًا.

فرضنا في الجدول أن كل مسافة تقع بين خطين من الخطوط الأفقية تمثل ألف جيل. غير أنه من المستطاع أن نجعل كلًّا منها تمثل مليونًا أو أكثر من الأجيال، وقد تصطلح على أن تمثل شطرًا من طبقات الأرض المتعاقبة تتضمن كثيرًا من بقايا العضوية المنقرضة. ولسوف أعود إلى هذا المبحث في الفصل الذي سأعقده في وصف طبقات الأرض، وأرى أن هذا الجدول سوف يكشف لنا عن صلات العضويات المنقرضة بالعضويات التي تعمر وجه الأرض في الزمان الحاضر، ويوضح لنا أن ما انقرض من الأحياء، على تبعيته لشعوب وفصائل وأجناس واحدة وبالذات، فالغالب في أوصافها أن تصل بين كثير من العشائر الحية، تلك حقيقة تزداد في أذهاننا رسوخًا، إذا عرفنا أن الأنواع المنقرضة عاشت خلال دهور شتى عريقة في القدم، كانت شعب التسلسل فيها أقل تشابكًا منها اليوم.

ولست أرى سببًا يلزمنا أن نقصر خطوات التحول على تكوين الأجناس دون غيرها، فإذا فرضنا أن مقدار التحول الذي تمثل له في الجدول بشتى العشائر المتعاقبة في الخطوط المنقطعة يكون كبيرًا، فإن الصور المعرفة بالأحرف من «أ١٤» إلى «ج١٤»، والمعرفة بالأحرف «د١٤» و«ﻫ١٤» ثم المعرفة بالأحرف الواقعة ما بين «و١٤» و«ح١٤» تؤلِّف ثلاثة أجناس متميزة، عدا جنسين آخرين متسلسلين عن «ط» يباينان سلائل «أ» جهد المباينة، وهاتان المجموعتان من الأجناس تكون فصيلتين أو رتبتين٤٤ تامتي الانفصال بفضل التحول الوصفي الذي مثَّلنا له في الجدول، وتشعب أطرافه وتعدد مناحيه، وما هاتان الفصيلتان أو الرتبتان، إلا سلالة نوعين أنتجهما النوع الأصلي، وما النوع الأصلي ونوعاه التابعان له، إلا سلالة صورة غير معروفة أعرق منها في التاريخ قدمًا.

ولقد رأينا من قبل أن الأنواع التابعة للأجناس الكبرى في كل إقليم بعينه، هي التي يغلب نشوء الضروب أو الأنواع المبدئية منها، وكان ينبغي لنا أن نمثل لذلك، فإن الانتخاب الطبيعي، إذ يظهر أثره في الصور التي يكون لها من القوة والغلبة ما تستظهر به على غيرها من الصور في التناحر على البقاء، فإن نتيجة فعله لا تقع إلا على صور تكون قد حازت في أول نشوئها من القوة قسطًا ومن الغلبة نصيبًا، وضخامة أية فصيلة من فصائل الأحياء، تبين لنا أن أنواعها قد ورثت عن آبائها الأولى مميزات مشتركة، وعلى ذلك كانت المنافسة في سبيل إحداث أنسال مهذبة راقية، غير واقعة إلا في الفصائل الكبرى المدفوعة بفضل قوتها الطبيعية إلى الازدياد والتكاثر، فجماعة كبرى تُساق إلى السيادة على جماعة أخرى تقاربها في القوة والغلبة، وتمضي عاملة على إنقاص عددها درجة بعد درجة، حتى تسد في وجهها أبواب التحول والارتقاء، ونرى في العشائر الكبرى أن أحدث الفُصيلات إذ تكون أقرب إلى الكمال وأدنى إلى القوة بكثرة شعبها، وامتلاكها أكثر المراكز خطرًا في نظام الطبيعة العام ضمن حدود مواطنها، تتدرج في السيادة على غيرها من الفصيلات القديمة التي هي أقل منها كمالًا حتى تمحوها من الوجود، فيُمحى بذلك كل أثر للفصائل الصغيرة المستضعفة ولواحقها.

فإذا نظرنا إلى المستقبل أمكننا أن نتنبأ بأن مجاميع الكائنات العضوية الحائزة لصفات السيادة في الزمان الحاضر، بحيث لا تستبين في مراكز نظامها الطبيعي أي تخلخل أو انشعاب، هي أقل الجموع تأثرًا بعوامل الانقراض، وأنها سوف تمضي ضاربة في الازدياد والتكاثر العددي أزمانًا طويلة، ولكننا لا نعرف أي الفصائل سيكون لها ذلك الحظ الموفور استنادًا على ما رأينا من تاريخ العضويات، فإن بعض العشائر التي حازت في الماضي أكبر الحظ من الانتشار والذيوع قد انقرضت، فإذا أوغلنا في النظر إلى طيات المستقبل، أمكننا أن نتنبأ استنادًا على ما نراه من تكاثر العشائر الكبرى، ومضيها متدرجة في التكاثر العددي بأن كثيرًا من العشائر الصغرى سوف تنقرض انقراضًا تامًّا غير معقبة من السلالات الراقية شيئًا مذكورًا، ويكون القياس في هذه الحال أن الأقليات العظمى من الأنواع التي تعيش في أي عصر من العصور هي التي تفوز بأعقاب سلالات راقية تبقى ثابتة في الطبيعة إلى مستقبل بعيد.

وسوف أعود إلى بحث ذلك فيما سأكتبه في تصنيف العضويات، غير أني أضيف إلى ما سبق أنه استنادًا على هذا الرأي تكون الأقلية العظمى من الأنواع القديمة، هي التي أعقبت أنسالًا لا تزال باقية إلى الزمان الحاضر. ولما كانت أنسال كل نوع تحدِث بعد مضي زمان ما طبقة خاصة بها، أمكننا أن نفقه كيف أن الطوائف٤٥ في التصانيف المعمول عليها في عالمي الحيوان والنبات قليلة العدد إلى الحد الذي نراه، وأن الأقلية العظمى من الأنواع الموغلة في القدم، إن كانت قد أعقبت سلالات راقية في كل زمان، فليس من المستبعد أن يكون قد عمر الأرض في خلال الأعصر الجيولوجية الأولى، أنواع أجناس شتى، ورتب وطوائف، لا تقل عما يعمرها في هذا الزمان عدًّا.

