الفصل الثالث

طِبُّ المستشفيات

تَحيا فرنسا

اكتسبت عبارة «طب المستشفيات» دلالة مميَّزة لدى مؤرِّخي الطب؛ فقد نشأت المستشفيات في بداية العصور الوسطى، ولكنَّ «الطِّبَّ» — بمعنى ممارسة الطب — يرجع إلى زمن أبعد من ذلك. إلا أنَّ «طب المستشفيات» اختصار ملائم للتعبير عن القيم التي ازدهرت في المجتمع الطبي بفرنسا — ولا سيَّما باريس — في الفترة بين ثورتي ١٧٨٩ و١٨٤٨، وتُمثِّل تلك الفترة حقبة أصبحت فيها باريس قِبلةً لعالِم الطِّبِّ. كان المركز الأكيد لتلك الحقبة هو مستشفيات باريس، وقد امتدَّ أثر الأدوات والأساليب التي هيمنت على التعليم الطبي والممارسات الطبية هناك إلى جميع أنحاء العالم الغربي.

كانت تلك الحقبة الفرنسية تُوصَف أحيانًا بأنها «ثورة طبية»، وهو وصفٌ مناسب؛ لأنَّها نشأت عن ثورة سياسية. وقد كشف المؤرِّخون — إذ أجْرَوا تحليلًا دقيقًا للهياكل التعليمية والإجراءات الطبية وعلاقات الأطباء بالمرضى — عن سوابق كافية تؤيد حدوث تطورٍ، لا ثورةٍ في الطب، ولكنَّ الحقيقة هي أنَّ الأطباء اكتسبوا ثقة جديدة إبَّان أربعينيات القرن التاسع عشر، مقارنةً بأسلافهم من نحو جيلين سابقين، وكثير من تلك الثقة يمكن أن يُنسَب إلى تأثير باريس.

على غرار كثير من الثورات، بدأت الثورة الطبية الباريسية صغيرة، ولم يكن من الممكن لأحد أنْ يتنبَّأ بها في الأيام العاصفة والمضطربة في «عهد الإرهاب»، فعند وصول القوى السياسية والعسكرية للثورة إلى السلطة، اجتاحت تلك القوى مؤسسات الطب — من الأطباء والجرَّاحين والمستشفيات والأكاديميات والكُلِّيات القديمة — مع سائر بقايا «النظام القديم». وطوال عامين حافلين بالأحداث في أوائل تسعينِيَّات القرن الثامن عشر، بدا تطبيبُ المرء لنفسه التصرُّفَ الأمثلَ بالنسبة إلى الجميع، ووعدَ زعماء الثورة بأنَّ توفير الرعاية الصحية للجميع من المحتم أنْ يتبع القضاء على الامتيازات والفساد اللذين ارتبطا بالتسلسلات الهَرَمِيَّة واللامساواة القديمة.

إلا أنَّ ذلك التفاؤل لم يدُم طويلًا؛ فالمرض لم يختفِ، وسرعان ما اكتشفت الحكومة الثورية أنَّ جنودها وبحَّاريها يحتاجون إلى رعاية طبية عندما يمرضون أو يُجرَحون، فكان الجيش بحاجة إلى أطباءَ خاصِّينَ به، وعلى نحو أكثر تحديدًا، كان يحتاج إلى أطباء مدرَّبين على كلٍّ من الطب والجراحة؛ فالفصل القديم بين هذين المجالين فقدَ فعاليته وسط الحملات والمعارك الحربية. وفي عام ١٧٩٤ أُعيد افتتاح مدارس الطب، وذلك في المقام الأول لإفراز رجال يُلَبُّون الاحتياجات العسكرية للجمهورية الجديدة.

fig9
شكل ٣-١: الصَّرح الهائل لمستشفى أوتيل ديو في باريس في أوائل القرن التاسع عشر، الذي شهد ابتكارات طبية كثيرة جدًّا. يبدو الشخصان الظاهران على اليسار حاملَيْن تابوتًا، ومن المرجَّح أن تكون العربة المنتظرة أمام المَدْخل تقف استعدادًا لنقل جثث المتوفين إلى المقابر.

ولحُسن الحظ كان الرجل الأهم في اللجنة التي عيَّنتها جمعية الثورة للنظر في الاحتياجات الطبية للحقبة الجديدة طبيبًا وكيميائيًّا متعاطفًا مع أهداف الثورة. كان أنطوان فوركروا (١٧٥٥–١٨٠٩) قد أحرز بعض الشهرة بوصفه كيميائيًّا، وعمل أستاذًا للكيمياء في المدرسة الجديدة التي ساهم في إنشائها في باريس. كان يتمتع بفطنة سياسية وحُسن نية حقيقي، وكان هو العقل المدبِّر وراء المخططات الأولية للمدارس التي أُنشِئت في باريس وستراسبورج ومونبلييه. والتقرير الذي كان له الدور الأكبر في إعداده أقرَّ بالاحتياجات العسكرية التي يفرضها الوضع السياسي المعاصر، وشدَّد على ثلاثة جوانب في التعليم الطبي الجديد؛ أولًا: ينبغي أن يتلقَّى الطالب تدريبًا عمليًّا مكثَّفًا من أول يوم. وحسبما قال في كلماته الرنَّانة، ينبغي للطالب أن «يقرأ قليلًا ويشاهد كثيرًا ويعمل كثيرًا.» فكان غياب النظريات وكثرة المِران هما السِّمتَين السائدتَين في ذلك العصر. وثانيًا: تقرَّر أن يكون التعليم الطبي الجديد مقره المستشفيات؛ حيث كانت فرص الخبرة أكبر ومكثَّفة أكثر بكثير من قاعة المحاضرة أو الممارسة الطبية خارج المستشفى. وأخيرًا: كان ينبغي تدريب خريج الطب الجديد على كلٍّ من الطب والجراحة معًا، وكان ذلك يعني فعليًّا استجلاب الفِكر الجراحي إلى مجال الطب ذاته؛ ففي حين أنَّ الأطباء كانوا يُعْنَون عادةً بالجسد كاملًا؛ بالأخلاط أو الأرواح أو غيرهما من التصورات التعميمية للمرض، كان الجرَّاحون دائمًا ما يُواجَهون بالمسائل الموضعية؛ كالصديد أو العظم المكسور وأي اختلالات محدَّدة تتطلب تدَخُّلًا حاسمًا في موضع بعينه. ولكن مع نشأة مدارس الطب الفرنسية، اكتسبَ مفهوم «التلف» أهمية طبية؛ والتلف هو تغيُّر باثولوجي ناتج عن المرض؛ لذا كان يمكن رؤيته، سواء باستخدام المجهر أم بدونه؛ ومن ثَمَّ تعلَّم الأطباء التفكير الجراحي، ونالت أعضاء الجسم الصلبة المكانة اللائقة بها في مجال الطب.

صار طب المستشفيات الفرنسي يعتمد على ثلاثة أعمدة، ليس بينها ما هو جديد تمامًا، لكنها شكَّلت معًا أسلوبًا جديدًا للنظر إلى المرض. وكانت الأعمدة الثلاثة هي: التشخيص الجسدي، والعلاقة الباثولوجية السريرية، واستخدام أعداد كبيرة من الحالات لتوضيح الفئات التشخيصية وتقييم العلاج.

ظلت تلك الأعمدة — بعد تعديلات كثيرة — ذات أهمية جوهرية للطب، وكذلك ظلَّ المستشفى هو محور الممارسة الطبية.

التشخيص الجسدي: العلاقة الحميمة الجديدة

تتميَّز زيارة الطبيب بنوع خاص من الآداب والحميميَّة؛ حيث يمكنه أنْ يطلب من المريض خلع ملابسه، وأنْ يلمسه ويتحسَّس جسده بطرق عادةً ما يختصُّ بها الزوج أو الخليل، ويمكن أن تسبِّب حَرجًا. وطوال القرنين الماضيين أو نحوهما، تقبَّل معظم المرضى تلك العلاقة بالأطباء، على افتراض أنَّ الاعتماد على الأطباء فيه مصلحتهم. واكتسبت العلاقة صبغة روتينية في مستشفيات باريس في أوائل القرن التاسع عشر؛ نتيجةً لأسلوب الفحص البدني الذي ابتكره الأطباء في مدارس تعليم الطب المفتتَحة حديثًا بالمستشفيات.

