الفصل الثامن

الغريزة

الغرائز والعادات واختلافهما في النشأة – الغرائز تتدرج في الوجود – المن والنمل – الغرائز تتغير – الغرائز الخاصة وأصلها – الغرائز الطبيعية في الوقواق والملطروس والنعام والنحل الطفيلي – ذو الغريزة الاسترقاقية – نحل الخليات، وغريزته في بناء خلياته – في أن تحول الغريزة والتركيب العضوي لا يلزم أن يقعا معًا – الصعاب التي تعترض نظرية الانتخاب الطبيعي من حيث الغرائز – الحشرات المتعادلة أو العقيمة – ملخص.

***

إن في كثير من الغرائز ما يبعث على العجب، حتى إن نشوءها وتطورها قد يكون من الصعوبة، بحيث يدفع القارئ إلى رفض نظريتي جملة، ومن أجل أن أتابع الكلام فيها، يجب أن أنبِّه على أني لست بمسوق إلى البحث في أصل القوى العقلية، أكثر مما أجد نفسي في حاجة إلى الكلام في أصل الحياة ذاتها، وإن بحثنا هذا مقصور على تنوع الغرائز، وتشعب مناحيها، والنظر في القوى العقلية الأخرى، الخاصة بالحيوانات، التابعة لطبقة بذاتها.

وما كان لي أن أحاول وضع تعريف للغريزة؛ ذلك لأن من الهين أن نظهِر أن كثيرًا من الآثار العقلية قد يلابس هذا الاصطلاح مدلولها، بيد أن الناس يفهمون بالضرورة ما نعني من البحث، إذا ما سقنا الكلام مثلًا، في الغريزة تضطر طير «الوقواق»١ إلى الهجرة، وأنها تلزمه أن يضع بيضه في أعشاش غيره من الطير، على أن فعلًا أو عملًا ما، نحتاج نحن إلى بعض المرانة، حتى نستطيع القيام به، إن أتى به حيوان، لا سيما إذا كان نشأ وليدًا، من غير مرانة، واشترك في القيام به عديد من الأفراد في وقت واحد، من غير أن ندرك لأي من الدوافع، أو القواسر الطبيعية هي تأتي ذلك الفعل، فإنا نقول عادة إنه عمل غريزي. غير أني استطعت أن أثبت أنه ليس هناك صفة واحدة من هذه الصفات، يمكن أن يُقال فيها إنها عامة شائعة، وإن نزرًا يسيرًا من التمييز أو التعقل، كما قال «بيير هوبر»، قد تظهر له آثار حتى في الصور الدنيا من النظام الحيواني.
وازن «فردريك كوفيه» وغيره من فلاسفة «الميتافيزيقا»،٢ بين الغريزة والعادة، وعلى أن هذه المقارنة تزودنا بصور دقيقة من التكوين العقلي، الذي يتم بتأثيره فعل من الأفعال الغريزية، فإنها لا تعرفنا بالضرورة شيئًا عن أصل الغريزة. وكثيرًا ما تقع أعمال وحركات بحكم العادة على غير انتباه ممن يأتيها، وليس بقليل منها ما يُؤتى به على الضد من حكم الإرادة الواعية، ومع كل ذلك فإن هذه الأعمال قد يمكن تغيير متجهاتها إداريًّا أو بحكم العقل. على أن بعض العادات قد يتحد بعضها مع بعض بمضي فترات معينة من الزمان، وبتأثير حالات الجسم الحي نفسه، والعادات إن كسبتها الطبائع العضوية مرة، فهي لا محالة ثابتة فيها مدى الحياة، وهنالك حالات من المشابهة والعادة نستطيع أن نلم بها، فكما أن الإنسان قد يكرر مقطوعة غنائية معروفة، كذلك الحال في الغرائز، تتابع الحركات بعضها تلو بعض، فإن شخصًا ما إن وقع له ما يهوش عليه، وهو ينشد مقطوعة غنائية، أو يعيد شيئًا حفظه عن ظهر قلب، فإنه لا يلبث أن يجد نفسه مسوقًا إلى تكرار ما كان يفوه به مرة أخرى، حتى يستطيع أن يستجمع مرة ثانية ما تبدد من تتابع فكرته، ذلك ما حققه «بيير هوبر» في «يسروع»،٣ من عادته أن يصنع لنفسه شبكة معقدة التركيب، فقد لاحظ أنه إذا أُخذ يسروعًا بلغ في بناء شبكته القدر السادس مثلًا، ونُقل إلى أخرى لم تبلغ من البناء إلا القدر الثالث، فإنه يعيد بناء القدر الرابع والخامس والسادس مرة أخرى. أما إذا أُخذ يسروع من شبكة بُنيت إلى القدر الثالث، ونقل إلى أخرى تم بناؤها إلى القدر السادس، حيث تكون قد قاربت الكمال، فإنه فضلًا عن أنه لا يستطيع أن ينتفع بما تم من البناء الأول، فإنه يرتبك ارتباكًا عظيمًا، ويعمد مضطرًا إلى البدء مرة أخرى في إعادة عمله، مبتدئًا من القدر الذي انقطعت عنده سلسلة عمله في الشبكة الأولى، إذا ما أراد أن يتم بناءها، ومن ثم يتسنى له أن يكملها.
فإذا فرضنا مثلًا، أن فعلًا من أفعال العادة يصبح موروثًا، ومن المستطاع أن نظهِر بمشاهدات أن ذلك واقع، فإن المشابهة بين ما كان في أصل عادة وبين ما هو غريزة، تصبح من التقارب، بحيث لا يمكن التفريق بينهما، فإن «موتزارت»٤ إذا كان قد استطاع أن يوقِّع مقطوعة موسيقية من غير مرانة البتة، بدلًا من أن ينبغ في العزف على «البيانة»، وهو في الحول الثالث من عمره بنزر يسير من المرانة لا يكاد يُعتد به، لقلنا بحق إنه فعل ذلك بحكم غريزته، غير أننا لا شك نخطئ خطأً بينًا، إذا قضينا بأن العديد الأوفر من الغرائز قد كُسبت بتأثير العادة خلال جيل واحد، ومن ثم انتقلت بالوراثة إلى الأجيال التالية، فإن في مكنتنا أن نظهر، أن أخص الغرائز التي نعرفها، استمكانًا من الطبائع العضوية، وأبعثها على التأمل والعجب، كغريزة النحل في بناء خلياته، وغرائز النمل مثلًا، لا يمكن أن تكون قد كُسبت بتأثير العادة.
مما هو مسلم به إجماعًا، أن الغرائز تبلغ من حيث فائدتها لكل نوع من الأنواع في حالاته الحاضرة، مبلغ فائدة التراكيب الجسمانية، فإن تهذيبًا وصفيًّا يطرأ على غريزة نوع ما، يمكن أن يفيده فائدة جُلَّى، لدى تحول حالات الحياة المحيطة به، فإذا استطعنا أن نثبت أن في الغرائز استعدادًا لقبول التحول، مهما ضَؤُل شأنه، وانحط قدره، فهنالك لا أجد من صعوبة تحول، دون القول بأن الانتخاب الطبيعي قد يحتفظ بالتحولات، التي تلحق بالغرائز ويستجمعها، ممعنًا بها في سبيل الارتقاء إلى أقصى حد مستطاع من الفائدة، وإني لأعتقد أن أخص الغرائز تكوينًا، وأبعثها على التأمل، لم تنشأ في العضويات إلا من هذا السبيل دون غيرها، وما دامت التراكيب الجسمانية تُستحدث وتنمو بتأثير الاستعمال أو العادة، وتزول أو تضعف بالإغفال، فمما لا شك فيه أن ذلك النهج بعينه يصدق على نشوء الغرائز وتثبيتها. غير أنني أعتقد أن مؤثرات العادة ترجحها في كثير من الحالات مؤثرات الانتخاب الطبيعي، التي نطلق عليها اصطلاح «التحول الذاتي للغرائز»،٥ أي التحولات التي تنشأ بحكم تلك السُّنن الخفية، التي تحدث التباينات الضئيلة في التراكيب الجسمانية.

ليس من المستطاع أن نستحدث غريزة من ذوات الشأن بتأثير الانتخاب الطبيعي، ما لم يتدرج وجودها في خطى عديدة من التحولات الضئيلة المفيدة، تستجمع حالًا بعد حال على مر الأجيال، وفي هذه المسألة، كما هي الحال في التراكيب الجسمانية، لا ينبغي لنا أن نحاول أن نعثر في الطبيعة على درجات النشوء الانتقالية، التي استُحدثت من طريقها أية غريزة من الغرائز البينة؛ لأن ذلك غير مستطاع إلا بالوقوف على تاريخ أسلاف كل نوع من الأنواع منذ أبعد الأزمان، بل يجب علينا أن نجد في تسلسل نسبها شواهد تهدينا إلى مثل هذه التدرجات، أو نلتزم على الأقل طريقة نثبت بها أن وقوع التدرج في إحداث الغرائز بشكل ما، واقع في الطبيعة، وهذا ما في مكنتنا إثباته.

لم أتابع البحث في الغريزة، إلا بعد أن وضعت نصب عيني، أن الموضوع تعتوره صعاب شتى، على أنني لم أستوثق من هذا البحث، إلا وأنا على علم بأن غرائز الحيوانات المختلفة لم تُعرف معرفة فيها بعض الدقة، إلا في أوروبا وشمالي أمريكا، وأضفت إلى هذا، أننا لا نعرف شيئًا عن غرائز الأنواع المنقرضة، ومع كل هذا فقد تولاني العجب إذ رأيت أينما وليت وجهي، باحثًا في أطراف الطبيعة الحية، أن هنالك مناهج تدرجية دقيقة، تقود خطواتنا، إذا ما تتبعناها إلى الاعتقاد، بأنها السبب في تكوين أخص الغرائز تركيبًا، وأمعنها في الطبيعة العضوية ثباتًا، وبان لي أن تغير الغريزة قد يمكن أن يمهد له أن نوعًا بذاته، تكون له غرائز مختلفة باختلاف العمر، أو في فصل دون فصل، أو لدى تأثره بظروف مختلفة إلى غير ذلك، مما يفسح المجال للانتخاب الطبيعي، كي يحتفظ بهذه الغريزة أو تلك، مما تبعث عليه حاجة النوع، ومثل هذه التحولات الغريزية الجُلَّى، وحدوثها في نوع من الأنواع، من المستطاع إثبات وقوعها في الطبيعة بكثير من المشاهدات.

وحكم مذهبي في الغرائز، حكمه في التحولات الجسمانية، فالغريزة التي يختص بها كل نوع مفيدة له وحده، ولم تحدث في نوع من غريزة، كان نفعها مقصورًا برمته على نوع آخر، نقضي بذلك، اعتمادًا على مبلغ علمنا بهذه الحالات.

أما أخص حالة من الحالات التي شهدتها في قيام حيوان ما بعمل، يقتصر نفعه على حيوان آخر، فقد لحظتها في «الأُرْقِيَّات»٦ (قمل النبات) حيث تختار بإرادتها أن تنفح النمل بكل ما تستطيع أن تخرج بطونها من مفرزات شهية، كما لاحظ ذلك «هوبر» لأول مرة، والحقائق التي نأتي عليها هنا تثبت لنا أنها تفعل ذلك مختارة، بمحض إرادتها.

فصلت بين مجموعة من النمل ومجموعة من قمل النبات، يبلغ عددها الاثنتي عشرة بضع ساعات، وتحققت بعد هذه الفترة أن القمل تحتاج إلى الإفراز، فأخذت ألمسها، وأضربها بخيط من الشعر، على النسق الذي تفعله معها النمل بملامسها، فلم تفرز شيئًا، وبعد ذلك أطلقت نملة إلى حظيرتها، فاستكشفت، بعد أن أخذت في التطواف، ذلك القطيع العظيم، ومن ثم بدأت تضرب بملامسها على بطن كل قملة منها بالتناوب، فلم يلبث القمل أن رفعت بطونها بمجرد إحساسها بملامس النملة، وأفرزت كل منها نقطة من سائل رغوي، سعت النملة إلى امتصاصه بقابلية عظيمة، ولاحظت أن أصغر القمل عمرًا، قد نهج النهج عينه، مما يثبت أن عملها غريزي فطري فيها، لا أثر فيه للمرانة، ومما هو حقيق بالاعتبار، اعتمادًا على ملاحظات الأستاذ «هوبر»، أن قمل النبات لا يظهِر شيئًا من الكراهية للنمل، فإن النمل إذا غاب، امتنع القمل عن إخراج مفرزاته تلك، غير أن هذه المفرزات، إذ هي ذات طبيعة غريزية شديدة، فمما لا شك فيه أن إزالتها أمر ترغب فيه الحيوانات، التي تخرجها بطونها. ومن هنا، نستدل على أنها لا تفرزها ابتغاء نفع النمل وحده، وإنا إن قضينا من قبل، بأنه لا يوجد في الطبيعة برمتها مثَلٌ يؤيد أن حيوانًا ما قد يقوم بعمل، ترجع فائدته المطلقة على نوع آخر، فذلك لا يمنع مطلقًا من أن يبذل كل نوع جهد ما يستطيع من مقدرة وعنفوان، في سبيل الانتفاع من غرائز غيره، كما ينتفع كل نوع بما في غيره، ومن ضعف التركيب ووهن البنية، كذلك نرى أن بعض الغرائز الخاصة لا يمكن اعتبارها في الدرجة القصوى من الكمال، غير أن هذه التفصيلات، وما يجري مجراها، إذ هي غير ذات شأن كبير فيما نحن بصدده، فلهذا نؤثر أن نضرب عنها صفحًا.

إن إثبات حدوث نزر يسير من التحول، واقعًا على الغرائز في حالاتها الطبيعية وتوارث هذه التحولات، أمر ضروري للانتخاب الطبيعي؛ لكي نبرز نتائج تأثيراته؛ لذلك وجب علينا أن نأتي على أمثال تؤيد ذلك، بقدر ما تبلغ إليه استطاعتنا.

أما أن التحول قد ينشأ في الغرائز فذلك ما نقطع بوقوعه. خذ مثلًا غريزة الهجرة، فإنها تتحول، سواء في الاتجاه الذي يتجه فيه الحيوان لدى هجرته، أو في مقدار المسافة التي يقطعها، أو في فقدان هذه الغريزة بتة، كذلك الحال في أعشاش الطيور، فإنها تتحول تحولًا جزئيًّا في اختيار الطير للموضع الذي يبني فيه عشه حينًا، أو في طبيعة الإقليم، الذي يقطنه، ودرجة حرارته حينًا آخر، وبغير سبب معروف لدينا في الغالب. ولقد أتى العلامة «أوديبون» على حالات كثيرة ذات شأن، أثبت بها اختلافات بينة في أعشاش النوع الواحد في شمالي الولايات المتحدة الأمريكية وجنوبيها، ولقد تساءل البعض: لماذا لم تُعطِ النحل قدرة على استعمال شيء غير الشمع، إذا عزَّ وجوده، ما دامت الغرائز قابلة للتحول؟ غير أننا قد نسأل أنفسنا، إذا ما أوردنا هذا السؤال: «أية مادة من المواد الأخرى، في استطاعة النحل أن يعتاض بها عن الشمع؟» وإذ ذاك نعرف أن النحل تستعمل، كما خبرت ذلك بنفسي، شيئًا من الشمع مقوى بالزنجفر،٧ أو مخفف بنزر من الدهن. ولاحظ «أندرونايت»، أن نحله الذي يربيه، قد استعاض عن «وسخ الكوابر»،٨ وهي المادة التي يلصق أقراصه إلى باطن خلياته، بشيء من غراء الشمع والتربنتينة، كان قد غطى بها بعض جذوع أشجاره، التي انتزع لحاءها، وثبت أخيرًا، أن النحل تستعيض عن استجماع لقح الأزهار، بمادة أخرى، هي دشيش القرطم،٩ ومن المحقق أن الخوف من عدو معين صفة غريزية، كثيرًا ما نشهدها في الطيور الحواضن، بيد أن هذه الغريزة تقويها التجربة، وشهود الخوف في غيرها من العدو نفسه، والخوف من الإنسان صفة أخذت تكسبها الحيوانات، التي تقطن الجزائر غير المعمورة، كما أبنت عن ذلك في مواطن أخرى. ونرى مثلًا، من ذلك حتى في إنجلترا ذاتها، في ازدياد غريزة الاستيحاش والنفور في الطيور الكبيرة، إذا قسناها بالطيور الصغيرة؛ لأن الأولى كانت أكثر الطيور معاناة لعنت الإنسان، وتعرضًا لافتراسه. وإنا إن عزونا السبب في ازدياد نفور الطيور الكبيرة في الجزائر البريطانية إلى قتل الإنسان إياها، فإنما نقول بذلك، مستدلين عليه بأن الطيور الكبيرة في الجزر غير المعمورة ليست بأكثر من الطيور الصغيرة فرَقًا من الإنسان، وفزعًا من عسرته. و«العقعق»، أو «الزاغ»١٠ في إنجلترا شديد الحذر من الناس، بينا تجده في نرويج أليفًا داجنًا، شأن «الغراب المقنزع»١١ في مصر.