(٨) درجة النزعة إلى الارتقاء في التعضي

يؤثر الانتخاب الطبيعي بصورة مطلقة عن طريق الاحتفاظ بالتحولات واستجماع ما يكون منها ذا فائدة في ظل الحالات العضوية وغير العضوية التي يتعرض لها الأحياء في كل أدوار الحياة، أما النتيجة النهائية فمحصلها أن كل حي ينزع إلى أن يرتقي ويتهذب شيئًا بعد شيء من حيث علاقته بالظروف التي تحيطه، وهذا التهذيب محتوم أن يؤدي إلى ارتقاء تدرجي يصيب النظام العضوي الخاص بالعديد الأوفر من الكائنات الحَية في جميع أطراف الأرض، غير أننا لا نلبث أن نقحم في موضوع صعب المراس، ذلك بأن المواليديين٤٦ لم يتفقوا بما يرضي على المعنى المستفاد من «تهذيب النظام العضوي»، ففي الفقاريات مثلًا نجد أن اقتراب القوة العاقلة والتركيب من الإنسان، أمر تبتدئ آثاره بوضوح، وقد يُقال: إن مقدار التخلقات التي تتوالى على الأعضاء المختلفة في نشوئها من طور الجنين حتى البلوغ، يمكن أن تُتخذ مقياسًا للموازنة، غير أن هنالك حالات نشاهدها في بعض القشريات الطفيلية،٤٧ يظل فيها كثير من أجزاء تركيبها أقل اكتمالًا من غيره، حتى إن الحيوان البالغ منها لا يمكن أن يعتبر أرفع خلقًا من يرقته.٤٨ إن المقياس الذي انتحاه «فون باير» هو على ما يظهر أرجح المقاييس وأوسعها تطبيقًا، ومحصله الاعتماد على مقدار تخلق الأجزاء في كائن عضوي بذاته وتخصصها لمختلف الوظائف، على أن يكون ذلك في حالة البلوغ بحسب رأيي، أو كما يعبر «ملن إدواردز» عن ذلك: اكتمال توزيع العمل الفسيولوجي. وسوف نرى أي مبلغ من الغموض في هذا الموضوع، إذا ما نظرنا في الأسماك مثلًا حيث يضع بعض المواليديين بعضها في قمة النظام كالقروش مثلًا،٤٩ مع أنها أقرب ما تكون من البرمائيات،٥٠ في حين أن مواليديين آخرين يرفعون الأسماك العظمية إلى القمة،٥١ معتمدين على مقدار ما يتبدى فيها من مخايل السمك، ومقدار ما يتبدى فيها من شدة المباينة لغيرها من طوائف الفقاريات.٥٢ ولقد ندرك ما في الموضوع من غموض إذا ما نظرنا في النبات، حيث ينتفي مقياس العقل انتقاء تامًّا بطبيعة الحال، وهنا نجد أن بعض النباتيين يرفعون إلى القمة تلك النباتات التي اكتملت فيها أعضاء معينة كالسبلات والبتلات والدقات (الكرابل) والأسدية في كل زهرة بذاتها، في حين أن غيرهم من النباتيين، وربما كانوا أقرب إلى الواقع من غيرهم، يرفعون إلى القمة النبات التي أمعنت أعضاؤها المختلفة في التكيف، وقلَّ عددها.

إذا اتفقنا على أن مقياس النظام العضوي ينحصر في مقدار تخلق الأعضاء في كل كائن بالغ، وتخصصها (ويتضمن ذلك ارتقاء الدماغ تحقيقًا للمقاصد العقلية) فمن الواضح أن الانتخاب الطبيعي يسوق نحو هذا المقياس، فإن جميع الفسيولوجيين يقرون بأن تخصص الأعضاء، بحيث تؤدي وظائفها أداء أدق وبالصورة التي بيناها، هو من فائدة كل كائن حي، ومن ثمة يكون استجماع التحولات التي تنزع نحو إقرار التخصص، أمرًا في متناول الانتخاب الطبيعي ومراميه، وقد نرى من جهة أخرى إذا ما وعينا أن الكائنات العضوية تجاهد في سبيل التزايد بنسبة هندسية عالية، وتحتل من نظام الطبيعة فراغات غير مشغولة، أو فراغات لم تشغل حتى الامتلاء في نظام الطبيعة، إنه من الممكن للانتخاب الطبيعي أن يهيئ كائنًا حيًّا وبصورة تدرجية حتى يحتل مركزًا تصبح فيه كثير من أعضائه قليلة الغناء أو معدومة الفائدة كلية. أما أن النظام العضوي في مجموعة قد أخذ في الارتقاء فعلًا منذ أبعد العصور الجيولوجية حتى اليوم، فسوف نطنب في البيان عنه في الفصل الذي نعقده عن تعاقب الطبقات الجيولوجية.

ولكن قد يُعترض علينا بأنه إذا كانت كل الكائنات العضوية تنزع إلى تسلق السلم في نظام الطبيعة، فكيف يقع في جميع أنحاء الأرض أن عددًا وفيرًا من أحط الصور لا يزال باقيًا حيًّا، وكيف يقع في كل طائفة من طوائف الأحياء الكبرى أن تكون بعض الصور قد ضربت في الارتقاء بدرجة كبيرة عن غيرها؟ ولماذا لم تتغلب الصور الأكثر ارتقاء على غيرها من الصور الأدنى وأفنتها في كل بقعة من البقاع؟ يلوح لي أن «لامارك» — وكان يؤمن بوجود نزعة فطرية حتمية نحو الارتقاء في جميع الكائنات الحية — قد لمس هذه الصعوبة وأدركها بعمق، حتى لقد سبق له أن يفرض أن الصور الجديدة البسيطة تتجدد دائمًا عن طريق التولد الذاتي،٥٣ على أن العلم لم يقم الحجة بعد على صحة هذا الاتجاه، مهما يكن من أمر ما يمكن أن يتمخض عنه المستقبل إزاء ذلك. بمقتضى نظريتي لا يترتب أية صعوبة على استمرار بقاء الصور المنحطة من العضويات، ذلك بأن الانتخاب الطبيعي — وبالحري بقاء الأصلح — لا ينطوي ضرورة على تحول ارتقائي، بل إنه يقتصر على الانتفاع بالتحولات إذا جدت وكانت ذات فائدة لكل كائن حي في ظل علاقاته الكثيرة المعقدة في الحياة، وقد نتساءل: أية مصلحة، وذلك بقدر ما نستطيع أن ندرك من الأمر، يمكن أن تعود في حييوين من النقعيات،٥٤ أو دودة معوية،٥٥ أو خرطون يصبح رفيع التكوين العضوي؟ وإذا لم يكن هنالك من مصلحة، فإن هذه الصور لا بد من أن يخلفها الانتخاب الطبيعي غير متحولة بعض الشيء، وقد تظل عصورًا لا نهاية لها محتفظة بمكانتها الدنيا حيث هي، وقد ينبئنا علم الجيولوجيا أن بعضًا من أحط صور الحياة كالنقعيات والرزبوديات،٥٦ قد بقيت عصورًا مديدة متطاولة على حالتها الحاضرة لم تتغير. على أنه من الشطط أن نفرض أن أكثر الصور الدنيا الكائنة الآن لم ترتقِ ولو قليلًا منذ فجر الحياة الأول؛ ذلك لأن كل مواليدي عني بتشريح بعض من هذه الكائنات المعتبرة من الأحياء الدنيا في سلم الطبيعة، لا بد من أن يكون قد أُخذ بما في تكوينها العضوي من روعة وجمال.
ومن المستطاع تطبيق مثل هذه الملاحظات تقريبًا إذا ما نظرنا في درجات النظام العضوي المختلفة في نطاق عشيرة كبرى، ففي الفقاريات قد نضرب المثل بتعاصر ذوات الثدي والأسماك، وفي الثدييات بتعاصر الإنسان والنفطير (خلد الماء)، وفي الأسماك بتعاصر القرش والحريب،٥٧ وهو سمكة في غرابتها وبساطة صورتها تقترب جهد الاقتراب من قبائل اللافقاريات. ولكن لنذكر أن الثدييات والأسماك قلما ينافس بعضها بعضًا، فإن ارتقاء طائفة الثدييات جميعًا، أو قل بعض أعضاء بذواتها في هذه الطائفة، حتى ولو بلغ أقصى مبلغ، فلا يؤدي به إلى احتلال دنيا الأسماك. ويعتقد الفسيولوجيون أن الدماغ لا بد من أن يستتقع بدم حار حتى يظل وافر النشاط، وذلك أمر يحتاج إلى تنفس هوائي. ومن هنا فإن الحيوانات الثابتة الحرارة إذا عاشت في الماء كان عليها أن تواجه مشقة كبرى؛ إذ تضطر دائمًا إلى البروز فوق الماء لتتنفس. أما في الأسماك، فإن أعضاء فصيلة القرش لا تحاول أن تستخضع الحريب، ذلك بأن الحريب، على ما علمت من «فريتز مولو» له رفيق واحد ومنافس بذاته يقطن الشواطئ الرملية المالحة في جنوبي البرازيل، هو صنف شاذ من الحلقيات٥٨ (الديدان الحلقية)، أما ثلاثة الطوائف التي هي أدنى الثدييات وأعني بها الجلبانيات والدرداوات٥٩ والقواضم، فتتعايش متعاصرة بجنوبي أمريكا وفي صقع واحد مع كثير من السعادين، ويغلب ألا يتدخل بعضها في شئون بعض إلا قليلًا، وبالرغم من أن النظام العضوي بوجه عام، يمكن أن يكون قد تنشأ وارتقى، وأنه ما يزال يرتقي في جميع أنحاء الأرض فإن سلم الطبيعة لا بد من أن تمثل فيه درجات كثيرة من الكمال، نضيف إلى ذلك أن ارتقاء طوائف بعينها أو بضعة أعضاء من كل طائفة منها، لا يؤدي ضرورة إلى انقراض تلك العشائر التي لا تواقع معها منافسة قريبة، وفي بعض الأحوال — وكما سنرى فيما بعد — يظهر لنا أن الصور المنحطة في التركيب العضوي، قد حفظت حتى العصر الحاضر من جراء أنها اقتصرت في التوطن على بقاع محصورة أو مواقع خاصة، حيث تعرضت إلى صورة من المنافسة أقل قسوة، كما حرمتها قلة عددها من نشوء تحولات مفيدة في حياتها.
وأخيرًا، فإني أعتقد أن وجود كثير من الصور المنحطة التركيب العضوي في أنحاء العالم، يرجع إلى أسباب متفرقة، فالتحولات والتباينات الفردية ذات الفائدة، قد لا تكون قد حدثت حتى تتهيأ الفرصة للانتخاب ليعمل ويستجمع، ومن المحتمل أنه ما من حالة في تلك الحالات كفى فيها الزمن لإبراز أقصى ما يمكن من الارتقاء والتطور، وفي حالات أخرى نادرة، ربما يكون قد وقع ما نسميه «نكوص»٦٠ النظام العضوي، غير أن السبب الرئيس، إنما يعود إلى أنه في ظل حالات بسيطة من حالات الحياة، يصبح التعضي الرفيع غير ذي فائدة للحي، بل لا يبعد أن يكون ذا أثر ضار بالفعل، وفقًا لرقة تكوينه واستعداده؛ لأن يشيع فيه الخلل وتنزل به المضار.

