الفصل الخامس

طِبُّ المعامل

إلباس الطب ثوب العلم

طالما خُيِّل للطب الغربي أنه «علمي»، ولكن دلالة ذلك الوصف اختلفت؛ فالأبُقراطيون كانوا يعدُّون أنفسهم في مصافِّ العلماء (الإغريق كانوا يستخدمون ألفاظًا من قبيل «الفلسفة الطبيعية»)، وكذلك كثيرٌ من أتباع جالينوس، وقد حمل الطب الذي مارسوه سِمَتين «علميتين» جوهريتين.

تمثلت السمة العلمية الأولى في الأساس العقلاني لممارستهم؛ حيث خمَّنوا أنَّ تصرفاتهم — التشخيصات والعلاجات — منطقية في ضوء رؤيتهم للعالم. لا شك أن تلك رؤية نسبية للعلم؛ إذْ إنَّ الطب القائم على التنجيم عقلانيٌّ أيضًا، بافتراض قبول المرء تأثير الكواكب والنجوم على سلوك البشر وعلى الأحداث الدنيوية. ولدحض ممارسةٍ من ذلك القبيل، لا بد من تقويض المبادئ التي ترتكز عليها، وليس الأساس العقلاني الذي تستند إليه عملية الاستدلال المنطقي بأكملها.

أما السمة العلمية الثانية فهي أن ممارسة الطب طالما كانت قائمة على «الخبرة» المكتسَبة من خلال «التجربة»، فتلك «الخبرة» هي التي دلَّت الأطباء ومرضاهم على فائدة الفَصْد — على سبيل المثال — أو على أنَّ آلاف الأساليب العلاجية الأخرى التي تبدو عديمة الجدوى — بل ومثيرة للاشمئزاز في نظرنا — كانت لازمة حسب تعليمات الطبيب. ويمكن للمؤرِّخين أن ينسبوا تلك الأحداث إلى القوة الشفائية للطبيعة، أو إلى تحسُّن حالة المريض على الرغم من العلاج الذي تلقاه — وليس بسببه — أو إلى المغالطة المنطقية القديمة التي تحدَّثنا عنها من قبل: «حَدَثَ بعده، إذن هو سببه.» إلا أنَّ تلك الأحكام الرجعية لا تهدِم ما فسَّرته الأطراف المساهمة عبر التاريخ بأنه طبٌّ «عقلاني» و«علمي».