أما أن القوى العاقلة في الحيوانات غير الداجنة التابعة لنوع بعينه، شديدة الخضوع لمؤثرات التجول، فذلك ما نثبته بحقائق كثيرة نوردها، وهنالك حالات عديدة في مستطاعنا أن نستدل بها على نشوء عادات غريبة، تحدث اتفاقًا في الحيوانات الوحشية، بحيث لو اتفق أن تكون ذات فائدة للنوع، الذي تحدث فيه؛ لكان من نتيجة ذلك تأصل غرائز جديدة في النوع بتأثير الانتخاب الطبيعي. غير أني على اعتقاد بأن ذكر هذه الملاحظات العامة، من غير أن نستند في إيرادها إلى حقائق تؤيدها تفصيلًا، لا يؤثر في عقلية القارئ إلا تأثيرًا جزئيًّا صرفًا، غير أني أقطع للقارئ عهدًا، كما قطعت من قبل، بألا أورد من شيء لم يقم عندي دليل مادي على صحته.

(١) التحولات المتوارثة عن العادة أو الغريزة في الحيوانات الأليفة

إن إمكان حدوث التحولات الغريزية في الحالة الطبيعية، أو ترجيح حدوثها، يمكن أن نزكيه ببضعة أمثال، نقتطعها من بحثنا الحيوانات الداجنة، فيتسنى لنا أن نكتنه حقيقة الدور، الذي لعبته مؤثرات العادة والانتخاب، الذي أطلقنا عليه اسم «التحولات الذاتية» اصطلاحًا، وأثره في تهذيب الملكات العقلية في حيواناتنا المؤلفة، وإن الملكات العقلية تتحول في الحيوانات الداجنة تحولًا يحمل على الحيرة والعجب، فإن بعض السنانير مثلًا، تقودها طبيعتها إلى اصطياد الفئران،١٢ وبعضها يعمد إلى اصطياد الجرذان.١٣ ومن المعروف أن هذه الميول تورَّث فيها، فإن هرة ما، كما لاحظ «مستر سانت جون»، كانت ترجع إلى المنزل، حاملة طيورًا من طيور الصيد، وأخرى كانت تصيد الأرانب البرية أو المؤلفة، وغيرها اعتاد الصيد في الأحراش، وكانت تقبض في أثناء الليل على عديد من «أفرخ الغاب»،١٤ أو «الشناقب».١٥
ولقد أورد كثير من الكتاب حالات غريبة، موثوقًا بصحتها عن ضروب من المشارب والميول، وألوان من لذة الاستمتاع، وأخرى عن حيل عجيبة، ونكات من أرق ما شاهدت عين، أو وقع عليه بصر، اقترنت بحالات ذهنية، أو وقعت في خلال أزمان معينة، وأثبتوا أن هذه الحالات قد تورث، ونقصر الآن على الكلام في المشاهدات، التي نلحظها في سلالات الكلاب المؤلفة، فمن المحقق أن صغار الكلاب المرشدة،١٦ وقد خبرت ذلك بنفسي، ترشد وتتعقب الكلاب الأخرى لأول عهدها بالخروج من حظائرها، التي تُولد فيها، واستجلاب الصيد صفة تتوارثها الكلاب الصيادة إلى حد ما، وعادة التطواف من حول قطعان الأغنام، صفة في كلاب الرعاة استعاضت بها عن عادة تتبع أهداف بذاتها، أو السعي إليها، شأن كلاب الصيد. وهذه الحركات، إذ تأتيها الحيوانات من غير أن تمرِّن عليها صغارها، وتلزمها أفرادها على نهج واحد تقريبًا، إذ تعكف عليها الأنسال، بحكم دافع خلقي مؤصل في تضاعيف فطرتها، مستلذة من العكوف عليها، مستمتعة بالركون إليها، لحركات لا أستطيع أن أقضي بأنها تفترق عن الغرائز الصحيحة في أمور جوهرية، طالما قد ثبت أن صغار الكلاب المرشدة، هي على علم بأنها تساعد صاحبها على استكشاف الصيد، أكثر مما تعلم الفراشة من كنه السبب، الذي يحملها على أن تضع بيضاتها على ورق الكرنب مثلًا، وإن دققت النظر في نوع ما من الذئاب، فإنك تجد — وهي لا تزال جراء صغيرة، معدومة المرانة والتجربة — أنها تقف، بمجرد أن تستشم ريح فريستها، لا حراك بها، كأنها انقلبت تمثالًا حجريًّا، ومن ثم تمعن في الزحف إلى الأمام بمشية مخصوصة ونهج مرسوم. وإذا شاهدت نوعًا آخر من الذئاب، تطوف جريًا حول قطيع من الغزال، بدلًا من مهاجمته والانقضاض عليه، حتى تبعد عن المكان، الذي التقت به فيه مسافة معينة، فإنك لا محالة تقضي بأن هذه الأفعال غريزية بحتة، و«غرائز الإيلاف»،١٧ كما يسمونها اصطلاحًا، أقل ثبوتًا في الطبائع العضوية من الغرائز الطبيعية؛ لأنها لم تحدث في الدواجن إلا ثمرة لضرب من الانتخاب، أقل قسوة من الانتخاب الطبيعي، وأضعف منه أثرًا، وظلت متنقلة في السلالات زمانًا أقل بكثير من الزمان الذي ظلت الغرائز الطبيعية متنقلة خلاله في الحيوانات الوحشية، رغم أن الأولى قد خضعت لظروف أقل ثباتًا من تلك التي خضعت لها الثانية.

أما مقدار الثبات الوراثي في هذه الغرائز والعادات والميول، وكيفية تشابكها ذلك التشابك العجيب، فيظهر جليًّا عند تزاوج بعض سلالات مختلفة من الكلاب، فإن من الذائع المعروف، أن تزاوجًا مع «البلدوج» (الكلب العجلي) قد زاد إلى شجاعة سلالة الكلاب السلوقية، وقوَّى من شكيمتها، وشدة مراسها عدة أجيال متعاقبة، وتزاوجًا آخر مع الكلاب السلوقية قد هيأ كلاب الرعاة بنزعة إلى صيد الأرانب الوحشية. فهذه الغرائز الإيلافية، إذا تمازجت بالتهاجن والتزاوج ذلك التماذج، فإنها تشابه الغرائز الطبيعية، إذ تُخلط بصور مشابهة لهذه الصور تخالطًا عجيبًا، وتظهر آثارها في السلالات موروثة عن أحد الأبوين زمانًا طويلًا. فقد وصف «لا روي»، كلبًا كان جده لأبيه ذئبًا، ولكن لم تظهر فيه غريزة الافتراس إلا في مسألة واحدة، حيث كان من عادته ألا يأتي إلى سيده، سالكًا خطًّا مستقيمًا في سيره إذا ناداه.

وزعم بعض الباحثين، أن «غرائز الإيلاف» ليست سوى حركات اضطرارية، لم تصبح موروثة إلا بتأثير العكوف على عادة واحدة، لزمها الحيوان أجيالًا متعاقبة، غير أن هذا خطأ محض؛ لأنه مما يبعد احتماله، أن يكون إنسان قد فكَّر في أن يعلِّم الحمام القُلب عادة التقلب١٨ في الجو على أعقابه، أو أن يدعي شخص أن في مستطاعه أن يعلمها ذلك، وهي عادة لاحظت أن صغار هذا الطير تعكف عليها منذ أول عهدها بالتحليق، ولم يكن بصرها قد وقع على غيرها، وهي تتقلب في الجو. أما ما يجوز لنا أن نعتقد في صحته، أن حمامة من هذا الصنف حدث فيها استعداد لاكتساب هذه العادة، وأن انتخاب أرقى أنسالها أزمانًا متطاولة، جيلًا بعد جيل، قد أنتج النسل القلب، كما نراه اليوم، وبالقرب من مدينة «جلاسكو» ضرب من هذا الحمام، يُربَّى في المنازل، لا يستطيع أن يطير ثماني عشرة بوصة، حتى يكون قد تقلب على عقبيه. ومما تخالجنا فيه الريب، أن تكون عادة الإرشاد في الكلاب المرشدة قد اكتُسبت بالمرانة، بأن عكف شخص على تعليمها إياها، ما لم يكن قد ظهر في فرد منها استعداد فطري لاكتساب هذه العادة، فإن من المعروف، أن استعدادًا لكسب هذه الصفة قد يظهر أحيانًا في بعض من كلاب «التريار» صحيحة النسب، كما خبرت ذلك، فإن عادة الإرشاد، كما يرجح الكثيرون، لم تكن إلا إمعانًا في الحالة، التي يكون عليها الحيوان عند محاولة الانقضاض على فريسته، ومبالغة في الثبات عليها، فلما ظهر الاستعداد لكسب عادة الإرشاد لدى أول نشوئها، أثَّر الانتخاب النظامي، معززًا بالوراثة المكسوبة من المرانة خلال كل جيل من أجيالها على التعاقب، حتى استُحدثت الكلاب المرشدة، التي نعرفها، في حين أن الانتخاب اللاشعوري أو غير المقصود، كان ممعنًا في سبيل تحسينها، فساق كل إنسان إلى الاحتفاظ بأكثر الأنسال قدرة، وأرشدها في الصيد فطرة، ولو لم يكن من قصده أن يحسن من أنسالها شيئًا. وإنا لنرى من جهة أخرى، أن العادة قد تكفي لتعليل ذلك في بعض الحالات، فإنك قلما تجد حيوانًا أشد في الإيلاف مراسًا، وأبغض للإيلاف من الأرانب الوحشية، قلما تجد حيوانًا أكثر إيلافًا، وأروح في التأليف من صغار الأرانب الداجنة. غير أن هذا الأمر لا يحملني على أن أفرض أن الأرانب لم يُعنَ بها الإنسان، إلا حبًّا في ألفتها له لا غير؛ لذلك كان أقل ما ينبغي لنا الاحتياط به، هو أن نفرد الشطر الأعظم من تحولها الوراثي، وانقلابها من الوحشة الشديدة إلى الإيلاف التام، إلى مؤثرات العادة، وفعل الأسر فيها أجيالًا متعاقبة من الزمان.
إن الغرائز الطبيعية تُفقد بالإيلاف، ومثال ذلك أن بعض أنسال من الدجاج قلما تحضن بيضها، أو هي ترفض ذلك البتة، على أن وقوفنا على عادات الحيوانات المؤلفة في حالتها الحاضرة، قد يحول دون استكناه مقدار التحولات الجُلَّى، التي حدثت، أو التي لا تزال تحدث، في ملكاتها العقلية، وليس من الهين أن ننكر أن حب الإنسان قد أصبح صفة غريزية في الكلاب، أما الذئاب والثعالب وبنات آوى، وأنواع أخرى من الفصيلة السنورية،١٩ فتنزع بعد تربيتها وتأليفها إلى مهاجمة الدجاج والغنم والخنازير، وظهر أن هذه النزعة ثابتة في طبيعة الكلاب المجلوبة، وهي جراء صغيرة من مجاهل بعيدة، كجزائر «أرض النار»، أو أستراليا، ثباتًا لا يُرجى معه تأليفها؛ إذ إن المتوحشين لا يربون هذه الأنواع، وقلما تجد أنك في حاجة إلى رياضة الكلاب المؤلفة على الامتناع عن مهاجمة الدجاج، والغنم والخنازير، حتى في طور شبابها وفتوتها، ولا شك في أن بعضها يهاجم هذه الحيوانات في بعض الأحيان، فيأخذ الإنسان في تدريبها بطرق مختلفة، ابتغاء صرفها عن عادتها هذه، فإذا لم تنصرف عن قصدها قتلها وأفناها؛ ولذلك حق لنا أن تكون العادة مقرونة بنزر من الانتخاب، قد هذبت بالوراثة أنسال كلابنا المؤلفة، ونجد من جهة أخرى أن أفراخ الدجاج قد فقدت بالمرانة عادة الخوف والفزع من الكلب والقط، وكانت من قبل صفة غريزية فيها. وقد أخبرني «مستر هاتون»: أن أفراخ دجاج الهند الأصلي إذا رُبيت في الهند بحضانة أمهاتها، تكون شديدة الوحشية والنفور لأول عهدها بالحياة، وكذلك الحال في أفراخ الطاووس، التي يحضنها الدجاج في إنجلترا، ولا يُقصد بذلك أن الأفراخ قد فقدت كل أثر للذعر والخوف، بل إن فقدانها غريزة الخوف مقصورة على الهررة والكلاب، فإن الدجاجة وإن قرعت لأفراخها قرعة الفزع، فإنها تفرق وتشتد يقظتها، ولا سيما أفراخ الدجاج الرومي، وتسرع إلى الاختفاء، متخذة من الحشائش، والأدغال الصغيرة المجاورة مأمنًا، يقيها خطر ما حذرتها منه أمها. وهذه الحركة التي تأتيها الأفراخ في اختفائها لدى التيقظ لوجود خطر ما، تقع غالبًا بفعل دافع غريزي، كما تفعل صغار الطيور الأرضية، التي تحضن بيضها فوق سطح الأرض، فتعطي بذلك لأمها فرصة سانحة للطير والهروب، وهذه الغريزة هي بذاتها، التي نلحظها في أفراخ الدجاج الداجن، غير أنها أصبحت معدومة الفائدة بعد الإيلاف؛ لأن الدجاج المؤلف فقد القدرة على الطيران بتة.

ومن هذه الملاحظات، نستطيع أن نقضي بأن الحيوانات قد اكتسبت بالإيلاف غرائز خاصة، حلت محل غرائز طبيعية فقدتها بتأثير العادة تارة، وبتأثير الإنسان في انتخاب الأفراد ذوات العادات أو الصفات العقلية الخاصة، واستجماعها خلال أجيال كثيرة متعاقبة تارة أخرى، تلك العادات والصفات التي نعزو نشوءها في العضويات إلى ما ندعوه «المصادفة»، جهلًا منا بأسباب ظهورها، وقصورًا عن إدراك عللها. ولقد كفت العادات الاضطرارية في كثير من الحالات؛ لإحداث التحولات العقلية المتوارثة، كما أن هذه العادات الاضطرارية لم تحدِث من أثر في حالات أخرى، فكان نشوء التحولات العقلية الموروثة راجعًا إلى تأثير الانتخاب، سواء أكان نظاميًّا أم لا شعوريًّا. ولكن أكثر الحالات التي نشهدها، تدلنا على أن تأثير العادات والانتخاب مقترنين، كان السبب الأكبر في إحداثها.

(٢) الغرائز الخاصة

إن متابعة الكلام في بضعة أمثال، نوردها في هذا الموطن، تساعدنا على الكشف عن كيفية تهذيب الغرائز في الحالة الطبيعية بفضل الانتخاب، وسأقصر الكلام هنا على ثلاث حالات: الأولى، تلك الغريزة التي تسوق أنثى «الوقواق» إلى وضع بيضها في أعشاش غيرها من الطير، والثانية، غريزة بعض أنواع النمل في الاسترقاق، والثالثة، غريزة نحل الخليات في بناء بيوتها. ولقد أجمع كل الطبيعيين على أن الغريزتين الثانية والثالثة، أخص غرائز الحيوان المعروفة ثباتًا، وأبعثها على إثارة عجب الباحثين.

•••

غرائز الوقواق: زعم بعض الطبيعيين أن أخص ما يبعث أنثى الوقواق على التزام غريزتها، التي تسوقها إلى وضع بيضها في أعشاش غيرها من الطير، أنها لا تضع بيضها خلال يوم واحد، بل إنها تبيضه في فترات متعاقبة، خلال يومين أو ثلاثة، فإذا كان من عادتها أن تبني لها عشًّا، وتحضن فيه بيضها، فإن البيض الذي يُوضع أولًا، يلبث زمانًا ما من غير حضانة، أو يعرض لها عند تمام النقف أن يصبح لديها أفراخ وبيض لم ينقف في آن واحد، وفي عش واحد. فإذا كان هذا الزعم حقًّا واقعًا، لترتب على ذلك أن تكون مدة الحضانة والنقف طويلة، بحيث تصبح ضررًا عليها، ولا سيما أن من عادات أنثى الوقواق أن تهاجر مبدرة في هجرتها، ويغلب إذ ذاك أن يلزم الذكر إطعام أول الصغار نقفًا عن البيض، وأن يقوم برعايتها. غير أننا نجد إذ نتابع البحث، أن الوقواق الأمريكي واقع تحت سلطان هذه العادة، على الرغم من أن أنثاه تبني عشها، وتحضن فيه، ويأتي عليها طور يكون لها فيه أفراخ صغار، وبيض ينقف بعضه تلو بعض في فترات متتالية. ولقد أيد البعض قول الذين يؤكدون أن أنثى الوقواق الأمريكي تلقي بيضها في أعشاش غيرها من الطيور في بعض الأحيان، كما أنكر البعض ذلك القول، غير أن دكتور «ميريل» أستاذ جامعة «إيووا»، قد ذكر لي أنه عثر في مقاطعة «إلينويس» على فرخ من أفراخ «الكاكو» مع فرخ من العقعق في عش عقعق أزرق، «واسمه الاصطلاحي: الغرول المقنزع»،٢٠ ومما زاده تحقيقًا لنوعية الفرخين، أنهما كانا ناميا الريش، بحيث لم يكن هنالك من شك في التفريق بينهما ومعرفة نوعيتهما. وفي مستطاعي أن أورد هنا أمثالًا لطيور كثيرة، من المعروف أنها تلقي بيضها في أعشاش غيرها في بعض الأحيان.