إذا ألقينا نظرة على فجر الحياة، عندما كانت كل الأحياء العضوية على ما نعتقد من غرارة التركيب، فلا مندوحة لنا من أن نتساءل: كيف تنشأت خطوات الارتقاء الأولى؟ وكيف تخلقت الأعضاء؟ من الجائز أن يكون قد أجاب «هربرت سبنسر» على هذا السؤال؛ إذ قال: «إنه بمجرد أن تحول الكائن البسيط ذو الخلية الواحدة، فصار بالتنامي أو بالانقسام حيًّا مركبًا من خلايا كثيرة، أو أصبحت حياته متعلقة بشيء يتشبث به، فهنالك يبدأ بالتأثير فيها قانون محصله أن الوحدات المتجانسة التالية لأية مرتبة، تتخلق بنسبة الاختلاف الذي يقع على علاقاتها بالقوى العرضية التي تحيط بها.» أما وإن الحقائق التي نستهدي بها مفقودة، فإن التأمل في هذا الموضوع يصبح معدوم الجدوى. وعلى أية حال، فإنه من الخطأ أن نفرض أنه لم يقع هنالك تناحر على البقاء، ومن ثمة ينتفي الانتخاب الطبيعي، قبل أن تنشأ صور عديدة، فإن التحولات التي تصيب نوعًا ما يأهل بموطن منعزل، قد تكون مفيدة، وبذلك تتكيف جميع الأفراد، أو ينشأ عن ذلك صورتان متميزتان، غير أني قد أشرت في نهاية مقدمة هذا الكتاب، بأنه لا يعجبن أحد من أن كثيرًا مما يتعلق بأصل الأنواع لا يزال غامضًا خفيًّا، إذا ما اعترفنا بجهلنا المطبق بالعلاقات المتبادلة بين أحياء الأرض في العصر الحاضر، وأننا أكثر جهلًا بعلاقاتها فيما سبق من الأزمان.

(٩) تقارب الصفات

زعم مستر «واطسون» أنني بالغت في تقدير ما لنظرية تحول الصفات العضوية من الشأن، وفيما نسبته لتلك السُّنة من التأثير في طبائع الأحياء لدى انحرافها، رغم أنه يعتقد أن لها أثرًا ما، فإذا فرضنا أن نوعين تابعين لجنسين مستقلين يمتان لبعضهما بحبل النسب البعيد، قد أنتج كلاهما عددًا كبيرًا من صور تتقارب صفاتها وتراكيبها العضوية، فمن البين أن بعضها في غالب الأمر يماثل بعضًا مماثلة تسوقنا إلى إلحاقهما بجنس دون آخر، وبذلك تندمج أنسال جنسين، فتلحق بجنس واحد كأنها صادرة عنه صدورًا مباشرًا، غير أنه من الحمق أن ننسب إلى تأثير هذه السُّنة حدوث المماثلات المتقاربة في تراكيب الأنسال المهذبة الراقية التابعة لصور معينة مستقلة، تتباعد أنسابها الطبيعية، فإن قوة الدقائق المادية هي التي تشكل قطعة الصدف التي تقلبها بين يديك، وليس من الغريب أن تأخذ مواد مختلفة شكلًا واحدًا، ولكنك إذا تدبرت الكائنات العضوية وجب عليك أن تعي أن شكل كل منها مرهون بصلات متشابكة لا نهاية لها، نلحظ بعضها في التحولات الجمة التي طرأت عليها خلال أدوار النشوء، وتعود برمتها إلى أسباب لا نطمع أن نستبين مغمضاتها، مهما أوتينا من بسطة العلم، ونرى شيئًا منها في طبيعة التحولات التي كانت أصلح للبقاء، أو بالحري التحولات التي أنتجتها الطبيعة لتثبت في طبائع الصور العضوية، وقد ترجع إلى مؤثرات الظروف المحيطة بالكائنات في حالات حياتها، ناهيك بتشابك العضويات وصلاتها في التناحر على البقاء. ثم ارجع إلى الوراثة، ذلك العنصر المضطرب الذي لا يخضع عمله لأي تأثير معروف أو دستور محكم، وتدبَّر ما توارثته العضويات من خِصِّيات أسلافها الأُول التي خضعت لسُنن التحول، فكان لتلك السُّنن ولهذه الصلات المتشابكة الأثر الأول في حدوثها وتحديد صفاتها في غابر الأزمان. وليس من المعقول أن تتقارب أنسال صورتين من صور العضويات بعد أن تكون قد تحولت تحولًا محسوسًا من قبل، تقاربًا يؤدي إلى تماثل تام في كل أجزاء تكوينها، ولو وقع ذلك لرأينا — بقطع النظر عن الصلات الوراثية — أن صورة بعينها قد يتكرر وجودها في طبقات مختلفة من طبقات الأرض تتباعد أزمنة تكوينها، غير أن المشاهدات تضاد ذلك، بل تنفيه نفيًا تامًّا.

