الفصل الخامس

قوانين التباين

تغير الظروف وآثاره – استعمال الأعضاء وإغفالها، وحكم الانتخاب الطبيعي فيها – أعضاء الطيران والإبصار – التأقلم – التباينات المعللة – التعاوض واقتصاديات النمو – التراكيب العضوية المضاعفة والأثرية، والتراكيب الدنيا في النظام الحي، جماعها تقبل التحول – الأعضاء التي تظهر نامية نماء غير مألوف يكون استعدادها لقبول التحول كبيرًا – الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية – الصفات الجنسية الثانوية تقبل التحول – أنواع الجنس الواحد تتحول على نمط متشابهة – الرجعى إلى صفات فُقدت منذ أزمان بعيدة – الخلاصة.

***

(١) تغير الظروف وآثاره

تكلمنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب في التحولات، وأثبتنا أنها كثيرة متعددة الصور، متنوعة الأشكال في الكائنات العضوية، إذ تحدث بتأثير الإيلاف، وأنها أقل حدوثًا وتشكلًا؛ إذ تنشأ بتأثير الطبيعة المطلقة، وغالبًا ما نسبنا حدوثها إلى الصدفة. على أن كلمة «الصدفة» هنا اصطلاح خطأ محض، يدل على اعترافنا بالجهل المطلق، وقصورنا عن معرفة السبب في حدوث كل تحول بذاته يطرأ على الأحياء، ويعتقد بعض المؤلفين أنه بقدر ما يكون في النظام التناسلي من الاستعداد لإنتاج التحولات الفردية والانحرافات التركيبية غير ذات الشأن، تكون مشابهة الأبناء للآباء، غير أن التحولات والشواذ الخلقية، وكثرتها إذ تنشأ بالإيلاف، وقلتها إذ تحدث بتأثير الطبيعة المطلقة، والأنواع التي يكثر انتشارها وتتسع مآهلها، إذ تكون أكثر تحولًا من الأنواع المحدودة المآهل، جماع هذه اعتبارات تسوقنا إلى القول باتصال التحولات، وحدوثها بمؤثرات البيئة وظروف الحياة، التي خضع لسلطانها كل نوع من الأنواع في خلال أجيال متلاحقة. وبيَّنَّا في الفصل الأول، أن لظروف الحياة طريقين: مباشرًا، بتأثيره في النظام العضوي برمته، أو في بعض أجزائه دون بعض، وغير مباشر بتأثيره في النظام التناسلي. وأن لذلك مصدرين: أولهما: طبيعة الكائن العضوي ذاته، وهو العامل ذو الأثر الأول، وثانيهما: الظروف البيئية المحيطة بالكائنات، وأن التأثير المباشر لظروف البيئة إما أن يسوق إلى ثمرات من التحول محدودة، أو غير محدودة، وأن النظام العضوي، إذ يمعن في التحول إلى غير حد بتأثير تلك الظروف، يصبح قابلًا للتشكل والتنويع، وينشأ فيه استعداد للتحول كثير التقلب غير ذي قياس مألوف، وإذ يمضي في التحول إلى حد محدود، تضحى العضويات بطبيعتها قادرة على تنشئة مختلف التحولات، حيث تخضع لتأثير حالات خاصة، وأن كل الأفراد أو جلها، تتهذب صفاتها بنفس الطريقة.

ومن الصعب أن نقرر إلى أي حد يؤثر تغير الظروف كالطقس، والطعام وغيره، ومن الاعتبارات ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن هذه العوامل كانت أبلغ أثرًا في خلال الدهور المتلاحقة، مما نستطيع إظهاره بالمشاهدات، وغاية ما نستطيع أن نجزم به، أن التجانس الذي نلحظه في تركيب الكائنات، وفي أطراف النظام العضوي وشعبه المختلفة، لا يمكن أن نردده إلى تلك المؤثرات الأولية. ومن المثل التالية، يظهر لنا أن الظروف الخارجية قد أثَّرت تأثيرًا محدودًا غير ذي شأن كبير. فقد حقق «مستر فوريس»، أن لون الأصداف في الأقاليم الجنوبية وفي ضحاضح الماء، أشد لمعانًا وأكثر صفاء، منها في الأقاليم الشمالية، أو في الماء البعيد الغور، وإن كانت من نوع واحد، ولكن لا يصح أن يُتخذ قاعدة يُقاس عليها، إذ لا يطرد في كل الحالات. ويعتقد مستر «جولد»، أن الطيور التابعة لنوع بعينه تكون ألوانها أكثر صفاء؛ إذ تعيش في مناخ صافي الأديم، منها إذ تقطن شواطئ البحار أو الجزائر. أما مستر «وولاستون»، فعلى اعتقاد أن البقاء بجوار البحار يؤثر في لون الحشرات. ووضع «موكن تاندون» جدولًا في نباتات، تكون أوراقها لحمية إلى حد ما، إذا نمت على شواطئ البحار، حيث تكون غير ذلك، إذا نمت بعيدًا عنها. وهذه العضويات إذ تتحول ذلك التحول الضئيل، تمثل لنا حالات مشابهة لما يلابس الأنواع المقصورة على البقاء في بقعة ما، متأثرة بظروف متشابهة.

فإذا طرأ تحول ضئيل الفائدة، لا نكاد نستبين وجه النفع فيه على كائن ما، نقصر دائمًا عن معرفة مقدار ما نعزوه لتأثير الاستجماع بالانتخاب الطبيعي، ومقدار ما نعزوه لتأثير الظروف البيئية المحدودة في إحداثه. ومن المعروف لدى تجار الفراء، أن النوع الواحد تكون فراؤها أجود صنفًا، وأغزر مادة، كلما ضربت إلى الشمال، ولكن أينا يستطيع أن يتبين مقدار ما في هذا التباين من أثر الاحتفاظ، احتفاظ الطبيعة خلال أجيال عديدة، بأقدر الأفراد تحملًا للبرد؛ لغزارة فرائها، ومقدار ما فيه من أثر المناخ ذاته؟ لأن من البين أن للمناخ تأثيرًا مباشرًا في فراء حيواناتنا الأليفة من ذوات الأربع.

ومن المستطاع أن نأتي بأمثال عديدة لضروب متشابهة، أنتجها نوع معين لابسه من تغير الحالات ظروف، بلغت من الاختلاف الغاية القصوى، وضروب غير متشابهة أنتجها نوع، لابسته ظروف نراها متباينة على ظاهرها. وغير خفي على الطبيعيين، أن أنواعًا كثيرة قد احتفظت بصفاتها الأصلية، فلم ينتبها التحول، ولو أنها تعيش في بقاع مختلفة من الأرض، يتباين المناخ فيها جهد التباين. وهذه الاعتبارات وما يشابهها تجعلني قليل الثقة فيما يُعزى لظروف الحالات الخارجية المحيطة بالكائنات وتأثيرها فيها، بقدر ما تزكي اعتقادي في استعداد العضويات للتحول، وخضوع ذلك الاستعداد لسنن طبيعية، لا نعلم من أمرها شيئًا.

إن ظروف الحياة قد تؤثر من طريق آخر غير إنتاجها، الاستعداد للتحول من طريق مباشر أو غير مباشر، على اعتبار أنها تشمل أثر الانتخاب الطبيعي، حيث كان لها الأثر الأكبر في الإبقاء على هذا الضرب أو ذاك، مما تنتجه صورة معينة، فإذا انتُخب الإنسان، فإن قوته تحد كلا الطريقين، التي بهما تؤثر ظروف الحياة في الكائنات؛ لأن تلك الظروف إن كانت السبب المباشر في إنتاج الاستعداد للتحول، فإن إرادة الإنسان هي التي تستجمع التحولات، وتسوقها متدرجة إلى غرض معين يحاول الوصول إليه، كما أنه لا يجدر بنا أن نغفل عن أن الاستجماع بالانتخاب الطبيعي، هو المؤثر الفريد الذي نفسر به معنى بقاء الأصلح في الطبيعة.

(٢) أثر تزايد استعمال الأعضاء وإغفالها، وحكم الانتخاب الطبيعي فيها – أعضاء الطيران والإبصار

لا يمر بنا خلجة من الشك، بعد الذي أشرنا إليه من الحقائق في الفصل الأول، أن استعمال الأعضاء في حيواناتنا الأليفة قد ضاعف من قوتها، وزاد إلى حجمها، وأن الإغفال أنضب قوة بعض الأعضاء، وأن هذه التحولات الوصفية قد تتوارثها الأعضاء. أما في الطبيعة الخالصة، فإننا إذ نجهل الصور الأصلية، التي تولد عنها أي كائن عضوي، فليس لدينا إذن دستور محكم للموازنة، نكتنه به مقدار ما يحدثه استعمال بعض الأعضاء وإغفال البعض من التأثير على مر أزمان متعاقبة، وليس في مألوف القياس أمر أكثر شذوذًا من وجود طير غير قادر على الطيران، بيد أن الطيور التي هي على تلك الحال كثيرة العدد، كما قال الأستاذ «أوين». وفي جنوبي أمريكا ضرب من البط لا يحرك جناحيه للطيران إلا على وجه الماء، مع أنه يقارب البط الأليف في مقاطعة «إيلسبرى» في صفة جناحيه. ومن الحقائق الثابتة ما رواه مستر «كاننجهام» من أن صغار هذا البط يكون لها قدرة على التحليق، حتى إذا بلغت فقدت تلك الملكة، والطيور التي تغتذى بالديدان وغيرها من الحشرات التي تكون في باطن الأرض؛ إذ قلما تطير إلا اتقاء وقوع الخطر، فالغالب أن مختلف ضروب الطير، التي قطنت الجزر البحرية منذ أزمان بعيدة، أو التي قطنتها حديثًا، غالبًا ما يكون إشراف أجنحتها على الزوال راجعًا إلى إغفال تلك الأعضاء، حيث لا وجود لحيوانات مفترسة يذعر لخطرها الطير، أما النعام، فمن المحقق أنه يقطن قارات متسعة، يعرض له فيها من الخطر ما لا يتقيه بالطيران، فهو يدفع غائلة أعدائه برجليه، حيث يركلها ركلًا دراكًا، بقوة تعادل قوة كثير من ذوات الأربع. والظن الغالب، أن أصول النعام الأولية، كان لها في سالف الأحقاب من العادات ما يشابه عادات طير الحبارى١ في هذا الزمان، وإن وزن النعام وحجمه، قد مضيا في الزيادة على مر أجيال متلاحقة، فكان يستخدم رجليه أكثر مما يستخدم جناحيه، حتى فقد ملكة الطيران.
ولقد لاحظت، كما لاحظ مستر «كربي»، أن أرساغ ضروب من ذكورة الجعلان، التي تعيش على السرقين والروث، غالبًا ما تنفصل عن أقدامها. وبحث مستر «كربي» سبعة عشر فردًّا من أفراد مجموعته، فلم يجد واحدًا منها قد بقي فيه أثر من قدمه اليسرى، وأرساغ «الونيط السالخ»٢ مفقودة عادة، حتى جرت العادة أن تُوسم هذه الحشرة بتلك الصفة، وقد يكون لأجناس أخرى من القبيلة عينها أرساغ أثرية. أما «الأطيوخ»،٣ وهي حشرة كان يقدسها المصريون، فأرساغها بتراء ناقصة. وأما القول، بأن التشوهات الحادثة في الأفراد قد تورَّث، فليس لدينا من الأسباب ما يجعل اعتقادنا فيه ثابتًا، غير أن ما رواه «براون سكوارد» من الحالات، وما لاحظه من المشاهدات في خنازير «جينيا»، وتوارتها من الصفات ما يحدث بتأثير التجاريب العملية فيها، يسوقنا إلى الركون إلى الحيطة قبل الحكم في إثبات ذلك الأمر أو نفيه؛ لذا كان أقرب الأشياء إلى الحيطة والحذر العلمي، القول بأن: السبب في فقدان «الأطيوخ» أرساغه، وكونها أثرية في أجناس أخرى، هو الإغفال، وأن ليس لتوارث التشوهات الحادثة في ذلك من أثر. وإذ نجد أن كثيرًا من الحشرات التي تعيش على السرقين والروث تفقد أرساغها — نعتقد أن ذلك يطرأ عليها في فجر حياتها على الغالب — ويتضح من ذلك، أن الأرساغ ليست بذات خطر كبير لهذه الحشرات في حالات حياتها، أو أنها لا تستخدمها البتة في حالة من الحالات.

وقد نعزو إلى الإغفال في بعض الظروف تغايرات وصفية، تظهر في تراكيب العضويات، يكون الانتخاب الطبيعي السبب المباشر في حدوثها، أو يكون على الأقل أكبر المؤثرات التي أنتجتها. وذكر مستر «وولاستون» أن مائتي نوع من خمسمائة وخمسين من أنواع الجعلان التي تقطن «ماديرة» أجنحتها على حال من التشوه والنقص، حتى إنها لا تطير مطلقًا، ولاحظ أن في التسعة والعشرين جنسًا الخاصة بتلك الجزائر، ثلاثة وعشرين على الأقل فقدت أنواعها ملكة الطيران، حقائق عديدة تروعنا. فضروب الجعلان في بقاع مختلفة من الأرض، إذ تقذف بها الرياح إلى عرض اليم حيث تموت، وضروب أخرى إذ تبقى مختفية في مكانها، حتى يهدأ الريح وتشرق الشمس. كما لاحظ مستر «وولاستون» في جزر «ماديرة»، والصور التي فقدت أجنحتها في الشواطئ غير المهجورة، إذ تكون أكثر عددًا مما هي في تلك الجزر، وجموع خاصة من الجعلان التي تحتاج إلى استعمال أجنحتها كل الاحتياج، إذ نجدها كثيرة الذيوع والانتشار في غير ذلك من البقاع، تفقد آثارها البتة في تلك الشواطئ، وهي حقيقة ذكرها «مستر وولاستون»، وأيدها بكل ما وصلت إليه قدرته، جماع هذه الاعتبارات، تسوقنا إلى الاعتقاد بأن ضياع أجنحة كثير من الجعلان التي تقطن جزر «ماديرة» يرجع في غالب الأمر إلى تأثير عنصر الانتخاب الطبيعي، مع احتمال أن يكون للإغفال أثر فيه، فأفراد الجعلان التي تكون أقل تعودًا على الطيران من غيرها، قد كان لها الحظ الأوفر من البقاء خلال أجيال متلاحقة عديدة، بأن كانت أجنحتها أقل نماء من أجنحة بقية الأفراد، ولو بدرجة غير محسوسة، فلم تعتد كثرة الطيران، أو كان من عادتها الفتور والانزواء، في مستكن لها، فلم تقذف بها الريح إلى اليم، أو كانت أفراد الجعلان التي تكثر الانتقال طائرة من مكان إلى آخر، قد كثر اجتياح الريح إياها إلى البحر، فمضى بها العدم، وتولاها الانقراض.