ولنفرض الآن، أن الأصول الأولى التي تسلسل عنها الوقواق الأوروبي كان لها من العادات ما يشابه عادات النوع الأمريكي، فكانت تلقي بعض الأحيان دون بعض، بيضة من بيضها في أعشاش غيرها من الطير، فإذا أُضيف إلى ذلك أن هذا الطير قد يجني فائدة من إلقاء بيضة في أعشاش غيره، بأن يتمكن من المهاجرة مبدرًا، أو لسبب آخر من الأسباب، أو أن صغاره إذا اتخذت من مخادعة غرائز الأنواع، التي تنقف في أعشاشها سبيلًا إلى فائدة تجنيها بأن تصبح أكثر قوة، وأشد غلبة مما لو نقفت، أو رُبيت في أعشاش أمهاتها، إذ يحول بينها وبين حسن تعهد أفراخها والقيام بوظيفة الأمومة الحقة أن يكون لديها أفراخ، ينقف عنها البيض في فترات متباعدة، فمما لا شك فيه أن الآباء والأفراخ المرباة في غير أعشاشها، تجني فائدة من جراء ذلك. على أن القياس الطبيعي يحملنا على الاعتقاد بأن الأفراخ التي تُربى على هذه الوتيرة، تنزع إلى اتباع تصرفات آبائها، فتضحى بذلك أكثر نجاحًا في تربية نشئها، وزيادة غلبته وقوته الحيوية. وإني لمقتنع تمام الاقتناع بأن تتابع تأثير هذه السُّنة ولزوم الطير لها، قد ولَّدت في الوقواق الأوروبي هذه الغريزة العجيبة. وأكد لي العلامة «أدولف مولر» في العهد الأخير أن أنثى الوقواق الأوروبي قد تلقي بيضها في بعض الأحيان على الأرض العارية، ثم تحضنه، حتى إذا نقف، تعهدت أفراخها، وقامت عليها، وغالبًا ما تكون هذه الحالات النادرة، رجعى إلى غريزة فقدتها أصولها المنقرضة منذ زمان بعيدة، إذ كانت تلقي بيضها في العراء.

واعترض عليَّ بعض الباحثين، بحجة أني لم أُعِر غرائز أخرى في الوقواق، ذات صلة بهذه التفاتًا، وأني لم أُقِم وزنًا للتكافؤات التركيبية والغرائز، التي تمتُّ لتلك بآصرة، زاعمين أنها لم تتسق وتتألف إلا بمثل ما اتسق غيرها، غير أنني لحظت في غالب الحالات المشاهدة أن اقتصار البحث على غريزة لم نستبنها إلا في نوع واحد لا غير، أمر معدوم الجدوى؛ لأننا لا نستطيع في تلك الحال أن نقع على كثير من الحقائق، التي نستنير بها عادة في ظلمات هذه البحوث، فإن غرائز الوقواق الأوروبي، والوقواق الأمريكي غير الطفيلي، لم تُعرف حقيقته إلا منذ عهد قريب، كما أننا وقعنا بفضل أبحاث «مستر رامسي»، على شيء من صفات ثلاثة الأنواع، التي تقطن قارة أستراليا، وكلها تضع بيضها في أعشاش غيرها من الطير، والملاحظات التي يجب أن ندلي بها في هذا الموطن ثلاث: الأولى: أن أنثى الوقواق العادي تضع بيضة واحدة في عش بذاته، ما عدا استثناءات نادرة، حتى يستطيع فرخها، بما أوتي من القوة والغلبة، أن يحصل على كمية وفيرة من الطعام. والثانية: أن البيض صغير الحجم بالنسبة لبدانة الطير؛ إذ لا تزيد البيضة من حيث الحجم على ثلث بيضة القنبرة، في حين أن القنبرة لا يزيد حجمها على ثلث حجم الوقواق، أما كون صغر حجم البيضة حالة ظاهرة من حالات التكافؤ الجلية، فأمر نجتليه إذا ما وعينا أن بيض الوقواق الأمريكي غير المتطفل طبيعي الحجم. الثالثة: أن الأفراخ الوقواق تقوى فيها غريزة العمل على إبعاد أخواتها، التي تنشأ معها في عش واحد، وسرعان ما تجد في نفسها من القوة، بعد أيام قلائل من بدء عمرها، يساعدها على إتمام مطلبها، بل إن تركيب جسمها قد يهيئها بمعدات تبلغ بها ما تروم من القضاء على ما يزاحمها في العش من الأفراخ، حيث تموت جوعًا وتعرضًا لأعاصير الطبيعة، مما جعل بعض الناظرين في طبائع الأحياء، على القول بأن عملها هذا ليس إلا تنسيقًا للطبيعة معقولًا، يستطيع به فرخ الوقواق أن يحصل على طعام يكفيه، وتبلغ به أخواته، التي يضمه وإياها عش واحد، ميتة غير ذات ألم، ولا تباريح من المرض، حيث تقضي قبل أن تبلغ فيها الحواس مبلغًا كبيرًا في أداء وظيفتها.

ولنعد الآن إلى الأنواع المؤصلة في أستراليا، فإن هذه الصور، إن كانت تضع بيضة واحدة في عش واحد عادة، فإنه ليس من النادر أن تجد بيضتين، وربما وجدت ثلاث بيضات في عش واحد، فالوقواق البرونزي يختلف بيضه من حيث الحجم اختلافًا كبيرًا، فتكون البيضة من ثماني «لينيات»٢١ إلى عشر، فإذا كان قد عرض لهذه الأنواع مثلًا، أن تنتفع من أن يكون بيضها أصغر حجمًا من البيض الذي تضعه في حالتها الحاضرة؛ إذ تستطيع بذلك أن تغش غيرها من الطيور، التي تعهد إليها بحضانة بيضها، أو تستفيد كما هو الأرجح، من أن ينقف بيضها عن الفرخ قبل بيض غيرها بفترة ما؛ لأنه ثبت أخيرًا، أن هنالك صلة بين حجم البيض وبين الزمان اللازم لحضانته؛ لينقف عن صغاره، فإني لا أجد من صعوبة تحول دون الاعتقاد بأن سلالة من السلالات، أو نوعًا من الأنواع من المحتمل أن ينشأ، بحيث يكون بيضه قد مضى متضائلًا في الحجم على تتالي الأجيال، بما أنه قد ثبت أن البيض الأصغر حجمًا يكون أسهل نقفًا، عن صغار تستلزم تربيتها عناء أقل من غيرها. ولاحظ «مستر رامسي» أن أنثى الوقواق الأسترالي تختار من الأعشاش، إذا ما أزمعت أن تلقي بيضها، ما كان لون البيض الموجود فيه أكثر مشابهة للون بيضها.
والظاهر أن في النوع الأوروبي نزعة إلى غريزة مشابهة لهذه، ولكن لا يندر أن يقلع عنها إلى غيرها؛ إذ نرى أن إناث هذا النوع، وقد ألقت بيضها القاتم المغبر اللون في أعشاش طير، يُقال له «هزاج الأسيجة»،٢٢ (ويُعرف في سوريا باسم «الطَّيُّون»)، وبيضه مخضر إلى زرقة حائلة اللون، ولو لزم الوقواق الأوروبي هذه الغريزة، لكان في مستطاعنا أن نلحقها بتلك الغرائز، التي يقول «راي» فيها بأنها قد نشأت وكسبتها طبيعة هذا الطير في وقت واحد، أما إذا علمنا أن بيض الوقواق البرونزي في أستراليا يختلف، كما حقق ذلك «مستر رامسي»، اختلافًا كبيرًا في اللون، فإننا لا محالة نعتقد بأن الانتخاب الطبيعي قد ثبت كل تحول يفيد هذا الطير في خلال تحول صفات بيضه في اللون والحجم على السواء.

أما الوقواق الأوروبي، فإن أفراخ الطير الذي يحضن بيضه تُزاح عن العش بعد ثلاثة أيام من خروج فرخ الوقواق في العادة. ولقد ظن «مستر جولد» إذ لحظ أن فرخ الوقواق يكون معدوم الحيلة، ضعيف الجسم لأول عهده بنقف البيض عنه، إن إبعاد الأفراخ الأخرى من العش، يرجع إلى فعل الطير المحاضن نفسه. ولكن هذا الباحث قد تمكَّن في العهد الأخير من إثبات حالة، أبعد فيها فرخ الوقواق «أخدانه في الحضانة»، في وقت كان لا يزال مغمض العينين، ولم يكن في استطاعته أن يحتفظ باعتدال عنقه، فلما أُعيد أحد الأفراخ إلى العش، قذف به فرخ الوقواق مرة أخرى إلى خارجه.

أما البحث في كيفية نشوء هذه الغريزة الغريبة وثباتها في طبيعة هذا الطير، فإنا إذا حققنا أن من فائدة فرخ «الوقواق» أن يحصل على كمية كبيرة من الغذاء لدى أول عهده بالحياة، كما يغلب أن يكون الواقع، فلست أجد من صعوبة تحول دون القول بأن أفراخ هذا الطير قد سيقت بمقتضى حاجتها العمياء إلى كسب هذه الغريزة تدرجًا، خلال أجيال عديدة، مقرونة بما يلزمها من قوة جسمانية وتراكيب بدنية ضرورية تمكِّنها من إتمام عملها هذا، ذلك بأن أفراخ «الوقواق»، التي كانت بحكم الطبيعة أكثر التزامًا لهذه العدة، وأحسن نظامًا في التركيب، وأرقى تكوينًا، هي التي فازت بحظ البقاء، وحسن التعهد وقوة النشأة، ومما أرجحه أن أول الخطى التي مضت هذا الطير، متدرجًا فيها نحو اكتساب هذه الغريزة الخاصة، لم تكن سوى نزعة في أفراخ هذا الطير للقيام بحركات عنيفة لا تنبهية في داخل العش، بعد أن تبلغ من العمر مبلغًا خاصًّا، وتحوز نزرًا كافيًا من القوة الجسمانية، وأن عادتها هذه قد تهذبت وتحسنت، وأخذت تظهر في دور باكر من العمر خلال تتابع أجيالها، وليست أرى في الأخذ بهذا الرأي من صعوبة، أكثر مما في كسب أفراخ بقية الطيور الأخرى لتلك الغريزة العجيبة، التي تسوقها كسر قشر البيض، الذي يحويها بمقدم منقارها، أو من كسب صغار الحيات والثعابين لسن بارز يكون في مقدم فكها الأعلى، يساعدها على كسر البيضة، التي تتضمنها على صفاقة قشرتها، كما كشف عن ذلك الأستاذ «رتشارد أوين». فإننا إذا تابعنا البحث، مقتنعين بأن كل جزء من التراكيب العضوية قابل للتحول الفردي في خلال كل دور من أدوار العمر، وأن هذه التحولات تنزع إلى أن تعود إلى الظهور، موروثة في دور من العمر، يناظر الدور الذي ظهر التحول فيه أولًا في أصولها الأولية، أو في دور مبكر قليلًا، وهذه حقائق لا سبيل إلى إدحاضها بحال، فإن من المستطاع أن تتهذب غرائز في صغار العضويات وتركيبها تدريجيًّا، ممعنة في ذلك إمعان العضويات حين بلوغها، وتانكما الحالتان، حالتا التحول واقعًا على صغار العضويات وقوعه على كبارها، إما أن تثبتا معًا، وإما أن تسقطا معًا، بإثبات نظرية الانتخاب الطبيعي، أو نقضها.

(٣) أنواع من «الملطروس»

هنالك أنواع من «الملطروس»،٢٣ وهو جنس من طيور أمريكا الخاصة ذوات الصفات الثابتة، يمتُّ بحبل النسب إلى «الزرازير» الأوروبية، ذو عادات طفيلية كعادات الوقواق، وإنك لتجد في هذا النوع مظاهر من التدرج، سيق فيها نحو استكمال غرائزه تلك، جديرة بالنظر والاعتبار، فإن زوجي «الملطروس الكستنائي»٢٤ — الذكر والأنثى — قد يعيشان في أسراب إباحية تارة، وقد تتزاوج تارة أخرى، كما أبان عن ذلك البحاثة الكبير «مستر هدسون»، والزوجان، إما أن يبنيا لهما عشًّا خاصًّا بهما، وإما أن يحتلا عشًّا لغيرهما، وغالبًا ما يقذفان بالأفراخ، التي تكون في ذلك العش، ويقضيان عليها، فإذا ما امتلكا العش، فهما إما أن يضعا فيه بيضهما ويحضنان فيه، وإما أن يبتنيا لهما فوقه عشًّا آخر من صنعتهما، والغالب فيهما أن يحضنا بيضهما، ويربيا صغارهما. غير أن «مستر هدسون» يرجح، أنهما قد تنقلب عادتهما، فيصبحان طفيليين؛ إذ شهد أن صغار هذا الطير قد تتبع طيورًا بالغة من نوع آخر مستقل عن نوعها تمام الاستقلال، ساعية في طلب القوت منها، وهنالك نوع آخر يُسمى «الملطروس البوناري»،٢٥ فلزومه عادات التطفل أكثر ثباتًا في طبيعته من النوع الأول، وأمعن تأصلًا، غير أنها لا تزال في حالة من النقص تبعدها عن بلوغ الحد الأقصى من التطفل، فإن هذا الطير، على ما نعلم من عادته، وعلى ما بلغنا إليه من درس حالاته، يضع بيضه دائمًا في أعشاش غيره من غريب الطير، في حين أن ما هو خليق بالاعتبار في عادات هذا الطائر، أنك تجده في بعض الحالات — وقد يتعاون جمع من أفراده على بناء عش — غير ذي نظام أو عناية، وغالبًا ما يبني ذلك العش في مكان غير ملائم، بعيد عن حسن الاختيار، فيبنيه على ورقة من أوراق «تيسل».٢٦ ولاحظ «مستر هدسون» أنها لن تكمل بناء عش بدأت في بنائه مطلقًا، ولا يندر أن يضع هذا الطائر، إذا ما احتل عشًّا ما، كمية كبيرة من البيض فيه، تتراوح من خمس عشرة إلى عشرين بيضة مثلًا، وهذه حالة تقلل مقدار ما ينقف من البيض عن صغار، وغالبًا ما يفسد كله، أضف إلى هذا، تلك العادة الغريبة، التي يلزمها ذلك الطير؛ إذ ينقر بيضه، أو بيض غيره من الطيور، التي يحتل أعشاشها، فيترك فيها ثقوبًا صغيرة، ناهيك بأنه يلقي بعضها في العراء، حيث تفسد، ولدينا نوع ثالث من هذا الجنس، يُقال له «الملطروس البقري»،٢٧ يقطن شمالي أمريكا، قد كسب غرائز تبلغ من الكمال مبلغ غرائز الوقواق؛ لأنه لا يضع أكثر من بيضة في عش غيره، وبذلك ينشأ فرخه نشأة بعيدة عما يحف بأفراح غيره من المخاطر.