لا يعني هذا أنَّ الأطباء — الذين كانوا دائمًا من الذكور حتى أواخر القرن التاسع عشر — لم يفحصوا مرضى متجرِّدين من ملابسهم من قبل؛ فالمنظار المِهبلي — على سبيل المثال — اختُرِع في العصر الروماني. وكانت عمليات حصوات المثانة، أو الناسور الشَّرَجي، أو معالجة مظاهر التلف في الجهاز التناسلي، أو عمليات التوليد التي يجريها ممارسو الطب الذكور؛ تُجرى جميعها بصفة منتظمة، إلى حدٍّ ما، في القرون السابقة على ذلك. إلا أنَّ زيارة الطبيب في أغلب الأحيان لم تكن تنطوي على قدر كبير من الاتصال الجسدي، باستثناء قياس النبض وفحص اللسان. وكان من الممكن أيضًا أن يتضمن التشخيص الطبي مخرجات الجسم مثل البول والبراز، ولكن أحيانًا كان الطبيب يفحصها دون رؤية المريض مطلقًا.

تبدَّل شكل زيارة المريض للطبيب في مستشفيات باريس في أوائل القرن التاسع عشر؛ فقد كان مرضى المستشفيات معظمهم من الفقراء وغير المتعلِّمين؛ ومن ثَمَّ كانوا عاجزين عن التدخُّل في أسلوب معالجتهم. وإضافةً إلى ذلك، فقد شجَّعت الأيديولوجيات الطِّبِّية الجديدة الأطباءَ على البحث عن العلامات الموضوعية للمرض، عوضًا عن الاكتفاء بالاعتماد على وصف المريض للأعراض التي تنتابه؛ فالعَرَض — مثل الألم أو الإرهاق — أمرٌ خاص بالمريض، أما العلامات — مثل تلف العضلات أو الصديد — أمور أكثر عموميةً، وقد رغب روَّاد طبِّ المستشفيات الفرنسي في بناء ممارستهم على الأساس الموضوعي المتمثِّل في علامات المرض والتلف الناشئ عنه.

كان التشخيص الجسدي محوريًّا في هذا المسعى، والأبعاد الجوهرية الأربعة للتشخيص الجسدي — التي ما زالت تُدَرَّس إلى طلاب الطب — هي: المعاينة والجَسُّ والقَرْع والتسمُّع. استخدم الأطباء منذ عهد الأبُقراطيين تلك الأساليب كلَّها من حين لآخر بأشكال مختلفة. أما أطباء المستشفيات الفرنسية، فجمعوها وأَضْفَوا عليها صبغة روتينية ومنهجية، وبذلك غيَّروا شكل العلاقة بين الطبيب والمريض إلى الأبد.

المعاينة هي أبسط تلك الإجراءات؛ إذ تتمثل في النظر إلى المريض. إن عبارة «أَخرِجْ لسانك» أمر طبي مألوف منذ قديم الأزل؛ فاللسان الفِرائي (المُغطَّى بمادة بيضاء) كان يُعتَبَر العلامة الرئيسية على الحُمى واضطرابات حادة أخرى، كذلك كان اصفرار مقلتَيِ العينين إشارة إلى اليرقان، واحتقان الوجه بالدم إشارة إلى الحمَّى أيضًا أو المراحل النهائية من «حمى الدقِّ» (مرحلة متأخرة من السُّلِّ أو الدَّرَن)، أو مجموعة أمراض النقرس. وكان الوجه الشاحب المَشوب بالخُضرة يحدو بالطبيب إلى التفكير في داء الاخضرار، وهو مرضٌ كان يصيب الفتيات الصغيرات اختفى في ظروف غامضة في أوائل القرن العشرين، في نفس وقت اختفاء مرض الهستيريا، وربما للأسباب ذاتها. إلا أنَّ المعاينة كانت تقتصر في معظمها على الأجزاء «الظاهرة» من الجسد؛ أي الوجه والكفين وغيرهما من الأجزاء التي تُكشَف دون خرق للأعراف. وعندما كان الطبيب ينظر إلى جزء آخر، كان لا بد من وجود سبب وجيه لذلك، وكان ذلك السبب يوجد على الأرجح لدى الجرَّاحين وليس الأطباء.

جعل الفرنسيون المعاينة عملية منهجية، تمثِّل جزءًا من التقييم العام لصحة المريض، وفعلوا الشيء ذاته مع الجَسِّ، وهو إجراء أكثر حميميَّة؛ إذ يتضمن لمس المريض؛ فأحيانًا يمكن رؤية موضع ألم أو تكتُّل أو عضو متضخِّم، ولكن على الأغلب يحتاج الطبيب إلى تحسُّسه، فقد كان الأبُقراطيون يعلمون أنَّ الحُمَّى المتقطِّعة كثيرًا ما تُحدِث تضخُّمًا في الطحال، وأحيانًا ما يكون بارزًا جدًّا بحيث يمكن رؤيته، ولكن على الأغلب يمكن تبيُّنه عن طريق الجَسِّ. إلا أنَّه في ظل ثقافة رُقِيِّ الأطباء التي سادت أوائل العصر الحديث، كان كشف الطبيب على المريض بيديه أمرًا يحمل صبغة العمل اليدوي بوضوح؛ ومن ثَمَّ، كان الجسُّ جانبًا آخر من جوانب التشخيص أُعيدَ إلى مجال الطب إثر اتجاه الفرنسيين إلى الدمج بين الطب والجراحة، فبتحديد آليات المرض داخل الأعضاء، والتشديد على أهمية التلف الناشئ عن المرض، تعلَّم طلاب الطب الفرنسيون استخدام أيديهم باعتبارها جزءًا من أدواتهم التشخيصيَّة.

كان القَرْع (النقر على الصدر أو البطن) هو الجزء الثالث من الفحص الجسدي الروتيني. وعلى الرغم من بعض التعليقات المنفردة في السجلات الطبية لحالاتٍ سابقة، كان الطبيب ليوبولد أوينبروجر الفِيِينِّي (١٧٢٢–١٨٠٩) محِقًّا في التسمية التي أطلقها على أطروحته في تلك التقنية عام ١٧٦١؛ وهي «اكتشاف جديد». ويقال إنَّ أوينبروجر — ابن مالِك نُزُل — تعلَّم جدوى القَرْع في شبابه حين أرسله والده إلى القبو ليتفقَّد المتبقي في براميل الخمر والجعة؛ ومن ثَمَّ اكتشف تلك التقنية أثناء نقره على جوانب البراميل؛ فعند مستوى السائل، كان الصوت يتغيَّر؛ ومعنى ذلك أنَّه لم يكن يضطر إلى رفع الغطاء وإلقاء نظرة على محتويات البرميل، مستعينًا بشمعة. وبصفته طبيبًا ممارسًا، اعتمد ذلك الإجراءَ لمساعدته على تحديد الحالات التي يكون فيها القلب أو الكَبِد أو أيُّ عضو آخر متضخِّمًا، أو الحالات التي يعني فيها تراكُم السوائل في الصدر أو البطن أنَّ تجويفات الجسد التي عادةً ما تصدر صوتًا قد تغيَّر حالها بسبب المرض.

يقدِّم المجلَّد الصغير المتواضع لأوينبروجر مثالًا ممتازًا على حقيقة أنَّ الدراسات الكلاسيكية القديمة تُصنَع ولا تُولَد، فلم ينتبه أحد تقريبًا إلى هذا المجلد عقب نشره، ولم يسترجع المؤرِّخون سوى بضع إشاراتٍ له في العقود الأربعة التالية على نشره؛ فأطباء القرن الثامن عشر لم يكونوا ببساطة مهيَّئين لإيلاء اهتمام كبير للأجزاء الصلبة من الجسد حتى تساعدهم على الوصول إلى التشخيص، ولكن ذلك كله تغيَّر بقدوم الطريقة الفرنسية في تدريس الطب وتعلُّمه.