والحشرات التي لا تقتات بمواد الأرض في جزر «ماديرة»، مثل ذوات الأجنحة المغلفة (الغلافيات)،٤ وذوات الأجنحة القشرية (القشجناحية)،٥ التي تتغذى بالأزهار، تُكثِر استعمال أجنحتها لكسب أرزاقها، فلا تكون أجنحتها بتراء، بل على العكس من ذلك تكون نامية كبيرة، كما قال «مستر وولاستون». تلك حقيقة تؤيد مذهب الانتخاب الطبيعي بما لا يترك للريب مجالًا، فإن أية حشرة أجنبية لأول عهدها باستعمار تلك الجزر، يمضي الانتخاب الطبيعي مؤثرًا فيها، فيعمل على نماء أجنحتها أو إضعافها، وبقدر ما يكون لسوادها الأعظم من القدرة على مجالدة الرياح، أو قصورها عن مقاومتها، يكون تأثير الانتخاب في العمل على نماء الأجنحة أو إضعافها، فيقل طيرانها، أو تتركه البتة، حتى تفقد تلك الملكة بمهيآتها، كما هي الحال في رجال سفينة حطمها النوء على شاطئ مهجور، فمن أحسن السباحة منهم كانت متابعته السبح حتى يبلغ اليابسة، أرجح له من البقاء فوق حطام السفينة، ومن لم يحسنها كان بقاؤه على ظهر السفينة المحطومة أرجح له من السباحة، حيث تتلقفه الأمواج.
والخلد وبعض الدرداوات Edentata التي تتخذ من الجحور بيوتًا، فتحات عيونها أثرية الاتساع، وقد تكون في بعض الحالات مكسوة بطبقة من البشرة أو الفرو، تلك حال من التحول قد تعود إلى الإغفال وعدم استعمال تلك الأعضاء، والراجح استدراكًا أن يكون للانتخاب الطبيعي قسط في إحداثها. ففي جنوبي أمريكا حيوان حفار من القواضم، يُقال له «التوكة»، واصطلاحًا «اليمشوط»،٦ عادته في اتخاذ باطن الأرض سكنًا أثبت من عادة الخلد، وأخبرني بعض الإسبانيين الذين اعتادوا صيده، أن الغالب في هذا الحيوان أن يكون قد فقد بصره، فاحتفظت بفرد منه، وتبينت بعد تشريح العين شطريًّا، أن سبب العمى التهاب في غشاء العين الحاجب،٧ وإذ كانت الالتهابات التي تصيب العين من أكبر الأخطار الوبائية، التي تعرض للحيوانات في حالات حياتها، وإذ كانت أعضاء البصر ليست بذات قيمة محسوسة أو فائدة ما للحيوانات، التي تتخذ من باطن الأرض بيوتًا، احتُمل أن يكون تلاحم الأجفان، ونماء الفرو عليها ذا فائدة في مثل هذه الحالات. هنالك يعضد الانتخاب الطبيعي مؤثرات الإغفال في إبراز نتائجها.
والمعروف، أن حيوانات كثيرة مما يقطن كهوف، «كورينولا وكنتكي» في أمريكا مكفوفة، لا تبصر، رغم تبعيتها لطوائف تختلف جهد الاختلاف في النظام الحيواني، وقد تبقى الحوامل (الأعضاء التي ترتكز عليها العين) في بعض السراطين٨ وتفقد العين ذاتها، كمنظار فلكي بقيت قاعدته، وضاعت عدسته، وإذ يبعد أن نتصور أن أعضاء البصر على ضياع فائدتها، قد تُحدث للحيوانات التي تعيش في الظلام ضررًا ما، فالأرجح أن يكون الإغفال سبب زوالها. وروى الأستاذ «سيليمان» أنه قنص حيوانين من فأر الكهوف (اصطلاحًا: النَّوْطُوم)٩ وهو ضرب من الحيوانات المكفوفة، على نصف ميل من مخرج الكهف، الذي يأهل بها، حيث لا تبلغ الظلمة من الشدة مبلغها في جوف ذلك القبر الطبيعي، فوجد أن باصرتيهما كبيرتا الحجم، شديدتا اللمعان، فأخذ يروضهما على تحمل مقدار خاص من الضوء، متدرجًا في ترويضهما مدى شهر من الزمان، فتيسَّر لهما أن يدركا الأشباح إدراك غشاوة وكلال.
ويصعب أن نتصور أن تبلغ ظروف الحياة من التشابه مبلغًا في مغاور الصخور الكلسية، ولا سيما إذا كانت في بقاع لا يختلف مناخها اختلافًا بينًا، فإذا رجعنا إلى الرأي القديم، حيث كان الاعتقاد السائد، أن الحيوانات المكفوفة قد خُلقت خلقًا مستقلًّا، خصيصًا بمغاور أمريكا وأوروبا على السواء، رجح حينئذاك أن تتشابه تراكيب هذه الحيوانات وخِصِّياتها الحيوية في كلتا القارتين مشابهة كبيرة، فإذا ألقينا نظرة تأمل على الحيوانات المكفوفة الخاصة بكلتا القارتين، وضح أن الحقيقة على نقيض ذلك الرأي، وإليك ما قاله «شيود» في الحشرات:

إن ظاهرة الكَمَه في الحشرات مهما قلبنا وجوه الرأي فيها، لا يسعنا إلا اعتبارها من الظاهرات المحلية الخاصة ببقاع دون أخرى، وأما المشابهات، التي نلحظها ممثلة في قليل من الصور التي تقطن كهوف «المموث»، ومغاور «كورنيولا» وبين الصور الأوروبية، فليست سوى ملابسات جلية لما يقع من التماثل العام بين الحيوانات الخاصة بأوروبا، والحيوانات الخاصة بشمال أمريكا. وعندي أنه لا مندوحة من الفرض بأن حيوانات أمريكا، إذ كانت أبصارها في غالب الأمر معتدلة القوة محدودتها، أخذت في الهجرة شيئًا فشيئًا، خلال أجيال متلاحقة، مبتعدة عن نور هذه الطبيعة المبصرة، إلى ظلمات الكهوف في «كنتكي»، متدرجة في التوغل إلى أحشاء تلك المغاور، كما حصل لحيوانات أوروبا في كهوفها … ولدينا من المشاهدات ما يثبت التدرج في اكتساب هذه العادة.

قال «شيود»: «إننا إذ ننظر إلى الحيوانات، التي اتخذت من باطن الأرض سكنًا، نعتقد دائمًا أنها شعبة صغيرة، تابعة لبعض الصور الإقليمية، التي تحدث بتأثير المناخ وغيره من المؤثرات الطبيعية مما يعيش في النواحي المجاورة لموطنها الأصلي، تركت سطح الأرض واتخذت من باطنها مستقرًا استقرت فيه، حتى إن طول عهدها بظلمات تلك القبور، واعتيادها العيش فيها، قد غيرا من فطرتها، فأصبحت ملائمة لما يحيط بها من ظروف تلك الحياة، بيد أن حيوانات كثيرة غير بعيدة النسب من الصور المألوفة في النظام الحيواني، تراها متدرجة في تمهيد سبيل النقلة من النور إلى الظلام، ثم يعقب هذه الصور في التدرج الحيوانات التي لا يلائمها إلا ضوء الشفق ولا طاقة لها بسواه، ومن ثم يتلوها في الرتبة الحيوانات التي تعيش في ظلمة الحلك، وهنالك تمتاز بتكوينها الطبيعي الخاص بها.» ولا ينبغي أن يغرب عن أفهامنا، أن ما سبق القول فيه من ملاحظات «شيود»، لا يصدق إلا على الأنواع الصحيحة دون سواها، فبعد أن يبلغ حيوان من تلك الحيوانات في التدرج على مر أجيال عديدة أقصى مبلغ من ظلمات تلك المغاور، يؤثر الإغفال في أعضاء العين تأثيرًا يؤدي إلى زوالها زوالًا كليًّا أو جزئيًّا، ويغلب أن يعضد الانتخاب الطبيعي في مثل هذه الحالات ظهور تحولات أخرى، كازدياد طول الزباني١٠ في الحشرات؛ لتستعيض بها عن فقد أعضاء البصر، وبالرغم من هذه التحولات الوصفية وأمثالها، فقد يتفق أو تتبادل حيوانات الكهوف في أمريكا بعض خواصها مع بقية أهليات تلك القارة، كما أن حيوانات الكهوف في أوروبا قد تتبادل شطرًا من خواصها مع بقية صنوف الحيوانات فيها. تلك هي الحال في بعض حيوانات أمريكا من آلاف الكهوف. كما حقق الأستاذ «دانا» شأن بعض حشرات الكهوف في أوروبا، إذ تقارب صفاتها صفات الحشرات، التي تقطن البقاع المجاورة لمآهلها.
وبعيد أن نستوضح كنه تلك الخِصِّيات المتبادلة، التي نلحظها بين حيوانات الكهوف المكفوفة وبين آهلات كلتا القارتين، إذا اعتقدنا صحة القول بخلقها مستقلة منذ بدء التكوين. على أن حيوانات الكهوف التي تقطن «الدنيا القديمة» و«الدنيا الحديثة»، إن أُتيح لبعضها أن يشابه بعضه مشابهة كبيرة، فإن تشابهها هذا ليس إلا حلقة من سلسلة الاتصالات المعروفة، التي نراها بين مختلف أهلياتها الأخرى. وإليك نوعًا من جنس «الباثوس»،١١ مفقود البصر، كثيرًا ما يوجد عالقًا ببعض الصخور المظلة بعيدًا عن الكهوف، والغالب أن يكون فقد البصر في النوع الذي يقطن الكهوف من هذا الجنس، غير راجع إلى اعتياده العيش في ظلمات المغاور وغيرها، فإن حشرة ما، إن فقدت أعضاء البصر، فقد أُتيح لها أن تصبح ملائمة للحياة في المغاور المظلمة، ولاحظ «مستر موراي» أن أنواع جنس آخر (الإكفيف)١٢ شديدة الاستكانة إلى ظلمة الكهوف لا تبرحها، حتى إن الباحثين لم يعثروا مطلقًا على فرد واحد من أفرادها بعيدًا عن الكهوف التي تسكنها، ورغم هذا فإن بعض أنواع ذلك الجنس، التي تقطن كهوف أوروبا وأمريكا على كثرتها، يمتاز بعضه على بعض بصفات خاصة صحيحة، ولا يبعد أن يكون السبب في ذلك، راجعًا إلى أن الأصول الأولى التي تشعبت منها هذه الصور، إذ كانت خلال العصور الأولى من الأنواع المبصرة، فقد غشيت أوروبا وأمريكا، وانتشرت فيهما على السواء، فلما مضى الانقراض متدرجًا بها في سبيل الزوال التام، لم يبقَ منها إلا هذه الأنواع، التي نراها الآن في تلك العزلة البعيدة، وجدير ألا نعجب إذا رأينا أن بعض حيوانات الكهوف قد تتشابه صفاتها جهد التشابه، كما أبان عن ذلك «أغاسيز» في الأسماك الكفيفة، المعروفة اصطلاحًا باسم «الإجهير»،١٣ وكما نراه ممثلًا له في «البرتوس»١٤ الأكمه، لدى النظر في زواحف أوروبا. ولكن ما يحق لنا منه العجب، أن الطبيعة لم تحتفظ بكثير من بقايا الصور الكفيفة، التي حدثت خلال أعصر الحياة الأولى، إذا اعتقدنا — وحق لنا الاعتقاد — بأن التناحر للبقاء لم يبلغ من القسوة بين تلك المواطن المظلمة القصية، مبلغه بين صور الحياة الأخرى.

(٣) التأقلم

العادة موروثة في النباتات، تظهر فيها جلية في دور الإزهار وساعات النوم، وفي كمية المطر اللازمة لإنبات بذورها، وذلك يسوقني إلى الكلام في التأقلم، ولما كان الواقع أن الأنواع الصحيحة التابعة لأي جنس من الأجناس، قد تأهل بأقاليم يختلف مناخها بين الحر والقر، فإن صح أن أنواع الجنس الواحد قد اشتُقت جميعها من أصل أولي واحد، فلا بد من أن يحدث فيها أثر للتأقلم، تكسبه خلال تدريجها في حلقات التسلسل على مر الزمان.

وغير خفي، أن كل نوع من الأنواع يلائم مناخ الإقليم في موطنه، فالأنواع الخاصة بالمناطق المتجمدة، بل الأنواع الخاصة بالمناطق المعتدلة، لا تتحمل مناخ المناطق الحارة، والعكس بالعكس. كذلك النباتات التي تعيش في طقس جاف لا تستطيع البقاء في جو رطب، غير أن كفاية الأنواع لتحمل قسوة المناخات التي تعيش فيها، قد غالى بعض الكتاب في تقديرها غلوًّا، خير دليل عليه عجزنا عن معرفة إن كان هذا النبات المتوطن أم ذاك، أكثر كفاية لتحمل المناخ المجلوب إليه، ناهيك أن عددًا من النباتات والحيوانات المجلوبة من بقاع مختلفة من الكرة الأرضية، قد احتفظت في إنكلترا بكمال صحتها وقوة بنيتها، ولدينا من الأسباب ما نُساق به إلى الاعتقاد، بأن انتشار الأنواع في الطبيعة المطلقة محدود بعدة حدود طبيعية، إثر التناحر على الحياة إزاء بقية الكائنات العضوية في أحداثها، أبلغ من كفاية الأحياء لتحمل أعاصير المناخات المختلفة في مناطق الأرض، وسواء أصح لدينا أن لعدم كفاية الأحياء للطقس أثرًا ما في حد انتشارها أم لم يصح، فالحقيقة أن قليلًا من الصور النباتية قد تعودت إلى حد ما أن تحمل مختلف درجات الحرارة في بقاع عديدة؛ أي إنها تأقلمت فيها بها، حتى إن أنواع الصنوبر،١٥ وأنواع ردوندرون،١٦ التي استُنبتت في إنجلترا من الحبوب التي جمعها «هوكر» من أنواع تنمو على ارتفاعات مختلفة في جبال «هملايا»، قد أظهرت أن كفايتها التكوينية تختلف في تحمل البرودة، وأخبرني «توايت» أنه شاهد في «سرنديب» حقائق تؤيد ذلك، شبيهة بما شاهده «واطسون» في أنواع النباتات الأوروبية، التي جُلبت من جزر «أزورس»، وتأصلت في إنكلترا، ومن المستطاع أن آتي بكثير من الأمثال لتبيان ذلك، فإن كثيرًا من الحقائق نلحظ آثارها في عالم الحيوان، تثبت أن أنواعًا من الحيوانات قد تناوبت الانتشار خلال أعصر التاريخ العضوي في بقاع حارة وبقاع باردة، ولكننا لا نعلم حق العلم، أكان تأقلم تلك الحيوانات في مآهلها الأصلية ثابت الأثر في طبائعها، أم لم يكن من الثبات، بحيث يسمح لها بالتأقلم في أقاليم أخرى، ذلك على الرغم من اتخاذنا ثباتها في التأقلم لأقاليمها الأصلية، قاعدة نقيس عليها خطأ، مختلف الحالات التي نلحظها في الطبيعة، كما أننا لا نعلم، أمضت تلك الحيوانات متدرجة في التعود على مناخ الأقاليم الجديدة حتى تأقلمت فيها، أم لم تبلغ من التأقلم غاية جعلتها أكثر كفاية لمناخ أقاليمها الجديدة، عما كانت كفايتها لمناخ أقاليمها الأصلية؟