إلا أنه منذ أوائل العصر الحديث، تزايد استناد الخبرة إلى التجارب، التي مقرُّها المعمل على الأغلب. المعنى الحرفي لتلك الكلمة أنه مكان يعمل فيه المرء، وقد أُقيمت المعامل في البداية في منازل أشخاص، وتمثلت ببساطة في حجرات خصَّصها أشخاصٌ تَوفَّر لديهم وقت فراغ كافٍ لاستكشاف أسرار الطبيعة. كان المثال النموذجي على المعامل المبكرة — وأكثر أشكال المعامل التي كانت تُرسَم آنذاك — هو معمل الخيميائي؛ إذْ سعى الفلاسفة الطبيعيون إلى تعلُّم كيفية تحويل المعادن إلى ذهب. وكانت الأدوات التي استعملها الخيميائيون هي الفُرن والمِقطار والمواد الكيميائية الكاشفة والميزان وقوارير من مختلف الأحجام، أما المهتمون بالتشريح والفسيولوجيا وغيرهما من علوم الحياة، فكانوا يمتلكون مناضد تشريح، وأدوات جراحية، وغير ذلك من المعدات لقياس المُعامِل الخاضِع للبحث أيًّا كان. وقد احتفظ الفيزيائي البلجيكي جيه بي فان هيلمونت (١٥٧٩–١٦٤٤) بشُجيرة صغيرة في إناء لمدة خمسة أعوام، وكان يرويها بماء المطر بصفة منتظمة، ثم إنه قاس وزن الشجرة والتربة المحيطة بها، فوجدَ أن التربة وزنها لم يختلف تقريبًا عن وقت غرسه الشجيرة، بينما صار وزن الشجرة ١٦٤ رطلًا، وهي زيادة أرجعها فان هيلمونت إلى الماء. وفي إيطاليا، صمَّم سانتوريو (١٥٦١–١٦٣٦) مقعدًا يمكنه قياس وزنه فيه بعناية، مع إجراء حساب دقيق لوزن ما تناوله من طعام وشراب، ووزن مخرجاته. وكان الفرق هو ما فَقَدَه في صورة «التعرُّق غير المحسوس»، كما أسمَاه. وكان ويليام هارفي يشرِّح الثعابين والعلاجيم وغيرها من الكائنات ذوات الدم البارد، حتى تتسنَّى له مراقبةٌ أفضل لضربات القلب، في إطار سعيه إلى فهم «حركة القلب» والدورة الدموية. وأجرى ألبرشت فون هالر (١٧٠٨–١٧٧٧) سلسلة مطوَّلة من التجارب على حيوانات حية في إطار سعيه إلى التمييز بين التهيُّجية (القدرة على التفاعل مع المحفِّزات الخارجية، وهي من خواص العضلات) وبين الحساسية (القدرة على الشعور، وهي ناتجة عن الوظيفة العصبية). وإنَّ دافِع التجريب لَقديمُ الأثر في الطب، وكثيرًا ما ينطوي على روح القياس الكمِّيِّ؛ فما يمكن قياسه يمكن معرفته.

والمِجهر من الأدوات الكثيرة التي كان يمكن أن نجدها في أماكن العمل العلمية القديمة تلك. كانت ثمة مشكلات — أُدرِكَت آنذاك — من حيث التشويه والتحريف، ويشير المؤرِّخون أحيانًا إلى الفحص المِجهري قبل القرن التاسع عشر على أنه مجرد لعبة في يد الهواة الأثرياء. وقد أظهرت دراسات حديثة مدى أهمية الفحص المِجهري في النقاشات العلمية الجادة منذ بداية استخدامه في القرن السابع عشر، ولا سيَّما على يد أنتوني فان ليفنهوك (١٦٣٢–١٧٢٣) — تاجِر الأقمشة الذي عمل في هولندا وعلَّم نفسه استخدام المجهر — وروبرت هوك (١٦٣٥–١٧٠٣)، الذي كان من أصل متواضع أيضًا ولكنه ضاهَى إسحاق نيوتن في اتساع نطاق أبحاثه. كان هوك هو مَنْ صاغَ لفظة «الخلية» في كتابه «الفحص المجهري» (١٦٦٥). ولكن ما إنْ أتاحَ المِجهرُ للأفراد مشاهدةَ العالمِ الجديدِ الذي كشفه، حتى نُحِّيَت المشكلات الفنية جانبًا باعتبارها أمرًا مزعِجًا لا أكثر، مقارنةً بالآفاق التي فتحها استخدامه. وفي القرن التاسع عشر، أصبح المِجهر رمز العالِم الطبي، واحتلَّ الدور نفسه الذي احتلته السمَّاعة الطبية لدى الطبيب السريري التقدُّمي.

الخلايا: المتناهية الصِّغَر

ثمة اتجاه متنامٍ باطِّراد لزيادة دقة الوحدة الأساسية للفهم الطبي للمرض؛ فقد كان مذهب الأخلاط معنيًّا بالأجساد في صورتها الكاملة، بينما اتَّخذ مورجانِّي الأعضاءَ نقطةَ بدايةٍ وأساسًا افتراضيًّا لأبحاثه، أمَّا بيشا فقد لاحظ مدى أهمية الأنسجة في تصنيف التغيُّرات المَرضية وتحليلها. ثم أصبحت الخلايا في مركز الصدارة، واحتفظت بمكانتها المحورية حتى بعد تعريف الوحدات دون الخلوية والجزيئات باعتبارها مكوِّنات ذات أهمية محورية في الديناميات الخاصة بآليات المرض.