أعادَ جان نيكولا كورفيزار (١٧٥٥–١٨٢١) — طبيب نابليون الخاص وأستاذ الطب في مدرسة باريس — اكتشاف الأطروحة اللاتينية لأوينبروجر. وقد كان كورفيزار مهيَّأً تمامًا للتوجُّه الجديد القائم على الأعضاء الذي تَميَّز به الطب الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر، واهتَمَّ بأمراض القلب بصفة خاصة، فقد أدرك قيمة القَرْع في حالات تضخُّم القلب، وتجمُّع السوائل حوله، وغير ذلك من الأمراض القلبية، فبدأ يدرِّس تلك التقنية لطلابه، وترجم أطروحة أوينبروجر إلى الفرنسية في عام ١٨٠٨، مضيفًا إليها تعليقات مطوَّلة زادت طول الأطروحة إلى أربعة أمثال طولها الأصلي. وقد أوضحت تعليقاته على نحو جلي تمامًا مدى أهمية تلك التقنية الجديدة في مساعدة الطبيب في التشخيص. وقبل ذلك بعامين، نُشِرَت أطروحته المَعنية بأمراض القلب؛ حيث استندت بالأساس إلى الملحوظات التي دوَّنها أحد تلامذته نقلًا عنه. وأما عن السجلات الطبية للحالات التي تضمَّنها ذلك المجلَّد المبدِع، فإنها جديرة بالقراءة المتأنِّيَة؛ فقد خَلَص كورفيزار إلى نتيجة تشاؤمية مفادها أنَّ أمراض القلب العضوية نادرًا ما يمكن علاجها علاجًا فعَّالًا بالوسائل العلاجية المتاحة له، إلا أنَّه يمكن تشخيصها، ويمكن للمرء أن يتعرَّف على ملخص حالات المرضى الذين تواجدوا في مستشفيات باريس من السجلات الطبية لهذه الحالات؛ فكان ثمة رجال ونساء من الطبقة العاملة يعانون أمراضًا خطيرة، اضطروا إلى اللجوء إلى المستشفى باعتباره الملاذ الأخير؛ فقد كانت معدلات الوفاة في مستشفيات باريس مرتفعةً جدًّا، وكان أحيانًا ما يُنظَر إلى المستشفيات آنذاك على أنها «بوابات الموت».

أُضيف إلى تعميم كورفيزار لتقنية القَرع أداة التشخيص الرابعة والأكثر إبداعًا؛ ألا وهي التسمُّع غير المباشر. كان الأطباء يستمعون أحيانًا إلى الأصوات الصادرة من داخل أجساد مرضاهم؛ فالأزيز المصاحب للتنفُّس يمكن للآخرين سماعه، وليس للشخص الذي يعاني صعوبةً في التنفُّس فحسب، وبعض حالات لغط القلب يكون صوتها عاليًا جدًّا بحيث يمكن للآخرين سماعها أيضًا. كذلك فإنَّ الأمعاء المفرطة النشاط تُصدِر أصواتًا مسموعة؛ فالأصوات من ذلك القبيل تقدِّم أَدِلَّة على ما يحدث داخل جسد المريض، وقد انتبه إليها الأطباءُ منذ مئات السنين. ومن حين لآخر، كان الأطباء يذكرون أنهم يضعون آذانهم على صدر المريض أو بطنه مباشرةً، حتى يسمعوا أفضل. وذلك هو ما يعنيه التسمُّع «المباشر»؛ حيث يستمع الطبيب بأذنه مباشرةً. أما التسمُّع «غير المباشر»، فقد تضمَّن وجود وسيطٍ بين جسد المريض وأذن الطبيب، وكان هذا الوسيط هو سمَّاعة الطبيب، التي اخترعها آر تي إتش لاينِك (١٧٨١–١٨٢٦)، وهو من الشخصيَّات المُرَكَّبَة والموهوبة إلى أبعد حدٍّ بين مختصِّي الطب السريري الفرنسيين.

يقدِّم المسار المهني للاينِك مثالًا واضحًا على أهمية الاعتبارات الخارجية في تحديد مَنْ يُشرَك ومَنْ يُقصَى؛ فبوصفه كاثوليكيًّا مناصِرًا للمبادئ الملكية، تأخَّر مساره المهني في ظل المناخ العلماني الذي ساد الحقبة الجمهورية وحقبة نابليون، فلم ينَل تعيينًا في مستشفًى ولا الأستاذية — في نهاية المطاف — إلا بعد سقوط نابليون وإعادة الملكية. كان قد تشرَّب مُثُل المدرسة الفرنسية بالفعل، وقدَّم إسهامات كبيرة بصفته صحفيًّا ومحرِّرًا وطبيبًا ممارِسًا، ولم تكن سمَّاعته الطبية الأصلية أكثر من دفتر ملفوف بإحكام، أعدَّه لأنه أرادَ أن يستمع إلى الأصوات الصادرة عن صدر شابة ممتلئة القوام، ومنعته قواعد اللياقة من وضع أذنه على صدرها مباشرةً، فسرَّه اكتشاف أن الصوت انتقلَ إليه أوضح مما لو كان استخدم أسلوب التسمُّع المباشر. وسرعان ما ابتكر سمَّاعة بسيطة، مصنوعة من أنبوب خشبيٍّ أجوف، مزوَّد عند أحد طرفيه بقَطع مخروطي، وبغشاء كغشاء الطبول عند الطرف الآخر؛ بُغية تحسين إمكانية إصدار أصوات بدرجات مختلفة (كان لاينِك موسيقيًّا بارعًا).

حدثت واقعة تلك المريضة في عام ١٨١٦، في مستشفى نيكِّير في باريس، وقد مثَّلت فترة الأعوام الثلاثة الفاصلة بين عام ١٨١٦ وعام ١٨١٩ للاينِك إحدى الفترات الأكثر إبداعًا في حياة أي فرد في تاريخ الطب بأكمله، فعندما نشر أطروحته عن التسمُّع المباشر عام ١٨١٩، كان قد أصبح متمكِّنًا من استخدام السماعة الطبية. وقد أدخلَ كثيرًا من المفردات التي يستخدمها الأطباء حتى يومنا هذا في وصف أصوات التنفس، وتحدَّث بقوة مُقنِعَة عن قدرته على تشخيص كثير من أمراض القلب والرئتين من خلال الأنماط السمعية المحددة التي تكشفها سمَّاعته. وقد أبدى اهتمامًا خاصًّا بالعلامات التسمُّعية للسُّحاف — أو السُّلِّ — سفير الموت في عصر لاينِك؛ فقد كانت عنابره مكتظَّة بضحايا ذلك المرض، وفي نهاية المطاف سقط هو نفسه ضحيةً له.

fig10
شكل ٣-٢: تصوِّر هذه اللوحة التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن التاسع عشر لاينِك أثناء عرضه سمَّاعته الطبية؛ حيث تُظهِر مشهدًا لسرير مريض في أحد عنابر مستشفى نيكِّير، ويبدو فيها المريض خاملًا وشديد الهُزال؛ مما يوحي بمعاناته السُّحاف.

تألَّفت الأطروحة التي نشرها لاينِك عام ١٨١٩ من جزأين: الأول عن فن استخدام السمَّاعة الطبية، والثاني عن التشريح الباثولوجي لأعضاء الصدر. كان لاينِك تلميذًا مخلِصًا للمدرسة الفرنسية؛ إذ لم يكن خبيرًا بتفاصيل عملية التشخيص فحسب، وإنما اعتاد أيضًا أن يتبع مرضاه المتوفَّين من جانب فِراشهم إلى المشرحة؛ حيث كان يُجري عمليات التشريح، ويقارن بين الاستنتاجات التي انطوى عليها تشخيصه في حياة المريض وعلامات التلف الظاهرة على الجثة.