والاعتقاد السائد، أن الإنسان في بدائياته قد انتخب الحيوانات الأليفة للتربية والاستيلاد منها، مسوقًا بما وجده فيها من أوجه النفع، وما ألفاه من استعدادها للتناسل الصحيح حال أسرها، واعتزالها ظروف طبيعتها الأولى، على عكس ما يذهب إليه ثقات الطبيعيين، من أن سبب إيلافها راجع إلى ما رآه فيها الإنسان البدائي من مقدرتها على تحمل مؤثرات التنقل في أقطار شاسعة من الكرة الأرضية، شأن أهل البداوة في تنقلهم من بقعة إلى أخرى، فإن ما نراه في حيواناتنا الأليفة من الكفاية التامة، والمقدرة العجيبة على تحمل المناخات في مناكب الأرض، لدليل يجوز أن نستدل به على أن عددًا كبيرًا من الحيوانات الأخرى التي لا تزال في وحشيتها الطبيعية الأولى، قد يسهل التدرج في رياضتها، حتى تبلغ حدًّا تستطيع فيه أن تتحمل أشد المناخات وأبعدها تباينًا، فإذا أمعنا النظر في بحث هذه الاعتبارات، ولا سيما لدى التنقيب عما يعود إليه أصل قليل من حيواناتنا الداجنة، واشتقاقها من بعض الأصول البرية، فقد يُحتمل أن يكون ما يجري من الدم في عروق ذئاب المنطقة الحارة وذئاب المنطقة المتجمدة، مختلطًا بدم أنسال الكلاب المؤلفة في بلادنا مثلًا، وليس لنا أن نعتبر أنواع الجرذان الكبيرة أو الفيران العادية من الحيوانات الداجنة، رغم أنها انتقلت مع الإنسان في رحلاته إلى أنحاء عديدة من المعمورة، وذيوعها الآن لا يُقاس به ذيوع أي حيوان من مرتبة القواضم؛ لأنها تعيش في جزائر «فارو»، حيث بلغت أقصى الشمال، تقطن جزائر «فوكلاند»، حيث بلغت أقصى الجنوب، بل تعمر كثيرًا من الجزائر في المنطقة الحارة، يسوقنا هذا الاعتقاد إلى أن التأقلم، صفة تكسبها التراكيب العضوية بما قد تأصل في تضاعيف فطرتها من قابلية الكسب، شأن أكثر الحيوانات، أما كفاية الإنسان وحيواناته المؤلفة لتحمل أعاصير المناخات المختلفة، وغير ذلك من الحقائق، مثل كفاية الفيل والكركدن لتحمل المناخات الجليدية فيما مضى من العصور، بينما نراها الآن مقصورة في البقاء على المناطق الحارة أو ما يجاروها، فلا ينبغي أن تتخذ في هذا الاعتبار قياسًا يُقاس عليه، بل يجب أن تتخذ مثلًا، نستدل بها على ما هو موصل في تضاعيف الفطرة العضوية من قابلية الكسب، التي تحرك عواملها ظروف خاصة، تخضع لها الكائنات.

وما زال الغموض يكتنف أثر العادة في تأقلم الأنواع بالمناخات المختلفة، أو مقدار ما في التأقلم من أثر الانتخاب، انتخاب الطبيعة لأي ضرب من الضروب ذوات التراكيب العضوية الشتى، أو مقدار ما فيه من أثر العادة والانتخاب مجتمعين، وإني لعلى اعتقاد بأن للتحولات أثرًا كبيرًا في طبائع الكائنات، حقيقة يسوقني إلى الإيمان بها، ويزكي اعتقادي فيها، ما لحظته في النظام العام من الأقيسة، وما عرفته من دراسة الكتب الزراعية الحديثة، وما قرأته في كثير من دوائر المعارف الصينية، التي يبعد عهدنا بها؛ إذ هم يخشون بل يحظرون، نقل الحيوانات من مقاطعة إلى أخرى، ولا أثر في التأقلم غالبًا إلا للعادة؛ لأنه بعيد أن يُخيَّل إلينا، أن الإنسان في حالته الأولى قد نجح في انتخاب أنسال وعِتْرَات، كانت ذات تراكيب ملائمة بطبيعتها لظروف أقاليمها الأصلية، ذلك على أن الانتخاب الطبيعي لا محالة ماضٍ في الاحتفاظ بما ينتج من الأفراد، التي تكون تراكيبها أشد التراكيب ملاءمة لمناخ الإقليم الذي تأهل به. وجاء في كثير من المقالات التي كُتبت في طبائع النباتات، أن ضروبًا قد تكون أكثر مقدرة من غيرها على تحمل مناخات خاصة، ويظهر ذلك جليًّا مما كُتب في النباتات ذوات الثمار من المقالات، التي نُشرت في الولايات المتحدة بأمريكا، حيث وضح فيها أن ضروبًا خاصة تلائم مقاطعات الشمال، وأخرى تلائم مقاطعات الجنوب، وإذا كانت أكثر هذه الضروب جديدة لا تعود في نشأتها إلى أزمان بعيدة، فلا جرم أن تبايناتها التركيبية، لا ترجع إلى العادة المكتسبة من آثار التأقلم. انظر إلى نبات الخرشوف الأورشليمي، الذي لم نستطع استنباته بالبذور في إنكلترا، ولم نتوصل إلى استحداث ضروب جديدة منه بالوسائط العلمية، ترَ أنه آخذ في سبيل الانتشار والذيوع شيئًا بعد شيء، وهو الآن أكثر انتشارًا عما كان في كل الأزمان السالفة، لتعرف من بعد ذلك أنه ليس بمستطاع أن تقف تأثيرات التأقلم. وقد استشهد كثير من المؤلفين بما رأوا في اللوبياء من الحالات المشابهة لما مر ذكره، بل استشهدوا به في حالات أبعد من ذلك شأنًا. وما كان لنا أن ندعي إثبات هذا الأمر بالتجاريب، قبل أن يزرع بعض المستنبتين هذا الصنف عشرين جيلًا متلاحقة، مبادرين في زراعته قبل أوانه، حتى إن العديد الأكبر من ثماره يقتله الصقيع، ثم يعنون بجمع البذور القليلة التي تتبقى عناية تتوفر فيها الشروط الواقية من وقوع المهاجنة فيها بأي شكل من الأشكال، ومن ثَم يكررون هذه التجربة خلال عشرين جيلًا، مستمسكين بشروط الوقاية التي حددناها، ولا سبيل إلى الفرض بأن التحولات التركيبية لم تظهر في بادرات اللوبياء، بعد ما قد جاء في مقالة نُشرت حديثًا، وثبت فيها أن بعض بذور هذا النبات تكون أشد حلاوة من بعض، وتلك حقيقة يؤيدها عندي كثير من الشواهد، التي خبرتها بما لا يترك إلى إدحاضها سبيلًا.

ومحصل القول: أن العادة، أو الاستعمال، والإغفال، قد لعب جماعها دورًا ذا شأن كبير في تهذيب الصور العضوية تكوينًا وتركيبًا، بيد أنها مع مضيها مؤثرة في الكائنات، قد عضدها الانتخاب الطبيعي جهد مستطاعه في إبراز آثارها الجُلَّى، التي نلحظها في التحولات المؤصلة في تضاعيف الغرائز العضوية

(٤) التحولات المعللة

ذلك تعبير شاكلته أن النظام العضوي ذو حلقات، بعضها متصل ببعض تمام الاتصال حال نشوئه وارتقائه، حتى إنه إذا ظهرت تحولات ضئيلة في أي طرف من أطرافه، يستجمعها الانتخاب الطبيعي على مر الأيام، فأجزاء أخرى غيرها لا بد من أن تمضي ممعنة في تحول الصفات، تلك مسألة على ما لها من الشأن فيما نحن بصدده، بعيدة عن الأذهان، ولم يوفها الكتَّاب حقها من البحث، ولا جرم أن كثيرًا من الحقائق بعضها قد يلابس بعضًا، حتى نصل في بحثها إلى الغاية المطلوبة، وسيتضح هنا، أن الوراثة الأولى غالبًا ما تزودنا من حالات التحول، بأمثال غير صحيحة قد يتشابه علينا أمرها. ومن الحقائق الثابتة أن كل تحول تركيبي يطرأ لصغار النسل أو للأجنة حال تكوينها، يُساق على الغالب إلى إحداث تحول فيها حال بلوغها، فكل أجزاء الجسم العضوي المتجانسة، تلك التي تكون في حالة التخلق الجنيني متناسقة التركيب، وتخضع بالطبيعة لمؤثرات حالات واحدة، تكون ذات استعداد للتحول على أسلوب بذاته، وعلى نمط خاص، نرى ذلك في جانبي الجسم، سواء أكان الأيمن أم الأيسر، وتحولهما على نموذج واحد، وذلك أمر نراه في أقدام الحيوانات الأمامية، أو في أقدامها الخلفية، وفي أفكاكها وأطرافها وتحولها معًا، حتى إن بعض المشرحين ليعتقدون اعتقادًا ثابتًا أن للأفكاك والأطراف صلات في التحول متناسقة، ولا ريب عندي في أن هذه الميول قد يؤثر فيها الانتخاب الطبيعي، وقد تخضع هي لتأثيره على درجات تختلف باختلافها، لذلك نرى أن فصيلة من الوعول برمتها، عرفنا آثارها في تاريخ العضويات، كانت ذات قرن جانبي واحد، ولا جرم أن وجود هذه الوعول على تلك الحال، لو كان ذا فائدة كبيرة لأنسالها في حالات حياتها، لغلب أن يكون الانتخاب الطبيعي قد لعب دورًا ذا شأن في تثبيت هذه الصفة في طبائعها.

والأجزاء المتجانسة — كما لاحظ بعض المؤلفين — تُساق إلى التلاحم والتضام، تظهر حقيقة هذه الحالة غالبًا في النباتات شاذة الخلقة، ولست أرى في الحالات الطبيعية حالة أكثر حدوثًا في النباتات من نماذج الأجزاء المتجانسة، كالتحام أوراق التويج في زهرة، وتكوينها أنبوبًا. والظاهر أن أجزاء الجسم الصلدة قد تؤثر في الأجزاء الرخوة، التي تلاصقها في التركيب العام، وإن بعض الكتاب لعلى اعتقاد، أن تغاير شكل التجويف الحوضي في الطيور يحدِث في الكلية تحولًا ذا بال، ويعتقد آخرون أن شكل التجويف الحوضي في المرأة قد يغير بالضغط، الشكل الطبيعي لرأس الطفل لدى الوضع. ويقول «شليجل»: إن نسق الجسم وتركيبه، وطريقة الازدراد في الأفاعي، تقضي حتمًا بتشكيل كثير من أحشائها ذات الشأن في بنيتها، وتحدد مواضعها.

وكثيرًا ما يستغلق علينا اكتناه دستور محكم، نسترشد بهديه في هذه البحوث، فقد لاحظ «أزيدور جفروي سانتيلير» أن بعض التشوهات الخلقية الحادثة بالطبيعة كثيرًا ما تتشارك في الوجود، وأن غيرها قد يندر تشاركها، كل ذلك ونحن غُفَّل، لا نعلم سببًا ننسب إليه وجودها على تلك الحال. وأية حال أبعد تشابكًا في حلقات صلاتها من العلاقة التامة بين بياض لون السنانير وصممها، أو بين لون درع السلحفاة وأنوثتها، أو بين الريش النابت في أرجل الحمام والجلد الكائن بين أصابعه، أو بين زيادة الزغب الذي يكون لصغار الطيور عند أول نقفها أو قلته، ولونها الذي يكون عليه إهابها عند البلوغ، ناهيك بالعلاقة بين الشعر ووجود الأسنان في الكلاب التركية الملط، ولا شك في أن هذه حالات فيها جولة واسعة لأثر التنانس. ولا مجال للظن، بأننا إذا أحللنا حالة العلاقة في المثل الأخير محلها من الاعتبار، تسنى لنا أن نقول: إن رتبة «الحيتان»١٧ رتبة «الدرداوات»١٨ «كالدُّوَيْرع»١٩ (النمال المحرشف) أو المدرع وغيرهما؛ إذ هما رتبتان من الثدييات، تخرجان بغرابة أشكالهما الخارجية عن القياس العام، كذلك هما أكثر رتب هذه القبيلة خروجًا عن الجادة الطبيعية في تركيب أسنانهما، غير أن لهذه القاعدة كثيرًا من الشواذ، يقلل من شأنها كما قال «ميفارت».
إن ما يقع من الاختلاف والتباين بين الأزهار الطرفية والأزهار المركزية في بعض أزهار الفصيلة المركبة٢٠ والفصيلة الخيمية،٢١ لأكبر مثال عرفته، لما لسُنة العلة في التحول من الشأن الأكبر، مستقلًّا عن مؤثرات النفع الذاتي للكائنات والانتخاب الطبيعي. وكلنا على تمام العلم بالفروق البينة التي تقع بين الزهيرات الشعاعية، والزهيرات القرصية، في نبات «الأقحوان» مثلًا، تلك الفروق التي غالبًا ما يستتبعها سقوط أعضاء التناسل، سقوطًا كليًّا أو جزئيًّا، كما أن بذور هذه النباتات بعضها يباين بعضًا في الشكل والتركيب الظاهر. قد تُعزى هذه الفروق في بعض الأحيان إلى ضغط القلافة على الزهيرات ذاتها، أو إلى اشتراك القلافة والزهيرات ذاتها في الضغط على البذور. وشكل البذور في الأزهار الشعاعية في بعض النباتات المركبة يؤيد هذا القول. أما في النباتات الخيمية فلا سبيل للشك، كما أخبرني دكتور «هوكر» في أن أكثر الأنواع إنتاجًا للنورات، يغلب أن تكون أزهارها، الطريقة منها والمركزية، أشد الأزهار إمعانًا في مباينة بعضها بعضًا، والغالب أن يكون قد سبق إلى حدس بعض الباحثين، أن امتصاص أوراق التويج الطرفية كمية كبيرة من الغذاء من أعضاء التناسل، كان سبب خروجها بالنماء عن القياس العام، غير أنه من البعيد أن يكون ذلك السبب المفرد في شذوذها؛ إذ نرى أن البذور في الأزهار الطرفية في بعض النباتات المركبة تباين بذور الأزهار القرصية، من غير أن يطرأ تحول على التويج ذاته. والغالب أن تكون هذه الفروق العديدة عائدة إلى أن الأزهار القرصية بذرة بعينها، والأزهار المفردة في نبات بذاته، تنفرد بأكثر الغذاء، الذي تستمده الأفرع التي تعلق هذه الأزهار بها، وإنا لنعرف أن الأزهار التي لا تخضع في الظهور لقاعدة أو ناموس معين، غالبًا ما تشذ عن مألوف القياس شذوذًا مناسبًا، ولأزد على ما تقدم مثالًا أظهر به تلك الحقيقة، وأبين حالة يمكن تعليلها، فقد ترى في كثير من نباتات الفصيلة الجرانية٢٢ (إبرة الراعي) أن البتلتين العلويتين في الأزهار المركزية من النورة الرئيسية، لا تكون فيها تلك النقط الضاربة إلى السواد، التي تمتاز بها هذه الأزهار. وعند حدوث ذلك تنضمر الغدة الرحيقية — أي التي يكون فيها عصر الزهرة — مباشرة، وإذ ذلك تصبح الأزهار المركزية إما كثيرة الشذوذ، وإما شديدة التناسق، فإذا فقدت إحدى البتلتين العلويتين لونها الخاص، فلا تمعن الغدة الرحيقية في الشذوذ والخروج عن القياس، بل تضحى قصيرة جهد القصر لا غير.
أما إذا رجعنا إلى التويج، فإن ما قال به «سبرنجيل» من أن موضع الزهيرات الشعاعية صالح لجذب الحشرات إليها، فأمر قد يصح ترجيحه، ولا خفاء في أن ارتياد الحشرات للزهر ضروري لإلقاحها. وهنا يبتدئ تأثير الانتخاب الطبيعي، أما إذا نظرنا إلى البذور فقد يلوح لنا أن اختلاف أشكاله الظاهرة، الذي لا نستطيع أن نعزوه إلى تغاير التويج، قد لا يمكن أن يكون مفيدًا للنبات في حياته، غير أننا نرى في نباتات الفصيلة الخيمية أن هذه الفروق ذات فائدة محسوسة، نلحظها في أن البذور في الأزهار الطرفية يكون مستقيمًا،٢٣ وفي الأزهار المركزية يكون منحنيًا،٢٤ حتى إن «دي كاندول» الكبير، قد اتخذ هذه الفروق قاعدة اتبعها في تقسيم هذه المرتبة من النبات، من هنا نرى، أن التحولات الوصفية في التركيب التي يحلها التصنيفيون في المحل الأول من الشأن والاعتبار، قد تحدث بالتحول الطبيعي بالعلاقة بالنمو، من غير أن تكون، على ما يظهر لنا منها، ذات فائدة ما للأنواع في حياتها.
وقد نعزو إلى تأثير هذه العلاقة خطأ، حدوث تراكيب آلية، نلحظها عامة في أنواع فصيلة ما، وما سببها في الحقيقة إلا الوراثة، فإن أصلًا أوليًّا، جائز أن يكون قد كسب بالانتخاب الطبيعي تحولًا تركيبيًّا مفروضًا في زمان ما، ثم كسب بعد مضي آلاف من الأجيال تحولًا غيره، فانتقال هذين التحولين إلى أنسال ذلك الأصل الأولى المتنافرة عاداتها، قد يعزى في مثل هذه الحال إلى علاقة بالنمو، على أن بعض التحولات، قد تكون راجعة إلى السبيل التي يسلكها الانتخاب الطبيعي، مؤثرًا في طبيعة كائن ما، فإن «ألفونس دي كاندول» قد لاحظ أن البذور المجنحة التي يحملها النسيم، لا توجد في ثمار تتفتح عند النضج، فإذا أردنا أن نكشف عن مغمضات هذه المسألة، علمنا أنَّ هذه البذور لا يمكن أن تكون قد بدأت بالتدرج في كسب صفاتها هذه بالانتخاب الطبيعي، ما لم تكن العلبة٢٥ كست من قبل صفة التفتح عند نضوج البذر فيها، إذ إن البذور التي تكون أكثر ملاءمة لانتثار الريح إياها في تلك الحال، على غيرها مما لا يكون مهيأ للانتثار الواسع.