يمكن اعتبار النظرية الخلوية التي انتصرت أخيرًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر حَجَر الأساس لكلٍّ من علم الطب الحديث والبيولوجيا (علم الأحياء) الحديثة. تعود كلمة «البيولوجيا» إلى عام ١٨٠١، بينما لم تُصَغ لفظة scientist (المكافئ الإنجليزي للفظة «عالِم» في العربية) إلا في عام ١٨٣٣. وتشير هاتان الكلمتان إلى حدوث تغيُّر جوهري خلال هذين العَقدين؛ ففي أوائل القرن التاسع عشر، فرضت نظرياتٌ عدَّةٌ وجودَ وحدةٍ مِجهريةٍ من نوعٍ ما تتألَّف منها الكائنات كافة. وبعض تلك الوحدات — مثل «الكُرَيَّات» — كان في الواقع من صنع المجاهر المستخدَمة آنذاك. وقد حُلَّت المشكلات الفنية إلى حدٍّ كبير في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر، وبدأت تَظهر بصفة منتظمة أوصافٌ لوحدات يمكن أن نتبيَّن فيها «خلايانا»، إضافةً إلى محتوياتها، لا سيَّما النواة. ثم في السَّنتين المتعاقبتين ١٨٣٨ و١٨٣٩، اقترح العالِمُ الألماني ماتياس شلايدن (١٨٠٤–١٨٨١) أن تكون الخلايا هي الوحدة الرئيسية المكوِّنة للنبات، بينما اقترح عالِمٌ ألماني آخر — تيودور شفان (١٨١٠–١٨٨٢) — أنها الوحدة الرئيسية في الحيوان. وليس من سبيل المصادفة أنْ كان العالِمان ألمانيين؛ فكثيرٌ من أبحاث الطب الحيوي الحديثة نشأت في ألمانيا في الأصل، في إطار منظومة الجامعات الألمانية. كان شلايدن عالِمَ نباتٍ أكاديميًّا، ولكن شفان — الذي درسَ الطبَّ — كان تلميذ أهمِّ معلِّم في مجال الطب العلمي؛ يوهانز مولر (١٨٠١–١٨٥٨). حقَّق شفان نجاحًا باهرًا في بداية عمله البحثي؛ إذْ توصَّل إلى اكتشافات جوهرية بشأن عملية التخمُّر وعملية الهضم، فضلًا عن تطوير نظريته الخلوية، وقد زعم أنَّ الكائنات المعقَّدة عبارة عن مجموعات من الخلايا المدْمَجَة؛ ومن ثَمَّ لا بدَّ من فهم وظيفتها الطبيعية والمَرضية، من منطلق الخصائص الحية لتلك الكيانات. وكان يؤمن بأن الخلايا البدائية — على سبيل المثال — في المراحل المبكرة من نمو الجنين، أو في الأنسجة الملتهبة، يمكن أن تتبلور خروجًا من سائل غير متبلور أسمَاه «البلاستيمة». وقد بدا أن تلك النظرية نظَّمَت ما يمكن أن يكشفه المِجهر في ضوء فكرته التي مفادها أنَّ الحياة نتاج عملية فيزيائية بالأساس.
fig17
شكل ٥-١: كان من المشكلات الدائمة في عملية الفحص المجهري حقيقة أنَّ شخصًا واحدًا فقط يمكنه النظر إلى الصورة في المرة الواحدة. وقد وسَّع روبرت كوخ نطاق المُطَّلِعين على تلك العملية كثيرًا باستخدام الكاميرا لتسجيل الصور. ثم جاء حلٌّ تجلَّت فيه سمة المشاركة بدرجة أكبر — في عام ١٨٧١ — باختراع هذا المِجهر الثلاثيِّ الأنابيب، الذي يتيح التحقُّق الموضوعي من الصورة المُكبَّرة وفحصها.