واعترض مستر «واطسون» على أن قدرة الانتخاب الطبيعي المستمر مع نسبة انحراف الصفات العضوية، في مستطاعها أن تستحدث عددًا غير محدود من الصور النوعية، فإذا نظرنا في المؤثرات غير العضوية، غلب على حدسنا أن عددًا كافيًا من الأنواع قد يصبح في فترة وجيزة من الزمان ذا كفاءة تامة لتحمل مؤثرات الحرارة والرطوبة وغيرهما من أعاصير الطبيعة، غير أني على يقين من أن صلات العضويات المتبادلة أكبر من ذلك خطرًا وأسمى شأنًا، فإن عدد الأنواع في أي إقليم بذاته؛ إذ يزداد ويتضاعف، تصبح حلقات المؤثرات غير العضوية في ذلك الإقليم أشد تشابكًا وتعقيدًا، عما كانت عليه قبل أن يطرأ على الأنواع ذلك الازدياد، فنظن لأول وهلة أن تحول الصفات التركيبي المفيد للكائنات الحية غير محدود، وإذ ذاك يصبح عدد الأنواع المستحدثة، أو التي يمكن استحداثها غير محدود أيضًا، استتباعًا لذلك، ولسنا على يقين، حتى في أكثر الأقاليم إنتاجًا لصور الأحياء العضوية، من أن نظامها الطبيعي محشو بالصور النوعية بحيث لا يقبل منها المزيد. ففي «رأس عشم الخير» و«أستراليا» تلك البقاع التي تعضد من الأنواع ما يروعنا عدده، قد توطَّن كثير من النباتات الأوروبية، ولكن علم الطبقات الأرض يثبت لنا أن الأصداف منذ أول تكون طبقات العصر الثالث،٦١ وأن ذوات الثدي منذ انتصاف ذلك العصر الجيولوجي، لم يزد عدد أنواعها كثيرًا، أو هي لم تزد البتة، فما هي إذن تلك الأسباب التي تعطل ازدياد الأنواع فلا يتضاعف عددها إلى حد غير محدود؟ نرى أن صور الحياة — ولا أقصد بها الصور النوعية بالطبع — التي تعضدها أية بقعة من البقاع لا بد من أن تنتهي في الزيادة إلى حد مداه في غالب الأمر مرهون على مؤثرات الظروف الطبيعية. فإذا أُهِلت بقعة من البقاع بصور نوعية شتى، فلا بد من أن يمثلها، أو أن يمثل العدد الأوفر منها، بضعة أفراد تكون حائزة لصفات النوع الرئيسة. وهذه الأنواع وأمثالها مسوقة بطبيعة الحال إلى الانقراض بفضل التحولات المتتالية التي تنتابها خلال الفصول أو بوساطة أعدائها والانقراض في مثل هذه الحالات يكون سريعًا، بقدر ما يكون تكوين الأنواع واستحداثها بطيئًا على وجه الإطلاق.

صور لنفسك بعد ذلك كم تكون قوة الانقراض في إعدام ملايين الأنواع في أول فصل يشتد قرُّه، أو يعظم حرُّه، إذا توهمنا أنه أصبح في «إنكلترا» من الأنواع بقدر ما فيها من الأفراد في الزمان الحاضر. على أن كل نوع من الأنواع ليصبح نادر الوجود قليل الذيوع، إذا سيقت الأنواع في الزيادة العددية إلى حد غير محدود في إقليم بعينه. والأنواع النادرة لا يحدث فيها من التحولات التي تعضدها في حالات حياتها، إلا النزر اليسير؛ خضوعًا لما بيناه قبيلًا من القواعد الثابتة. فيكون استحداث الصور النوعية في مثل هذه الحالات بطيئًا، فإذا أصبح نوع من الأنواع شديد الندرة، عجَّل به التهاجن مع أنواع أخرى إلى الانقراض.

ولقد ظن بعض المؤلفين أن ذلك هو السبب في تناقص «الأرْخُص» في «ليتوانيا» و«الغزال الأحمر» في «إيقوسيا»، و«الدب» في «نرويج» إلى غير ذلك. وإني لأعتقد أن ذلك هو السبب الأول الذي يؤهل بالأنواع الثابتة ذوات السيادة، التي تفوقت على كثير من منافسيها ونظرائها ضمن حدود مواطنها، إلى الذيوع وإخضاع أنواع كثيرة غيرها واستضعافها. ولقد أظهر «ألفونس دي كاندول» أن الأنواع التي يعم انتشارها تُساق إلى الذيوع لأكثر من ذيوعها، فتمعن إذ ذاك في إخضاع أنواع تأهل ببقاع كثيرة وإفنائها من الوجود، فتقف الصور النوعية برمتها دون أن تبلغ من الزيادة حد الإفراط في كل بقاع الأرض. وأبان دكتور «هوكر» في العهد الأخير، أن عدد الأنواع الخصيصة بالجزء الجنوبي الشرقي من أستراليا قد قل كثيرًا؛ لأن أنواعًا عديدة من مختلف بقاع الأرض، قد غزت تلك البقعة، أما مقدار هذه الاعتبارات من الصحة، وانطباقها على الواقع، فذلك ما سأبينه بعدُ. غير أنني أقول استطرادًا: إن هذه الاعتبارات، هي التي تضع لكل إقليم بعينه، الحد الذي تنتهي إليه الصور النوعية فيه من ناحية الزيادة العددية.