(٥) التعويض والاقتصاد في النمو

أذاع جفروي سانتيلير الكبير، وجوته كلاهما في وقت واحد، سُنة توازن النمو والاقتصاد فيه، أو كما فسرها «جوته»؛ إذ قال: «إن الطبيعة إذ تُسرف في الضياع والاستهلاك من جهة، تُساق إلى الإمعان في الاقتصاد من جهة أخرى.» ولا شك عندي في أن هذه السُّنة تنطبق بعض الانطباق على حالات نشاهدها في مختلف المحصولات الأهلية، فإن كمية الغذاء إذا فاضت على جزء من أجزاء الجسم أو عضو منه، يندر على الأقل أن تكون نسبة فيضها على جزء آخر كنسبة فيضها على الأول، كذلك يندر أن تجد بقرة يكثر درها، ويشحم جسمها في وقت معًا، وقلَّ أن تنتج ضروب الكرنب المعروفة ورقًا كثيرًا وافر المادة، وكمية كبيرة من البذور التي يُستخرج منها الزيت، في وقت واحد، ونلاحظ دائمًا في صنوف الفواكه أن مادتها لا تجود وتكبر، إلا حيث تضمر البذور، ونشاهد في الدجاج أن كبر خصلة الريش التي تكون في أعلى الرأس، يصحبها عادة صغر العُرف، كما أن عِظم اللحية يصحبه صغر العلوج، ذلك ما نلاحظه في الضروب الأهلية. أما الأنواع في حالتها الطبيعية المطلقة، فليس من الهين أن نسلم بأن هذه السُّنة قد تصدق عليها صدقًا تامًّا، لولا أن فئة كبيرة من جهابذة العلماء وأهل النظر، ولا سيما من المشتغلين بعلم النبات، لا يداخلهم ريب في صحة هذه السُّنة، وخضوع الكائنات العضوية لآثارها، ولست بمورد من الأمثال ما يؤيد صحة هذه السُّنة أو ينفيها، ذلك لقصوري عن إدراك دستور محكم، يصح به التفريق بين تأثيرات الانتخاب الطبيعي، والإغفال في نمو بعض الأعضاء، وضمور بعض أعضاء أخرى ذات صلة بها من جهة، وبين فيض كمية الغذاء على بعض أعضاء، فيزيد نماؤها، وامتناعه عن أعضاء أخرى ذات صلة بها، فتفضي إلى ضمورها من جهة أخرى.

على أن بعض تلك الحالات التي ذكرناها هنا، مصداقًا لسُّنة التوازن والاقتصاد الطبيعي، قد نستطيع أن نردها إلى سُنة أبلغ تأثيرًا، وأقرب لمتناول البحث، ذلك أن الانتخاب الطبيعي لا ينفك جادًّا في تنظيم كل جزء من أجزاء التركيب العضوية أجزاء التركيب العضوية، فإن تركيبًا ما إذ يصبح أقل فائدة للعضويات، بتأثير تغاير الظروف التي تحوط الكائنات، يكون إمعانه في الضمور إذ ذاك أمرًا يجد في أثره الانتخاب الطبيعي لفائدة الكائن ذاته، حتى إن كمية الغذاء التي يجب أن يحصل عليها قد تُستهلك لبناء تركيب لا فائدة فيه. هنا أستطيع أن أفقه حقيقة، طالما أخذت بحججها لدى بحثي الحيوانات السلكية الأرجل (السلكيات)، وفي مقدوري أن أزكيها بكثير من الأمثال الصحيحة، هنالك رأيت حيوانًا من السلكية الأرجل يعيش متطفلًا على غيره من جنسه؛ ليحميه غائلة الهلاك والدمار، يُفقد شيئًا فشيئًا، وعلى قدر ما يكون من تأثير تلك الحال فيه، صدفته التي يحتمي بها تلك حال ذكر «اليَبَل»،٢٦ وهي أشد ظهورًا في «البرْتَليب»؛٢٧ لأن هذه الصدفة في كل أنواع السلكية الأرجل الأخرى، تتكون من ثلاث فلقات أو قطع في مقدم الرأس، تمعن في النماء والكبر، وتكون مجهزة بتركيب عصبي وعضلات للحركة، لما لتلك الأجزاء من الشأن الأول في حياتها، أما الأنواع الطفيلية منها — ولا سيما في «البرتليب»، التي تحتمي بغيرها مما تعلق به — فمقدم الرأس بأجمعه ينضمر جد الانضمار، حتى ليصبح كأنه مجرد عضو أثري، متصل بمؤخر الزياني في الحشرات؛ لذلك جاز أن يكون الاحتفاظ بالتراكيب الرئيسة ذوات الشأن وعدم الإسراف في ضياعها، حتى بعد أن تصبح من التراكيب الثانوية، فائدة كبيرة لكل فرد من الأفراد المتتابعة في الوجود الزماني مما ينتجه نوع معين؛ إذ تكون في التناحر للبقاء، تلك المعركة الكبرى، التي يُساق إلى خوضها كل كائن حي، أكبر حظًّا من غيرها في الاحتفاظ بكيانها، من غير أن تُساق إلى استهلاك كمية كبيرة من غذائها الحيوي، الذي تحصل عليه.

ولما تقدم، يُساق الانتخاب الطبيعي في سلسلة تأثيراته المتتابعة، وعلى مر الأزمان المتلاحقة، إلى استنفاد أي جزء من أجزاء النظم العضوية؛ إذ يصبح تحول العادات غير ذي فائدة رئيسة لحياة الكائنات، من غير أن تلزمه الحاجة إلى تنمية جزء آخر بدرجة تُوازن ضمور الجزء الأول. وعلى العكس من ذلك قد يفلح الانتخاب الطبيعي في تنمية أي عضو من الأعضاء، من غير أن يحتاج إلى استنفاد عضو آخر ذي اتصال هبه لضرورة الموازنة بينهما.

(٦) التراكيب العضوية المضاعفة الأثرية و«التراكيب الدنيا في النظام الحي، كلها تتباين»

لاحظ «جفروي سانتيلير» أنه حيثما يتكرر وجود تركيب واحد في فرد معين من الأفراد، مثل الفقارة في الأفاعي، والسداة في النباتات، التي تتعدد فيها الأسدية،٢٨ أن عدد هذه التراكيب متحولة في غالب الأمر، سواء أحدث ذلك في الضروب أم الأنواع، وأن الأعضاء المتكررة تكون ثابتة في العشائر، التي تكون أقل من الضروب والأنواع عددًا في مراتب النظام، ولقد أظهر ذلك المؤلف، كما أظهر غيره من العلماء أن الأعضاء المتكررة شديدة الخضوع لنظام التحول التركيبي.

وإذ كان تكرر الأعضاء في النباتات، أو «التكرار النباتي» كما يقول الأستاذ «أوين»، علامة، من علاقات الانحطاط في مراتب النظام، فإن ما سبق القول فيه ليصدق على ما يعتقد به الطبيعيون، من أن الكائنات المتضِعَة المرتبة، أكثر تغايرًا مما يعلوها في مراتب العضويات، والظن الغالب أن المقصود بالاتضاع هنا، أن الأعضاء العديدة التي يتركب منها النظام العضوي، لا تكون على حال من الرقي والاختصاص تستطيع معه القيام ببعض وظائف معينة. وما دام العضو الواحد ذا خِصِّية يتيسر له بها أن يقوم بوظائف مختلفة، استطعنا على ما أظن، أن ندرك لماذا يبقى ذلك العضو قابلًا للتحول؟ أي لماذا لم يحتفظ الانتخاب الطبيعي بانحراف من الانحرافات، التي تطرأ عليه، أو يستنفد غيرها على نمط من الدقة، تراه جليًّا في الأعضاء، التي اختُصت بوظائف معينة؟ مثل ذلك كمثل آلة قاطعة، أُعدَّت لقطع كل شيء من غير تخصيص، فتكون غير معينة الشكل والتركيب، وآلة غيرها أُعدت لعمل معين تكون ذات شكل خاص، وذلك يؤيد أن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر في الكائنات الحية إلا من طريق فائدتها المطلقة.

والأعضاء الأثرية، كما يعتقد كل الباحثين، قد تمضي ممعنة في قبول التحول، ولسوف نعود إلى بحث هذه المسألة بعد، غير أنه لا يجدر بي أن أتم الكلام هنا قبل أن أذكر أن قابلية الأعضاء الأثرية للتحول، راجعة — على ما يظهر — إلى عدم فائدتها المطلقة للعضويات، وإلى الانتخاب الطبيعي، حيث يعجز عن أن يقف سير الطبيعة في استحداث الانحرافات التركيبية فيها.

(٧) الأعضاء التي تظهر نامية نماء غير مألوف، أو بنسبة غير متباينة في نوع ما، مقيسة فيه بما في غيره من الأنواع القريبة منه، يكون استعدادها لقبول التغاير كبيرًا

لقد لاحظ «مستر ووترهوس» منذ عدة أعوام خلت، ملاحظة في هذا المقصد طالما أخذتُ بحججها، والغالب أن يكون الأستاذ «أوين» قد بلغ في بحوثه إلى نتيجة تقاربها، ولا سبيل إلى إقناع أحد بصحة هذه النظرية، وانطباقها على الواقع، من غير أن نأتي على ذكر مختلف الحقائق، التي استجمعتها في خلال بحوثي في هذا الباب استطرادًا، تلك الحقائق التي لم أرَ وجهًا لذكرها في مجال هذا البحث، ومعتقدي أن هذه السُّنة ثابتة الأركان، كثيرة الانطباق على حالات عديدة نلحظها في النظم العضوية، ولطالما حذرتُ أسباب الخطأ، وتنكبت سبيلها، وآمل ألا أكون قد أفسحت لبعضها مجال التغلغل في طيات بحثي. ولا يغيب عن أذهاننا أن هذه السُّنة يخضع لها كل عضو من أعضاء الكائنات الحية، مهما بلغ درجة غير مألوفة من النماء، ومهما قلَّت منفعته للأحياء، ومهما كان نماؤه في نوع ما، أو عدة أنواع كبيرًا، لدى قياسه بذات العضو في أنواع أخرى، تمتُّ إليه بحبل النسب القريب، فإن جناح الخفاش تركيب من التراكيب غير القياسية في طبقات ذوات الثدي، ولا جرم، أن هذه السُّنة لا تصدق على الخفافيش؛ لأن فصائل الخفَّاشيات برمتها ذوات أجنحة تعدها للتحليق، وإنما تصدق، لو كان لبعض أنواعها أجنحة قد خرجت بكبرها عن القياس العام، مقيسة ببقية الأنواع التابعة لجنس معين، ولقد تصدق هذه السُّنة على «الصفات الجنسية الثانوية» صدقًا تامًّا، لو ذاعت تلك الأوصاف في صور ما إلى حد غير عادي.

وهذا الاصطلاح — اصطلاح «الصفات الثانوية» — الذي صرفه «هنتر» على هذه الحالات، يختص بالصفات التي تكون لأحد الزوجين — الذكر والأنثى — وليس لها اتصال مباشر بالتناسل، وهذه السُّنة كثيرة الانطباق على حالات الذكور والإناث معًا، ولكنها أكثر حدوثًا في الذكور منها في الإناث؛ ذلك لأن الإناث قلما يكون لها من «الصفات الجنسية الثانوية» شيء ذو شأن، وقد نرُّد انطباق ذلك الناموس على حالات «الصفات الجنسية الثانوية» إلى كثرة ما تقبل هذه الصفات من ضروب التحول، سواء أكان ذيوعها في الصورة العضوية كثيرًا أم قليلًا، وتلك حقيقة قلما تخالجنا فيها الريب، على أن المئات في الحيوانات السلكية الأرجل (السلكيات)، طالما تحدو بنا إلى الاعتقاد، بأن هذه مقصورة التأثير على الصفات الثانوية.