لم تُعتمَد تلك الخطوات الأربع للفحص الطبي — المعاينة والجَسُّ والقَرْع والتسمُّع — على نحو فوري وعام؛ إذ يَفصل بين ترجمة كورفيزار لعمل أوينبروجر (١٨٠٦) وبين الأطروحة التي نشرها لاينِك عن سمَّاعته الطبية (١٨١٩) أكثرُ من عقد من الزمان. وقد علَّم لاينِك عددًا من الطلاب الفرنسيين والأجانب استخدام السمَّاعة الطبية، وأقرَّت مجموعة من الأطباء المهمِّين قيمة أداته التشخيصيَّة تلك؛ فقد أكَّد مترجِمُه الإنجليزي أنَّ المرضى الذين يتلقون العلاج على نفقتهم الخاصة لن يقبلوا طوعًا بحميميةِ الفحص بالسمَّاعة الطبية، ولكنها قد تكون مفيدة في معالجة الجموع «الأسيرة»؛ أيِ الفقراء من مرضى المستشفيات والجنود. والحقيقة أنَّ النفوذ الذي اكتسبه الأطباء داخل المستشفيات لم يتسلَّل إلى خارجها إلا تدريجيًّا؛ فالمريض الذي يتحمل العواقب ويدفع المال دائمًا ما يكون هو صاحب القرار؛ ومن ثَمَّ كان لا بدَّ للمريض الذي يدفع أجر الطبيب أنْ يقتنع بأنَّ ذلك الطبيب هو الأعلَم بمصلحته. ولم يزل الحصول على السجل الطبي الكامل وإجراء الفحص الطبي الشامل للمريض على النحو الذي ابتدعه أطباء المستشفيات الفرنسية حدثًا نادرًا خارج نطاق المستشفيات والعيادات التشخيصية. إلا أنَّ المثال النموذجي الذي قدَّمه ممارسو الطب السريري الفرنسيون في كلية الطب بباريس لا يزال مؤثرًا، وينبغي أن يشكِّل جزءًا من العقلية التي يعالِج بها الأطباء مرضاهم في فِراش المرض.

إلى المشرحة: العلاقة السريرية الباثولوجية

أُعيدَ افتتاح كلية طب باريس بمنهجها المُنَقَّح في عام ١٧٩٤، ولكن يُقال إنَّ جذورها تعود إلى ما قبل ذلك، إلى عام ١٧٦١؛ فقد ظهر وصف أوينبروجر للقَرْع ذلك العام، وتزامنَ معه ظهور مؤلَّف جيوفاني باتيستا مورجانِّي «حول منشأ الأمراض وأسبابها»، الذي مثَّل ركيزة النهج الباثولوجي الفرنسي، تمامًا مثلما أسهمَ كتاب أوينبروجر الصغير في النهج السريري الفرنسي.

كانت أطروحة مورجانِّي الضخمة موسوعةً أكثر منها كتابًا مرجِعِيًّا، ومنظَّمة بطريقة العرض التقليدية من الرأس إلى القَدمين. وتضمَّنت الأطروحة سجلاتٍ طبية لما يربو على ٧٠٠ مريض وتشريحًا لجثثهم، وكثير منهم كانوا مرضاه. ركَّز مورجانِّي على التغيرات الباثولوجية التي تطرأ على الأعضاء في حالة المرض، بدءًا بأمراض الرأس ونزولًا إلى سائر الجسد البشري. وكانت السجلات الطبية التي أوردها قائمةً على وصف المريض نفسه لمرضه، بأساليب كانت مألوفة لدى الأبُقراطيين، كما أنَّه يشترك معهم في انشغاله بالاهتمام الوثيق بالتفاصيل. وإضافةً إلى ذلك، كان مورجانِّي يجلب الحالة ذاتها إلى حجرة التشريح، وقد تفوَّق في وصفه للتغيُّرات الناجمة عن المرض على الأطباء القدامى بكثير، الذين لم يكونوا يُجْرُون التشريح بعد الوفاة بالطبع. يحتوي كتاب مورجانِّي على عدد من الملاحظات المبتكرة، إلا أنَّ الوسيلة التي تضمَّنها كانت هي الأبلغ أثرًا. وقد تُرجِم كتابه إلى معظم اللغات الأوروبية وشجَّع استخدام التشريح للتعرُّف على الأمراض قبل أن تجعله المدرسة الفرنسية إجراءً روتينيًّا.

درَّس مورجانِّي (١٦٨٢–١٧٧١) كلًّا من التشريح والطب في جامعة بادوا طوال أكثر من ٥٠ عامًا، وكثير من المرضى الذين أَدْرَج حالاتهم في كتابه «حول منشأ الأمراض وأسبابها» أَتَوْا من عيادته الخاصة الكبيرة. وعلى الرغم من أنَّ سلسلة عمليات التشريح التي أجراها مورجانِّي كانت مثيرة للإعجاب، فسرعان ما طغت عليها إنجازات مدرسة باريس، التي كان أطباؤها شبه مقيمين في المستشفيات، واستطاعوا أن يجمِّعوا خلال عامين تقارير تشريحٍ تُساوي ما جمعه مورجانِّي طوال حياته؛ فقد مثَّلت المستشفيات مناطق تمركُزٍ لأمراض البشر، واستغلَّ الفرنسيون تلك الظروف إلى أقصى حدٍّ ممكن.

وإذا كان التشخيص الجسدي قد ساعد الطبيب على تحديد التلف الناشئ عن المرض، فقد مكَّنه التشريح من تفسير تشخيصاته السابقة؛ ومن ثَمَّ تعديلها أو تعزيزها. ومن ثَمَّ، فقد كانت العلاقة السريرية الباثولوجية علاقة تبادلية؛ حيث كانت الملاحظات المتكررة الناتجة عن مراقبة المريض في فراشه تُفسح المجال أمام متابعة حالة المريض في حياته، ثم تُناقَش تلك السجلات في ضوء الملاحظات الأخيرة بشأن الجثة. كان الطبيب السريري يقوم هو نفسه بعمل الباثولوجي؛ إذ يرعى مرضاه في مماتهم مثلما يرعاهم في حياتهم؛ ولذا كان كورفيزار ولاينِك وغيرهما من روَّاد المدرسة الفرنسية يتواجدون إلى جوار أسِرَّة مرضاهم بقدر تواجدهم في المشرحة.

كان الدافع المحرِّك لهم هو البحث عن مظاهر التلف، أيِ التغيرات الباثولوجية، الناشئة عن المرض. أطلق الفيلسوف فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) على تلك التغيرات «مواطئ المرض»، وقد جاءت الصورة التي قدَّمها في صُلب الموضوع؛ حيث صوَّرت «المرض» على أنه يسيرُ بين أعضاء الجسد، تاركًا خلفه مواطئ أقدامه التي هي آثار زيارته، وكان التعرُّف على تلك الآثار هو الهدف من فحص الجثة بعد الوفاة.

كان الأطباء السريريون الفرنسيون يُجْرُون عمليات التشريح بعد الوفاة من نفس منطلق إجراء الفحص البدني؛ ألا وهو: إعطاء ظواهر المرض كيانًا ملموسًا؛ ومن ثَمَّ الاستعاضة عن تكهنات ألفَي عام بنتائج الباثولوجيا المادية الصلبة الملموسة المرئية القابلة للوزن. وعن ذلك قال كزافييه بيشا (١٧٧١–١٨٠٢) متعجِّبًا: «إذا شرَّحت بضع جثث»، تتلاشى نظريات القدامى المهلهلة. وقد شرَّح هو نفسه أكثر من بضع جثث خلال حياته القصيرة (كان عمره ٣١ عامًا عندما تُوفي)، وجسَّد رغم ذلك المسار المثالي لما يقوم عليه طب باريس بأكمله؛ فقد أدَّى الخدمة العسكرية، وكان جرَّاحًا تحوَّل إلى طبيب؛ ومن ثَمَّ عايَش الدمج بين التفكير الموضعي للجرَّاح والرؤية الأكثر فلسفةً وتأمُّلًا للطبيب. وقد أحزنت وفاتُه كثيرين، وسرعان ما نُصِّب بطلًا لأساليب الفِكر الطبي الجديدة.

واليوم يُذكَر بيشا في معظم الأحيان بأنه «أبو علم الأنسجة»؛ إذ إنَّه أدرك أنَّ الآليات الباثولوجية واحدة في نوع الأنسجة الواحد أينما حدثت؛ ومن ثَمَّ فإنَّ الأغشية المَصْلِيَّة المبطِّنة للقلب والدماغ والصدر والبطن تتفاعل بأساليب متشابهة مع آليات المرض. وقد عرَّف بيشا باستخدام العين المُجَرَّدة وعدسة يدوية بسيطة ٢١ نوعًا من تلك الأنسجة؛ مثل النسيج العظمي أو العصبي أو الليفي أو المُخاطي، وكان أيضًا يعتبر العروق والشرايين «أنسجةً» من نوع خاص. كان بيشا أكثر انجذابًا إلى الجانب العملي مقارنةً بكثير من الأطباء السريريين الفرنسيين الذين مثَّل عملُه مصدرَ إلهام لهم، واتسم عملُه بمنظورِه الأكثر نظريَّةً من التجريبيَّة المتخبِّطة التي اتَّسم بها جزءٌ كبير من طِبِّ المستشفيات الفرنسي، ولكنَّه عاش ومات في المستشفى، مقسِّمًا وقته ما بين سرير المريض وحجرة الموتى، وكان مصدر إلهام للآخرين بأفكاره وطاقته، وإنْ كانت تلك الأخيرة انطفأت قبل الأوان.