إن «مستر هدسون» من غير المؤمنين بنظرية النشوء والتطور، ولكن يظهر أنه قد تأثر بما رأى من النقص الكائن في غرائز «الملطروس البوناري»، حتى إنه تساءل بعد أن أتى على الكلمات، التي كتبتها في ذلك الطير، فقال: «أفي مستطاعنا ألا نعتبر هذه العادات غرائز، خُلقت في النوع، وحبته بها الطبيعة، فنعتبرها ثمرة لمؤثرات سُنة عامة، ندعوها سُنة التدرج؟»

بيَّنَّا فيما تقدم، أن كثيرًا من مختلف أنواع الطير قد تضع بيضها في أعشاش غيرها، وهذه العادة غير نادرة الظهور في أنواع الفصيلة الدجاجية،٢٨ وهي تساعدنا من جهة أخرى، على فهم غرائز النعام الفريدة في بابها، فإن بعضًا من إناث هذه الفصيلة قد تجتمع وتضع قليلًا من البيض، بداءة ذي بدء، في عش ما، ومن ثم في غيره، وهذه تتولاها الذكور حتى تنقف عن صغارها، وهذه الغريزة قد تكشف لنا عن السبب في أن تضع تلك الدجاجات عددًا كبيرًا من البيض، خلال فترات من الزمان، لا يتجاوز مداها اليومين أو الثلاثة، كما نرى في الوقواق. أما غريزة النعام الأمريكي، كما هي الحال في «الملطروس البوناري»، فلم تبلغ بعد حدًّا من الكمال خليقًا بالاعتبار؛ لأن عددًا عظيمًا من بيضها قد يذهب بددًا بوضعه في سهول الأرض، حتى إنني جمعت ما لا يقل عن عشرين بيضة مهملة في يوم واحد، خرجت للصيد فيه.
لدينا أنواع كثيرة من النحل الطفيلي، تلقي ببيضاتها في بيوت غيرها من النحل، وهذه حالة جديرة بأن تثير فينا من العجب والتأمل أضعاف ما تثيره حالة الوقواق؛ لأن أنواع هذا النحل لم تتحول غرائزها لا غير، بل تعدى التحول فيها ذلك الحد، فتناول تراكيبها العضوية، فهذَّبها بما يلائم عادتها الطفيلية، يظهر ذلك لأول وهلة، في أن هذه الأنواع فاقدة لذلك الجهاز، الذي يتمكَّن به غيرها من استجماع حبوب اللقاح من النباتات، التي لم يكن لها مندوحة عنه، لو كان من عاداتها العكوف على اختزان الطعام لصغارها، وبعض أنواع من «الأسْفَجِيديَّات»٢٩ — أي الحشرات الشبيهة بالشفافير — طفيلية العادات. ولقد استجمع «مسيو فابر»، في العهد الأخير من الأدلة والبراهين ما يحملنا على الاعتقاد بأن «الطَّاخوت الأسود»،٣٠ إن كان يحتفر بنفسه قراه التي يعيش فيها، ويستخزن فيها طعامًا من الفرائس التي يَفْلِجها٣١ بنفسه؛ ليتخذها غذاء ليرقاته، إذا ما خرجت من بيضاتها، فإنه لا يتردد في أن يحتل قرى غيره من حشرات الأرض، التي تكون قد وسقت خزاناتها بألوان الطعام، منتهزًا تلك الفرصة للانتفاع بمجهودات غيره، فيصبح في تلك الحالة طفيلي العادات بصورة جزئية، وهنا كما هو الواقع في حالات «الملطروس» و«الوقواق»، لا أرى من صعوبة تحول دون الانتخاب الطبيعي والمضي في التأثير، حتى تثبت في الطبائع العضوية عادة كانت من قبل غير ثابتة، إذا كان في تثبيتها نفع أو فائدة للنوع الذي تثبت فيه، هذا إن لم يكن فعل هذه الحشرات في احتلال قرى غيرها وامتلاك خزائنها، مهلكًا لتلك الأنواع، التي تنتزع منها قراها، أو باعثًا على فنائها.

(٤) غريزة الاسترقاق

تلك الغريزة الفريدة، غريزة الاستعباد، استكشفها في النوع المسمى «النملة الحمراء»،٣٢ العلامة «بيير هوبر» لأول مرة، وهو بحَّاثه يبز أباه طول أناة، وقوة ملاحظة، على ما اشتُهر عن أبيه من النبوغ والتفوق.
إن هذا النوع من النمل يعتمد في حياته على ما يملك من أُسَرَاء، ولا مشاحة في أن هذا النوع إن عدم مساعدة أسرائه سَنة واحدة انقرض من الوجود، فذكور هذا النوع وإناثه الولود لا تعمل عملًا ما، أما الفئة العاملة من هذا النوع، وهي ما يصيبه العقر منها، فضلًا عن نشاطها وشجاعتها واستقتالها في الجلاد، لا عمل لها البتة إلا اصطياد الأسراء وجمع العبيد، ولا قدرة لها على ابتناء قراها، ولا على القيام بإطعام يرقاتها الصغار، فإذا طال العهد على القرية التي تسكنها جماعة من هذا النوع، ولزمت الهجرة، فإن العبيد هي التي تقضي بذلك على الجماعة، فتحمل أسيادها بين أفكاكها إلى قرية أخرى تبتنيها، وهذا النوع ضعيف الحيلة، معدوم التدبير، حتى إن «مسيو هوبر» قد أسر ثلاثين فردًا من هذا النوع، ولم يضع معها عبدًا من عبيدها، ولكنه أكثر لها من ألوان الطعام، التي تقبِل عليها وتستمرئها، وزاد على ذلك بأن وضع معها عددًا من يرقاتها وصغار نقفها؛ ليحبذ لها العمل، ويدفعها على النشاط، فلم تحرِّك ساكنًا، ولم تفكر في عمل ما، حتى إنها لم تستطع أن تغتذى، وربما كانت تُقضى حيث هي جوعًا، ما لم يسعفها «مسيو هوبر» بعدد من عبيدها (النملة الغبراء:٣٣ اصطلاحًا) فعمدت في الحال إلى العمل، وإطعام مَن بقي من أسياده على قيد الحياة، وابتنى بضع خليات، نقل إليها اليرقات الصغار، ونظم من حياة تلك الجماعة ما لم تقوَ هي على أن تنظمه لنفسها. فأي الحقائق الطبيعية تفوق هذه الحالات غرابة وبعدًا عن مألوف القياس؟ على أننا إن لم نكن قد وقعنا في الطبيعة على أنواع من النمل فيها غريزة الاستعباد غير هذا النوع، لتقطعت بنا أسباب التأمل والبحث في كيفية نشوء مثل هذه الغريزة العجيبة، وبلوغها حد الكمال.
هنالك نوع آخر، يُسمى اصطلاحًا «النملة السفَّاحة»،٣٤ كان «هوبر» أول مَن عرف أنه من الأنواع ذوات الغريزة الاستعبادية، ويوجد هذا النوع في بقاع من جنوبي إنجلترا. ولقد عكف «مستر ف. سميث»، من كبار موظفي دار العاديات البريطانية، على دراسة عاداته، وإليه يرجع الفضل الأعظم فيما عُرف من الحقائق الخاصة بهذا الموضوع وبغيره من الموضوعات ذوات الشأن. وعلى الرغم من ثقتي التامة بما أبدى «مسيو هوبر» و«مستر سميث» من الملاحظات القيمة، عمدت إلى درس هذا الأمر بنفسي، وأنا إلى ناحية الشك أقرب مني إلى ناحية اليقين، شأن كل باحث، تقوم غرابة هذه الغريزة — غريزة اتخاذ الأسراء عبيدًا — مقام العذر عند غيره من الباحثين، إذا ما خفت به ظنون، أو أحاطت به ريب ما. ولذلك أجد نفسي في حِل من أن أورد ملاحظاتي بشيء من الإطناب.

عثرت على أربع عشرة مستعمرة من مستعمرات أو خلايا هذا النوع (النملة السفاحة)، فلم أجد فيها سوى عدد قليل من العبيد، فإن ذكور النوع المستعبَد؛ أي «النملة الغبراء» وإناثها الولود، لم توجد إلا في جماعاتها الخاصة بها، ولم توجد أبدًا في قرى النملة الحمراء، والعبيد سود اللون، ولا يزيدون في الحجم على نصف حجم أسيادهم النحاسي اللون؛ ولذا كان الفرق بين الاثنين واضحًا جليًّا، فإذا اضطربت حالة الحلة، التي يسكنها هذا النمل من جراء أية حركة غير عادية، عمد العبيد إلى الخروج منها، مسرعين مدافعين عن حللهم، كما يفعل أسيادهم، فإذا زاد الاضطراب، وكادت اليرقات أن تتعرض للخطر، فإن العبيد وأسيادهم معًا، يسرعون بكل ما أوتوا من قوة ونشاط إلى نقلها إلى مكان أمين. ومن هنا يظهر لنا أن هؤلاء العبيد يشعرون كأنهم في بيوتهم الأصلية، ودأبت ثلاث سنوات متواليات على ملاحظة أعشاش النمل في «ساري» و«ساسكس»، ساعات متتابعات خلال شهري يونيو ويوليو، فلم أرَ عبدًا خرج من قرية، أو دخل إليها، فربما تكون طريقة عملها تختلف، إذا ما زاد عددها وكثرت جماعاتها، بيد أن «مستر سميث» قد لاحظ قرى هذا النمل خلال ساعات مختلفة من النهار في شهور مايو ويونيو وأغسطس، في مقاطعتي «ساري» و«هامشير»، فلم يرَ عبدًا واحدًا خلال هذه المدة خرج من قرية أو دخل إليها، على الرغم من أنها كانت توجد بكثرة خلال شهر أغسطس، ومن هنا يعتبرها عبيدًا مقصورًا عملهم على أشغال القرى الداخلية لا غير؛ ذلك لأن النوع المتسود، غالبًا ما يُرى حينذاك، حاملًا ألوانًا من الطعام والمواد الضرورية لقوام القرية. وحدث عام ١٨٦٠ أني عثرت خلال شهر يوليو على جماعة فيها عدد من العبيد، زائد عن المألوف، ولحظت أن عددًا قليلًا من العبيد مختلطون بأسيادهم، وهم يغادرون القرية، سالكين طريقًا واحدًا، ميممين نحو شجرة باسقة من شجر التنوب الإيقوسي، تبعد خمسًا وعشرين ياردة، فاعتلوها معًا ابتغاء اصطياد شيء من قمل النبات، أو حشرة القرمز، على ما رجح عندي. أما «مستر هوبر» فيقول، استنادًا على ملاحظاته القيمة التي أُتيحت له: إن العبيد في بلاد سويسرا يعملون عادة من أسيادهم في بناء القرية، ويُناط بهم وحدهم فتح بابها وإغلاقه صباحًا ومساءً. ثم إن «هوبر» قد أثبت بعد ذلك، أن عملها الرئيسي ينحصر في البحث عن قمل النبات واصطياده، أما الفروق بين عادات الأسياد والعبيد في كلتا المملكتين، فترجع على الأرجح إلى أن ما يُؤسر من العبيد في سويسرا، أكثر مما يُؤسر منهم في إنجلترا.

ساعدتني الفرص ذات يوم، على أن أرى هجرة «النملة السفاحة» من قرية لأخرى، فرأيت إذ ذاك منظرًا فريدًا عجيبًا، في بابه، حيث كانت أفراد هذا النوع تحمل في أفواهها أسراءها، شادة عليها بين أفكاكها، بدلًا من أن تحملها الأسراء، كما هي الحال في نوع «النملة الحمراء». واسترعى انتباهي ذات يوم، جمعًا آخر من النمل ذي الغريزة الاستعبادية، يبلغ عدده العشرين نملة تقريبًا، يبحث في نفس المكان، وكان واضحًا أنها لا تبحث عن غذاء، فلما وصلته، ردت على أعقابها مجموعة مستقلة من النوع المسترق (النملة الحمراء)؛ إذ هاجمتها هجومًا عنيفًا، وحملت عليها حملة صادقة. وقد ترى في بعض الحالات أن ثلاثة من أفراد هذا النمل المستعبد كانت تتشبث، متعلقة بأرجل فرد واحد من النوع المسترَق (النملة السفاحة)، فلا تلبث «السفاحة» أن تقتل تلك شر قتلة، ومن ثم تحمل جثتها إلى عشها، الذي يبعد عن مكان الواقعة تسعًا وعشرين ياردة؛ لتتخذها طعامًا، ولكنها كانت تمتنع عن أخذ شيء من العذارى لتربية عبيد، مهما كانت الظروف، فاحتفرت بعد ذلك مجموعة أخرى، وأخذت منها كمية من عذارى النملة الحمراء، ووضعتها بالقرب من ميدان النزال في مكان عارٍ، فلم يلبث المسترقون أن حملوها إلى قراهم، موقنين، كما رجح عندي من حركاتهم، أنهم انتصروا في تلك الواقعة العظمى بأخذهم إياها.

وضعت بعد ذلك كمية من «عذارى»٣٥ نوع آخر اسمه «النملة الذهبية»،٣٦ مع قليل من أفراد هذا النمل البالغة ذهبية اللون، كانت لا تزال متشبثة بشذور من عشها، وقد تتخذ من هذا النوع عبيدًا في بعض الأحيان، وإن كان ذلك نادرًا، كما أظهر ذلك «مستر سميث» وهذا النمل، وإن كان صغير الحجم، فإنه على الرغم من ذلك، على جانب عظيم من الإقدام والشجاعة؛ إذ رأيته يهاجم غيره من أنواع النمل بقوة وفروسية، قلَّ نظيرها في غيرها.

ولقد أخذت بالعجب مرة؛ إذ عثرت على حِلة مستقلة من «النملة الذهبية» تحت صخرة، فوقها حلة من «النملة السفاحة»، ذات الغريزة الاستعبادية، فلما أثرت ثائر أفراد الحلتين، بما أحدثت من اضطراب فيهما، أخذ النوع الأول على صغر حجمه، يهاجم جيرانه الأقوياء بكل ما أُوتي من شجاعة، أردت بعد ذلك أن أعرف إن كانت «النملة السفاحة» في استطاعتها أن تفرِّق بين عذارى «النملة الغبراء»، التي اعتادت أن تتخذ منها أسراءها وعبيدها، وبين عذارى «النملة الذهبية» التي لا تأسرها إلا نادرًا، فظهر لي جليًّا أنها تفرق بينهما بسهولة تامة، حيث رأيت أنها تعمد إلى الاستحواذ على عذارى «النملة الغبراء»، لدى أول فرصة تلوح لها، بكل ما أوتيت من جد ونشاط، في حين أنها تجد في الهرب، فزعة إذا ما وقعت على شيء من عذارى «النملة الذهبية»، أو إذا قادتها خطواتها إلى أرض قريبة من حللها، حتى إذا ما انصرف هذا النمل الصغير، وزحف إلى أماكن بعيدة عن عشه، فما أسرع ما تعود «النملة السفاحة» بعد قليل، متخذة من غياب أصحاب العش شجاعة؛ لحمل عذاراها والهرب بها.

زرت ذات ليلة، حلة أخرى من حلل «النملة السفاحة»، فوجدت عددًا منها راجعًا أدراجه، متجهًا نحو حلته، أو داخل إلى أعشاشه، حاملًا جثث كثير من «النملة الغبراء» وكثيرًا من عذاراها الحية، مما يدل على أنها لم تقصد من خروجها الهجرة، بل شيئًا آخر، فتتبعت الجهة التي كان يأتي منها النمل حاملًا غنائمه، وسرت أربعين ياردة، فعثرت على دِغل كثيف، حيث رأيت آخر نملة «سفاحة» تحمل عذراء، غير أنه لم يتسنَّ لي أن أعثر على العش المخرب في ذلك الدغل المتكاثف، فاعتقدت أن الحلة لا بد من أن تكون على مقربة مني؛ إذ رأيت نملتين أو ثلاثًا من «النملة الغبراء»، متعثرة في سيرها، وقد أخذ منها الذعر والوجل والاضطراب، وظلت إحداها معدومة الحركة، حاملة عذاراها في فمها تدب فوق «الهيث»، تمثل شبح القنوط واليأس، على وطنها المخرب.

تلك هي الحقائق التي لا تحتاج إلى زيادة توضيح غريزة الاستعباد العجيبة، وجدير بنا أن نلم في هذا الموطن بتلك الفروق الواقعة بين عادات «النملة السفاحة» الغريزية، لدى مقارنتها بعادات «النملة الحمراء»، التي تعيش في القارة الأوروبية، فإن النوع الأخير لا يبني أعشاشه بنفسه، ولا يقرر المهاجرة من مكان إلى آخر بمحض اختياره، ولا يسعى لجمع الطعام له أو لصغاره، بل إنه لا يستطيع أن يغذي نفسه، فهو في ذلك يعتمد الاعتماد كله على ما يتخذ من عبيد وأسراء، لا يحصيها العد، في حين أن «النملة السفاحة» لا تتخذ من العبيد إلا النزر اليسير، وقد يقل عدد عبيدها قلة بينة في أوائل فصل الصيف؛ ولهذا النوع تمام الحرية في اختيار الزمان والمكان، الذي يبتني فيه عشًّا جديدًا، فإذا ما أزمع الهجرة احتمل أسراءه بنفسه. والظاهر من عادات هذا النوع، سواء في إنجلترا أو في سويسرا، أنه يعهد للعبيد بأمر العناية بصغار يرقاته، ويلتزم هو عادة القيام بغارات يشنها في سبيل الحصول على الأسراء. وفي سويسرا يعمل الأسياد والعبيد معًا في بناء العش، واستجماع المواد الأولية اللازمة لإقامتها، وكلاهما يُعنى «بقمل النبات»، يحتلبه كما يقولون، وإن كان حظ العبيد من هذا العمل أوفر من حظ أسيادهم، وبذلك يتعاون العبيد وأسيادهم في جمع الغذاء اللازم لحاجة الجماعة. أما في إنجلترا، فإن الأسياد وحدهم هم الذين يخرجون من الأعشاش في سبيل استجماع المواد الأولية اللازمة للبناء والغذاء، لهم ولأسرائهم ويرقاتهم؛ ولذا كان نصيب الأسياد من العمل في إنجلترا، أكثر من نصيب أمثالهم في سويسرا.