ولقد أطلت البحث فيما كتبه «ووترهوس» في هذه الرتبة من الحشرات، فأيقنت بأن هذا الناموس عام التأثير، جلي الأثر، في غالب حالاتها، ولسوف آتي على ذكر الحالات التي شاهدتها في كتاب آخر، ولست بمورد هنا غير مثال واحد، يؤيد صحة هذه السُّنة في أدق حالاتها؛ فلقد لاحظت في «اللارأسيات»٢٩ من السلكية الأرجل، أن الصمامات ذوات الغطاء الصدفي، كما في حلزون الصخور،٣٠ من أكبر التراكيب شأنًا في حياة هذه الحيوانات، فهي لا تتحول تحولًا ذا شأن يُذكر، حتى في الأجناس المتميزة، غير أننا نرى في أنواع عديدة من جنس «الفرغوم»،٣١ أن هذه الصمامات خاضعة لتحولات وصفية شتى خاصة بكل نوع من الأنواع، حتى لقد نجد أن هذه الصمامات المتناظرة في أنواع متعددة، متنافرة الشكل جد التنافر، ونلحظ أن كمية التحول في أفراد كل نوع كبيرة، حتى إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن ضروب النوع الواحد بعضها يباين بعضًا في صفاتٍ، منشؤها هذه الأعضاء ذوات الأثر الأول في حياتها العامة، أكثر مما تتباين الأنواع التابعة لأجناس صحيحة أخرى.

كذلك الحال في الطيور، فإن أفراد النوع الواحد إذ تقطن الإقليم نفسه يكون تحولها ضئيلًا، كما لاحظت ذلك بصفة خاصة، وإن هذه القاعدة لَتَصدق على هذه الطائفة من الحيوان، وما كنت لأعتقد بتأثيرها في النبات، مع أن عدم صدقها على حالات النبات قد يزعزع اعتقادي في صحتها، لولا أن قابلية النباتات لقبول مختلف حالات التحول، جعلت مقارنة درجات تغايرها المتشابكة، بعضها مقيس ببعضه، من أكبر الصعاب.

فإذا رأينا جزءًا أو عضوًا من نوع ما، قد بلغ من النماء حدًّا بعيدًا، وثقنا بأنه من الأجزاء ذوات الشأن في حياة هذا النوع، ورغم ذلك نجد أن هذه الأعضاء في حالاتها تلك شديدة الخضوع لآثار التحول، فما السبب في ذلك؟ لا جرم، أننا إذا اعتقدنا بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا بذاته بين فترات الزمان، كامل الأعضاء والأوصاف، لما وصلنا إلى معرفة سبب ذلك بحال ما.

أما إذا تابعنا البحث، مقتنعين بأن عشائر الأنواع ليست إلا سلسلة مشتقة حلقاتها من أنواع أخرى، وأن ما طرأ على أوصافها من التحول لم يحدث إلا باستجماع التحولات العرضية بتأثير الانتخاب الطبيعي، فالغالب أن تنقشع عن أبصارنا بعض الريَب التي تغشاها، وإليك بعض الأمثال.

فإننا لو فرضنا أن الانتخاب الطبيعي قد أنكر التحول على جزء من أجزاء حيواناتنا الأهلية، فإن هذا الجزء، أو ذلك النسل الذي تطرأ عليه هذه الحال، قد يصبح غير ذي صفات متجانسة، ويرجح لدينا حين ذاك، أن النسل آخذ في سبيل التدهور والانحطاط، كذلك الحال في الأعضاء الأثرية، والأعضاء التي لم تختص بأداء وظيفة من الوظائف المعينة، إلا قليلًا، بل في العشائر ذوات الصور الواحدة، أو الموحدة الصورة، قد نلحظ مثالًا آخر لا يقل عما سبق شأنًا؛ ذلك لأن الانتخاب الطبيعي لم يتسع له مجال العمل، ولم يبلغ من التأثير مبلغه النهائي، فظل النظام على حال من التخلخل والتقلب نشاهدها جلية الآثار، على أن ما تدور من حوله نقطة البحث في موضوعنا هذا، أن تلك الأجزاء التي نلحظها في حيواناتنا الأهلية ممعنة في التحول والاختلاف من طريق الانتخاب، تكون كذلك شديدة الخضوع لقبول التحول الوصفي حال إمعانها في هذا السبيل، انظر إلى أفراد نسل معين من أنسال الحمام، ترَ مقدار التحول الكبير في مناسر القلب ومناسر الزاجل وعساليجه، وفي أقدام الهزاز وذيله، إلى غير ذلك. تلك من مواضع التحول التي لاحظها مربو الحمام في بلادنا في هذه الأنسال. ولقد أمعنت النظر في هذه السبيل، حتى إنه ليصعب في القلب القصير الوجه، وهو نسل تابع للأول، أن ينتج طيورًا حائزة لأجمل الأوصاف الأصلية لهذا النسل، كما أن أغلب صوره المعروفة تباين صفاتها الطابع الأصلي الذي كان معروفًا به.

والظاهر أن هناك تنازعًا مستمرًّا، قائمًا بين الجنوح إلى الرجعى إلى حال من التحول ليست بذات كمال ثابت في صور العضويات، مشفوعًا بالنزعة إلى قبول التحولات الطارئة من جهة، وبين تأثير الانتخاب الهادئ في سبيل الاحتفاظ بطابع الأنسال الأصلي من جهة أخرى، ومهما يكن لهذا التنازع من الأثر، فالانتخاب الطبيعي لا محالة بالغ على مدى الأزمان النتائج النهائية، التي تؤدي إليها نواميسه العديدة.

ولا جرم، أننا لا نتوقع أن نحقق إخفاقًا تامًّا في استحداث طير، بلغ من الخشونة مبلغ الحمام القلب، من طائر قصير الوجه يشبهه، وما دام الانتخاب الطبيعي جادًّا في استحداث آثاره، فلا بد من أن نتوقع حدوث كثير من النزعة إلى قبول مختلف حالات التباين في الأجزاء الممعنة في تحول الصفات.

ولنرجع إلى الطبيعة، فإننا إذ نرى جزءًا من التراكيب الطبيعية الخاصة بنوع من الأنواع، قد أمعن في النماء حتى بلغ منه مبلغًا أخرجه عن القياس العام، إذا وزنا مقدار نمائه في هذا النوع بمقدار نمائه في نوع آخر من الجنس عينه، لا نشك في أن هذا الجزء لا بد أن يكون قد خضع لتحول وصفي كبير منذ ذلك الزمان، الذي انشعبت فيه أنواع ذلك الجنس من منشئها الأصلي، والنادر أن يرجع هذا الزمان إلى عهد موغل في القدم منذ الأعصر الأولى؛ لأن الأنواع قلما تبقى حافظة لصفاتها الأصلية زمانًا أطول من عصر جيولوجي بذاته، وتحول الصفات غير القياسي، لا بد من أن تنتجه قابلية تحول كبيرة، استُحدثت على مر دهور متطاولة، استجمع آثارها الانتخاب الطبيعي لفائدة النوع الذي تقع له. غير أننا إذ نرى أن قابلية التحول في الأجزاء أو الأعضاء، التي تخرج بنمائها عن القياس كبيرة، أو نجد أنها استمرت مؤثرة في العضويات زمانًا غير قليل، فيغلب أن يرجح لدينا، أن قابلية التحول في هذه الأجزاء لا بد من أن تمعن في سبيل التأثير فيه لأكثر من تأثيرها في أجزاء النظام، التي ظلت على حال نسبية من الثبات أزمانًا أطول مما استغرقته الأولى ممعنة في التحول، تلك هي سُنة التحول في معتقدي.

فإن التنازع الذي يقوم بين مؤثرات الانتخاب من جهة، وبين سُنن الرجعى وقابلية التحول من جهة أخرى، لا محالة آتٍ إلى نهاية معلومة يقف عندها، ولا شك عندي في أن أبعد الأعضاء إمعانًا في الخروج بنمائها عن القياس العام، يرجح أن تصبح ثابتة في صفات الأنواع ثبوتًا نسبيًّا، ومن هنا يتعين أن عضوًا من الأعضاء مهما كان خروجه عن الجادة العامة كبيرًا، فلا بد من أن ينتقل إلى كثير من الأنسال المهذبة الصفات على مر الدهور، كما هي الحال في جناح الخفاش، فيثبت في صفات العضويات عصورًا طويلة على حال واحدة، وعندما يصبح تحوله، أو قابليته للتحول ذا نسبة قياسية لما لبقية التراكيب، فلا يفوتها إمعانًا في هذه السبيل، وفي هذه الحالات دون سواها، تلك هي حالات خروج التهذيب الوصفي بالنماء عن القياس، وحدوثه في أزمان نعدها قريبة العهد بالقياس على الأعصر الجيولوجية الأولى، نجد أن «قابلية التحول التكويني» لا تزال جلية الآثار في صفات العضويات، ذلك إلى أنه في هذه الحالات وأمثالها، قلما تكون قد بلغت حدًّا ثابتًا من التباين والانحراف بتأثير الانتخاب في الاحتفاظ بالأفراد الممعنة في سبيل التحول على النمط المفيد لها في الحياة، وإفناء الأفراد التي تنزع إلى الرُّجعَى، إلى حالات من التحول، أقل كفاءة لما يحوطها في الطبيعة.

(٨) الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية

الصفات النوعية، والصفات الجنسية، موضوع كبير الصلة بسُنن التحول، والرأي السائد أن الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية، ولنورد مثالًا نعبر به عما نقصد إليه من البحث، فإننا إذ نجد في جنس كبير من النباتات أن بعض أنواعه زُرق الأزهار، والبعض الآخر تكون أزهاره حمراء، نُلحِق تحول اللون في الشطرين بالصفات النوعية، ولا جرم أن تحول الأزهار الزُّرق، إلى حُمرٍ أو بالعكس، لا يصح أن يكون سببًا لحيرة الباحثين، ولكن إذا كانت الأنواع كلها زُرقَ الأزهار، فاللون إذ ذاك يصح أن يعتبر من الصفات الجنسية الخاصة، ويكون تحول الأزهار حدثًا غير عادي. وما كان اختياري هذا المثال إلا لضرورة ألجأتني إليه؛ لأن الأمثال التي يضعها أكثر الطبيعيين لتلك الظاهرة، لا تصدق هنا، صدقًا تامًّا، فهم يقولون: إن السبب في أن تحول الصفات النوعية أكثر وقوعًا من تحول من الصفات الجنسية، مقصور على أن ما يضعه الباحثون حدًّا للصفات الجنسية، مأخوذ من أجزاء من التراكيب العضوية أقل شأنًا مما يجب أن يُعزى في الحقيقة لصفات الأجناس، وهذا، إذا لم يصح من كل ناحية، فهو — فيما أرى — صحيح على بعض الاعتبارات، ولسوف أعود إلى الكلام في هذا المقصد، فيما سأكتبه في تصنيف العضويات. ولست أرى من حاجة تدعو إلى الاستفاضة في شرح كثير من الأمثال؛ لأؤيد نظرية أن الصفات النوعية أكثر تغايرًا من الصفات الجنسية، غير أن للصفات الثابتة ذات الأثر الأول في حياة العضويات لشأنًا غير هذا الشأن، ولطالما لاحظت في كتب التاريخ الطبيعي، أن كثيرًا من المؤلفين قد تأخذهم الروعة إذ يجدون أن عضوًا، أو تركيبًا في النظام العضوي يشاهدونه ثابت الأثر في طبائع مجموع كبير من الأنواع، قد أمعن في سبيل التحول في الأنواع المتقاربة الأنساب، وأن هذا العضو أو ذلك التركيب، قد يغلب أن يكون متحولًا في أفراد النوع الواحد.

تلك حقيقة، تبين لنا أن صفة من الصفات معتبرة من الصفات الجنسية على إطلاق القول، إذا ارتدت في أدوار التطور إلى رتبة الصفات النوعية، فيغلب أن تصبح متحولة، قابلة للمباينة والتشكل، وإن احتفظت بمركزها الأصلي من ناحية ما تؤديه من الوظائف العامة في حياة الأنواع، وقد يقع شيء من ذلك التحول لشواذ الخلق، فإن «جفروي سانتيلير» لا يداخله كبير شك في أنه كلما كان اختلاف عضو من الأعضاء في أنواع متفرقة من العشيرة نفسها قياسيًّا، رأيناه في الأفراد أكثر تعرضًا للانحراف والشذوذ.

فإذا مضينا في البحث، مقتنعين بصحة الاعتقاد السائد بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا عن غيره، لما استطعنا أن نفقه لمَ يكون هذا الجزء من التركيب العام أو ذاك — على مغايرته لذات الجزء في الأنواع الأخرى المستقلة التابعة لجنس معين — أكثر قبولًا للتغاير والانحراف من الأجزاء المتقاربة التكوين في أنواع متعددة؟ أما إذا تابعنا البحث، على اعتقاد أن الأنواع ليست سوى ضروب، ذوات صفات أثبت من صفات غيرها من صور العضويات، فهنالك نجد أن تلك الأجزاء لا تزال آخذة في تحول تراكيبها المستحدثة في خلال أعصر قريبة العهد، مقيسة بالأعصر الجيولوجية الأولى، فتدرجت من هذه السبيل إلى الإمعان في قبول التحول.

ولنمضِ في شرح هذا المثال على شكل آخر، يزيدنا بتلك الحالات علمًا، فإن الأجزاء التركيبية التي تتشابه في أنواع الجنس الواحد، ونعتبرها موضع المباينة بين هذه الأنواع، وبين الأجناس المتقاربة الأنساب، ندعوها «الصفات الجنسية» عادة، والراجح أن هذه الصفات تتوارثها الأعقاب، منتقلة إليها من أصل أوَّلي لها؛ لأنه يندر أن يحول الانتخاب الطبيعي من صفات أنواع عديدة معينة، تتباين عاداتها بدرجة ضئيلة أو كبيرة، على نمط واحد.

وتلك الصفات التي ندعوها «الصفات الجنسية»، إذ يغلب أن تكون قد ورثت خلال عصر أبعد عهدًا من الزمان الذي انشعبت فيه الأنواع العديدة من أصلها الأول، وإذ نجد أن التحول لم ينل منها بأثر، أو لم تتهيأ لها أسباب التحول من بعد ذلك، أو بنزر يسير من التحول على الأكثر، رجح عندنا القول، بأنها لا تقبل التحول في الزمان الحاضر. هذا في الصفات الجنسية، وأما الصفات النوعية، فتلك الأجزاء التي تتباين في أنواع تُلحَق بجنس بعينه، ولما كانت هذه الصفات قد ظلت متحولة متباينة منذ انشعبت تلك الأنواع من أصلها الأول، فيغلب علينا الاعتقاد ترجيحًا، بأنها قابلة لأن تمضي متحولة إلى حدٍّ ما، وقد يكون تحولها على الأقل، أبين أثرًا من تحول تلك الأجزاء التركيبية، التي بقيت ثابتة على حالة واحدة، فترات متطاولة من الزمان.