قدَّمت مستشفيات باريس (التي تضمَّنَت أَسِرَّة أكثر بكثير مما في بريطانيا العظمى كلِّها) فرصةً منقطعة النظير لمتابعة المرضى الميئوس من شفائهم، الذين أُخِذوا من الطبقات المعوزة وطُلِب منهم تقديم أجسادهم — في حياتهم ومماتهم — لخدمة الطب السريري، مقابل الرعاية المتوفرة أيًّا كانت. وقد مثَّل المزيج الفرنسي بين وسائل التشخيص البدني والعلاقة السريرية الباثولوجية نهجًا جديدًا في التعامل مع المرض، وجسَّد هياكل قوًى جديدة داخل المستشفى؛ حيث تمخَّض تدريجيًّا عن تنظيم (تصنيف) جديد للأمراض، يقوم على الأعضاء ويرتقي بأجزاء الجسم الصلبة إلى موقع الصدارة. ويمكن القول إنَّ تلك كانت صورةً موسَّعَةً للنَّهج الأبُقراطي، ولكنَّ مقرَّها المستشفى، ومحلَّ المرض فيها الأعضاءُ لا الأخلاط.

fig11
شكل ٣-٣: ألفريد فِلبو (١٧٩٥–١٨٦٧) كان أستاذًا في الجراحة السريرية في كلية طب باريس، ولكنه قدَّم إسهامات أيضًا في مجال التشريح الجراحي وعِلم الأجِنَّة والفسيولوجيا وأمراض الثدي. وهذا الرسم القاتم يمثِّل تذكِرة مؤلمة ومحزِنة باستخدامات الموتى لصالح الأحياء.

ثم أصبحت باثولوجيا الأعضاء الموضوع المُهيمن على الساحة، وصارت الدراسات المتخصِّصة في أمراض القلب والرئتين والكُلى والدماغ والجهاز العصبي والمعدة والأمعاء والكَبِد والجلد والأعضاء التناسلية هي طريق الأطباء السريريين الفرنسيين إلى الشهرة؛ فقد رُبِطَت دراسة كورفيزار في أمراض القلب ودراسة لاينِك في أمراض الرئتين بابتكاراتهما التشخيصية. ثُم أتَت دراسات أخرى — أليبير في الجلد، ورِيِّيه في الكُلى، وأندرال في الدم، وريكور في الأعضاء التناسلية — لتوسِّع نطاق ذلك النهج بحيث يشمل أجزاءً أخرى من الجسد.

ومن بين الأمراض كافة، نال السُّحاف النصيبَ الأكبر من المؤلَّفات بلا شك، كما أنه كان المرض الأكثر شيوعًا بين المرضى (وأطبائهم) في المستشفيات الفرنسية؛ فقد كان هو السبب الرئيسي للوفاة في جميع أنحاء أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر. وقد وَصَف الأبُقراطيون السُّحاف (الدَّرَن أو السُّلَّ) بأنه مرض خطير يجلب الهُزال، ويقترن بالحُمَّى والسعال المزمن وأعراض رئوية أخرى، وثمة أدلة قوية في علم الأمراض القديمة على أنَّ الدرن كان مرضًا شائعًا في المجتمعات البشرية منذ آلاف السنين. وقد انتشر السُّحاف في كل مكان بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر، وثمة أسباب تدعونا لافتراض أنَّ معظم حالات «السُّحاف» يمكن تشخيصها اليوم على أنَّها دَرَن. ولم تَنَلِ الفئة المَرَضِيَّة الأخيرة تعريفها الحديث إلَّا عندما حدَّد روبرت كوخ البكتيريا — عُصَيَّة الدَّرَن — باعتبارها مسبِّب مرض السُّلِّ في عام ١٨٨٢. لكن لاينِك وزملاءه عرَّفوا «السُّحاف» باثولوجيًّا، وتؤكِّد أوصافُهم لكلٍّ من الأعراض السريرية ونتائج التشريح بعد الوفاة افتراضَ أنَّ السُّحاف والسُّلَّ اسمان لمرض واحد غالبًا.

زعمَ لاينِك أنَّه قادر على تشخيص السُّحاف باستخدام سمَّاعته الطبية، مشيرًا إلى أنَّه ثمة أصوات «واصِمة» (خاصة بتلك الحالة دون غيرها) تصدر عن أعلى الصدر لدى المرضى المصابين بتلك الحالة المرضية. وزعمَ استنادًا إلى أُسُس سريرية وتشريحيَّة أنَّ التلف الضئيل المسمَّى «الدَّرَنة» (انتفاخ طفيف، حسب المعنى الحرفي للكلمة) هو السمة المميِّزة لمرض واحد، أينما وُجِدَ هذا التلف؛ ومن ثَمَّ وحَّد عددًا من التشخيصات المختلفة مثل: داء المَلِك (سُلِّ الغدد اللمفاوية)، أو التهاب السحايا السُّلِّي، أو دَرَن الأمعاء. وشبَّه تحوُّل الدرنات الأصلِيَّة إلى مواضع تلف حُبَيْبِيَّة أوسع نطاقًا، باكتمال نُضج الفاكهة. وقد أثبتَ كوخ بأبحاثه على العُصَيَّة صِحَّة تصنيف لاينِك للأمراض التي تصيب أعضاءً عدَّة وتحتوي على دَرَنات ضمن وحدة واحدة، ولكن في نطاق التقاليد الباثولوجية، مثَّل عملُه وثبةً بالخيال وتنافيًا مع المنطق؛ لأنه كان يعمل وفق نموذج فكريٍّ قائم على الأعضاء. أما عن سبب السُّحاف، فقد شَكَّ لاينِك في أنه لن يُعرَف أبدًا بصفة مؤكَّدة، وإنْ كان الإطار السببي الذي عمل وفقًا له كان يوجِّهه نحو وجود عوامل نفسية بدنية؛ فالمشاعر القوية كثيرًا ما كانت ترتبط بالمرض، وقد أضفى عليها لاينِك ببساطة دلالة سبَبِيَّة.

يُبرِز عمل لاينِك النابغ في مجال التشخيص كلًّا من نقاط القوة ونقاط الضعف في النهج السريري الباثولوجي؛ فبالتركيز على المرحلة الأخيرة من المرض — وهي مظاهر التلف الناشئة عنه — كثيرًا ما كان الأطباء السريريُّون يُغفِلون الآليات التي يتكوَّن بها التلف، وكذلك مسبِّبات التغيُّرات الحادثة. ولكنَّ النقطة الأكثر إيجابية هي أنَّ النظر عن كثب إلى العلاقات الارتباطية بين العلامات السريرية والتغيُّرات الباثولوجية مكَّنهم من التمييز بين أمراض كثيرة احتفظت بمكانها فيما بعدُ بين المفردات الطبية، حتى بعدما قدَّمت نظريةُ جرثوميةِ المرضِ وتطوُّراتٌ أخرى تاليةٌ لها مجموعاتٍ مختلفةً من المعايير التشخيصية.

من الأمثلة البليغة على ذلك، الفَصْلُ بين حُمَّى التيفوس وحُمَّى التيفوئيد؛ فالكلمتان متشابهتان وأعراض المرضين السريرية متقاربة إلى حدٍّ يصعب معه التمييز بينهما في المؤلَّفات الطبية القديمة، أو التمييز بينهما وبين حالات مرضية أخرى يمكن تشخيصها في يومنا هذا؛ فكلٌّ منهما كان نوعًا مختلفًا من الحُمَّى، التي كانت تُعتَبَر مرضًا في حد ذاتها فيما مضى. وفي تصنيفات الأمراض في القرن الثامن عشر، كانت «الحمى» هي المرض، وقُسِّم إلى أنواع مختلفة باستخدام صفاتٍ مثل: متقطِّعة، ومستمرة، وتيفوسية، وتيفوئيدية، ومنخفضة، وعصبيَّة، وعَفِنَة، ودِقِّية. وحتى الآن لا يزال اسم «الحمى التيفوئيدية» مقبولًا لدينا، و«الحمى الصفراء» هو الاسم الكامل الذي نستخدمه للمرض الفيروسي المنشأ؛ فقد ظلَّت تلك الأسماء مُستخدَمة حتى بعدما توصَّل أطباء القرن التاسع عشر تدريجيًّا إلى تعريف «الحُمَّى» بوصفها علامة على المرض (ارتفاع درجة حرارة الجسم، الذي يُقاس بميزان الحرارة)، لا بوصفها مرضًا في حد ذاتها.