الخلاصة

إذا عرفنا أن حالات الحياة المحيطة بالكائنات العضوية قد تحدث تحولات فردية في كل جزء من أجزاء تراكيبها الطبيعية في غالب الأمر، وإذا كان التناحر على البقاء واقعًا بالفعل خلال طور خاص من أطوار العمر، أو فصل من الفصول، أو سُنة مفروضة من السنين، بتزايد العضويات بنسبة هندسية كما بينا قبل، وكلا الأمرين ثابت لا سبيل إلى إدحاضه، ومن ثَم تدبرنا هذه الاعتبارات وما يتبعها من الصلات التي تربط بعض الكائنات الحية ببعض وتشابكها في حلقات من الروابط تعم حالات حياتها، وما تنشئه تلك الصلات من تنوع الأشكال، وتباين التراكيب وتنافر العادات، بحيث تصبح في مجموعها مفيدة للكائنات، ووجدنا من بعد ذلك أنه لم يحدث بتأثير تلك الحالات عامتها تحولات مفيدة لمطالب العضويات في حالات حياتها بالذات، بمثل ما حدث فيها من التحولات الجُلَّى المفيدة للإنسان ومطالبه وحاجاته؛ إذن لظللنا ننظر إلى الأمر نظر الموقن بشذوذه عن مألوف السُّنة، ومخالفته للقياسات الطبيعية. غير أننا إذ ننظر في الطبيعة نجد أن التحولات المفيدة للعضويات، قد تحدث ويتكرر حدوثها فيها، تتحقق دائمًا أن الأفراد التي تخصها الطبيعة بتلك التحولات تصبح قادرة دون غيرها على الاحتفاظ بكيانها في التناحر على البقاء، وتعقب من الأنسال ما ينفرد بنفس تلك الفوائد التي خصتها بها الطبيعة، خضوعًا لسُنة الوراثة، وتلك السُّنة — سُنة الاحتفاظ بالتحولات المفيدة للعضويات أو بقاء الأصلح منها — صرفت عليها اصطلاح «الانتخاب الطبيعي»، وهي سُنة طبيعية تسوق إلى تهذيب الكائنات الحية من طريق اتصالها بالمؤثرات العضوية وغير العضوية المحيطة بها في الحياة، وتدفع النظام العضوي برمته إلى التقدم والارتقاء في فترات الزمان. على أن أثرها هذا لا يمنع الصور الدنيا من البقاء محتفظة بكيانها أعصرًا طوالًا، إذا كانت ذات كفاية لما يحوط بها من ظروف الحياة البسيطة الملائمة لها.

والانتخاب الطبيعي، على أساس اتصاله بتوارث الخِصِّيات في العصور المقابلة، يسامت نفس الدور الذي ظهرت فيه الخِصِّيات أولًا في آباء الأنسال، يغيِّر من صفات البيض أو البذور أو صغار النسل، بقدر ما يغيِّر من صفات الأفراد البالغة، أما الانتخاب الجنسي فيمد ضروب الانتخاب الأخرى بمهيئات الاحتفاظ بأقوى الذكور وأعظمها كفاية لملاءمة الظروف، فتنتج أكبر عدد يُستطاع إنتاجه من الأنسال القوية، ويغيِّر من صفات الذكور من طريق تناحرها مع غيرها، فتنتقل صفاتها إلى الزوجين، الذكر والأنثى من أعقابهما، أو إلى أحدهما لا غير، وفقًا لما يكون من تأثير الوراثة في إنتاجها.

فإذا أردنا أن نزن تلك الاعتبارات التي نعزوها إلى الانتخاب الطبيعي بميزان الحكمة؛ لنعرف مقدار انطباقها على الواقع وتأثيرها في تهذيب الصور الحية حتى تصبح ذات كفاية تامة لما يحيط بها من ظروف الحياة المختلفة الملائمة لمراكزها التي تشغلها في الطبيعة، فذلك ما يجب أن نرجع إليه في الفصول التالية، ولو أنه قد ثبت لدينا أنها السبب المباشر في حدوث الانقراض. أما ما أحدثه الانقراض من أثر في تاريخ العضويات، فعلم طبقات الأرض خير شاهد عليه، ولقد أقمنا الأدلة فيما سبق على أن الانتخاب الطبيعي يسوق دائمًا إلى تحول الصفات وتباينها، وأنه كلما أمعنت الكائنات العضوية في تحول الصفات، ازداد عدد الصور التي تعضدها أية بقعة من البقاع، مستدلين على صحة ذلك بتدبر آهلات أية بقعة صغيرة المساحة، وبالصور التي توطنت في أرض أجنبية غير أرضها التي تأصلت فيها، والأنسال التي تنال الحظ الأوفر من التحول في خلال تحول أي نوع من الأنواع، والتي تبلغ من الزيادة العددية حدًّا كبيرًا في التناحر على البقاء تفوز وحدها بالسيادة في معمعة الحياة، فالتباينات التي تفرق بين الضروب التابعة لنوع معين، تُساق إلى التضاعف العددي درجة درجة، حتى تبلغ من التحول مبلغ ما بين أنواع الجنس الواحد، أو الأجناس المتميزة المتباعدة الأنساب.

ولقد رأينا من قبل أن أكثر الأنواع ذيوعًا وأوسعها انتشارًا في بقاع مختلفة من الأرض، مع تبعيته للأجناس الكبرى في كل مراتب النظام العضوي، هي أبعد الأنواع إمعانًا في التحول وأكثر حظًّا في إنتاج أعقاب مهذبة ترث عن آبائها من مهيئات القوة ما يجعلها تحتفظ بالسيادة المطلقة في المآهل التي تأهل بها، والانتخاب الطبيعي كما بينا من قبل، مسوق إلى تحويل صفات العضويات، موكل بإفناء صور الحياة المنحطة، صفاتها والحلقات الوسطى التي تصل بعض الصور ببعض، وهذه القواعد تكشف لنا عن طبيعة الروابط التي تقع بين العضويات وتعين لنا الفروق التي تفصل بين الكائنات على اختلاف مراتبها في العالم الحي. ومن الحقائق التي تبعث على التأمل والعجب، أننا نجد الحيوانات والنباتات خلال الأعصر، وفي الأقاليم كافة، مشتبكة في صلاتها، بحيث تكون عشائر تسودها عشائر غيرها، على نمط نلحظه متجانسًا في كل طرف من أطراف النظام العضوي.

فبينا تكون ضروب النوع الواحد متقاربة في صفاتها متدانية في صلاتها، نرى أن أنواع الجنس الواحد أقل تكافؤًا في الروابط وأبعد عن التوازن في الصلات، فتؤلف ما ندعوه فصائل وأجناسًا، ونلحظ من جهة أخرى أن أنواع الأجناس المعينة أكثر إمعانًا في انفكاك الروابط وتراخي الصلات، ونلفى أن روابط الأجناس تباين روابط الأنواع، فتحدث الرتب والطوائف وتوابعها والفصائل ولواحقها. أما الصفوف التابعة لغيرها في كل طبقة من الطبقات؛ إذ نلحظها مجتمعة حول نقطة معينة في النظام العضوي، وأن تلك الصفوف وما تتراكم حوله من المراكز، يلتف برمته حول مواضع أخرى متتابعة في حلقات بعضها يضم بعضًا، فلا نستطيع أن نفرد لها شطرًا خاصًّا بها قائمًا بذاته، بل تلحق بغيرها على وجه الإطلاق، فإذا كانت الأنواع قد خُلقت مستقلة منذ بدء الخليقة؛ لما تيسر لنا أن نفسر مغمضات النظام العضوي هذا التفسير، أو أن نستقرئ فيه ذلك التقسيم المحكم. أما إذا رجعنا إلى قواعد الوراثة ومؤثرات الانتخاب الطبيعي، على تخالطها وتشابك حلقاتها، وعقبنا عليها بالانقراض وتحول الصفات، استطعنا أن نعلل كيف أصبح النظام على الحال التي نراه عليها اليوم، كما مثلنا له في الجدول الذي وضعناه من قبل.