(٩) الصفات الجنسية (التناسلية) الثانوية تقبل التحول

يغلب على ظني، أن الطبيعيين لا يجدون صعوبة ما في القول بأن الصفات الجنسية (التناسلية) الثانوية تقبل التحول، من غير أن تعوزني الحاجة إلى سرد كثير من مختلف الحقائق لإثبات ذلك، كما أنهم لا ينكرون أن الأنواع التابعة لفصيلة بذاتها، بعضها يباين بعضه في صفاتها الثانوية، أكثر من تباينها في بقية أجزاء نظامها العضوي، قارن مثلًا كمية التحول الذي يقع لذكور فصيلة الدجاجيات،٣٢ تلك الفصيلة التي تتصف بكثير من الصفات الجنسية الثانوية، بما يقع من التحول لإناثها. على أننا وإن كنا لا نستطيع أن نكشف عن السبب الجوهري الذي يُحدِث التحول في تلك الصفات، فإن في مستطاعنا أن نعرف لماذا لم تبقَ تلك الصفات ثابتة متجانسة، شأن الصفات الأخرى، فإن هذه الصفات مستجمعة بالانتخاب الجنسي، ذلك الانتخاب الذي لا يبلغ من القدرة في التأثير مبلغ الانتخاب الطبيعي؛ إذ إنه لا يعمل على إفناء الصور المستضعفة من الوجود كلية، بل إن نتائجه مقصورة على الإقلال من نسل الذكور، التي قلَّ من السيادة حظها، وسواء أعرفنا السبب المنتج لقابلية التحول في الصفات الجنسية الثانوية، أم لم نعرفه، فإن بلوغها من الاستعداد لقبول التحول الحد الأقصى، لدليل على أن الانتخاب الجنسي لا بد من أن يكون قد اتسع له مجال التأثير، والغالب أن يكون قد هيأ أنواعًا معينة؛ لقبول كمية من التحول في هذه الصفات، أزيد مما يجب أن يكون لها في بقية الاعتبارات.
ومن الحقائق الثابتة أن التباينات الجنسية التي تكون في كلا الجنسين — الذكر والأنثى — في النوع الواحد، لا تظهر إلا حيثما توجد الأعضاء، التي تغاير فيها بعض أنواع الجنس الواحد بعضًا. ولأورد هنا مثالين، هما أول قائمة الأمثال التي لحظتها عند أول عهدي ببحث هذه الحالات، وإذ يرى الباحث الخبير أن التحولات التي تقع في هذين المثالين، خارجة عن قياس التحولات الطبيعية، يثبت لديه ثبوتًا قاطعًا أنهما غير صادرين عن مصادفة ما. إن المفاصل التي تكون بين أرساغ كثير من صنوف الخنافس والجعلان، صفة عامة شائعة في كثير من صور تلك الحيوانات، غير أنا نراها في «الأنجيديات»،٣٣ كما لاحظ «مستر وستورد» تختلف في العدد اختلافًا بينًا، كما أنها تتباين جهد التباين في كلٍّ من الجنسين — الذكور والإناث — ونرى في الحشرات الحافرة٣٤ من الغشائية الأجنحة أن توزيع الأعصاب في أجنحتها صفة من أكبر الصفات شأنًا في تكوينها، لشيوعها في كثير من العشائر الكبيرة، ورغم ذلك نجد أن توزيع هذه الأعصاب يختلف اختلافًا مبيَّنًا في الأنواع المتفرقة التابعة لجنس معين. ولقد انتزع «السير جون لوبوك» في العهد الأخير أمثالًا عديدة من حالات الحيوانات القشرية الصغيرة، تؤيد هذه السُّنة، قال: نرى في «البنطيل»٣٥ أن الصفات الجنسية الثانوية أكثر ما تكون ظهورًا في مقدم الزَّبائي (قرون الاستشعار)، وفي الزوج الخامس من أرجلها، وأن التحولات النوعية كذلك أكثر ما تكون حدوثًا في تلك الأعضاء. وهذه العلاقة لها معنى واضح بمقتضى مذهبي، من أن الأنواع جماعها متسلسل في درجات التحول من أصل أوَّلي معين، ويستتبع ذلك تسلسل الزوجين — الذكر والأنثى — في كل نوع من الأنواع، فيترتب على ذلك أن كل جزء، أو تركيب من التراكيب العديدة التي تكون لأصل أوَّلي مفروض، أو لأنساله القريبة منه في الترتيب الزماني، إذا أصبح قابلًا للتحول يومًا ما، فالغالب على الذهن ترجيحًا، أن التحولات التي تطرأ على هذا التركيب، لا بد من أن تكون قد هيأت للانتخاب الطبيعي، والانتخاب الجنسي؛ ليعمل كلاهما على إعداد الأنواع لحفظ مراكزها، التي تشغلها في النظام الطبيعي العام، وإعداد الأزواج في الأنواع المعينة ذكورًا وإناثًا؛ ليكافئ بعضها بعضًا، أو إعداد الذكور لخوض معركة التناحر على البقاء، متفوقة لاستخلاص الإناث إزاء غيرها من الذكور.

وأخيرًا، فإن التحولات النوعية التي تفرِّق بين نوع ونوع، وخضوعها الكبير لقبول مختلف حالات التباين أكثر من خضوع التحولات الجنسية التي تفرِّق بين جنس وجنس، أو التي تكون شائعة في أنواع الجنس الواحد — وكثرة ما يُرى من حالات الخروج بالنماء عن القياس العام في أي عضو من الأعضاء، التي تزيد نماء في أي نوع من الأنواع بصفة غير عادية، مقيسة بنظائرها في أنواع أجناس أخرى — ثم ضآلة مختلف التحولات، التي تطرأ على جزء من الأجزاء، التي تبلغ بنمائها حدًّا كبيرًا؛ إذ تذيع في جموع الأنواع المختلفة — مضافًا إلى ذلك إمعان الصفات الثانوية في قبول التحول، واختلاف هذه الصفات في أنواع تتقارب أنسابها — مقرونًا بما تقدم من القول، في أن الصفات الجنسية والتحولات النوعية لا تذيع إلا في أجزاء واحدة من النظام العضوي — جماع هذه الحالات تتلازم صلاتها جد التلازم.

ولا جرم، أن ذلك راجع إلى أسباب طبيعة، نعددها هنا، إتمامًا لفائدة البحث:
  • أولًا: أن الأنواع التابعة لعشيرة معينة من العشائر إذا كانت متسلسلة من أصل أوَّلي مفروض، فلا بد من أن ترث عنه كثيرًا من الصفات الشائعة فيه.
  • ثانيًا: أن الأجزاء التي طرأ عليها التحول منذ أزمان حديثة، بالقياس إلى الأزمان الجيولوجية الأولى، تكون أكثرها قبولًا لضروب التحول من غيرها من الأجزاء التي ورثت منذ أزمان موغلة في القدم، ولم يطرأ عليها تحوُّل ما.
  • ثالثًا: أن الانتخاب الطبيعي وتأثيره على مر القرون الأولى قد نجح نجاحًا تامًّا في حالات، ونسبيًّا في حالات أخرى، في الإجهاز على النزعة إلى الرجعى إلى صفات الأصول الموغلة في القدم، والسيطرة على ما يطرأ على العضويات من التحول في المستقبل.
  • رابعًا: أن الانتخاب الجنسي كان أقل قوة في إفناء الصور المستضعفة من الانتخاب الطبيعي.
  • خامسًا: أن التحولات التي تطرأ على الأجزاء الواحدة، قد استجمعها الانتخاب الطبيعي، والانتخاب الجنسي، وبذلك تمت كفايتها للقيام بوظائف بذاتها، سواء أكانت عامة، أم خاصة بصفاتها الجنسية الثانوية.

(١٠) التحولات المتجانسة تكون في الأنواع المتحدة، حتى إن ضربًا تابعًا لنوع بذاته، فيه صفة خاصة بنوع آخر متصل بالنوع الذي يتبعه، قد يرتد إلى صفات أصوله الأولى

هذه قضية، بحثُ صنوف الحيوانات الأهلية أمثلُ طريق لإثباتها، فإن أكثر أنسال الحمام إمعانًا في الارتقاء والاختلاف في أقاليم تتباعد مواقعها الجغرافية، يكون لها ضريبات ذوات ريش منعكس الوضع فوق الرأس، وريش في القدمين، وهي صفات لا يُرى — في حمام الصخور، وهو أصلها — شيء منها. فهذه التحولات إذن «تحولات نظيرية»،٣٦ حادثة في سلالة معينة أو أكثر. كما أن وجود أربع عشرة ريشة أو ست عشرة ريشة في ذيل العابس من الحمام، صفة جائز أن نعتبرها تحولًا، يُنظر إلى التركيب القياسي في ذيل نسل آخر هو الهزَّاز. ولا خفاء أنه ليس في استطاعة أحد من الباحثين أن ينكر أن هذه «التحولات النظيرية» وأمثالها، راجعة إلى أن أنسال الحمام الداجن العديدة، قد ورثت من أصل بذاته، تراكيبه العضوية نازعة إلى التحول، متأثرة على مدى الأزمان بمؤثرات طبيعية لا تستبينها، ولنا في النبات حالة من حالات التحول المشابهة، نلحظها في كبر جذور «الفجل السويدي» و«درنة الباجة»٣٧ (صنف من اللفت)، وهما نباتان، كل النباتيين على اعتقاد أنهما ضربان استُحدثا بالاستنبات من أصل أولي ما، فإذا لم يصح اعتقادهم، كان تحولهما هذا تحولًا نظيريًّا، حادثًا في نوعين متميزين، وحينئذٍ نضيف إليهما نوعًا ثالثًا، هو الفجل العادي، فإذا مضينا في البحث على قاعدة خلق لأنواعٍ مستقلة، لزمنا أن نرد هذا التماثل النظيري إلى ثلاثة حوادث خاصة من حوادث الخلق المستقل متدانية شواكلها، وأن نطرح ظهريًّا سُنة التسلسل، وهي سببها الواقعي، وأن نترك ناموس قابلية هذه الأنواع، ونزوعها للتحول على نمط واحد عاطلًا. ولقد لاحظ «مستر نودين» كثيرًا من أمثال هذا «التحول النظيري» في الفصيلة القرعية، كما لاحظه آخرون في غلالنا، كما لاحظ ذلك «مستر وولش» في الحشرات في حالتها الطبيعية، وقد وضع هذه الحشرات ضمن نطاق ناموسه، الذي صرف عليه اسم «قابلية التحول المتكافئة».٣٨

أما الحمام، فلا أدلَّ على خضوعه لهذا الناموس، من ظهور صفات عديدة متناظرة في تولداته، كأفراد أردوازية اللون إلى زرقة يقطع جناحيها حبيكتان سوداوان وبياض الظهر، وخط ذو لون ما يقطع مؤخر الذيل، وبياض أطراف الريش الخارجي، تلك نتائج يسوقنا إليها، ويزيدنا إيمانًا بها، ما رأيناه من أن هذه العلاقات الخاصة بألوان الحمام، قد تظهر جلية في أمثال نسلين معينين مختلفي اللون لدى تهاجنهما. وفي هذه الحال لا نتبين أثرًا للحالات الخارجية المحيطة بالأنسال في معاودة إنتاج أنسال أردوازية اللون، إلى زرقة تمتاز بعدة علامات أخرى، أجلى من أثر التهاجن وتأثيراته في سُنن التحول.

ولا ريبة، في أن الصفات إذ تعاود ظهورها على هذا النمط، بعد أن تكون الأنسال قد فقدتها منذ أجيال لا تقل عن مائة غالبًا، لحقيقة تأخذ بالألباب، غير أنه عند حدوث التهاجن بين نوعين، أحدهما لم يتهجن من قبل إلا مرة واحدة مع نسل الآخر، فصفات أنساله عادة ترجع إلى صفات النسل الغريب الذي تهاجن وإياه، ويبقى نزوعه إلى صفاته ثابتًا اثني عشر جيلًا على قول البعض، وعشرين جيلًا على قول الآخرين، وأنه بعد مضي هذه الأجيال الاثني عشر، لا يبقى في الأنسال من دم أحد أبويها الأولين إلا بنسبة ١ إلى ٢٠٤٨، ورغم كل ذلك فإن الطبيعيين عامة على اعتقاد أن هذه البقية الباقية من الدم الأصيل في الأنسال تدفعها إلى النزوع إلى الرُّجعى إلى صفات آبائها الأولين. أما نسل مفروض لم يتهجن مطلقًا، وفقد أبواه كلاهما صفة كانت لأصلهما الأول، الذي منه اشتُق، فالراجح أن نزعته إلى الرجعى لهذه الصفة، سواء أكانت كبيرة أم ضئيلة، تبقى كامنة في طبيعته عددًا من الأجيال، وما ساقنا إلى المضي في القول هنا على صيغة الترجيح، إلا أن كثيرًا من المشاهدات تناقض هذا الزعم.

فإذا عادت صفة من الصفات فقدها نسلٌ ما، إلى الظهور بعد أجيال متطاولة، فأكثر ما يكون تعليلها معقولًا إذا رُدت، إلى أن هذه الصفة قد بقيت كامنة في تضاعيف الفطرة العضوية، ثم أظهرتها في ثوبها الأخير، حالات موافقة لظهورها لم نتبين من ماهياتها شيئًا، وبقدر ما يكون من انطباق هذا التعليل على الواقع، تكون منزلة القول بإنكار النزعة الكامنة في فطرة الأنسال من البعد عن الحقيقة، فالحمام المغربي مثلًا، نسل قلما ينتج فردًا أزرق اللون، ولكن مما لا ريب فيه، أن نزعة كامنة في كل جيل من أجياله تدفعه إلى إنتاج اللون الأزرق، وما الريب الذي يداخلنا في ثبات هذه النزعة، وتناقلها في الأنسال خلال أجيال عديدة، بأكثر مما يخامرنا في انتقال الأعضاء المعدومة المنفعة أو الأعضاء الأثرية من جيل إلى جيل، بالرغم من أن النزوع إلى ظهور الأعضاء الأثرية، قد يورث بعض الأحيان، خضوعًا لهذه السُّنة.

ولما كانت كل الأنواع التابعة لجنس معين قد تدرجت في التسلسل من أصل أولي واحد، فالغالب أن نتوقع أن يكون تحولها نظيريًّا في شاكلته، حتى إن ضروب نوعين أو أكثر من الأنواع، لا بد من أن تشابه بعضها بعضًا، أو أن ضربًا تابعًا لنوع بعينه، قد يشابه في بعض صفاته، دون بعض، نوعًا آخر مستقلًّا عنه تمام الاستقلال، وما هذا النوع المستقل في نظرنا إلا ضربًا، صفاته أقل تحولًا وأكثر ثباتًا من صفات غيره، غير أن الصفات التي ترجع نشأتها العامة إلى التحول النظيري، غالبًا ما تكون طبيعتها غير ذات شأن للعضويات؛ لأن الصفات ذوات الوظائف الرئيسة في حياة العضويات لا بد من أن يُحدَّد وجودها بالانتخاب الطبيعي دون غيره، بحيث يجعلها ملائمة للعادات المختلفة للنوع، وقد نتوقع أن أنواع جنس واحد قد يبلغ فيها النزوع إلى الرجعى لصفات فقدتها منذ أجيال عديدة خلت، وإذ كنا لا نعلم بالضبط الأصل الأولي الذي اشتُق منه أي صنف من صنوف العضويات، تعذر علينا التفريق بين الصفات المكتسبة بالتغاير النظري، والصفات المستمدة من الرجعى.