أما البحث في الخطى، التي تقلبت فيها غريزة «النملة السفاحة» وتأصلها، فذلك ما لا أدعي أن في استطاعتي أن أسوق الكلام فيه، غير أنني رأيت أنواعًا من النمل ليس الاستعباد من غرائزها، قد تحمل أجنة أنواع أخرى، إذا ما نثرت على مقربة من أعشاشها، فمن المحتمل أن بعضًا من هذه الأجنة، التي لا تستجمعها هذه الأنواع إلا لتستخدمها، ولتتخذها من بعدُ طعامًا، قد تكبر وتنمو ومن ثم يأخذ الأفراد الغرباء في مطاوعة غرائزها، فتقوم بما تستطيع من عمل، فإذا أصبح وجودها نافعًا بوجه من الوجوه للنوع الذي حملها إلى عشه، ووضح لذلك النوع أن نصيبه من المصلحة في تربية هؤلاء العمال النشطاء أكبر من نصيبه في اتخاذهم طعامًا واستهلاكهم، فإن عادة استجماع «عذارى» نوع آخر لاتخاذها طعامًا، قد تقوى في ذلك النوع بتأثير الانتخاب الطبيعي، حتى تصبح ثابتة في فطرته، مصروفة إلى غرض مخالف للغرض الأصلي منها، وهو تربية الأسراء واستخدامهم، فإذا كسبت هذه الغريزة مرة، ولو كانت في مبدأ الأمر أضعف أثرًا مما هي في «النملة السفاحة» في إنجلترا، وهي أقل نصيبًا من الانتفاع بأسراتها من نوعها الذي يقطن سويسرا، فمن المرجح أن يمضي الانتخاب الطبيعي في تثبيت هذه الغريزة وتنميتها وتهذيبها، على اعتبار أن كل خطوة من خطى التهذيب، التي يتتابع وقوعها على هذه الغريزة، تكون ذات فائدة للنوع في مجموعه، حتى يتكون نوع يبلغ من الاعتماد المطلق على أسرائه مبلغ نوع «النملة الحمراء».

(٥) نحل الخليات وغريزته في بناء خلاياه

ليس من قصدي أن أتابع البحث في دقائق هذا الموضوع ومفصلاته، ولكني سأقصر الكلام على شرح موجز للنتائج التي وصلت إليها.

إذا فحص شخصٌ خلية من خلايا النحل، ولم تتملكه عاطفة الإعجاب الشديد بنظامها، فلا شك نقول إنه سقيم الوجدان. فإنك تسمع من كبار الرياضيين أن النحلة قد وصلت بطريقة عملية إلى حل معضلة من معضلات المسائل الرياضية الكبرى، فاستطاعت أن تبني خلاياها على شكل خاص، بحيث تسع أكبر كمية من العسل، مع استهلاك أقل كمية ممكنة من الشمع، ولاحظ بعض الباحثين أن أبرع فنان، مهما أُوتي من حسن الآلات، ودقة المقاييس، ليشعر بأكثر مشقة في بناء خليات من الشمع، تبلغ من كمال الوضع وحسن النسق، مبلغ ما تبني عشائر النحل في داخل بيوتها المعتمة. صوِّر لنفسك ما استطعت أن تصور من القوى الغريزية، فإنك بعد ذلك كله يحف بك الغموض، وإذا ما أردت أن تعرف كيف تضع تلك النحلة كل هذه الزوايا والسطوح، أو أن تدرك ما إذا كانت قد أتمت عملها أم لم تتمه، غير أن تلك الصعاب ليست من العسر بمقدار ما تلوح للإنسان لدى أول نظرة يلقيها على الموضوع، فإن هذا العمل البديع في مجمله، من المستطاع الكشف عنه بتتبع بضع غرائز ساذجة في نحل الخلايا.

بدأت أدرس هذا الموضوع مع العلامة «ووترهوس»، وكان قد أبان من قبل عن أن شكل الخلية ونسقها، يعودان في أغلب الأمر إلى وجود الخلايا التي تحيط بها، أما ما سنتابع القول فيه الآن، فلا أعتبره إلا تنقيحًا بسيطًا في نظرية هذا العلامة الخبير.

لننظر، بداءة ذي بدء، في سُنة التدرج، ولنبحث فيما إذا كانت الطبيعة تضن علينا بالكشف عن الطريقة التي تؤثر بها في الكائنات الحية، نرَ في طرف من مراتب النظام العضوي أنواع «النحلة الطنانة»،٣٧ وهي أنواع تتخذ من فيالجها مستودعًا للعسل الذي تجنيه، وقد تضيف في بعض الأحيان إلى تلك الفيالج أنابيب قصيرة من الشمع، فتبني بذلك خلايا شمعية مستديرة بعضها منفصل عن بعض، وهي على جانب عظيم من التعقيد. في الطرف الآخر، نقع على «نحلة البيوت»، فنجدها مكونة من طبقتين، وكل خلية منها عبارة عن منشور سداسي، قواعد حافته التي ترتكز عليها أضلاعه الست، مثبتة على قطاع زاوية منحرفة؛ ليمكن بذلك أن تنتهي من داخلها بهرم مقلوب ذي ثلاثة معينات، ولهذه المعينات زوايا معروفة محدودة المقدار، والمعينات الثلاثة التي تُؤلف تلك القاعدة الهرمية في كل خلية من الخلايا، تُستخدم في جانب من جانبيها لتأليف قواعد الخلايا الثلاث، التي تجاورها على الجانب المناظر لها، وبين طرفي ذلك العقد المنظوم؛ أي بين خلايا «نحلة البيوت» التي بلغت المدى الأقصى من الكمال، وبين خلايا «النحلة الطنانة»، نجد خلايا «نحلة المكسيك»٣٨ الأليفة، التي وصفها العلامة «بيير هوبر» أتم وصف وأدقه، فإن نحلة المكسيك تتوسط من حيث التكوين العضوي بين نحلة البيوت والنحلة الطنانة، ولكنها أقرب في صفاتها إلى الثانية منها إلى الأولى، وهذه النحلة تصنع قرصًا فيه شيء من دقة الصناعة، ذا خلايا أسطوانية تنقف فيها صغارها، مضافًا إلى ذلك خلايا كثيرة تصنعها من الشمع؛ لتخزن فيها جنى شهدها، وهذه تكون كروية تقريبًا، متدانية من حيث الحجم والسعة، متجمعة في مكان ما، مشابهة لكتل غير ذات نظام. غير أن ما ينبغي لنا أن نعيه، ينحصر في أن هذه الخلايا تُبنى دائمًا بدرجة من التقارب والتلاحم، بحيث يلوح للرائي أن بعضها قد تهشم جدران بعض، فيندمج بعضها في بعض إذا ما تم بناؤها الكروي، غير أن ذلك لا يقع أبدًا، فإن النحل تبني بين كل من الخلايا الكروية جدرانًا من الشمع، مسطحة تمام التسطح، متقاطعة تقاطعًا هندسيًّا؛ ولذلك نجد أن كل خلية من خلايا هذه النحل، تتكون من جزء كروي خارجي، ومن سطحين أو ثلاثة، أو أكثر من السطوح المنبسطة بنسبة ما يحيط بها من الخلايا الأخرى، فسطحٌ إذا جاورتها خلية، وسطحان لخليتين، وثلاثة لثلاث، وأكثر لأكثر. فإذا ارتكزت خلية على خلايا ثلاث تجاورها، بحيث تكون كرات هذه الخلايا متقاربة في الحجم، كما هو الواقع ضرورة، فإن السطوح الثلاثة تتحد مكونة شكلًا هرميًّا، وهذا الشكل الهرمي، كما أبان عند ذلك العلامة «هوبر»، ليس إلا تقليد صورة مكبرة من القاعدة الهرمية المثلثة الأضلاع، التي تبنيها «نحلة البيوت»، وكما تكون الحال في خليات نحلة البيوت، كذلك هي في خليات هذه النحلة، فإن ثلاثة السطوح المنبسطة، لا بد من أن توجد في بناء جدران ثلاث الخليات، التي تجاور أية خلية. ولا مشاحة في أن نحلة النوع المكسيكي توفر كمية من الشمع، والأهم من ذلك، أنها توفر كثيرًا من التعب الجسماني، باتباعها تلك الطريقة في بناء الخلايا؛ لأن الجدران المسطحة التي تفصل بها بين الخلايا المجاورة غير مزدوجة، وغلظها مسار لغلظ الأجزاء الكروية الخارجية، في حين أن كل جزء من هذه السطوح يُستخدم لبناء خليتين في آنٍ واحد.
وعندما بدأت التأمل من هذه الحالة، عنَّ لي أن النوع المكسيكي إذا بنى خلياته، متباعدًا بعضها عن بعض بمقاييس معينة، وجعلها متساوية الاتساع والحجم، ووضعها بحيث تكون متناسقة تناسقًا دقيقًا في طبقتين مزدوجتين، فإن الشكل المترتب على هذا العمل يكون مقاربًا، من حيث حسن الصناعة والكمال للقرص الذي تصنعه نحلة البيوت، فكتبت في ذلك للأستاذ «ميلر»، كبير أساتذة جامعة كمبردج في الهندسة، فقرأ الأستاذ في تلك الجامعة النتائج التي نأتي عليها بعدُ، وهي نتائج استجمعها من ملاحظاته القيمة، وأخبرني أنها تنطبق على الواقع تمام الانطباق، وها هي ذي ملاحظات الأستاذ الكبير:
إذا فرضنا وجود عدد من الكرات المتساوية، مركزها مثبتة في طبقتين متحاذيتين، وكان مركز كل كرة يبعد على مراكز الكرات الست الخارجية في كل طبقة بعينها بمقدار نصف قطر دائرة، لا يزيد على × أو نصف قطر دائرة × ١٫٤١٤٢١، أو يقلُّ عن ذلك قليلًا، وعلى بعد متساوٍ من مراكز الكرات المجاورة في الطبقة الأخرى المحاذية لنظيرتها، ترتب على ذلك أن السطوح المتقاطعة الواقعة بين الكرات العديدة في كلتا الطبقتين إذا تكوَّنت، حدث عند تمام تكونها طبقتان مزدوجتان مركبتان من منشورات سداسية، يتحد بعضها في قواعد هرمية، مكونة من ثلاثة معينات، في حين أن زوايا هذه المعينات وجوانب تلك المنشورات السداسية، تكون مساوية تمام المساواة لأدق المقاييس، التي قام بها الباحثون في خلايا «نحلة البيوت»، غير أني علمت من الأستاذ «ويمان»، وهو من الذين صرفوا عناية خاصة في قياس تلك الخلايا، أن ما يُنسب من الدقة وحسن الصنعة الفائقة للنحل في بناء خلياته، قد بُولغ فيه كثيرًا. ومهما يكن من الأمر، فعلى أي من الوجوه صوَّرت لنفسك المثل الأعلى من أشكال الخلايا، فإن من النادر تحقيق انطباقه على الواقع تمامًا.

من هنا نستطيع أن نستنتج بحق، أنه إذا أصبح في استطاعتنا أن تهذيب غرائز النوع المكسيكي التي يتصف بها الآن، وهي غرائز ليست بغريبة في ذاتها بحيث نظن بأن تهذيبها غير مستطاع، فإن هذه النحلة يصبح في مكنتها ابتناء تراكيب، تبلغ من الكمال مبلغ ما يبنيه نحل البيوت. لنفرض أن هذا النوع — أي المكسيكي — في مقدوره تكوين خلايا كروية تامة من حيث الحجم والسعة، وليس لفرضنا هذا أن يبعث في بعض الباحثين نفورًا وحذرًا، ما دام في استطاعتها في حالتها الحاضرة، أن تبني خليات تكاد تكون كروية إلى حد ما، وما دمنا نرى في الطبيعة أن بعض الحشرات قد تحفر في الخشب أنفاقًا أسطوانية الشكل تمامًا، بأن تحصر عملية الحفر في الالتفاف حول نقطة بذاتها لا تتعداها، ولنفرض أيضًا أن هذه النحلة قد ترتب خلاياها في طبقات متحاذية، كما تصنع الآن خلاياها الأسطوانية، بل يجب أن نذهب بفرضنا لأبعد من هذا، وتلك أكبر صعوبة تقوم لدينا، فنمضي في البحث على اعتبار أن في مستطاعها، أن تحكم بطريقة ما حكمًا دقيقًا على مقدار ما يجب أن تقف عنده من البعد عما يعمل غيرها من صويحباتها العاملات، إذا عمد كثير منهن إلى بناء خلياتهن الكروية. غير أننا إذا دققنا النظر، ألفينا أن هذه النحلة قد بلغت من التهذيب حد القدرة على الحكم على الأبعاد، فإنها تشكل دائمًا خلياتها الكروية، بحيث تكون متقاطعة إلى حد معين، ثم إنها تعمد بعد ذلك إلى توحيد نقط التقاطع بسطوح منبسطة تمام الانبساط، وبأمثال هذه التحولات الوصفية في غرائز هذه النحلة، وهي غرائز ليست من الغرابة بحيث نقدر عدم قبولها التهذيب، بل إنها لا تعدو من جهة ثباتها واستقرارها غريزة الطير في بناء أعشاشه، نُساق إلى الاعتقاد، بأن «نحلة البيوت» قد كسبت بفضل الانتخاب الطبيعي، كل ما نلحظ فيها من القدرة في هندسة البناء، كما لا نجد له مثيلًا في غيرها.

بيد أن النظرية يمكن تحقيقها بالتجاريب، اتبعت نفس الطريقة التي اتبعها «مستر تجتماير»، ففصلتُ بين قرصين، ووضعت بينهما قطعة طويلة من الشمع غليظة مستطيلة الشكل، فسارع النحل حالًا إلى احتفار حفر صغيرة مستديرة فيها، وكانت تجعل هذه الحفر أكثر اتساعًا، كلما أمعنت في تعميقها، حتى أصبحت عبارة عن أحواض غير بعيدة الغور، بحيث تلوح للرائي كأنها كرات مستديرة، أو تقرب من الاستدارة، ولا يزيد قطرها على قطر الخلية التي تبنيها النحلة. ومن أغرب ما يُرى، أنه عندما تبدأ عدة نحلات في نبش هذه الحفر، متقاربًا بعضها من بعض، كانت تلاحظ دائمًا، أن تبدأ عملها في نقط مخصوصة، تحتفظ فيها بمسافات، بحيث إن حافات هذه الأحواض تتقاطع، أو يتدخل بعضها في بعض، لدى قربها من اتساع خلية عادية، وعندما يصبح غورها بما يساوي سدس الدائرة، التي تكوِّن كل حفرة من هذه الحفر جزءًا منها، وبمجرد وصولها إلى هذه الحالة ينقطع النحل عن الحفر، وتبدأ في بناء جدران مسطحة من الشمع على خطوط التقاطع الواقعة بين هذه الأحواض، حتى إن كل منشور سداسي يصبح بناؤه قائمًا على حافات ذات أقواس متماسة لحوض دقيق التركيب ساذجة؛ لتستعيض بذلك عن تلك الحافات المستقيمة، التي تُؤلف الهرم الثلاثي الأضلاع، كما هي الحال في الخلايا العادية.

ثم وضعت من بعد ذلك، في الخلية قطعة من الشمع، ضيقة الاتساع غير ذات سمك كبير، محدودة الحافة، ملونة بالزنجفر، بدلًا من القطعة الغليظة المستطيلة، فسارعت النحل إذ ذاك إلى احتفار أحواض صغيرة على كلا الجانبين، متقاربًا بعضها من بعض، كما فعلت في الحالة الأولى تمامًا، غير أن حافة الشمع كانت رقيقة بحيث إن قاع كل حوض منها كان لا بد من أن ينفذ إلى قاع الآخر في الجهة المقابلة، إذا تم احتفارها بنفس العمق، الذي احتفرت به الأحواض في الحالة الأولى، غير أن النحل حاذرت من بلوغ هذه الغاية، فأوقفت عملية الحفر في الوقت المناسب، حتى إن الأحواض عندما بلغت حدًّا محدودًا من العمق، أصبحت قواعدها مسطحة، وهذه القواعد التي كوِّنت من صفائح رقيقة من الشمع الزنجفري، وتُركت من غير حفر فيها، كانت موضوعة على طول سطوح من خط تقاطع وهمي، واقع بين الأحواض في الجهات المتقابلة في حافة الشمع. وحكمُنا على ذلك النظام، راجع إلى مقدار ما تبلغ العين من القدرة على فحص هذا البناء الدقيق جهرة، ولقد ترى في بعض جهات من هذا البناء أجزاء صغيرة، وفي جهات أخرى أجزاء كبيرة من الصفائح القرصية، تُركت بين الأحواض المتقابلة، غير أن عمل النحلة، بالنسبة لاجتماع كل هذه الظروف غير الملائمة لعاداتها، لم يبلغ من حسن الصناعة مبلغًا كبيرًا، ولا بد من أن تكون النحلة قد بدأت في عملها بنسب متقاربة جد التقارب في حفر دوائر الأحواض وتقويرها على جانبي الشمع الزنجفري، حتى تستطيع أن تنجح في ترك صفائح مسطحة بين الأحواض، إذ تقف بعملها عند بلوغ خطوط التقاطع المسطحة.