جاء التمييز بين التيفوس والتيفوئيد نتيجة جهود فردية إلى حدٍّ كبير لعدَّة أطباء، كان كلٌّ منهم واقعًا تحت تأثير الطريقة الفرنسية في ممارسة الطب، ولكنَّه يعمل في بريطانيا والولايات المتحدة إضافةً إلى فرنسا؛ ففي فرنسا وضع بيير لوي (١٧٨٧–١٨٧٢) معايير باثولوجية للتيفوئيد عام ١٨٢٩، ويمثِّل مساره المهني صورة مصغَّرة للحقبة الفرنسية. ونظرًا لأن سِنَّه كانت صغيرة بما يكفي للتدرُّب على الطب «الجديد»، قضى بضعة أعوام في روسيا قبل أنْ يعود إلى باريس في عام ١٨٢٠، مقتنعًا بأنَّه لا يعرف ما يكفي عن الأمراض، ثم تخلَّى عن ممارسة الطب لحسابه الخاص والْتحق بمستشفى شاريتيه؛ حيث أجرى أكثر من ألفَي تشريح خلال ستة أعوام واحتفظ بسجلات مفصَّلة لنتائج سريرية وباثولوجية على حدٍّ سواء. وأصبحت تلك السجلات أساسًا لدراساته المتخصصة اللاحقة عن السُّحاف والحمى المعوية (التيفوئيد). عرَّف لوي العُقَد اللمفاوية المتورمة (رُقع باير) في غشاء الأمعاء الغليظة، زاعمًا أنها من الأعراض الواصِمة للحمى المعوية. وقد أتَمَّ ويليام جينِر (١٨١٥–١٨٩٨) في لندن، ودبليو دبليو جرهارد (١٨٠٩–١٨٧٢) في فيلادلفيا، وآخرون كُثُر التمييزَ بين المرضين.

خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان علم التشريح الباثولوجي متربِّعًا على عرش العلوم الطبية، فقد أمدَّ الأطباء بأدلة ملموسة على تبعات المرض؛ مما أدى إلى تعميم تصنيفات الأمراض المفصَّلة التي وُضِعَت في الأزمان الماضية، ولم يكن ذلك ليتحقَّق لولا المجموعات الهائلة من المرضى في المستشفيات، الذين أتاحوا للأطباء القيام بمشاهداتٍ سريرية وباثولوجية على «مادة» وافرة جدًّا، مثلما كانوا يسمونها استخفافًا بها في كثير من الأحيان. ثم مثَّلت لعبة الأرقام العمود الثالث، وهي التي أَطلَق عليها لوي — أكثرُ المواظبين عليها — «الطريقةَ العدديةَ»، التي استخدمها لمساعدته في جمع صُوَره للفئات التشخيصية، وكذلك لتقييم العلاج.

تعلُّم الإحصاء

لم يكن التعامل مع أعداد كبيرة من المرضى أمرًا مستجَدًّا تمامًا على الطب، مثله في ذلك مثل كثير من الأمور المتعلقة بمستشفيات باريس. وقد تعرَّض الأطباء العسكريون من جميع الجنسيات لضغوط دفعتهم إلى تقديم إحصائيات، كما أدرك الأطباء في المستشفيات — العسكرية والمدنية — ضرورة تقديم مُلَخَّصات سنوية للحالات والتشخيصات وأساليب العلاج والأدوية. قد ينظر المرءُ إلى لوي على أنه بلورة لِذُروة تشديدِ عصرِ التنويرِ على الحقائق والمصارحة، وفي ذلك خلطٌ بين الابتكار والتأثير؛ فمن بين الأطباء السريريين التالين له في أَوْج فترة ازدهار طب باريس، كان لِلوي أعظم تأثير دولي؛ فقد درَّس للعديد من الطلاب الأجانب، وجمَّع — أكثر من أي شخص آخر — رؤى المدرسة الفرنسية؛ فمقاله القصير عن «التعليم السريري» — الذي تُرجِم إلى الإنجليزية في عام ١٨٣٤ — مُلَخَّصٌ ممتاز لما سَعَت عمليتا التدريس والتعليم في باريس إلى أن تكون عليه.

ويُعزى إليه الفضل أحيانًا في إقناع الأطباء، دون مساعدةٍ تُذكَر، بنبذ ممارسة الفَصْد العتيقة لجميع أنواع الأمراض. والدراسة المتخصِّصة القصيرة التي أجراها عن هذا الموضوع (١٨٣٥) لا تزال هي عمله الأشهر، وإن كان التراث الذي خلَّفته تلك الدراسة يكمن في الطريقةِ لا الرسالةِ التي انطوت عليها. وفي مؤلَّفه «أبحاث في آثار الفَصْد على بعض الأمراض الالتهابية»، أجرى لوي تقييمًا لتأثير اختلاف توقيت الفَصْد العلاجي (مبكرًا أم متأخرًا) وكميَّته (قليلًا أم كثيرًا) في حالات الالتهاب الرئوي. وكذلك تناولَت الدراسة ذاتُها استخدامَ جرعات مختلفة من الطرطير المقيِّئ (دواء يحتوي على مادة الأنتيمون). وما نذكره حتى يومنا هذا هو محاولة لوي تقييمَ تلك الأساليب العلاجية عن طريق تقسيم المرضى المتشابهين إلى مجموعات، ومقارنة نتائج العلاجات المختلفة التي استخدمها. والحقيقة أنَّ لوي كان يستخدم تقنية التجربة السريرية، وإنْ لم يتَّبِع بروتوكولًا يمكن أن يُعتبَر ملائمًا في الوقت الحالي. ويُلاحَظ أنَّ لوي لم يطرح خيار «وقف» الفَصْد، وإنما كان كل ما فعله أنَّه أجرى تقييمًا لتوقيت الفَصْد وكميته.

كانت دراسة لوي المتخصصة الصغيرة — رغم مكانتها بين المؤلَّفات الكلاسيكية القديمة — جزءًا في الواقع من الحملة الخلافية بين لوي وإف جيه في بروسيه (١٧٧٢–١٨٣٨). كان بروسيه قد ابتكر نظام «الطب الفسيولوجي» للتصدِّي للنهج التشريحي الراكد الذي اتَّبعه معظم الأطباء السريريين الفرنسيين، وقد انتبه إلى عدد المرضى الذين شرَّح جثثهم ووجد فيها علامات على وجود تهيُّج مزمن في المعدة وافترض نظامه أنَّ الأمراض كلَّها تنشأ في المعدة، وأنَّ مظاهر التلف الموضعية التي تظهر في مواضع أخرى تَنتج عن التهيُّج الأوَّلي في المعدة. وكان العلاج النموذجي للتهيُّج أو الالتهاب هو الفَصْد، وكان يفضِّل استخدام العَلَق عن المِبْضَع، وقد تبادل مع لوي سلسلة من المجادلات الحادة في ثلاثينيَّات القرن التاسع عشر. كان بروسيه من المتحمِّسين للأساليب العلاجية، في حين كان لوي متشائمًا في قرارة نفسه من قدرة الطب على الحدِّ من استفحال المرض، وقد جاء دور لوي في ريادة التجارب السريرية ضمن ذلك السِّجال المستمر مع خصمه بروسيه.

وعلى الرغم من أنَّ أفكار بروسيه الفسيولوجية الديناميكية عن المرض ظلَّ تأثيرها باقيًا، فإنَّ فكرته الرئيسية المتعلقة باعتبار الأمراض كافة نتيجة ثانوية لتهيُّج المعدة لم تدُم طويلًا. وفي المقابل، أصبحت الطريقة العددية التي ابتدعها لوي ضرورية للطب الحديث؛ فالأرقام تفضي إلى اليقين في إنشاء فئات تشخيصية واضحة وكذلك في تقييم العلاج. وقد تشرَّب عدد من طلابه تشكُّكه إزاء العلاج، وهو الشعور الذي كان سائدًا بالفعل في مستشفيات باريس؛ حيث كان مبلغ هَمِّ الأطباء هو التشخيص الدقيق والتحقق منه عن طريق تشريح الجثة بعد الوفاة. وكان المرضى غالبًا ما يدخلون المستشفى بتوقعات محدودة، إلا أنَّ علاقات القوى تغيَّرت في باريس؛ حيث صار للأطباء اليد العليا. وظلَّ الحال على ما هو عليه حتى وقت قريب، عندما أدَّى تنامي استقلالية المريض واستبداد الاقتصاد ونشأة منصب المدير الطبي إلى إعادة ترتيب هياكل القوى في مجال الطب.