فإذا كنا لا نعرف مثلًا أن لحمام الصخور ريشًا في قدميه، أو هالة ريشية في رأسه، لتعذر علينا أن نحكم على هذه الصفات حال ظهورها في أنسالنا الداجنة، أهي من نتائج التحول النظيري أم الرجعي؟ وغالبًا ما كنا نعزو ظهور اللون الأزرق إلى حالة من حالات الرجعى، قياسًا على ما نراه فيها من الندوب الزرق الأخرى، تلك الندوب التي لا نستطيع أن نرد ظهورها لمجرد التحول الأولي، ناهيك باتخاذ هذه الندوب، إذ يزيد ظهورها لدى التهاجن، دليلًا على أن سببها الرجعي. وعلى كل حال، فإنه إن كان من الواجب، لدى البحث في العضويات في حالتها الطبيعية الصرفة، أن نترك تلك الحالة وشأنها من الشك، من غير أن نقطع في أيها يئول إلى سُنن الرجعى إلى الصفات الأولى، وأيها يُرد إلى التحول النظيري، فإن مذهبي على كلتا الحالتين، يقتضي أن نجد بين آن وآن أنسالًا قد كسبت صفات، نرها ذائعة في جمٍّ غفير من الفصيلة ذاتها، وذلك مما لا سبيل إلى الارتياب فيه بحال، على أن الصعوبة في التفريق بين الأنواع المتحولة، غالبًا ما ترجع إلى ما يقع من المشابهة بين الضروب والأنواع التابعة لجنس معين، ومن الهين أن أذكر كثيرًا من الصور تربط بين صورتين أخريين، يصعب أن نضعهما في رتبة الأنواع، وفي ذلك من الدلالة على أن هذه الصور العديدة قد كسبت خلال أدوار التحول التي قطعتها، من صفات الصور الأخرى بمؤثر من المؤثرات، ما ينفي القول بخلق هذه الصور المترابطة الأنساب مستقلة منذ بدء الخليقة.

ومما يزيدنا إيمانًا بصحة هذه السُّنة — سُنة التحولات النظيرية وخضوع العضويات لها — ما نراه في بعض أجزاء النظام أو بعض الأعضاء التي يُخيل إليك أنها ثابتة في أوصافها منذ أزمان غابرة، من النزعة إلى المضي في التحول، حتى تشابه، إلى حدٍّ ما، ذات الأجزاء أو الأعضاء في أنواع أخرى، مرتبطة بها في النسب، ولديَّ من المشاهدات التي تثبت هذه الحالات ما يملأ المجلدات الضخام، ولكني مسوق إلى التزام جانب الإيجاز، لما أن الإفاضة في شرح هذه المشاهدات يملأ فراغًا كبيرًا، غير أني أكرر القول، إن هذه الحالات وأمثالها، كثيرة الحدوث في الطبيعة الحية، وأنها من أكبر المباحث الطبيعية شأنًا، وأبعدها خطرًا.

ولأذكر للباحث حالة من أكثر هذه الحالات تخالطًا، وأشدها تشابكًا، تلك حالة لا تأثير لها في الحقيقة في صفة من الصفات ذوات الشأن، ولكن تخالطها وتشابكها ينحصر في أن حدوثها في أنواع عديدة تابعة لجنس واحد متأثرة بالإيلاف تارة، وبالطبيعة تارة أخرى، وقد تعود جملة إلى الرجعى، فقد يوجد في الحمير في بعض الآحايين خطوط متقاطعة في قوائمها، شأن قوائم حمار الزرد،٣٩ ولقد قيل: إن هذه الظاهرات أكثر ما تكون ظهورًا في أفلائها، وذلك ما تحققته بعد التجاريب، والخطوط التي تكون على أكتافها قد تكون مزدحمة في بعض الحالات، على اختلاف في الطول والشكل الظاهر، وقد وُجد حمار أبيض، غير أحسب،٤٠ ليس له من هذه الخطوط اللونية شيء، لا على كتفيه ولا على قوائمه، ولكن هذه الخطوط قد تكون في بعض الحالات على صورة في الخفاء، لا نستبينها عند النظر المجرد، ويغلب أن تكون معدومة في الأفراد القاتمة الألوان، وذكر بعض الباحثين أنهم رأوا «الكَوْلَن»٤١ — كما يدعوه سكان أواسط آسيا — وله خطان من هذه الخطوط على كتفيه، وذكر مستر «بليث» أن عنده فردًا من حمار الوحشي التبتي (الهمْيون)،٤٢ له خطان من هذه الخطوط على كتفيه، ظاهران أتم الظهور، مع أن نوعه لا يملك من هذه الصفة شيئًا. وأخبرني «الكولونيل بوول»: أن أفلاء هذا النوع مخططة الأرجل عادة، ولكن الخطوط على أكتافها لا تكون جلية الوضوح، و«الكَواجة»،٤٣ بالرغم من أن بدنها مخطط كحمار الزَّرَد، فإن أرجلها غير مخططة، ولكن «دكتور جراي» وجد فردًا له خطوط ظاهرة ظهور خطوط حمار الزرد في عراقيبه.

أما الخيل فقد استجمعت حالات لما يحدث فيها من هذه الظاهرات، شاهدتها في أخص الأنسال المستولدة في إنكلترا على اختلاف ألوانها، فثبت لدي أن الخطوط المتقاطعة قد تحدث في بعض الأنسال الشهباء اللون، الصافية منها والقاتمة، وشاهدتها في نسل آخر كستنائي اللون مرة واحدة، ورأيت في النسل الأول خطوطًا كتفية غير جلية الظهور، وفي نسل آخر من الخيل الضاربة إلى الحمرة، آثارًا تدل على نزعة إليها. ولقد بحث أحد أبنائي حصانًا بلجيكيًّا من خيول العربات، ينزع إلى نسل بريطاني أشهب، وصوَّره صورة دقيقة، فكان له خط طولي على كل من كتفيه، وخطوط في قوائمه، ورأيت بنفسي حصانًا من خيل مقاطعة «ديفون»، وحصانًا آخر من خيل «وايلس»، كلاهما من الخيل الصغيرة الأحجام، في كل منهما ثلاثة خطوط واضحة الظهور على كلا الكتفين.

وفي الشمال الغربي من بلاد الهند، نسل من الخيل يُقال له «القِطْوار»،٤٤ مخطط الجسم، حتى إن «الكولونيل بول» وهو من الذين درسوا صفات هذا النسل هناك بإرشاد حكومة الهند، قد ذكر أن حصانًا منها، إن فقد هذه الخطوط، فلا يمكن اعتباره صحيح النسب إلى النسل، فظهورها مخططة دائمًا، وكذلك قوائمها، وأكتافها قد تكون ذوات خطين آنًا، وثلاثة خطوط آنًا آخر في أغلب حالاتها، ويكثر أن تكون جوانب الوجه مخططة أيضًا. ولاحظ «بول» أن هذه الخطوط أكثر ما تكون ظهورًا في أفلاء النسل، ولا سيما ما كان منها رماديًّا أو ضاربًا إلى الحمرة، ولدي من المشاهدات التي استجمعها «مستر و. و. إدواردز» ما يثبت أن الخط الظهري أكثر وضوحًا في أفلاء خيل السباق، منه في الأفراد البالغة، ولقد أنتجت بالاستيلاد منذ زمان قريب فلوًا من فرس حمراء اللون قاتمته، وحصان من خيل السباق لا يختلف عنها في اللون، فلم يبلغ هذا الفلو الأسبوع الأول من عمره، حتى ظهرت فيه خطوط جلية في مؤخر كفله ومقدم رأسه، مقرونة بكثير من خطوط أخرى دقيقة قائمة، أشبه شيء بما لحمار الزرد، ناهيك بما كان في قوائمه، ولكن سرعان ما اختفت هذه الظاهرة اختفاء تامًّا. ولقد جمعت كثيرًا من المشاهدات، انتزعتها من أنسال عديدة في مختلف الأقاليم ما بين الجزر البريطانية وشرقي الصين، ومن «نرويج» إلى جزائر الملايو جنوبًا، فكانت هذه الخطوط فيها جلية الظهور في الكتفين والقوائم، مزدوجة وغير مزدوجة، مما لا يترك مجالًا للإسهاب في شرح كثير من الملاحظات، لإثبات حدوثها في العضويات، وهذه الظاهرات أكثر حدوثًا في الأنسال ذوات الألوان الشهباء الصافية، منها في الشهباء القاتمة، مع ملاحظة أن اللون الأسود، بإطلاق القول، يشمل كثيرًا من الألوان، وقد يعم كل الألوان من السمرة والسواد، إلى الصفرة الصافية.

ولا ريبة عندي، في أن «الكولونيل هاملتون سميث» قد مضى في بحث هذا الموضوع، على اعتقاد أن أنسال الخيل المختلفة قد تسلسلت من عدة أنواع أولية، النوع الأشهب منها كان مخططًا، وأن هذه الظاهرات التي لاحظناها ترجع برمتها إلى تهاجن بقية الأنواع مع النوع الأشهب، ولكن هذا الرأي من الهين نقضه، فمما لا سبيل إلى إثباته أن تكون خيل العجلات البلجيكية، وخيل وايلس، وأحصنة «نرويج» ونوع القِطْوار في بلاد الهند، على اختلاف أحجامها وأوصافها، وعلى بعد مآهلها وتشتتها في بقاع مختلفة من الأرض، قد تم تهاجنها جميعًا في غابر الأزمان، بأصل أولي واحد لم تَعْدُه.

ولنرجع بعد إذ قطعنا ما قطعناه من البحث، إلى الكلام في تهاجن أنسال الخيل المختلفة، فلقد أيقن «رولين» أن البغال المولدة من مهاجنة الحمير بالخيل، تكون عادة ذات نزعة إلى ظهور خطوط متقاطعة في قوائمها، ولاحظ «مستر جوش» في بقاع خاصة من الولايات المتحدة بأمريكا أن تسعة أعشار البغال مخططة القوائم، ورأيت بغلًا قوائمه مخططة، بحيث لا يتسرب إليك شك، عند مجرد النظر إليه، في أنه من هجن حمير الزرد، حادث بالتوليد، وفقًا لما ذكره «مستر و. س. مارتن» في مقاله على الخيل، عن فرد البغال فيه هذه الظاهرة. وشاهدت في أربع صور متقنة لهجن حادثة بالتوليد من الحمير العادية وحمار الزَّرد، فلاحظت أن الخطوط أكثر ظهورًا وأجلى في قوائمها، منها في بقية أجزاء البدن، وكان في أحدها خطان على كلا الكتفين، لم يكونا للثلاثة الآخرين. ولقد أحدث «لورد مورتون» بغلًا بالتوليد من فرس كستنائية وذكر «الكَواجة» فكان مخططًا، وكذلك كان نتاج هذه الفرس من بعد استيلادها من حصان عربي أدهم، كامل الأوصاف، صحيح النسب، إذ كانت قوائم نتاجها مخططة بخطوط أظهر فيها من «الكَواجة» الصحيحة، وأحدث «دكتور جراي» هجنًا من الحمار العادي وحمار الوحش التبتي، فكانت قوائمه الأربع مخططة، مقرونة بثلاثة خطوط على كلا الكتفين، كما لخيل مقاطعة «ديفون» و«وايلس» الصغيرة الأحجام، فضلًا عما كان لها من الخطوط على جانبي الوجه مثل ما لحمار الزرد. وهي حالة على ما لها من الشأن في مباحث التاريخ الطبيعي، قد زكاها «دكتور جراي» بحالة أخرى شاهدها لهذه الظاهرة، مما ساقني إلى الاعتقاد، استنادًا على هذه الحقائق وأمثالها، بأن ظهور هذه الخطوط اللونية غير حادثة بالمصادفة كما يعتقد الناس، حتى أدى بي ظهور الخطوط اللونية في جانبي الوجه في الهجين المولد في البغل العادي وحمار الوحش التبتي، لأسأل الكولونيل «بول» عما إذا كان قد شاهد هذه الظاهرة في بلاد الهند، فحقق لي وجودها.

ماذا نستنتج من هذه الحقائق المختلفة؟ نستنتج أن في أنسال الخيل الجَنِيسَة ظاهرات تحدث بمجرد التحول الأولي، كظهور الخطوط اللونية في القوائم كحمار الزرد، وخطوط على الأكتاف كما للحمير العادية، ونلاحظ أن هذه النزعة تزداد في الخيل وضوحًا كلما كانت ألوانها أقرب إلى الشُّهبَة، ذلك اللون الذي يكاد يكون اللون العام لأنواع مختلفة غير الخيل تابعة للجنس عينه، كما أن ظهور هذه الخطوط اللونية، لا يكون مصحوبًا بتحول ما في الصور العامة، أو في بقية الصفات الأخرى، وأن النزعة إلى ظهور هذه الخطوط تكون في الهجن المولدة من نسلين معينين من أنسال هذا الجنس أمعن في التباين فيها من غيرها.

ولنعد بعد إذ أتينا على ذكر هذه الاعتبارات إلى تدبر أنسال الحمام العديدة، وتسلسلها من أصل أولي، ضارب اللون إلى الزرقة، مقرون بخطوط وعلامات أخرى، مع ما يتبعه من الأنواع الإقليمية وهي اثنتان أو ثلاثة — أي لواحق حدثت لذلك الأصل الأول بتأثير المناخ، وغيره من المؤثرات الطبيعية العامة — نرَ إذ ذاك أن أي نسل من أنسال الحمام الداجن، إن نزع لونه إلى الزرقة بتأثير حالة ما من حالات التحول الأولي، فحدوث هذه الخطوط، وتلك العلامات، يكون لزامًا لظهور هذه النزعة فيه، من غير أن يحدث فيه اختلاف في الصورة العامة أو تحول في صفة من الصفات الأخرى. كذلك نرى أن الأنسال الصحيحة الثابتة لدى تهاجنها على اختلاف ألوانها وتضارب أشكالها، تنزع صغارها المولدة إلى اللون الضارب إلى الزرقة، مقرونًا بتلك الخطوط والعلامات، التي نراها في الأصل الأول، وما سبب هذه الظاهرة جماعها — تلك التي نراها في عودة صفات، فقدها النوع منذ أزمان بعيدة — إلا نزعة في صغار الأنسال الناتجة على تعاقب الأجيال إلى الرجعى إلى صفات فقدتها أصولها الأولية منذ أزمان موغلة في القدم، وإن هذه النزعة قد تزكيها في بعض الظروف أسباب طبيعية لا علم لنا بها، يؤيد ذلك ما لاحظناه في أنسال الخيل، من أن ظهور الخطوط اللونية في صغارها أكثر حدوثًا وأجلى وضوحًا، مما يكون في الأفراد البالغة.

فإذا صرفنا على أنسال الحمام الداجن، بعد أن توالد بعضها توالدًا صحيحًا قرونًا عديدة، اسم «الأنواع» انكشف لنا إذ ذاك عن حالة تكافؤ حالة أنسال الخيل، فإذا ما رجعت النظر كرة إلى آلاف عديدة من الأجيال مرت على تاريخ العضويات، وعندما رأيت حيوانًا مخططًا كحمار الزرد، على اختلاف كبير بينهما في التكوين، كما يغلب أن تكون الحال، فذلك الحيوان هو الأصل العام، الذي تسلسلت عنه أنسال الخيل المؤلفة، والحمير، وحمار الوحش التبتي، والكواجة، وحمار الزرد، بصرف النظر عما إذا كان تسلسلها قد حدث في عصورها الأخيرة من أصل واحد، أو أصول وحشية أكثر من ذلك عدًّا.