وفحصت بعد ذلك لدونة هذا الشمع الرقيق، فلم أجد صعوبة تحول بين النحل؛ إذ هي مكبة على العمل في جانبي الصفحة، وتقديرها للحد الذي يقف عنده عملها، إذا ما بلغ الشمع مبلغ ما تريد من الدقة، أما في الأقراص العادية، فقد ظهر لي أن النحل لا تنجح دائمًا في العمل بنسب واحدة في كلا الجانبين؛ إذ لاحظت في معينات غير تامة، واقعة عند خلية بُدئ في عملها، أن جانبًا من جوانبها كان مقعرًا تقعرًا حقيقيًّا، حيث قدرت أن النحل سارعت هنالك في إتمام عملها، في حين أن الجانب الآخر كان محدبًا؛ حيث لم تسارع النحلة في عملها. وذات مرة، أعدت القرص إلى بيت النحل تعمل فيه زمانًا قصيرًا، ثم فحصت عن الخليات من بعد ذلك، فوجدت أن صفحة المعينات قد تمت فأصبحت مسطحة تمام التسطح، وكان من المستحيل على النحل أن يتم عملها هذا بقضم الشمع الكائن على الجانب المحدب؛ لأن الصفحة الصغيرة هنالك كانت رقيقة جدًّا، ورجح عندي أن النحل في مثل هذه الحالات، تقف على كلا الجانبين فتدفع الشمع وتثنيه؛ حيث يكون إذ ذاك دافئًا قابلًا للانحناء والالتواء، حتى تصل إلى الصفحة الوسطى، فتجعلها مسطحة تمامًا، كما شهدت ذلك بنفسي.

أما إذا نظرنا في التجربة، التي أجريناها في حافة الشمع الزنجفري، فإننا نستطيع أن نقضي بأن النحل إذا ما ابتنت لنفسها جدارًا دقيقًا من الشمع، أصبح في مستطاعها أن تجعل خلياتها على شكل خاص، بأن تقف كل منها على بُعد معين من الأخرى، وتأخذ في الحفر بنسبة واحدة، وتبدأ العمل بنية احتفار حفر دائرية متساوية، محاذرة في الوقت ذاته من أن تنفذ إحدى الدوائر إلى الأخرى. أما إذا فحصت محيط قرص آخذ في سبيل التكوين، فتجد أن النحل تبتني جدارًا صلبًا به، وأنها تصنع هذا الجدار بقضم الشمع من كلا الجانبين، عاملة في خط دائري، كلما أمعنت في تغوير كل خلية من الخليات، ثم إنها لا تصنع تلك القاعدة الهرمية المثلثة الجوانب في خلية بذاتها في وقت واحد، بل تبدأ بصفحة المعين القائمة بجوار الحافة، التي تأخذ في بناتها أولًا، أو تبدأ ببناء الصفحتين معًا، حسبما تحكم الظروف، ولا تكمل حوافي صفحة المعين، قبل أن تبدأ في بناء جدران المنشور السداسي، على أن بعضًا من هذه الملاحظات التي أوردتها فيما تقدم، قد تتناقض وما كتبه العلامة «هوبر» الكبير. غير أني على تمام الاقتناع بصحتها، ولو أُتيح لي متسع من الفراغ، لأثبتُّ أنها تلتئم ومذهبي تمامًا.

إن ما يقول «هوبر» من أن أول خلية تأخذ النحل في بنائها تحتفر في جدار من مشمع، متوازي الجوانب، غير صحيح، على الاعتبارات التي أدت بي إليها تجاريبي؛ فإن بدء بناء الخلية كان دائمًا عبارة عن كتلة صغيرة من الشمع، غير أني لا أترسل الآن في تفصيل ذلك.

ولقد رأينا من قبل، كيف يؤثر بعض الحفر الجزئي في بناء الخليات، غير أننا — لا شك — نخطئ كثيرًا إذا فرضنا أن النحل ليس في مستطاعها أن تبني جدارًا صلبًا من الشمع في موضعه المعين؛ أي على طول سطح التقاطع الكائن بين دائرتين متحاذيتين، وعندي كثير من الأمثال تظهِر الباحث على أن ذلك في مستطاعها، حتى إنك لترى في بعض الأحيان في تلك الحافة المحيطية، وما هي إلا ذلك الجدار الشمعي، الذي يبتني من حوله القرص، تعاريج مقابلة في الوضع للسطوح الواقعة عند صفحات المعينات، التي ستصبح قواعد للخلايا التي سوف يتم بناؤها، غير أن ذلك الجدار المحيط، لم يكن ليتم في كل الحالات التي شاهدتها إلا بطريقة واحدة، طريقة قضم الشمع من كلا الجانبين؛ لأن الطريقة التي تبني بها النحل خلياتها غريبة جد الغرابة، فإنها تصنع الجدار المحيط بالقرص، فتجعله أضخم من الجدران، التي تفصل بين الخليات عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا، ثم تتركه على حالته هذه.

على أنه في مستطاعنا أن ندرك كيف تبني النحل الخليات إذا ما فرضنا بناء نقيمه، فنجعل أساسه حافة عريضة من الأسمنت المصبوب، ثم نبدأ بتقسيمه أقسامًا متساوية عند سطح الأرض التي يُقام عليها، حتى تترك جدارًا دقيقًا حادًّا في وسطه، ثم نفرض أن اللبنات التي نستعملها لهذا البناء تستجمع دائمًا فوق محيط حافة الأسمنت المقسم ذلك التقسيم، وأن نضع مقادير معينة من الأسمنت دائمًا على تلك الحافة العريضة كلما احتاج الأمر ذلك، فيكون لدينا إذ ذاك جدار رقيق، آخذ في الارتفاع شيئًا فشيئًا، في حين أنه يكون محملًا دائمًا بقيمة عالية من المواد اللازمة للبناء. ولما كانت كل الخليات، سواء أتمت أم لم تتم بعدُ، قد تُوجت بتلك القيمة الكبيرة من الشمع، يصبح في مستطاع النحل أن تجتمع ساعية فوق سطح القرص، من غير أن يُحدث سعيها ضررًا بجدران المنشور السداسي على رقته وضعف تكوينه. ولقد أكد لي العلامة «ميلر» أن جدران تلك المنشورات تختلف من حيث الضخامة اختلافًا كبيرًا، فكانت ١ / ٣٥٢ من البوصة غلظًا، مأخوذًا ذلك من متوسط قياس اثني عشر جدارًا بالقرب من حافة محيط القرص، في حين أن قواعد الصفائح ذات الشكل المعين، تكون متوسطة الضخامة بنسبة ثلاثة لاثنين تقريبًا، فكانت غلظتها ١ / ٢٢٩ من البوصة، مأخوذًا ذلك من متوسط قياس إحدى وعشرين قاعدة منها. وبتلك الطريقة التي شرحناها من قبل في بناء الخليات، يكتسب القرص بالتدرج قوة ومتانة، مع استهلاك أصغر كمية ممكنة من الشمع.

إن اشتراك عديد وافر من النحل في العمل في وقت واحد، ليضع في سبيل الباحث صعوبة في تفهم كيفية بناء الخليات، فإن نحلة ما، بعد أن تعمل زمانًا معينًا في بناء خلية، تنتقل إلى غيرها، حتى إن الخلية الأولى قد يشترك في بنائها عشرون نحلة معًا، كما لاحظ ذلك «هوير»، ولقد أمكنتني الفرص من أن أثبت هذه الحالة، بأن كسوت حوافي جدران المنشور الرأسي الخارجي مرة، أو حدَّ الحافة المحيطية للقرص المسامي مرة أخرى، بطبقة رقيقة من الشمع الزنجفري، فألفيت اللون قد توزَّع بعمل النحل، توزيعًا متناسبًا، كما لو وزعته ريشة مصور فنان، بأن أخذت النحل دقائق من ذلك الشمع الملون من المكان الذي وضعتها فيه، واستعملته في بناء حوافي الخليات، التي كانت مكبة على إتمامها، على أنه يظهر لي، أن البناء عبارة عن توازن في تقسيم العمل المشترك بين مجموع من النحل، حيث تدفعها غريزتها إلى أن تقف في أبعاد متناسبة باذلة غاية جهدها في سبيل وضع تصميم لدوائر متساوية، ومن ثم تسرع في بناء سطوح التقاطع الكائنة بين هذه الدوائر، أو تركها من غير حفر، ولقد أخذت بالعجب عندما لاحظت لأول مرة، أن النحل إذا ما حفت بعملها صعوبة، كما لو تقابل جزءان من القرص في زاوية واحدة، قد تُساق غالبًا إلى هدم الخلية، وإعادة بنائها بطرق مختلفة، وقد ترجع في بعض الحالات إلى بنائها على نسق تكون قد رفضته من قبل.

أما إذا هُيئ لكل نحلة مكانها الخاص، الذي يجب أن تبدأ بعملها فيه — كما لو وقفت مثلًا على منحدر من الخشب، موضوع تحت وسط القرص، الذي يكون بناؤه إلى أسفل، فيكون من اللازم أن يُبنى القرص على وجه واحد من ذلك المنحدر لا غير — وفي هذه الحالة تستطيع النحل أن تضع أساس جدار واحد من أسس معين جديد في مكانه المضبوط تمامًا، بحيث يكون بارزًا لأبعد من بروز الخلايا، التي يكون قد كمل عملها، وإنه ليكفي أن يكون في مستطاع كل نحلة أن تعيِّن في محل إقامة بنائها، مركزَها المناسب لمراكز أخواتها، ولموقع جدران الخليات التي تكون بُنيت، حتى تصبح قادرة، بعد وضع تصميم تصوري لمواقع الدوائر، على بناء جدار وسطي، يقع بين الدوائر المتجاورة. غير أنني لاحظت فضلًا عن ذلك، أن النحل لا تبدأ بقضم زوايا الخليات وإكمالها قبل أن تبلغ من حفر هذه الخلية المجاورة لها مبلغًا كبيرًا، ومقدرة النحل في وضع أساس جدار غير تام الصنع في مكانه الخاص بين خليتين عند بدء بنائها، صفة ذات خطر كبير، وأنها لتؤدي بنا إلى حقائق، تلوح كأنها على النقيض من النظرية القائلة بأن الخليات التي تقع على حافة الأقراص، التي تبنيها الشفافير، تكون في بعض الأحيان ذات شكل معين تام التركيب، غير أني لا أسترسل في هذا الموضوع؛ لما أراه من ضيق المقام.

ولست أرى هنالك من صعوبة تحول دون أية حشرة (كما هي الحال في ملكة الشفافير)، من أن تبني خليات ذات شكل سداسي، إذا عملت على التتابع لدى بنائها في داخل خليتين أو ثلاث، وفي خارجها في وقت واحد، وبأن تقف دائمًا على أبعاد متوازية من أجزاء الخليات، التي تكون قد بدأت في عملها، محتفرة دوائر أو أسطوانات، مقيمة بين بعضها وبعض سطوحًا وسطى، تفصل بينها.

أما وقد عرفنا أن الانتخاب الطبيعي لا يتهيأ له مجال التأثير في طبائع الكائنات الحية إلا باستجماع مختلف ضروب من التهذيب التركيبي، أو تحول الغرائز تحولًا ضئيلًا غير محسوس، بحيث يكون كل تحول ذا فائدة للفرد الواحد حال تأثره بحالات الحياة التي تحوطه، فإنه يحق لنا أن نتساءل: كيف أن تدرج الغرائز الهندسية وتلاحق حدوثها بعضها تلو بعض، كان ذا فائدة لأسلاف نحل البيوت على مدى أجيالها الأولى، حيث كان كل تدرج سيقت إليه في خلال أدوار تحولها مفضيًا بها إلى بلوغ ذلك الحد، الذي استطاعت عنده أن تستكمل معداتها اللازمة لوضع تصميم ذلك البناء المحكم! وأغلب ظني أن الجواب على ذلك غير عسير، فإن الخليات التي تُبنى على النسق الذي تُبنى به خليات النحل أو الشفافير، تكتسب قوة ومتانة، وتوفر قسطًا عظيمًا من الجهد والفراغ، والمواد التي تلزم لبنائها، أما استجماع الشمع اللازم لبنائها، فمعروف أن النحل غالبًا ما يستعصي عليها أن تجمع الكمية اللازمة من الرحيق، الذي تستخرج منه الشمع، حتى إن «مستر تيجتماير» قد أخبرني أنه برهن عمليًّا، على أن الكمية التي يستهلكها نحل بيت واحد لإفراز رطل واحد من الشمع، تتراوح بين اثني عشر وخمسة عشر رطلًا من السكر. من هنا نرى أن كمية عظيمة من الرحيق السائل، لا بد من أن تستجمع، ويستهلكها نحل بيت واحد لإفراز الشمع اللازم لبناء أقراصها. وفضلًا عن ذلك فإن كثيرًا من النحل قد تظل متعطلة عن العمل في خلال الوقت الذي تفرز فيه كمية الشمع المطلوبة، فضلًا عن أن مقدارًا عظيمًا من العسل لا بد من استخزانه؛ ليقوم بأود مجموعة كبيرة من النحل في خلال الشتاء، في حين أننا نعلم حق العلم أن كيان البيت الواحد متوقف على وجود غذاء كافٍ لجمع كبير من الأفراد، من هنا يظهر لنا أن توفير الشمع يتوقف على وفرة ما يختزن من العسل، مضافًا إلى ذلك طول الزمان، الذي تستجمع خلاله كمية العسل اللازم، لا بد من أن تعتبر من الأوليات الضرورية لنجاح أسرة معينة من النحل. ومن الشائع المعروف أن نجاح نوع من الأنواع قد يرجع إلى مقدار عدد أعدائه أو الطفيليات، أو غير ذلك من الأسباب، وتلك أسباب مستقلة عن مقدار ما تستطيع النحل أن تستجمع من عسل. ولكن لنفرض أن تلك الظروف، التي أدلينا بها من قبل، هي التي تقضي — كما يغلب أن تكون قد قضت في ظروف عديدة، فيما إذا كان في مستطاع صورة من صور النحل متصلة النسب بأنواع النحل الطنان — بأن تعيش في جموع كبيرة من إقليم بذاته، ولنفرض أيضًا أن تلك الجموع قد عاشت خلال الشتاء، ومن ثم احتاجت إلى كمية من العسل تختزنها، فإنا لا نشك في تلك الحال أنه يكون من أرجح الفوائد، التي تجنيها تلك الصورة المفروضة، أن يطرأ على غرائزها تهذيب وصفي ضئيل، يسوقها إلى بناء خلياتها المشمعة، متقاربًا بعضها من بعض، حتى تصبح متقاطعة تقاطعًا غير تام؛ لأن الجدار الواحد إذا استُخدم لبناء خليتين متجاورتين، قد يوفر كمية من الشمع ومقدارًا من الجهد. ومما لا ريبة فيه أن تلك الصورة المفروضة إذا سيقت إلى بناء خلياتها، بحيث تجعلها أكثر نظامًا، وأقل بعدًا بعضها عن بعض، ونظمتها في مجموع واحد، كما هي الحال في خليات النوع المكسيكي، كان ذلك أكثر فائدة لها؛ إذ يُستخدم في تلك الحال جزء عظيم من السطح، الذي تُبنى عليه كل خلية في بناء خلية أخرى مجاورة لها، فيقل جهدها وتوفر مقدارًا من الشمع المستهلك في آن واحد، وهنالك تستغني كما رأينا من قبل، عن تلك السطوح الدائرية، وتستعيض عنها بسطوح منبسطة، عند ذلك يبتني النوع المكسيكي أقراصًا، تبلغ من الكمال مبلغ ما تبنيه نحل البيوت، أما الانتخاب الطبيعي، فلا محالة عاجز عن التدرج بغريزة البناء الهندسي إلى حد من الكمال أبعد من هذا؛ لأن القرص الذي يبنيه نحل البيوت على ما رأينا حتى الساعة، كامل كل الكمال من حيث الاقتصاد في الجهد، والشمع اللازم لبنائه.

على هذه الاعتبارات، أجد نفسي مسوقًا إلى الاعتقاد بأن أغرب الغرائز المعروفة، غرائز نحل البيوت في بناء خلياتها، من المستطاع أن ندرك كنه تدرجها بفضل الانتخاب الطبيعي؛ إذ يستغل ضروب التهذيب الوصفي الضئيلة المفيدة المتتابعة الحدوث في طبائع كائنات غرائزها أقرب إلى الغزارة، فإن الانتخاب الطبيعي قد ساق النحل تدرجًا في حالات متتابعة، كل حالة منها أكثر كمالًا من سابقتها، ملزمًا إياها بأن تمضي في احتفار دوائر ذات طبقتين، واقعة في أبعاد متساوية بعضها من بعض، وأن تبني باحتفار الشمع سطوح التقاطع. ومما لا ريبة فيه، أن النحل لا تدرك أنها قد احتفرت تلك الدوائر في أبعاد متساوية بعضها مع بعض، أكثر مما تدرك من ماهية تلك الزوايا العديدة التي تضعها للمنشورات السداسية، أو قواعد المعينات، فإن أول دافع بعث الانتخاب الطبيعي على سوق النحل في هذه السبيل، كان بناء خليات ذات متانة وقوة متناسبة تمام التناسب لشكل اليرقات وأحجامها، بحيث تستهلك أقل كمية من الجهد والمواد، أما الأثوال،٣٩ التي نجحت في بناء أكثر الخليات كمالًا، مع بذل أقل جهد ممكن واستهلاك أصغر كمية من العسل لإفراز الشمع، فكانت أكبر حظًّا في النجاح، فأورثت غرائزها الاقتصادية، التي اكتسبتها لأعقابها من الأسراب المتولدة في الطبيعة عنها، فكان لتلك الأعقاب أوفق ما يسنح من الفرص للانتصار في التناحر على البقاء.