يجب ألا يُنظَر إلى إدراك لوي لقلة ما يَسَعُه تقديمه لمرضاه باستخدام العقاقير المتاحة لديه على أنَّه مؤامرة ضد مرضاه البؤساء، وإنَّما على أنه اكتشاف صادق. وقد تمكَّن من الوصول إلى هذا الاكتشاف عبر الإحصاء والتقييم والمقارنة؛ وهي أنشطة أمكن إجراؤها بسهولة تامة في المستشفى.

المرض الجسدي والمرض النفسي

بحلول عام ١٨٥٠ أو نحو ذلك، كان طبُّ المستشفيات الفرنسي قد أصبح مألوفًا لدى الناس؛ فنظرًا لاكتشاف نُهُج جديدة لفهم المرض، والتوسُّع في استخدام التجربة عِوضًا عن الاكتفاء بمجرد المشاهدة، وتناقُص مردودِ ما يمكن اكتشافه من تشريح المزيد من الجثث، صارت معجزة الطب السريري الفرنسي أمرًا اعتياديًّا أكثر من ذي قبل، إلا أنَّها في أَوْجها كان آلاف الطلاب يتوافدون إلى باريس من جميع أنحاء العالم الغربي، ثم يعودون إلى بريطانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وهولندا؛ حيث أسَّس بعضهم كليات للطب ومستشفيات. وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، كانت كلية الطب غير الملحق بها مستشفًى قد أصبحت مؤسسة من الدرجة الثانية. وعندما افتَتَحت جامعة لندن الجديدة (كليةُ لندن الجامعية حاليًّا) كليةَ الطب التابعة لها في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، كان أول ما فعلته أنْ أنشأت مستشفًى، وتكرَّر ذلك النمط في جميع أنحاء أوروبا، حتى في المدن الألمانية الصغيرة؛ حيث كان تعليم الطب السريري يتم عادةً من خلال الشرح والإيضاح وليس التطبيق العملي.

وفي منتصف القرن، ازدهر عدد من المدارس الخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية دون مستشفًى مُرفَق أو معمل، وكانت تقدِّم إلى الطلاب شهادات في الطب مقابل دفع رسوم دراسية لبضعة أشهر. وعلى الرغم من أنَّ الطلاب العائدين من باريس وخريجي مدارس الطب المتميِّزة على الساحل الشرقي — مثل جامعة بنسلفانيا — كانوا قانطين من تأثير ذلك النوع من التدريس على مهنتهم، فقد كانت القيم الأمريكية تحمي المشروعات الحرَّة. ولم يتغيَّر ذلك النمط إلا في العقود التالية من ذلك القرن؛ فقد أدخلت جامعة جونز هوبكنز — التي أُنشئت لتكون جامعةً ذات توجُّه بحثي في عام ١٨٧٦ — النموذجَ الألمانيَّ للتعليم العالي في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الهِبة السخية التي قدمها جونز هوبكنز — قطبٌ من أقطاب صناعة السكك الحديدية وأحد أتباع جمعية الأصدقاء الدينية (كويكرز) — في البداية، استغرق فتح كلية الطب قرابة عقدين من الزمان؛ إذْ كانت متطلباتها كثيرة للغاية. افتُتِحَ المستشفى في عام ١٨٩٣، وقدَّمت الكلية النشطة مزيجًا من التوجُّه البحثي الألماني والتشديد الفرنسي على التدريب العملي. وكان أستاذ الطب — ويليام أوسلر (١٨٤٩–١٩١٩) — أشهَر «الأربعة الكبار» الذين مثَّلوا هيئة التدريس الطبِّيَّة العليا في بداية عمل الكلية، ولا يزال أوسلر محل إجلال لدى الأطباء لكونه ممارسًا سريريًّا وجامعَ كتبٍ ومؤرِّخًا وكاتبَ مقالاتٍ ومُعَلِّمًا ذا توجُّه علمي ولكنه إنساني. أثرت العلوم الألمانية على النهج المتبع في جونز هوبكنز، غير أنَّ الابتكارات الفرنسية خلَّفت في المستشفيات التعليمية حدَثَين منتظمين دائمين: الجولات اليومية على العنابر، التي يمرُّ فيها طبيب كبير — يتبعه أطباء أصغر سنًّا وطلاب الطب وأحد الممرِّضين — على كل مريض في فراشه ويناقش حالته؛ والجولات الكبرى، التي يعرض فيها أحدُ الأطباء الصغار «الحالاتِ» المثيرةَ للاهتمام، ويعمل طبيب من المرتبة العليا في التسلسل الهرمي على تحليل الحالة، على مرأًى ومسمع من مجموعة كبيرة من الطلاب والأطباء من جميع مستويات الخبرة. وفي كثير من الأحيان، بعد عرض السجل المرضي للحالة والمسار السريري المُتَّخَذ في علاجها، ومناقشة التشخيصات التفريقية للمرض (أيْ عرض الأسباب المحتَملة للعَرَض الظاهر)، كان الباثولوجي يكشف نتائج التشريح؛ ومن ثَمَّ تُدمَج حياة المريض ووفاته كلتاهما في نَسَق واحد.

في المستشفيات التعليميَّة الكبيرة، كان لكلِّ تخصصٍ طبيٍّ وجراحيٍّ — مثل طب الأطفال أو طب القلب أو الأعصاب أو التوليد أو جراحة العظام أو طب الأنف والأذن والحنجرة — رئيسُه الخاصُّ، وعدد من الأسِرَّة المخصَّصة، والجولات المنتظمة بنوعيها: الجولات على العنابر والجولات الكبرى. ولكنَّ أحدَ التخصُّصات التي طالما قَلَّ وجودها في معظم المستشفيات العامة كان الطبَّ النفسيَّ، ولو أنَّ علم النفس كان يُدعَى «نِصفَ الطب»؛ لشيوع الاضطرابات النفسية. وبدلًا من ذلك، كان للمرضى الذين يعانون أمراضًا نفسية خطيرة — كانت تُدعَى فيما مضى جنونًا أو عَتَهًا — إعداداتٌ مؤسسية خاصة؛ فقد نَشَأَت الإعدادات المؤسسية للمجانين مستقلةً عن الإعدادات المتفرِّقة للمستشفيات العادية في أوائل العصر الحديث. كانت مستشفيات المجانين — حسب تسميتها القاسية — عادةً منشآت صغيرة، رِبحية، وكثيرًا ما كان يديرها أشخاص ذوو خلفية غير طبية. وخلافًا للمستشفيات العامة، كانت تلك المستشفيات للموسرين بالأساس؛ إذ كان سلوك الشخص المفرط الغرابة أو المائل للهذيان يتسبَّب في إحراج بالغ لأقربائه. وقد سُمِّيَ هذا النوع من المؤسسات باسم أشهَر مؤسسة للأمراض النفسية في بريطانيا ليصير ذلك هو المرادف المستخدَم لها في اللغة الإنجليزية؛ وهذه المؤسسة هي مؤسسة بيدلام، وهو اختصار اسمها الكامل: بيت لحم، أو سانت ماري بيت لحم. وصار «توم أوه بيدلام» شخصية خيالية نمطية، استخدمها شكسبير في مسرحية الملك لير، تنطوي على دلالة على العُزلة التي طالما شعر بها المرضى النفسيون.