لكن سرعان ما هجر شفان نزعته المادية الواثقة وقضى العقود الأخيرة من حياته منشغلًا بتكهُّنات دينية وفلسفية. وقد حظيَت النظرية الخلوية التي وضعها بقبول معظم الناس، إلا أنها عُدِّلَت وطُبِّقَت في مجال الطب على يد آخرين، لا سيَّما رودولف فيرشو (١٨٢١–١٩٠٢) الذي تسوَّد مجال الطب العلمي الألماني في القرن التاسع عشر. عاش فيرشو ليبراليًّا طول عمره وسط مجتمع ألماني نَمَت الروح القتالية فيه باطِّراد، وفي شبابه حمل شيئًا من النزعة السياسية الراديكالية، وقاد مجموعة إصلاحية من الأطباء الشباب خلال فترة الثورات المصاحبة لوباء الكوليرا عام ١٨٤٨؛ حيث قضى بعضَ الوقت عند الحواجز التي أقامتها العناصر الثورية في برلين. وبغية إبعاده عن بقعة الضوء، أرسلته السلطات البروسية لتقصِّي أمر وباء تيفوس في سيليزيا العليا، التي أصبحت الآن جزءًا من بولندا، ولكنها كانت واقعة ضمن دائرة النفوذ البروسي آنذاك، فكتب تقريرًا لم تكن السلطات ترغب في الاطِّلاع عليه، ألقى فيه مسئولية الوباء على الحرمان الاجتماعي والفقر والأُمِّية والظلم السياسي، وقال إنَّ أفضل طريقة للسيطرة على ذلك الوباء والأوبئة المشابهة له هي توفير الديمقراطية والتعليم والعدالة الاقتصادية. وكان يرى أن أحد الأدوار المهمة التي ينبغي للأطباء أن يضطلعوا بها هو الدعوة إلى تلك الإصلاحات ببساطة؛ فقد كان الأطباء هم المناصرين الطبيعيِّين للفقراء، إذْ تجعلهم مهنتهم على اتصال وثيق بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية للمرض.

وقد ظلَّ فيرشو دائم الاهتمام بالسياسة والإصلاحات الصحية؛ إذْ خدمَ في البرلمان الألماني ومجلس الصحة العامة ببرلين، وكان يروق له تشبيه الكيان السياسي بالجسد البشري، بحيث تصير الخلايا هي مُواطني الجسد. وكان على الأطباء أن يتصدَّوا في إطار عملهم اليومي للآثار الضارة للفقر على الصحة. كذلك سعى ذلك الرجل ذو الطاقة المتدفقة وراء إشباع اهتماماته في مجالَيْ علم الإنسان وعلم الآثار، إضافةً إلى تحرير عدَّة مجلات علمية وكُتُب متعددة الأجزاء. ولا تزال مجلةُ الباثولوجيا التي أسَّسها ورأسَ تحريرها أكثرَ من نصف قرنٍ قيْدَ النشر، وتُعرَف باسم «أرشيف فيرشوز». ولا يزال معظم الناس يتذكرونه بوصفه عالِم باثولوجيا بالأساس. وإذْ كان فيرشو دائم الاقتناع بالأهمية المحورية للمجهر في فهم آليات المرض (حيث لقَّن تلاميذه أنْ: «تعلَّموا أن تَرَوا مجهريًّا»)، فقد أخذَ النظريات السابقة المعنية بالخلايا وطبَّقها على الطب، وبدأ يشكِّك في كون «البلاستيمة» التي تحدَّث عنها شفان مصدر الخلايا الجديدة — مثل الخلايا المتكوِّنة في المراحل المبكرة من نمو الجنين، أو في الاستجابات الالتهابية في الأنسجة — وزعمَ في المقابل أنَّ «كل» الخلايا تأتي من خلايا أمٍّ سابقةٍ لها. وعلى الرغم من أنَّ ذلك الشعار لم يكن من تأليفه في الأصل، فقد أقنع فيرشو العالَم العلمي بأن الخلايا لا تتبلور أو تنشأ بأي صورة خلافًا لذلك من تلقاء ذاتها، وإنما تنشأ دائمًا عن انقسام الخلايا. وقد شرح نظريته عن الباثولوجيا الخلوية في خمسينيات القرن التاسع عشر، من خلال سلسلة من المقالات — معظمها في مجلاته هو نفسه — وفي عام ١٨٥٨ — عندما عاد إلى برلين بعد قضاء سبعة أعوام أستاذًا للباثولوجيا في فورتسبورج — نَشَرَ سلسلة من المحاضرات تحت عنوان «الباثولوجيا الخلوية»، أثبتَ فيها أنَّ الخلايا هي الوحدات الأساسية للنشاط الفسيولوجي والباثولوجي، وأن الأحداث السريرية الروتينية (مثل الالتهابات الحادة والمزمنة والنمو السرطاني وانتشاره) واستجابات الجسد للمحفِّزات الخارجية (مثل التهييج أو الضغط) يمكن تصوُّرها بنجاح في إطار خلوي. وقد عيَّن للخلية مكانة مركزية في الباثولوجيا، في نفس وقت عمله على تطوير مبدأ بيولوجي أكثر شمولية.