إن خِصِّيات الأحياء التابعة لطائفة بذاتها قد مثل لها في بعض الأحيان بشجرة كبيرة، وهذا أقرب ما يمثل به للإفصاح عن هذه الحقيقة، فالفروع الغضة الخضراء والغصون النابتة تمثل الأنواع الموجودة الآن، وأما الفروع الكبيرة التي ظهرت في خلال أزمان ماضية، فتمثل تعاقب الأنواع المنقرضة على طول عهدها. فالأغصان النامية خلال كل دور من أدوار النماء في هذه الشجرة، قد جاهدت لكي تتشعب في نواحٍ مختلفة وتضعف كل ما عداها من الأغصان التي تنمو حفافيها حتى تقتلها وتفنيها من الوجود، كما أضعفت بعض الأنواع والصفوف غيرها في كل أعصر الحياة لتنفرد بالبقاء في معمعة التناحر. وأما الجذوع الكبيرة التي تتشعب منها فروع تنقسم بدورها طوائف أقل شأنًا، فقد كانت في أول أدوار النماء التي تدرجت فيها هذه الشجرة أغصانًا لدنة. أما ما ترتبط به هذه الأغصان اللدنة في حالتي غرارتها وبلوغها من الروابط المتشعبة، فنمثل به لترتيب الأنواع المنقرضة والحية على السواء في عشائر تسودها عشائر غيرها من حلقات النظام، وإن من تلك الأغصان اللدنة التي حدثت في طور النماء الأول لغصنين أو ثلاثة، قُدر لها البقاء، فأصبحت فروعًا عظيمة تعضد كثيرًا من الأغصان الصغيرة، شأن الأنواع التي عاشت خلال الأعصر الجيولوجية الموغلة في القدم، ولم يعقب منها تولدات مهذبة إلا النزر اليسير، ومنذ دبت الحياة في تلك الشجرة مات من أغصانها اللدنة وفروعها الكبيرة على السواء عدد كبير، نمثل له في العالم العضوي بتلك الرتب والفصائل والأجناس التي لم تعقب في الزمان الحاضر صورًا تمثلها في النظام الحي، ولا نعرفها إلا بآثارها التي نجدها مستحجرة في باطن الأرض. وإذ نرى في أجزاء مختلفة من كثير من الأشجار أغصانًا ضئيلة تجالد في سبيل البقاء، نابتة في بعض الطوائف؛ إذ ساعدتها ظروف خاصة على الاحتفاظ بكيانها، ولا تزال باقية في أصل الشجرة، كذلك نرى في عالم الحيوان صورًا كالنفطير (خلد الماء) واليردوغ، قد احتفظت بكيانها خلال معمعة التناحر على البقاء باقتصارها في الوجود على بيئة محصنة من مؤثرات الانقراض، فبقيت حتى الآن لتربط بخِصِّياتها، إلى درجة ما فرعين كبيرين من فروع الحياة، وكما أن العيون الصغيرة والأغصان اللدنة قد تعقب أمثالها، وأن أكثرها قوة قد يسود على غيره من فروع الشجرة، كذلك كانت الحال في شجرة الحياة العظمى التي تملأ بما انقرض من صورها ودرجات تحولها المبتورة الطبقات الجيولوجية، وتعمر الأرض بشعبها الحية في هذا الزمان.