(٦) في أن تحول الغريزة والتركيب العضوي لا يلزم أن يقعا معًا – الصعاب التي تعترض الانتخاب الطبيعي من حيث الغرائز – الحشرات العقيمة

اعترض بعض الباحثين على مذهبي في تعليل نشوء الغرائز، قائلين: «إن تحولات التركيب الآلي، وتحولات الغريزة يجب أن تكون قد حدثت في وقت واحد، متناسبة تمام التناسب من حيث علاقة بعضها ببعض؛ لأن كل تهذيب يطرأ على ناحية منها، يصبح مفضيًا بالعضويات إلى التلاشي والزوال، إذا لم يحدث في الناحية الأخرى تغاير مناظر له في أقرب فرصة تسنح لحدوثه.» وكل ما في هذا الاعتراض من قوة يرجع بجملته إلى الزعم بأن تحولات الغريزة وتحولات التركيب الآلي تقع فجأة. ولنضرب مثلًا طير «القُرْقف»، واصطلاحًا «الفَرُّوس الكبير»،٤٠ ولقد تكلمنا فيه من قبلُ في فصل سابق، فإن هذا الطائر يقبض على حبوب «الزَّرْنَب»،٤١ صَارًّا قدمه عليها إذا ما استقر على غصن شجرة، ثم يأخذ في ضربها بمنقاره، حتى يصل إلى لبها، فأية صعوبة تقوم في هذه الحال، بحيث تصد الانتخاب الطبيعي عن الاحتفاظ بكل تحول فردي ضئيل، يحدث في شكل المنقار وتكوينه، إذا ما كان هذا التحول أتم كفاءة لكسر البذور، حتى يتكون له منقار، يبلغ من كمال التكوين للقيام بهذا الغرض مبلغ منقار «ناقر الجوز»،٤٢ في حين أن هذه العادة أو الضرورة، أو تحول الذوق الذاتي، كيفما شئت أن تدعوه، تسوق الطير في سبيل يصبح، إذا ما تدرج فيها، من الطيور التي تأكل البذر، والمفروض في هذه الحال أن المنقار يمضي في التهذيب الوصفي البطيء بتأثير الانتخاب الطبيعي، متتبعًا في ذلك تحول العادات أو حاسة الذوق، متناسقًا وإياها، غير أنه إذا وقع مع هذا، أن يمضي قدم «الفَرُّوس الكبير» متناسبًا في التحول من حيث الكبر مع تحول المنقار، خضوعًا لسُنة النسب المتبادلة في النماء، أو المطاوعة، أو إلى غير ذلك من الأسباب، التي لم نستبنها بعدُ، فلا يبعد مطلقًا، أن هذا الطير إذا ما أصبحت قدمه أكبر حجمًا، أن يمضي في اكتساب عادة التسلق تدرجًا، حتى يحوز من غريزة التسلق والقدرة عليها، ما حازه من قبل «ناقر الجوز». ونرى في هذا المثال، أن التدرج في تحول التركيب قد يحتمل أن يسوق إلى تحول العادات الغريزية، ولننظر في مثال آخر: فليس من الغرائز التي نشاهدها في الحيوان ما يفوق في نظرنا تلك الغريزة، التي تلزم خطاف الجزائر الشرقية أن يبني عشه من اللعاب المكثف، غرابة وبعثًا على الحيرة، اللهم إلا القليل، وأن نوعًا من «الخُطاف»،٤٣ يقطن أمريكا الشمالية يبني عشه، كما رأيت بنفسي، من عصيات مغرَّاة باللعاب، وربما ابتناه بقشور، يصنعها من هذه المادة ذاتها، فهل تنكر بعد هذا على الانتخاب الطبيعي، أن يكون من أثره أن يسوق أفرادًا من الخطاف في سبيل من التحول، يجعلها بالتدرج أكثر إفرازًا لهذا اللعاب من غيرها، فتمعن في هذه السبيل، حتى تصبح نوعًا فيه من الغرائز ما يدفعه إلى الاستغناء عن المواد الأخرى، مقتصرًا في بناء عشه على استخدام لعابه لا غير، كذلك الحال في ظروف أخرى، فإنا يجب علينا أن نوقن إذا ما نظرنا في كثير من الأمثال التي نلحظها، حشو الطبيعة العضوية، أنه ليس في مكنتنا أن ندرك، أيهما يبدأ في التحول أولًا: أهي الغريزة، أم التركيب العضوي؟

ومما لا شك فيه أن هنالك من الغرائز، التي يصعب علينا البيان عن كنهها ما يعارض نظرية الانتخاب الطبيعي، ففي الطبيعة حالات لا نستطيع أن نستبين كيف تأصلت الغرائز فيها، وأخرى نعثر فيها على حلقات تدرجية وسطى، تربط بين أطرافها، ولدينا ضروب من الغرائز بلغت من حقارة الشأن مبلغًا لا يسمح لنا بالقول بأن نشوءها كان ثمرة لمؤثرات الانتخاب الطبيعي، ومن ثم تلك الغرائز التي نراها متماثلة كل التماثل في حيوانات متباعدة في رتب النظام الطبيعي العام، حتى إنك لا تستطيع أن تعزو تماثلها هذا إلى توارثها من أصل أولي بذاته، وبذلك نُساق إلى الاعتقاد، بأنها لا بد من أن تكون قد اكتُسبت، مستقلة بتأثير الانتخاب الطبيعي، ولست بمستطرد في الكلام في هذه الحالات المختلفة المتعددة، بل سأقصر الكلام على اعتراض سبق إلى حدسي، لدى تأملي منه لأول وهلة، أن دفعَه غير مستطاع، وظننت أن مذهبي لا محالة مقضي عليه بالزوال، وأقصد بهذا الاعتراض، حالات الإناث المحايدة، أو العواقر التي نراها في جموع الحشرات؛ لأن هذه الإناث في غرائزها وتراكيبها مختلفة اختلافًا بينًا عن الذكور والإناث الولود، وفضلًا عن ذلك، فإنها لعقرها لا تكون قادرة على الإكثار من نوعها وبقائها.

إن هذا الموضوع يحتاج إلى كثير من الإفاضة والسعة في الشرح والبيان، غير أني سأقصر الكلام على حالة واحدة، تلك حالة النحلة العاملة أو العقيم، أما السبيل التي تمشت فيها ضروب النحلة العاملة، حتى أصبحت عقيمًا لا تنتج، فمن الصعب الإبانة عنها، غير أن صعوبة الكشف عن ذلك، هي بذاتها شأن كل صعوبة تعترضنا، إذا ما حاولنا كشف القناع عن السبيل المؤدي إلى حدوث أي تهذيب وصفي ظاهر في تراكيب العضويات، وفي استطاعتي أن أظهِر أن بعض الحشرات وغيرها من الحيوانات المفصلية،٤٤ قد يتفق أن تصبح عقيمًا، وهي في حالتها الطبيعية الصرفة، فإذا وقع مع ذلك، أن كانت هذه الحشرات من ذوات الغرائز الاجتماعية، وكان من فائدة الجماعة أن تلد كل عام عددًا من الأفراد القادرة على العمل لصالح الكل، في حين تكون معدومة القدرة على التناسل، فلست أرى من صعوبة تحول، دون استحداث هذه الحالة بتأثير الانتخاب الطبيعي، غير أني سأغض النظر عن هذه المشكلة الأوَّلية، صارفًا كل همي إلى الإبانة عن تلك المشكلة البينة، مشكلة أن ضروب النحل العاملة تختلف اختلافًا كليًّا عن الذكور والإناث الولود في الشكل الظاهر، وفي تكوين الصدر، وفي فقدان أجنحتها، وفي بعض الأحيان في عيونها، وفي تباين غرائزها، أما إذا نظرنا في تباين الغريزة، فإن الفروق الغريزية البينة الكائنة بين الإناث العاملة وبين الولود، فإن نحل البيوت ليزودنا بأمثال أبلغ من تلك التي نقتطفها من بحثنا صنوف النمل، أما ضروب النمل العاملة أو غيرها من الحشرات، إذا كانت من الصور العادية التي تقع على أمثال كثيرة لها في عالم الحيوان، فما كنت لأتردد مطلقًا، في أن أعزو للانتخاب الطبيعي كل صفاتها العضوية، مقتنعًا بأنها كسبتها تدرجًا على مر الأيام؛ أي بإنتاج أفراد، حازت نزرًا من التهذيب الوفي المفيد، وبتوارث أعقابها إياه، ومن ثم بتحول صفات الأعقاب، وتوارث أعقاب الأعقاب لتلك الصفات شيئًا فشيئًا، وهلم جرًّا. غير أنك إذا نظرت في ضروب النمل العامل، فإنك تجد حشرة تختلف عن آبائها جهد الاختلاف، في حين تكنَّ عقيمات غيرَ ولودات، فهي لعقرها يستعصي عليها أن تورث على التتابع ضروب التهذيب التركيبي أو الغريزي، التي تكون قد كسبتها إلى أعقاب لها، وهنا يسائل الباحث نفسه: كيف يوفق بين هذه الحال وسُنة الانتخاب الطبيعي؟

يجب أن نعي، بداءة ذي بدء، أن لدينا من صنوف الدواجن، وكذلك الحيوانات التي لا تزال في حالتها الطبيعية، أمثالًا لا نحصيها، بحيث نستبين فيها كل أوجه التباين الحادثة في التراكيب المتوارثة تظهر في كلا الزوجين — الذكر والأنثى — في أدوار معينة من العمر، ولدينا فروق لا تتبادل الظهور في أحد الزوجين لا غير ذلك بنسبة طول القرون أو قصرها، في الذكر والأنثى التابعين لسلالة بذاتها. من هنا لا أجد صعوبة بينة في أن تتبادل النسبة في أية صفة من الصفات مع حالة العقم في جمع ما من جموع الحشرات، أما المشكلة الحقيقية فتواجه سياق البحث، إذا ما أردنا أن نعرف كيف استجمع الانتخاب الطبيعي من طريق التدرج البطيء، تلك النسب المتبادلة في نواحي التهذيب التركيبي، الذي نلحظه في طبائع الكائنات الحية.

إذا تذكرنا بديًا أن الانتخاب الطبيعي يتناول أثره الأسرة برمتها، كما يتناول الفرد، وأنه قد يحدث في كليهما غاية محدودة، فإن هذا الإشكال على ما يظهر فيه من القوة والمتانة، لتنزل مكانته، ويقل شأنه، أو يُقضى عليه قضاء مبرمًا، كما أعتقد اعتقادًا كاملًا قد يريد مستولدو الماشية مثلًا، أن يمتزج اللحم والشحم معًا في بناء أجسام ماشيتهم، فإذا ذبحت ماشية من قطيع كانت فيها هذه الصفة، فإنهم يرجعون إلى القطيع الذي أُخذت منه، ويعملون بكل وسيلة مستطاعة، حتى ينجحوا في تربية سلالة فيها هذه الصفة. وإن الانتخاب الطبيعي لكفيل بأن يستحدث نسلًا من الماشية، يخرج بطول قرونه عن القياس العام، إذا ما عمل المستولدون على ملاحظة أي من الثيران والأبقار يكون في نتاجها هذه الصفة إذا استُولدت.

وإليك مثالًا آخر، أبلغ من هذا بيانًا، وأقرب لمتناول التجاريب الحقيقية، فقد حقق «مسيو فيرلو»، أن تنوعات من نبات ينتج في العام دفعتين، توالى عليه تأثير الانتخاب العملي زمانًا طويلًا، مصروفًا نحو البلوغ إلى درجة أو حالة معينة، فكان من نتائج ذلك، أنها أصبحت تنتج عددًا عظيمًا من النباتات البوادر، تحمل أزهارًا متضاعفة، غير أنها عقيمة، ولكنها تنتج في الوقت ذاته نباتات فردية الأزهار، خصبة مهيأة للإنتاج. أما الأخيرة، تلك التي يحفظ بها الضرب كيانه، فيمكن أن يقيسها بالذكور والإناث الولود في جماعات النمل، أما النباتات المزدوجة، فنقيسها بالنمل غير الولود، والحال في هذه الضروب، هي بذاتها الحال في الحشرات الاجتماعية، ففي كليهما تابع الانتخاب تأثيره في الأسرة، لا في الفرد، مسوقًا إلى ذلك ابتغاء الوصول إلى غاية ذات فائدة ما، وبذلك نقضي بأن التهذيب الوصفي الضئيل، واقعًا في التراكيب العضوية أو في الغريزة، أو متبادلًا بنسبة ما مع حالة العقم في أسر عشيرة بذاتها، يمكن التدليل على أنه ذو فائدة ونفع، في حين أن الذكور والإناث الولود تكون قد تكاثرت، وأورثت أنسالها المنتجة نزعة إلى إنتاج أفراد عقيمة، اختصت بتلك الصفات عينها، وهذا النهج لا بد من أن يكون قد تكرر وقوعه خلال الأجيال، حتى حدثت الفروق العظيمة الواقعة بين الإناث الولود، والإناث العقيمة التابعة لنوع واحد، تلك الفروق الذائعة في كثير من صور الحشرات الاجتماعية.

غير أنا على ما استطردنا فيه من البحث لم نبلغ بعدُ ذروة الصعوبة الحقيقية، حيث نجد أن كثيرًا من ضروب النمل العقيم لا تباين أفراد الذكور والإناث الولود لا غير، بل إن بعضها يباين بعضًا مباينة تبلغ من العظم مبلغًا لا يصدقه العقل، فتنقسم بذلك فرقتين أو ثلاث فرق مختلفة، ثم إنك لا تستبين بين هذه الفرق شيئًا من خطى التدرج الواقعة بين إحداها والأخرى، بل إن كلًّا منها مستقلة تمام الاستقلال، جلية الصفات محدودة الطبيعة، بحدود لا نراها واقعة إلا بين نوعين تابعين لجنس واحد، وقد لا نجد لمقدار فروقها مثالًا، إلا بين جنسين تابعين لفصيلة بعينها، ففي «الأقطون»٤٥ أفراد عقيمة، قد تكون عمالًا وقد تكون جندًا، ولكل من الفرقتين أفكاك تختلف عن أفكاك الأخرى، كما تختلف غرائزها، ونجد في «اليَقْرُون»،٤٦ أن لعمال فرقة منها ترسًا نابتًا في رءوس أفرادها، وعلى غرابته، لا نعرف عن وظيفته شيئًا يُذكر، ونجد في «النَّيْمُول»٤٧ المكسيكي أن عمال فرقة بعينها تبقى في القرية لا تبرحها أبدًا، تطعمها وتتعهدها عمال فرقة أخرى، أما أحشاؤها فقد نمت نماء كبيرًا، يساعدها على إفراز نوع من العسل، يقوم مقام ما يفرزه «قمل النبات» وهي بمثابة حيوانات النمل الداجنة، كما يصح أن ندعوها، تلك التي تحتفظ بها أنواع النمل الأوروبي، وتأسرها للغرض ذاته.

قد يسبق إلى يقين بعض الباحثين، أني أبالغ في الثقة بما للانتخاب الطبيعي من أثر، إذا ما قضيت بأن هذه الحقائق العجيبة المدعمة على أساس المشاهدة، لا تقوِّض أركان مذهبي، أما في الحالات العادية غير ذات الشأن، كحال الحشرات العقيمة التابعة لفرقة واحدة، والتي ترجع مباينتها للذكور والإناث الولود إلى أثر الانتخاب الطبيعي، كما أعتقد، فإنني أقضي، معتمدًا على مشابهات الواقعة بين التحولات الأولية فيها، بأن ضروب التهذيب الوصفي المتتابع الحدوث تدرجًا فيها، لا تطرأ على الأفراد العقيمة، الكائنة في قرية واحدة في وقت واحد، بل تلحق بقليل منهم لا غير. وإن من طريق ما تحوزه الجماعات من الغلبة، باستحداث أكثر الإناث للعديد الأوفر من الأفراد العواقر، ذوات الصفات المهذبة المفيدة للجماعة، تمضي تلك الأفراد متحولة على نسق واحد، ومتابعة لهذا الرأي، يجب أن نعثر اتفاقًا بين فترات الزمان، على تدرجات تركيبية تظهر في الأفراد التابعة لعش بعينه، ولكنا لا نجد شيئًا من هذا، حتى ولو نادرًا. وفي مستطاعنا أن نفقه سبب ذلك، إذا ما عرفنا أن ما صُرف من العناية نحو البحث في طبائع الحشرات العقيمة في أوروبا، قليل لا يُعتد به.