كانت بيدلام كيانًا غير معتاد بين مؤسسات الأمراض النفسية؛ إذ اعتمدت في تمويلها على الهِبات وخَضَعَ عملها لإشراف الحُكَّام. ومعظم تلك المستشفيات كانت عبارة عن منشآت صغيرة مملوكة لجهات خاصة اختفت سجلاتها عن الأنظار منذ زمن، ولكنها هيَّأت لنفسها موضعًا في الوعي العام؛ إذ كان الجنونُ أكثرَ اضطراب يخشاه الناس في القرون الماضية (كثيرًا ما يحتلُّ الخَرَف هذه المكانة حاليًّا، بدرجة أكبر حتى من السرطان بالنسبة إلى كثير من الناس). وقد مثَّل مستشفى المجانين والمستشفى العادي طرفَي النقيض، ولم يكن الأول ينال شرف وصفه باسم «مستشفًى» عادةً (كان مقابله الحرفي في الإنجليزية «دار المجانين»). كان التشخيص في مستشفى المجانين يعتمد على إفادات الجيران أو أفراد العائلة، أو الملاحظات المتعلقة بسلوك المريض. أما الأطباء الذين حاولوا البحث عن مواضع تلف — وهو الأمر الذي مثَّل أساس الممارسة الطبية في باريس — فعادةً ما كانوا يصابون بخيبة أمل؛ فدماغ المجنون نادرًا ما يشير إلى سبب محدَّد لظهور تلك الأعراض على المريض؛ فالجنون مرض عقلي لا جسدي، حتى وإن كان ذلك قد مثَّل صعوبة بالنسبة إلى ثقافة افترضت أنَّ الخصائص المميِّزة للإنسان دونًا عن غيره من الكائنات — العقل والمسئولية الأخلاقية والقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ — كانت نِتاج الأرواح الخالدة التي حبانا الله بها؛ فقد كان فَقْد العقل معناه فَقْد صفة الإنسانية.

طُرِحَت تلك التفاصيل الفلسفية والكلامية للنقاش من نواحٍ عدَّة، ولكنْ مع تزايد انخراط الأطباء في «تجارة الجنون»، ازدادت جاذبية ذلك النموذج المَرَضي، فعلى أي حال، المرض هو ما يتعامل معه الأطباء. وكثيرًا ما يُطلَق على أحد آباء الطب الباريسي لقب مؤسِّس الطب النفسي الحديث، وهو وصْف في محله؛ فقد ذاع صيت ذلك الرجل فيليب بينيل (١٧٤٥–١٨٢٦) قبل الثورة، لكونه مؤلِّفَ تصنيفٍ للأمراض كافة ناجحًا (كان هو مَنْ صاغ لفظة Neurosis؛ أيِ العُصَاب) وممارِسًا لمهنة الطب، كذلك فقد كتبَ أطروحة عن أهمية المستشفيات للتعليم السريري، وأثناء الثورة، عُيِّن طبيبًا في مستشفى بيسَتْر (للذكور)، ثم في مستشفى سالبِتريير (للإناث)، وكلٌّ منهما «مستشفًى عامٌّ» كبير ضمَّ مجموعة متنوعة من النُّزلاء؛ من بغايا ومتشرِّدين وأحداث وأيتام ومُسِنِّين وعَجَزة ومختلين عقليًّا، فضلًا عن الأفراد الذين اعتُبِروا خطرًا على عامة الشعب أو غير القادرين على إعالة أنفسهم في المجتمع ككل. ثم حوَّلت الثورة تلك المؤسسات إلى مستشفيات لمعالجة المرضى النفسيين، وأثناء فترة عمل بينيل في مستشفى سالبِتريير، أنشأ تدريجيًّا برنامج «العلاج الأخلاقي»؛ إذ عَمِل على تحرير النساء المحتجَزات شيئًا فشيئًا وعالجهن بإنسانية وحزم. وفي إنجلترا، أسَّسَت أسرة تَدِين بمذهب كويكرز — آل تيوك — دار يورك رِتريت. كانت تلك الدار قائمة على مبادئ علاجية مشابهة، تتمثل في العلاج الأخلاقي، وطُبِّقت تلك المبادئ في الوقت نفسه تقريبًا في إيطاليا، على يد فينشينزو كياروجي (١٧٥٩–١٨٢٠).

كانت تفاصيل العلاج الأخلاقي محل نقاش كبير بين المؤرِّخين، ولكنْ لا شك في أنَّ هذا الشكل من العلاج وجَّه أنظار العامة إلى فاقدي العقل، وساعد في إنشاء تخصُّص الطب النفسي. وأثناء الثُّلُث الثاني من القرن التاسع عشر، أُنشئت جمعيات الطب النفسي في معظم البلدان الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ونجحت تلك الجمعيات في الترويج لإقامة شبكات من مستشفيات الأمراض النفسية (تُسَمَّى عادةً «مصحَّات»). واستُعيض عن العلاج التقليدي للاضطرابات النفسية باستخدام الأساليب العلاجية المعتادة — الفَصْد والمقيِّئات والمليِّنات — بأساليب «أخلاقية»، واعتُبِر تكوين البناية في حد ذاته عاملًا مساهِمًا في عملية المعالجة والشفاء. ومنذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر صار الامتناعُ عن تقييد المرضى هو شعار المرحلة؛ إذ ذهب الأطباء إلى أنَّ المصحة النفسية الحسنةَ التصميمِ والإدارةِ لا حاجة بها إلى استخدام القيود البدنية مع مرضاها.

وعلى الرغم من أنَّ المصحَّات بُنِيَت تحت اسم الإنسانية والعلاج، فإنها نادرًا ما بررت التفاؤل المبدئي بها، الذي تنبأ بأن التشخيص المبكر والاستخدام الخبير للعلاج الأخلاقي وغيره من أساليب العلاج سيفضي إلى الشفاء، فما حدث هو أنَّ المصحَّات نَمَت من حيث الحجم وامتلأت عن آخرها بمرضى ميئوسٍ من شفائهم؛ بحيث أصبحت — حسب تعبير أحد المعلِّقين المعاصرين — مجرد «متاحف للجنون». وقد وسَّعت الطبيعة الخاصة لتلك المؤسسات الفجوة بين الطب النفسي والطب والجراحة العاديَّين، وهو صَدْع لا يزال قائمًا، على الرغم من المعرفة الحديثة بالدماغ وكيفية عمله.

في أواخر القرن التاسع عشر، حاول مختص الطب النفسي الألماني إميل كريبلين (١٨٥٦–١٩٢٦) التقريب بين الطب العادي والطب النفسي، بواسطة عيادة للطب النفسي قائمة على أساس أكاديمي. وابتكر كريبلين — الذي عايش في الوقت نفسه تقريبًا مؤسِّسَ التحليل النفسي سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩) — التصنيفَ الواسعَ للاضطرابات النفسية الذي مثَّل أساس تصنيف الأمراض النفسية الحديث؛ فقد ميَّز بين الاختلالات العقلية الرئيسية والعُصَاب، وقدَّم توصيفًا أوَّليًّا لما صار يُدعَى الآن الفُصَام، الذي أطلق كريبلين عليه «الخَرَف المبكر» — أيْ خرف الشباب — وقد ساهمت جهوده في إنشاء تخصص طب النفس الأكاديمي.

لا تزال الفجوة بين الطب العادي والطب النفسي قائمة، ولكنَّ المسار الذي اتخذه ذلك المجال من المصحَّة إلى العيادة يبرز إيمان المجتمعات الغربية بالمستشفيات باعتبارها مؤسسات استشفائية، فضلًا عن الميل المتنامي إلى إضفاء الصبغة الطبية على جوانب كثيرة من الحياة؛ بدءًا من التعاسة إلى الإجرام، ومن السلوك المتمرِّد إلى متلازمة اضطراب نقص الانتباه. ونظرًا لأن تسمية الشيء تبثُّ شعورًا بالارتياح في حد ذاتها، فقد سعى كريبلين إلى فرض نظام تشخيصي للاضطرابات العقلية مثلما استخدم الأطباء السريريون الفرنسيون من قبله التشخيص الجسدي لفهم الأمراض التي تصيب أجسادنا.

fig12
شكل ٣-٤: اتَّسمت حركة إنشاء مستشفيات الطب النفسي في أوائل القرن التاسع عشر بالتفاؤل في بدايتها، ثم تبخَّر التفاؤل عندما نَمَت تلك المصحَّات واكتظَّت بحالات مزمنة. ويقدِّم ذلك المخطط لإحدى مصحَّات الأمراض العقلية في برينتوود بإسيكس في إنجلترا وصفًا تخطيطيًّا لتلك المؤسسات التي تحوَّلت إلى عوالم صغيرة مستقلة، منعزلة وقائمة بذاتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