١  البزاة: جمع البازي، من فصيلة البازيات أو الصقريات Falconidae.
٢  دودة القز Silk-worm من فصيلة القزيات Bomlycidae.
٣  القطن Cotton جنسه النباتي: Gossypium والقطن الهندي: G. Herbaceum هو الأصل الذي وُلدت عنه ضروب القطن المصري.
٤  الانتخاب التناسلي Sexual Selection: الاختيار التناسلي عن طريق الزوجين الذكر والأنثى.
٥  القاطور Alligator، وفصيلته القاطوريات Alligatoridae: وفي بعض التصانيف الحيوانية يعتبر القاطور جنسًا من فصيلة التمساحيات Crowdilidae، موطنه أمريكا، وأنواعه كثيرة، وقد يتراوح طول أفرادها من قدمين إلى عشرين قدمًا، وأشدها افتراسًا يقطن جنوبي الولايات المتحدة.
٦  الصمون (معرب): Salmon، فصيلته الصموينات Salmonidae، وقد صنَّفها «فالنسيين» ثلاثة أجناس: الصمون Salmo والفريون: Fario والصلر: Salar، ومنها أنواع آفاقية تهاجر من البحار إلى الأنهار، ومن الأنهار إلى البحار، وأخرى غير آفاقية.
٧  الجعل الوعلي Stag Beetle: اسم جنسه النوعي اللوقن Lucana وفصيلته اللوقنيات Lucanidae، سُمى «الوعلي» إشارة إلى ملامسه التي تشابه قرون الوعل، وهو من الحشرات «الغمدية الأجنحة» Coleoptera ومنها نوع يقطن الجزر البريطانية اسمه العلمي «اللوقن الخدوم» Lucan servus.
٨  الغشائية الأجنحة Hymenoptera واسمها في الكلام العادي: membranewinged، وهي شعب عظيم له أنواع كثيرة، أعرفها عند الناس النمل ونحل العسل.
٩  اللواحم Caonivora: آكلة اللحوم.
١٠  دج الصخور Rock. Thrush.
١١  طير الجنة Paradise Bird فصيلته الفردوسيات Paradisidae، ذكوره كثيرة الألوان زاهيتها دون الإناث.
١٢  الطاووس Peacock من فصيلة الطاووسيات paranidoe وجنسه الطاووس Pavo: طيور كبار الحجوم لها قنزعة من فوق الرأس، مخلبة الأقدام قصيرة الأجنحة، ذيلها قصير يكسوه غطاء من الريش المنمق الجميل هو الذي ينشره الطاووس في بعض الأحيان. والطاووس المقنزع P. Cristatus هو الطاووس العادي المألوف لكثير من الناس.
١٣  البنطم Bantam: ضروب من الدجاج القميء صغيرة الحجم كالبنطم الكوشي Cochim Bantam والبنطم البرهمي Brahma Bantam.
١٤  التباينات الفردية Individual Differnces هي عند «داروين»: التحولات ذات الأثر الواضح من صفات العضويات؛ لأن من التحولات ما يكون غير ذي أثر واضح؛ أي تحولات لا تدرك جهرة، ولكنها تدل، إذا ظهرت، على نزعة إلى التحول قد تقوى على تتالي الأجيال، واقفة على صفة بذاتها أو جهاز عضوي ذي وظيفة محدودة، فتتطور بحسب حاجة النوع.
١٥  الجلموت Guillemot من الطيور المكففة Web-footed الغواصة، لها أوصاف خاصة بها، مما هيأ لها البقاء في المناطق المتجمدة الشمالية، وقد تطير بمقربة من سطح الماء متوغلة إلى عرض البحر، فإذا بان لها خطر غاصت فجأة، فلا يظهر فيها غير جزء من ظهرها ورأسها وعنقها، وذلك في أثناء الصيف، فإذا دهمها الشتاء هاجرت جنوبًا، وقد تبلغ البحر المتوسط أو عرض المحيط الأطلنطي بمحاذاة مدينة نيويورك تقريبًا.
١٦  الطيور المهاجرة Migratory Birds، وعادة الهجرة في الطيور وراثية، آتية في الأكثر من تغلب بعض الأجناس على بعض في مواطن غير مواطنها، وفي خلال دور من السَّنة يوافقها فيه المناخ، حتى إذا ما تغيَّر مناخ البقعة التي احتلتها في فصل آخر، اضطُّرت محافظةً على بقائها إلى الهجرة إلى بقاع أخرى يلائمها مناخها. ويقول بعض الطبيعيين بأسباب غير هذه يعزون إليها هجرة الطير.
١٧  Leguminosae.
١٨  شجرة الغار Laurel وجنسها في اللسان العلمي Laurus أي الغار، وهو الجنس الواحد الذي تتألَّف منه الغاريات Lauraceae، ونوعه يُسمى علميًّا «الغار النبيل» L. nobilis اسمه عند القدامى من اليونان «دافني» Daphne وهو من النباتات المقدسة عند أبولون كبير آلهتهم.
١٩  شجرة السنديان Holiy tree موطنها المناطق المعتدلة، واسمها العلمي الأكس: Ilex ويذيع في آسيا وأفريقيا، ولخشب السنديان قيمة تجارية كبيرة.
٢٠  العسني Rudimentary أي الأثري: ويُوصف بذلك كل عضو تعطلت وظيفته أو كادت أن تتعطل وبقي العضو عطلًا، فينضمر على مر الأجيال، وفي اللغة: أعسان الشيء آثاره ومكانه، وتعسنته طلبت أثره ومكانه (اللسان ١٥٨: ١٧).
٢١  البرسيم الأحمر Trifolium Pratense رءوسه حمر: من القرنية.
٢٢  البرسيم الوردي Trifolium incarnatum: قنابعه وردية من القرنية: Leguminosae.
٢٣  النحل الطنان Humble Bee أو Bumble Bee: مأخوذ اسمها من أصل معناه «يطن»، إشارة إلى الصوت الذي يصدر عنها إذا طارت، وهو أنواع كثيرة.
٢٤  نحل ليجورية Legurian Bee: نوع من النحل يذيع في إقليم ليجورة الإيطالي، واسم الإقليم قديم كان يُطلق في العصر الروماني على إقليم في شمال إيطاليا، ويدخل الآن في مقاطعة «بيدمونت».
٢٥  التوالد البتولي Parthenogenesis قلت: إنه من قبل التناسل العذري، وقال غيري: التناسل البكري: أي تناسل الأبكار. والأصح أن نقول: «البتولي» نسبة إلى Parthenos أي البتول، وهو اصطلاح وضعه «سير رتشارد أونين» وأطلقه على ضروب التوالد على غير طريقة الإلقاح الجنسي.
٢٦  الخنثى والخناثى Hermaphrodites ما له عضوا تذكير وتأنيث معًا، والخنوثة حالات عديدة لا محل لذكرها هنا.
٢٧  الفقاريات: ذوات الفقار Vertebrata: ولا تقل «الفقريات»؛ لأن واحدة الفقار فقارة، لا فقرة، وفي مظان اللغة: «فقار الظهر سبع فقارات.»
٢٨  الجناحيات: الفصيلة الحمصية: Papillionaceores من القرنية Leguminosa، وسُميت الجناحيات لمشابهة أوراقها لأجنحة الفراش.
٢٩  بربريس Barberry tree وفي اللسان العلمي: بربريس Beberis: أعشاب منتشرة في كل المناطق المعتدلة، ما عدا أستراليا، وأكثره انتشارًا نوع يُسمى في اللسان العلمي البربريس الشائع B. Vulgaris.
٣٠  ميسم Stigma في تشريح النباتات: جزء من عضو التأنيث يكون حيث نهايته، ويقابله السداة (ج: أسدية) في عضو التذكير.
٣١  اللوبيل الوضيء: Lobelia fulgens.
Lobelia: After matthias De Lobel (1538–1616) Webster 493.
Fulgens: L, = shining, glittering smith’s Latin-English Dict 459.
جنس من النباتات، سُمي نسبة إلى العالم «ماتياس دي لوبيل» والصفة المعينة للنوع عنه اللاتينية، ومعناها الوضيء أو الوضاح.
٣٢  المفاوت Dichogamons  والمفاوتة Dichogamy: نضوج الأسدية (أعضاء التذكير في النباتات الأهرية) والمدقات (أعضاء التأنيث فيها) في أوقات متفاوتة، مما يحقق حدوث المهاجنة اضطرارًا، وهذه الحالة تقابل حالة سميتها المداناة Homogamy، ومحصلها نضوج الأسدية والمدقات في وقت واحد.
Botany: matucation of stamens and pistils at different periods, insuring cross. Fertilisation. Pp. to Homogamy.
٣٣  الأفراد المعينة: اصطلاح اعتباري استعمله «داروين» مجازًا؛ ليدل به على استقلال أزهار بعض النبات في الجنس من حيث وجود أزهار مذكرة وأخرى مؤنثة.
٣٤  الرخويات: الحيوانات الرخوة Mollusca: قسم من أكبر أقسام مملكة الحيوان، مختلف الصور متعدد الهيئات، وهي من المحاريات: ومنها ما هو ذو صمام واحد، ومنها ما هو ذو صمامين.