ولقد أبان «مستر سميث»، أن الحشرات العقيمة في جماعات النمل في إنجلترا، يختلف بعضها عن بعض اختلافًا عجيبًا في الحجم، وفي بعض الأحيان في اللون، وأن أبعد الصور اختلافًا يمكن التوحيد بينها بأفراد يعثر عليها في قرية بعينها، تثبت خطى التدرج بين هذه الصور، وقارنت بنفسي بين خطى تدرجية من هذا الصنف، فوجدت أنه قد يتفق أحيانًا أن تكون أكبر الحشرات العاملة أو أقلها حجمًا، هي الأكثر ذيوعًا، وقد يقع أن يكون كلاهما وفير العدد، في حين تكون الأفراد ذوات الصفات التدريجية المتوسطة بين هاتين الصورتين قليلة العدد. فالنملة الذهبية لها جماعات من العمال فيها ضخامة، وجماعات أخرى فيها قماءة، مع نزر يسير من الأفراد تتوسط أحجامها بين هذين الحدين، ولاحظ «مستر سميث» فوق هذا، أن لضخام العمال من هذا النوع عيينات أولية (بدائية)، إن كانت صغيرة، فإن من المستطاع استبانتها، في حين أن عجاف العمال تكون عيونها أثرية، ولقد حققت ذلك بتشريح أفراد كثيرة من عمال هذا النمل تشريحًا شطريًّا دقيقًا، فثبت عندي أن عيون عجافها أبعد إمعانًا في الغرارة مما نستطيع أن نحكم، بمجرد النظر إلى ضئولة أحجامها النسبية، وإني لأعتقد، وإن كنت لا أستطيع أن أحكم في ذلك حكمًا قاطعًا، بأن عيون طائفة العمال ذوي الأحجام المعتدلة، متوسطة الاتساع، في هذا المثال، تجد فرقتين من أفراد العمال العقيمة في حلة بعينها، لا تتباين في الحجم ولا غير، بل في أعضاء الإبصار أيضًا، غير أنها ترتبط دائمًا بصورة قليلة، تتوسط صفاتها بين هذين الطرفين. من هنا أستطيع أن أقضي بأنه: إذا كانت صغار العمال كانت أجلبَ لمنفعة الجماعة، ومن ثَم تابع الانتخاب أثره في اختيار الذكور والإناث، التي تكون أكثر إنتاجًا لهؤلاء العمال الصغار الأحجام، وحتى يأتي زمان يصبح فيه العمال جميعهم من هذا الصنف، فهنالك يكون قد استُحدث في الطبيعة نوع من النمل، أفراده العقيمة مشابهة من حيث حالاتها العامة وأوصافها لنوع «المرميق»؛٤٨ لأن عمال هذا الجنس ليس لها أثر من العيون الأولية، ولو أن إناثها وذكورها، لها عيون أولية ذهبت في سبيل النماء إلى حد كبير.
ويصح لي في هذا الموطن، أن أسوق الكلام في حالة أخرى، فقد تابعت البحث، مقتنعًا بأنني سوف أعثر اتفاقًا على خطى تدرجية، ذات شأن في التراكيب، واقعة بين الفرق العقيمة التابعة لنوع بذاته، وظللت متابعًا البحث، حتى حباني «مستر سميث» بكثير من الأمثال، لحظها في حلة واحدة لنوع من النحل، يقطن غربي أفريقيا، يُقال له «العَنُّوم».٤٩ ولا شك، في أن القارئ قد يقف على شيء من عظم الفروق بين طوائف العمال في هذا النوع بسرد شيء من الأمثال المشاهدة الواقعة، لا بالحصول على الاعتبارات الاتفاقية لا غير، نقف على مقدار تلك الفروق، إذا ما صورنا لأنفسنا طائفة من الفَعَلة، آخذة في بناء منزل ما، قسمٌ منها لا يزيدون على خمس أقدام وأربع بوصات طولًا، وهم الأقل عددًا، والبقية يبلغون ست عشرة قدمًا طولًا، وهم الأكثرية، ونفرض فوق ذلك أن رءوس العمال الضخام أكبر من رءوس العجاف أربعة أضعاف لا ثلاثة أضعاف، كما كان يجب أن تكون النسبة القياسية، وأفكاك الأولين أكثر من أفكاك الآخرين خمسة أضعاف.

وفضلًا عن هذا، فإن أفكاك النمل العامل المختلفة الأحجام، تتباين جهد التباين في الشكل، وفي تكوين الأسنان وعددها، غير أن أكثر الحقائق إحاطة بعقولنا، أن العمال إن كان من المستطاع تقسيمهم فرقًا مختلفة الأحجام، إلا أنها تتدرج في خطى غير محسوسة بعضها نحو بعض في التكوين، وما شأنها في الحجم، إلا كشأنها في تكوين أفكاكها من حيث التدرج. على أن ثقتي بصحة هذه الحالة الأخيرة، التي أتيت على وصفها، إنما ترجع إلى ما قام لي به «سير جون لوبوك»، من تصوير الأفكاك التي شرحتها تشريحًا شطريًّا، والتي أخذتها من فئات من العمال مختلفة الأحجام. ولقد أورد «مستر باتس»، في كتابه القيم — «باحث طبيعي على ضفاف الأمازون» — حالات مشابهة لهذه الحالة.

إني إذا ما نظرت في هذه الحالات ووعيتها، ملقيًا عليها نظرة من التأمل، فلا يسعني إلا أن أعتقد أن الانتخاب الطبيعي، بتأثيره في النمل الولود أو الآباء، كان في مستطاعه أن يستحدث أنواعًا، أمعنت في إنتاج أفراد عقيمة كلها ذوات أحجام كبيرة، وأفكاك ذات وضع وشكل واحد، وأنواعًا أخرى أمعنت في إنتاج أفراد قميئة الأحجام، تختلف أفكاكها اختلافًا كبيرًا، أو أن ينتج، وتلك هي مشكلتنا العظمى، فريقًا من العمال متماثل الحجم والتركيب، وفي الوقت ذاته، فريقًا آخر يختلف حجمًا وتركيبًا، وأنه كوَّن في مبدأ الأمر سلسلة من صور التدرج، كما هي الحال في «العَنَّوم»، ومن ثم مضى في الإكثار من صور طرفي السلسلة، ممعنًا في تكثيرها شيئًا فشيئًا، من طريق ما بث في الأصول، التي تنتجها من قوة البقاء والاحتمال، حتى أتى زمان تعطلت فيه الصور، التي تنتج أفراد الحلقات الوسطى من السلسلة عن الإنتاج، فانقرضت.

ولقد أتى «مستر وولاس» بإيضاحات شبيهة بهذه؛ حيث ذكر حالات تبلغ من التعقيد مبلغ ما ذكرنا في أنواع من الفراش، تقطن «جزر الملايو»؛ إذ تظهر إناثه في صورتين أو ثلاث صور مختلفة تمام الاختلاف. كذلك أبان «فريتز مولر» في أنواع من أصداف الرخويات، تأهل بها بلاد الأناضول، أن ذكورها قد تظهر في صورتين متباينتين، غير أني لا أستطرد هنا إلى الكلام في هذه الحالات.

وأغلب ظني أنني استطعت، على ما أعتقد، أن أكشف عن تلك الحقيقة الرائعة، حقيقة تأصل طائفتين من العمال العقيمة، مستقلتين في صفاتهما عن صفات آبائهما، التي حبتهما بنعمة الوجود. أما إذا عرفنا مقدار النفع، الذي تجنيه الجماعات الإنسانية من تقسيم العمل على فرقها وطوائفها، فهنالك نعرف مقدار النفع الذي يعود على النمل من استحداث تلك الأفراد العقيمة، والنمل إنما يعمل، مسوقًا إلى العمل بغريزة موروثة مؤصلة في تضاعيف فطرته، وبأدوات وأعضاء توارثها عن أسلافه السابقين، بينما يعمل الإنسان، مدفوعًا إلى العمل بمدركات وأصول مكتسبة من المعرفة، وآلات مصنوعة ابتدعها. غير أني لا محالة، معترف على الرغم من عظيم ثقتي وثابت يقيني في الانتخاب الطبيعي، بأني ما كنت لأقضي من قبل، بأن فعل هذه السُّنة قد يذهب إلى تلك الحدود البعيدة القصية من التأثير في طبائع الكائنات. ولم أكن قد بلغت من بحثي الحشرات العواقر إلى تلك النتيجة، التي شرحتها آنفًا، ولم أسُق الكلام في هذه الحالة موجزًا فيها إيجازًا غير معتل، إلا لكي أظهِر للباحث ما للانتخاب الطبيعي من أثر، ولأنها أشد الحالات التي اعترضت بحثي، مقتنعًا بالانتخاب الطبيعي، صلابة وأبعدها في زعزعة اليقين بتلك السُّنة أثرًا، ذلك على الرغم مما في بحث هذه الحالة من الفائدة العظمى؛ إذ تظهِر لنا مقدار أعظم كمية من الهذيب الوصفي، يمكن استجماعها في صور الحيوانات والنباتات من طريق التأثير التدرجي غير المحسوس، متتاليًا وقوعها بتحولات ذاتية مفيدة بوجه ما، من غير أن يكون للاستعمال، أو العادة يد في استحداثها، ذلك بأن العادات الخاصة التي تعكف عليها العاملات؛ أي الإناث العقيمة، لا يمكن أن تؤثر في الذكور والإناث الولود، التي تعقب وحدها نسلًا، مهما طالت مدة عكوفها عليه. وإني لتعروني الحيرة، إذ أقلب طرفي فلا أرى باحثًا من الباحثين، قد أقام من هذه الحالة البينة، حالة الحشرات العقيمة، معترضًا ينفي به تلك النظرية المعروفة، نظرية توارث العادات، التي يقول بها العلامة «لامارك».

ملخص

حاولت في هذا الفصل أن أثبت، أن الصفات العقلية في حيواناتنا الأليفة تتحول، وأن هذا التحول قد يورث، وأوجزت في ذلك القول، وتاليت البحث بأشد من ذلك إيجازًا، ابتغاء التدليل على أن الغرائز تتحول تحولًا ضئيلًا في الحالة الطبيعية الصرفة.

من هنا، لا أجد من صعوبة تحول دون الانتخاب الطبيعي والمضي في استجماع تحولات وصفية ضئيلة، تحدث في الغرائز بتأثير ظروف الحياة المحيطة بالكائنات، ذاهبًا بذلك التحول إلى أقصى الحدود، ففي حالات كثيرة، نجد أن العادة أو سُنة الاستعمال، غالبًا ما تمعن في التأثير في طبائع الكائنات، وما كنت لأدَّعي بأن الحقائق التي أتيت عليها في هذا الفصل قد تزيد من نظريتي قوة، أو تجعلها أشد ثباتًا، كما أن كل الصعاب والمشكلات التي اعترضت بحوثي لا تقضي بنقضها، بل على الضد من ذلك، فإن ما ثبت من أن الغريزة لم تبلغ في كل الحالات حدًّا من الكمال، وأنها كثيرًا ما تكون غير قويمة، وأنه ليس من الغرائز ما يمكن البرهنة على أن الطبائع العضوية قد كسبته، بحيث تكون منفعته قاصرة على حيوانات أخرى، ولو أن كل الحيوانات ينتفع بعضها بغرائز بعض، وأن آية الطبيعة الثابتة «أن لا طفرة في الطبيعة»، يمكن تطبيقها على الغرائز، كما تطبق على التراكيب الجسمانية، وأن تعليل حدوث الغرائز يمكن أن يُفقه على النسق السابق، ولا يُفقه بغيره مطلقًا، جماع هذه الاعتبارات، تجعلنا أكثر اقتناعًا بالانتخاب الطبيعي، وأثبت إيمانًا.

والانتخاب الطبيعي قد تؤيده حقائق أخرى، نقتطعها من غرائز الحيوانات، خذ مثلًا تلك الحالة المعروفة، حالة تلك الأنواع التي تكون على ترابطها في النسب محددة الصفات جهد مستطاع الطبيعة أن تحدد، وتقطن في أقاليم مختلفة تمام الاختلاف، وتقع تحت تأثيرات ظروف الحياة المتباينة، فإنك تجد أنَّها بالرغم من كل هذا تكون حائزة لغرائز واحدة تقريبًا، فإننا إذا تابعنا البحث، مقتنعين بهذه النظرية، أمكننا أن نفقه كيف أن الدج الأمريكي، والدج الذي يعيش في الجزائر البريطانية، كلاهما يبتني عشه من الطين، أو كيف أن «ذا المنقار القرني» — «الأرنبيل»٥٠ — في أفريقيا والهند، له ذات الصفة الغريزية؛ إذ يتخذ من جذوع بعض الأشجار سجنًا لأنثاه، يدخلها فيه، ثم يبني فوهته، ولا يترك فيه غير ثقب صغير منه يميرها هي وصغارها عند التفريخ، أو كيف أن ذكر الصَّعْوَة٥١ (الرَّان) الأطرُغلي،٥٢ الذي يقطن شمالي أمريكا، يبني عشًّا، يجثم فيه، كما هي عادة «الران الكيتي»٥٣ في إنجلترا، وهي عادة ليست لشيء من الطيور الأخرى.
إن الاستقراء المنطقي الصحيح ليسوقنا إلى أن نعزو حدوث هذه الغرائز والحالات إلى سُنة عامة، تعمل على تنشؤ الكائنات العضوية وترقيتها، فتمضي بالأقوياء إلى التكاثر، وبالمستضعفين إلى الزوال والانقراض. وإن عقولنا لتأبى أن تسلِّم بأن هذه الغرائز خُلقت في الحيوانات خلقًا من العدم، غير أنه يُخيَّل إليَّ أنَّ نظرَنا في غرائز، كالتي تُقسِر فرخ «الوقواق» على إبعاد رفقائه في الطفولة، أو النحل على اتخاذ العبيد، أو اغتذاء عذارى بعض «الأخنوميديَّات»٥٤ — من الحشرات — على جثث اليساريع، لأبلغ في التدليل على وجود تلك السُّنة، التي تستحدث تحول الغرائز التدرجي، من كل الاستقراءات المنطقية.
١  Cuekoo.
٢  Metaphysics.
٣  Caterpillar.
٤  Mozart.
٥  Spontaneous Variations of Instincts.
٦  Aphidae (انظر قاموس النهضة، ومعجم الحيوان للمعلوف).
٧  Vermilion.
٨  Propolis: مادة راتينجية (عن ابن البيطار): “A brownish resinous material of waxy consistency collected by bees from the buds of trees and used as a Cement.”
٩  Oatmeal.
١٠  Magpie.
١١  Hooded Crow.
١٢  Mice.
١٣  Rats.
١٤  Woodcocks.
١٥  Snipes: المفرد شَنْقُب (قاموس النهضة ص٢٠٤٣).
١٦  Pointers.
١٧  Domestic Instincts.
١٨  Tumbler.
١٩  Felidae.
٢٠  Blue Tay: في الاصطلاح العلمي: Garrulus cristatus.
٢١  Lines: المفرد لينية، قياس مقداره ١ من ١٢ من البوصة.
٢٢  Hedge-warbler.
٢٣  Molothrus.
٢٤  Molothrus badius.
٢٥  Molothrus bonarieusis.
٢٦  يُطلق على نباتات كثيرة.
٢٧  Molothrus Pecoris.
٢٨  Gallinaceous.
٢٩  Sphegidae.
٣٠  Tachytes nigra.
٣١  Paralyse.
٣٢  Formica rufescens.
٣٣  Formica jusca.
٣٤  Formica Sanguinea.
٣٥  Pupae جمعٌ مفرده Pupa: الخادرة.
٣٦  Formica flara يرقة أو يرقانة Lawa عذراء: Pupa.
٣٧  Humble-bee.
٣٨  اسمها الاصطلاحي: «الملاء الأليف» Melipona domestica: والملاء: صيغة مبالغة في «الملء» وهو العسل.
٣٩  الثَّوْل: جماعة النحل ولا واحد له من لفظه، ويُجمع على أثوال. (المصحح)
٤٠  Titmouse: وفي اللسان الاصطلاحي: Parus major.
٤١  Yew.
٤٢  Nuthatch.
٤٣  Swallow.
٤٤  Articulata.
٤٥  معرب: Eciton.
٤٦  الاسم قياس على السماع في «قرن» يفعول: أخذًا من مدلول الاسم الأعجمي: Cryptocrpus.
٤٧  الاسم قياس على السماع في «نمل»: يفعول: أخذًا في مدلول الاسم الأعجمي: Myrmecocyatus.
٤٨  Myrmica.
٤٩  Moma.
٥٠  Hornbill.
٥١  عن المعلوف: معجم الحيوان ص٢٦٥.
٥٢  wren: الأطرغلي: أي ساكن الكهوف: Troglodyte: وهو معرَّب قديم.
٥٣  Ketty-wren.
٥٤  معرب: Ichneumonidae.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