فإذا اعتقد معتقِد أن هذه الأنواع قد خُلق كل منها مستقلًّا، فلا يسعني إلا أن أعتقد أن كلًّا منها خُلق وفيه نزعة إلى التحول، سواء أكان بتأثير الإيلاف، أم بتأثير الطبيعة الخالصة، حتى يعلل ظهور هذه الخطوط اللونية في بعض الأنواع بمثل ما يراه في الأنواع الأخرى، أو يركن إلى الاعتقاد بأن هذه النزعة لا بد من أن يتضاعف فعلها لدى تهاجن أنواع ما بغيرها، مما يقطن بقاعًا مختلفة من الكرة الأرضية، حتى تحدث هجنًا تشابه في تحول ألوانها وتخططها، أنواعًا أخرى غيرها من الجنس عينه، مغايرة بذلك لصفات آبائها. وما هذا الزعم إلا تبديل غير ثابت بثابت، أو على الأقل غير معروف بمعروف، فهم يشوِّهون صِبغة الله وخلقه، وما قول الكونيين القدماء، الذين نظروا في خلق العالم، بأن صور الأصداف الأحفورية في بعض الصخور لم تُخلق إلا عبثًا، ابتغاء تشبيه باطن الأرض بأحياء البحار، بأبعد من قول القائلين بالخلق المستقل في الزمان الحاضر منزلة في السقوط والاتضاع.

الخلاصة

إن جهلَنا بسنن التحول كبيرٌ، ولا نستطيع أن نعيِّن في حالة من مائة، السببَ الصحيح في تحول هذا العضو أو ذاك. أما إذا تهيأت لدينا أسباب الموازنة بعض الحالات ببعض، وضح لنا أن سننًا طبيعية ثابتة، قد أثَّرت في استحداث تحولات، نراها ضعيفة الأثر في ضروب النوع الواحد، وتحولات نراها أكبر شأنًا في أنواع كل جنس معين، واختلاف الحالات قد يُحدث نتائج من قابلية التحول متقبلة، غير معينة المشاكلة، ولكنها تنتج بعض الحالات تأثيرات محدودة مباشرة، قد تصبح ذات أثر واضح على مر الأزمان، ذلك بالرغم من أننا لا نستبين أسبابها في غالب الحالات، كما أن تأثيرات العادة في استحداث خِصِّيات تكوينية، وتأثيرات الاستعمال في تنمية بعض الأعضاء، والإغفال في إضعاف البعض الأخرى، والإقلال من شأنه، جماعها حالات تحقق لدينا تأثيراتها الثابتة في طبائع العضويات، والأعضاء المتجانسة تجنح إلى التحول على نمط واحد، والأجزاء المتجانسة كذلك تنزع إلى الاندماج والتضام، والتغاير الوصفي في الأجزاء الصلبة، والشكل الظاهر، قد يغير من صفات الأجزاء الرخوة، والتركيب الباطن، وإذا أمعن جزء من الأجزاء في النماء، فالراجح أن ينزع إلى الاستيلاء على أغلب مواد الغذاء، يستمدها من بقية الأجزاء المتصلة به، وأن كل جزء من أجزاء التركيب العضوي، إن تيسرت نجاته من أسباب التلف والفناء، فلا بد من أن يُقدَّر له البقاء، والتحول التركيبي الذي يطرأ على العضويات في أزمان أولى قد يؤثر في صفات جائز أن تطرأ عليها خلال العصور المتلاحقة، ذلك على ما نشاهده من حالات تبادل التحولات وحدوثها في الأحياء، تلك الحالات التي لا نستبين من أسبابها شيئًا، كذلك الأجزاء التي يتضاعف عددها في الفرد الواحد، قد يلحقها التحول في العدد والتركيب. وأغلب ما يعود ذلك التحول إلى أن هذه الأعضاء لم تختص بأداء وظيفة معينة، فأوقف الانتخاب الطبيعي حدوث أي تحول وصفي فيها، ناهيك بما يتبع ذلك من أن العضويات المتضعة في النظام العضوي، تكون أكثر تحولًا، وأقل ثباتًا من العضويات الممعنة في الارتقاء في رتب النظام؛ إذ يكون تكوينها العضوي قد بلغ حدًّا من الاختصاص للقيام بوظائف معينة، بحيث يجعل حدوث التحول الكبير فيها غير ذي فائدة مباشرة لها، والأعضاء الأثرية إذ هي غير مفيدة لصور الأحياء، لا يكون للانتخاب الطبيعي بها من شأن؛ ولذا نراها كثيرة التحول والتقلب، ليس لها من ضابط خاص، «والصفات النوعية»: تلك الصفات التي أخذت في التحول منذ انشعبت أنواع كل جنس من أصله الأول، أكثر تحوُّلًا من «الصفات الجنسية» ونعني بها الصفات التي توارثتها الأجناس منذ أزمان بعيدة، ولم تتحول على مدى تلك الأزمان التي مضت هذه الصفات موروثة في خلالها.

ولقد عرفنا من قبل، أن أجزاء خاصة من أعضاء العضويات، إذ لا تزال قابلة للتحول، نراها تحولت منذ أعصر قريبة، فحدث فيها كثير من الانحراف.

وأثبتنا في الفصل الثاني، أن هذه السُّنَّة عامة تخضع لها كل أجزاء الأفراد وأعضائها، واستدللنا على ذلك بأنَّه حينما توجد أنواع عديدة لجنس صحيح في إقليم ما، فهنالك تحدث ضروب كثيرة تابعة لهذه الأنواع، وما ذلك الإقليم الذي نعنيه إلا البقاع التي حدث لأحيائها كبير التحول والتباين خلال عصور غابرة، أو تلك الأقطار التي كانت أكثر البقاع إحداثًا لصور نوعية جديدة، والصفات الجنسية الثانوية تقبل التحول، وإن هذه الصفات وأمثالها أكثر ما تكون تحولًا في أنواع تتبع مجموعًا بعينه، وقابلية التحول في أجزاء واحدة من النظام العضوي، كانت عاملًا من أشد العوامل تأثيرًا في إحداث الصفات الجنسية الثانوية في كلا الزوجين — الذكر والأنثى — وكذلك في إحداث التحولات النوعية في أنواع الجنس الواحد. كذلك كان نماء كل جزء من أجزاء العظام أو عضو منه، نماء خارجًا عن الجادة العامة لدى قياسه بذات الجزء أو العضو في أنواع تقاربه نسبًا، سببًا يجعلنا نعتقد بمضي هذه الأعضاء في درجات من التحول، مختلفة المقدار منذ برز جنسه في عالم الوجود، ونفقه كيف أن هذه التراكيب لا تزال قابلة للتحول لأكثر من تحول بقية الأعضاء؛ ذلك لأن التحول له نظام خاص، ولا تتم نتائجه إلا ببطء على مر أزمان طويلة متعاقبة، كما أن الانتخاب الطبيعي خلال تلك الأجيال، يكون قد تغلب على ما في طبيعة العضويات من النزعة إلى الإمعان في قبول التحول والرُّجعى إلى صفات أصولها الأولى، التي تكون أحط مما لها. فإذا حدث أن نوعًا من الأنواع خرج بنماء عضو من أعضائه عن الجادة والقياس، قد أصبح أصلًا أوليًّا لسلسلة صور عديدة، نالها شيء من التهذيب والتحول الوصفي درجة بعد درجة، خلال أجيال طويلة متلاحقة، فلا بد من أن يكون الانتخاب الطبيعي قد أعطى لكل من هذه الصور صفة خاصة بها، ثابتة في تكوين ذلك العضو الذي ورثته عن أصلها الأول، أدى بهذا العضو إلى الإمعان في النماء، نماء خارجًا عن مألوف العادة، والأنواع التي ترث على وجه التقريب خِصِّيات تكوينية عن أصلها، الذي انشعبت منه، ظلت متأثرة بمؤثرات بيئية واحدة، تُساق بالطبيعة إلى اكتساب «تغايرات نظيرية» تظهر فيها، أو تجنح في ظروف دون أخرى إلى الرجعى لبعض صفات أصلها الأول، الذي يكون قد انقرض منذ أزمان موغلة في القدم، والتحولات الحديثة ذوات الشأن، التي تظهر في الرجعى أو التحول النظيري، فإن صفات العضويات — إن لم تُعدُّ في صفاتها إلى هذه التحولات وأمثالها — إنما تزيد إلى جمال الطبيعة، وتنسِّق مواضع عديدة من أوصافها المشاكلة.

ومهما تكن الأسباب التي تسوق الأنسال إلى التباين والانحراف عن صفات آبائها، تلك الأسباب التي نوقن بوجودها، ولا ندرك لها كنهًا، فإن ما لدينا من الاعتبارات الصحيحة، لينزع بنا إلى الاعتقاد بأن فعل الاستجماع، استجماع التغايرات المفيدة للعضويات شيئًا فشيئًا خلال أجيال، كان السبب الأكبر في استحداث أكثر الصفات التركيبية نفعًا، وأبعدها للعضويات خطرًا، من طريق اتصالها بعادات كل نوع من الأنواع في الحياة.

١  الحبارى Bustard من طيور البر، ويُعرف بهذا الاسم في جميع البلاد العربية، ساقاه ملطاوان، وأصابعه ثلاثة عدًّا، وتتجه جميعًا نحو الأمام، يألف السهول الواسعة، ومن أنواعه في اللسان العلمي الإطيس الوني Otis tardus، وهو أعظم طيور البر الأوروبية.
tardus: Latrin = slow, sluggish, Tardy. Smith’s Lat. Gng. Eiet 1107.
٢  الونيط السالح Onites Apelles: الونيط: معرب Onites، والسالخ: من معنى: Apelles Apelles = apellous: Destitute of skin. Cutury diet. 256.i.
٣  الأطيوخ Ateuchus في اللسان العلمي، وهو «الجعران» المعروف عند قدماء المصريين، من فصيلة الجعرانيات: Scarabaeidae، وقد يُعرف بحشرة السرقين؛ لأنه يبض في الروث، ويحيط بيضه به حتى ينقف. ومنه نوع يُسمى علميًّا الأطيوخ المقدس A. saces وهو الذي كان يقدسه المصريون، وحفروا بعض الأحجار على صورته.
٤  الغلافيات Coleoptera من الحشرات.
٥  القشجناحيات Lepidoptera من الحشرات.
٦  التوكة: Tuco. Tuco واسمه العلمي: Ctenoneys مركَّب من كلمتين: الأولى Kteis أو ktenos أي «شاط»، والثانية معناها فأر. والاسم الذي وضعته في العربية «يمشوط» وزان يفعول، قياسًا على السماع من «مشط»، حيوان من القواضم: Rodents.
٧  غشاء العين الحاجب أو الغشاء الغماز: hictitating memlorane غشاء رقيق يوجد تحت جفن العين في الطيور وكثير من الزواحف، يسدل على كرة العين عند الحاجة اتقاء القوارض.
٨  السرطان Crab من «القشريات» Decapoda ذوات الأرجل العشر، وينتمي إلى القشريات Crustacea، كثير الأنواع، كبير الذيوع والانتشار، وضع له لينايوس اسمًا علميًّا لتصنيفه، فسماه Cancet، ومنه نوعان يكونان على شواطئ بريطانيا: السرطان الكبير C. momas    والسرطان الصغير C. pagurus.
٩  النوطوم: «معرب: heotoma في الاصطلاح العلمي، واسمه Cave-rat أي فأر الكهوف»، من القواضم الكفيفة.
١٠  زباني Antennae: في علم الحيوان خيوط متلاصقة، تكون في رءوس الحشرات تستخدمها للمس، وهي كلمة مشتقة من ante أي مقدم أول أول، وهي الأعضاء التي تفرِّق بها الحشرات بين المواد بطريق اللمس، وتُسمى أيضًا قرون الاستشعار.
١١  البانوس: معرب Bathyzeia: جنس من حيوان الكهوف.
١٢  الإكفيف Anophthalmus: إفعيل من كف بصره، ومنه الكمه: Anophthamia.
١٣  الإجهير Amblyopsis: إفعيل من جهر، ومنه الجهر Amblyopsia.
١٤  البرتوس: معرب: Proteus: من حيوانات أوروبا الكمهاء.
١٥  الصنوبر Pine Tree، وفي اللسان العلمي Pinuz في المخروطيات: Conifera التي من أمثالها التنوب والعرعر والأرز.
١٦  الدفلي Rhododenderon، جنس في النبات منه أشجار وأعشاب، من الفصيلة الأريسية Ericeae، لأزهاره عشرة أعضاء تذكير، وكأس متناهٍ في الصغر، وتُويج ناقوسي، أنواعه كثيرة، خضراء طوال العام، قليل في أنواعه يستوطن أوروبا، وكثيرها في أمريكا الوسطى وجبال الهند.
١٧  الحيتان Otacea: من الثدييات المائية، أكثرها بحري، وأقلها نهري.
١٨  الدرداوات Edentata: أُخذ اسمها من صفة أسنانها، فهي إما فاقدة الأسنان، وإما أن تكون أسنانها عسنية؛ أي أثرية.
١٩  الدويرع Amadillo: تصغير «دارع».
٢٠  الفصيلة المركبة Composita: من النبات.
٢١  الفصيلة الخيمية Umbellifora: من النبات.
٢٢  Pelargonium (إبرة الراعي) = الفصيلة الجرانية.
٢٣  Coelosrermous.
٢٤  Oshosdermous.
٢٥  العلبة Capsule.
٢٦  اليبل: معرب Ibla.
٢٧  البرتليب Protealypas.
٢٨  متعددة الأسدية Polyandrous: اصطلاح أطلقه لينايوس على الخناثى من النباتات التي تتعدد فيها أعضاء التذكير، ولا سيما إذا زادت على العشرين، على أن تكون عالقة بالحامل الزهري.
٢٩  اللارأسيات acehhala أو Acehhalous: فاقدة الرأس والعنق، اسم يُطلق على الحيوانات الرخوة من ذوات الصمامين.
٣٠  حلزون الصخور Rock Barnaele.
٣١  الفرغوم Pyargoma (معرب).
٣٢  الدجاجيات Gallinacous.
٣٣  الأنجيديات Engidae (معرب).
٣٤  الحشرات الحافرة Fussorial Lrsects.
٣٥  البنطيل Pontella (معرب).
٣٦  التحولات النظيرية Anoalogous Variations، والمقصود منها مستفاد من العبارة نفسها.
٣٧  درنة الباجة Rutabaga، واصطلاحًا: Brassica napobrassica.
٣٨  Law of Equable Variability.
٣٩  حمار الزرد Zebra أو الحمار الزغابي: له نوعان يتفردان بأوصاف معينة، وهو مشطَّب بشطوب سود وأخرى بيضاء إلى صفرة، النوع الأول: الزرد الحبلي Mountain zebra: وفي الاصطلاح: Equus or Asiuns zebra، وشطوبه ناصعة البياض شديدة السواد، والنوع الثاني الزرد البرشلي Equus or Asiuns borchelli ويقطن سهول جنوبي أفريقيا، أرجله مشطبة على العكس في النوع الأول.
٤٠  الأحسب أو الأمهق.
٤١  الكولن Koulan.
٤٢  الهميون Hewionus.
٤٣  الكواجة Quagga.
٤٤  القطوار Kattiwar.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