٣٥  الخرطون: ج. الخراطين Earth worms من الحلقيات Annelidae واسمها في اللسان العلمي اللمبريق Lumbricus من اللاتينية ومعناه «دودة البطن»، ليس لها رأس ظاهر ولا أعين ولا ملامس ولا أعضاء تهيئها، وإنما هي حلقات متراكب بعضها من فوق بعض، ولا تظهر على سطح الأرض إلا نادرًا، وفي أثناء الليل إذا زادت رطوبة الأرض، فإذا برد الطقس أو زاد الجفاف اندست في الطين.
٣٦  السلكيات: السلكية الأرجل: Cirxipedes وهي من الصماميات Multi valve حسب تصنيف لينيس، أما غيره فيضيفها إلى الرخويات Mollusea، في حين أن البحوث الحديثة قد أدت ببعض المواليديين إلى اعتبارها من المفصليات، Articuata كما اعتبرها غير هؤلاء من القشريات Crustaeea.
٣٧  الإصديفيات Ganoids والاسم من اليونانية ganos ومعناه لماع أو لاصِف، وهو شعب كبير من الأسماك، منه الحفش Sturgeon، والبوفن Bowfin والجار Gar وكثير من الصور المنقرضة، ولها حراشف صلبة صدفية Ganoid scales تتألف في الغالب من طبقة داخلية من العظم، وطبقة خارجية شبيهة بالميناء، تُعرف باسم «الجنوين» Ganoin ومن هذه الصفة أُخذ اسمها العربي قياسًا على السماع من «صدفة» وزان «إفعيل».
٣٨  النفطير: خلد الماء: يُعرف إما باسم Platypus: أي «سطوح القدم» أو باسم Oruithorbynclus أي «أنف الطير»، وسُمي في الكلام العادي Duck-bill، والاسم العربي نُحت من أنف + طير = نفطير، وهو حيوان يقطن أستراليا وطسمانيا، وهو من الثدييات، غير أنه بيوض؛ ولذلك يعتبر حلقة بين الثدييات والزواحف، فهو بهذا الاعتبار أحفورة حية.
٣٩  اليردوغ Lepido siven: فرد من جنس من ذوات التنفسين Dipnoan أشبه شيء بالأنكليس (ثعبان الماء)، يعيش في بطائح نهر الأمازون ونهر لابلاتا بأمريكا، وله عند المواليديين شهرة كبيرة؛ إذ يعتبرونه حلقة تربط الأسماك والبرمائيات: Amphilbia ومن أنواعه «اليردوغ الوسيط: L. annectans» إشارة إلى هذه الصفة، ويبلغ القدم طولًا، وعظامه هشة، ما عدا عظام الرأس فإنها تشبه عظام بعض الأسماك، فإذا غاض الماء اندس في الطين وعاش فيه، ومن هذا أخذت اسمه العربي من «الردغة» قياسًا على السماع من «ردغ» وزان يفعول، والردغة الوحل.
٤٠  الجلبانيات Marsupialia: شعب من الثدييات يختلف عن غيره من شعوب هذه القبيلة في كثير من الأوصاف والتراكيب وبخاصة في جهازها التناسلي، أُطلق على الجلبانيات من قبل اسم Animalia crumeutata أي ذوات الكيس: Purse-bearing Animals أما الاسم الشائع الآن فمأخوذ من اللاتينية: Marsupium أي حقيبة أو جوالق؛ إذ إن لها كيسًا عند أسفل البطن تحمل فيه صغارها حتى تشب، ومنها الكنغر المعروف الذي يقطن أستراليا، ومنها العواشب Herbirora أي آكلة العشب، ومنها الحواش: Insectivova أي آكلة الحشرات، ومنها ما يأكل اللحم؛ ولذا نجد بين طبقاتها كثيرًا من الاختلاف والتباين التشريحي وبخاصة في أجهزة الهضم> والجلبان في اللغة: شبه الجراب من الأدم يُوضع فيه السيف (اللسان ٢٦٣ : ١).
٤١  اللواحم Carnivova أي آكلة اللحوم، ومنها السباع عامة كالسنانير والكلاب والديبة والصيال: Seals.
٤٢  القواضم Rodentia وفي اللغة العادية: Rodents من الثدييات، وهي من صغار الحيوان كثيرة الذيوع والانتشار في أقطار الأرض، وأكثر ما يكون انتشارها في أمريكا الجنوبية وأقله في أستراليا، وتركيب أسنانها الأمامية صفة خاصة بها، فهي تجمع بين صفات القواطع والمواضغ، وقد سمَّاها البعض «القوارض»، والقواضم أدل على الصفة التي أُخذ منها الاسم؛ لأن القضم هو الأكل بأطراف الأسنان، وهي هكذا تفعل، ومنها الفئران والجرذان والأرانب وخنازير غينيا.
٤٣  المجترات Ruminants: أخص صفاتها الاجترار، وهو إخراج الطعام من المعدة بعد ازدراده غير كامل الهضم لتجهيزه بالمضغ مساعدة على الهضم وجميعها من العواشب: Herbirora آكلة العشب، ولسانها ذو خِصِّية في الامتداد بحيث يساعدها على جمع الحشائش والأعشاب وقضمها بمقدم أسنانها، وجهازها الهضمي مهيأ للعيش مع النبات.
٤٤  رتبة Order.
٤٥  طائفة Class، طُويئفة Sub-calss.
٤٦  المواليديون: اسم أطلقه العرب على علماء التاريخ الطبيعي، وقُصد بالمواليد: الجماد والنبات والحيوان، وسموها المواليد الثلاثة، والمواليديون نسبة إلى ذلك.
٤٧  Parasitic crustaceans.
٤٨  اليرقة Larva وجمعها يرقات، وكل ما عدا ذلك مما شاع استعماله خطأ.
٤٩  القرش: ج القروش Sharks أكثرها بحري وتذيع في بحار المنطقة الدافئة، والقرش شديد الافتراس سريع الحركة باطش في قتل غيره من الأسماك، وهو كثير الأجناس والأنواع.
٥٠  البرمائيات Amphibia، من الفقاريات، تتوسط أوصافها بين الأسماك والزواحف، ومنها الضفادع والتوائد toads (مفرده: توأد) والسمادل (مفرده سمندل) وما يتصل بها من الأحياء، وأكثره بيوض، وتظل صغارها برهة في طور يرقى في الماء (طول الدعمول: Tadpole stage) يكون لها فيه خياشيم كالسمك، ثم تتحول الخياشيم إلى رئات.
٥١  العظاميات: الأسماك ذوات العظام:
Teleostei From: cor. Teleos = perfect + osteon = bone عشائر الأسماك ذوات العظام، وتضم أكثر الأسماء العائشة، تفريقًا لها من الإصديفيات Ganoids والبردوغيات Dipnoans والغضروفيات Elasmobranchs.
٥٢  طوائف الفقاريات Vertebrate classes: الشعوب التي قسَّم بها المصنفون قبيلة الفقاريات.
٥٣  التولد الذاتي Sponaneous Generation: ومحصلة تولد الحي من غير الحي، وقد يُطلق على هذا القول في الإنجليزية اصطلاحان آخران: Abiogenesis. Or Outogenesis والقول بهذا خطأ نشأ عن الاعتقاد بأن العضويات التي تتولد في العفونات تنشأ ذاتيًّا من غير أن تتولد في أحياء.
٥٤  النقعيات Infusoria عضويات صغار تنشأ في النقائع المتخلفة عن المواد العضوية في الماء الراكد، واقتصرت دلالة هذا الاصطلاح الآن على البرزويات المهدبة Ciliated Protozoa: أي المهدبات Ciliophora.
٥٥  الدودة المعوية Intestinal worm.
٥٦  الرزبوديات Rhizopods, Rhizopoda.
From Gr. rhiza = root + pod = fool.
شعب كبير من البرزويات من خِصِّيات أفراده أن لها شوى كواذب (مفردها شواة كاذبة) Psendopodia أشبه بالجذور النباتية.
٥٧  الحريب Lancelet أو Amphioxus: أي من الحيوانات البحرية الشفيفة في الرأسحبليات Cephalochordata (رأسية الحبل) وهي أقرب الحيوان صلة بالفقاريات.
٥٨  الحلقيات: الديدان الحلقية: Annelido ومنها الخراطين Earthwoms والديدان البحرية وغيرها، أجسامها طوال مستدقات، وتتألف من حلقات مفلقة؛ أي كالفلقات.
٥٩  الدرداوات Edentata عشيرة من الثدييات المشيمية، منها ما هو فاقد الأسنان ومنها ما له أسنان تكاد تكون عسنية؛ أي أثرية. ومن مثلها المعروفة الحسيرات Sloths والدوبرعات Armadillos وكثير من آكلة النمل.
٦٠  النكوص Retrogression.
٦١  الدور الثلثي Tertiary period اصطلاح يشير إلى القسم الأول في الدور الرباعي Quarternary، وهو العصر الحيواني الحديث: Cinozoic: ومن خِصِّياته تغيرات جغرافية كبيرة أصابت الأرض، وسيادته الثدييات على بقية عشائر الحيوان. والثلثي نقلًا عن مظان اللغة للدلالة على المرة الثالثة أو الطبقة الثالثة: «وسقى نخله الثلث؛ أي بعد الثنيا. وثلث الناقة: ولدها الثالث.» (القاموس ١٦٣ : ١).
ويتقدم هذا الدور دور آخر هو الدور الثنياوي Secondary period.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