وكان لفيرشو العديد من الملاحظات المهمة بشأن مجموعة متنوعة من الأمراض؛ مثل: الالتهاب الوريدي وانسداد الأوعية الدموية والسرطان والداء النشواني، وهو مرض نادر غير مفهوم تمامًا حتى الآن. وكان أيضًا أكثرُ معلِّمي الباثولوجيا تأثيرًا خلال القرن التاسع عشر، وكثيرٌ من روَّاد ذلك المجال اللاحقين؛ درسوا في معهده ببرلين. وقد أجرى بعض التجارب الفعَّالة على الحيوانات، ولكنه قضى جزءًا كبيرًا من عمله في دراسة الأنسجة والخلايا الباثولوجية، وفي ربط النتائج التي توصلَ إليها بالمشكلات السريرية التي ألمَّت بالمريض في حياته. وقد شهد تطوير تقنيات مجهرية جديدة، مثل استخدام المِشراح الدقيق لقطع شرائح رفيعة من الأنسجة — من أجل مشاهدة أفضل — والملوِّنات لإبراز سمات الخلايا؛ مثل النواة والأجسام السابحة في السيتوبلازم. وعلى الرغم من أنه كان من أنصار التجريب إلى حدٍّ ما، فإن الباثولوجيا التجريبية لم تُفَعَّل إلا في مرحلة متأخرة من حياة فيرشو، بالتزامن مع علم البكتيريا (البكتيريولوجيا). وقد تَتَبَّع فيرشو ذلك المجال باهتمام، ولكنه لم يعتنق نظرية جرثومية المرض مخلِصًا قط.

الجراثيم: العقيدة الجديدة

في معبد الطب، لا يحظى قديسون كُثُر بمثل الإجلال الذي يحظى به القديس لويس؛ أي لويس باستور (١٨٢٢–١٨٩٥). وإنَّ لعدم كونه طبيبًا مؤهَّلًا من الأساس — حيث إنه تلقَّى تعليمه في مجالَي الفيزياء والكيمياء — دلالةً على تزايُد أهمية العلم بالنسبة إلى الطب. وكونه أدَّى معظم عمله في المعمل — إذ لم يقف إلى جوار أسرَّة المرضى إلا في مرحلة متأخرة من حياته، ليراقب الأطباء أثناء حَقنهم المرضى بلقاح السُّعار — يُذَكِّرنا بمكانة المعمل في صورتنا الكلية للطب الحديث.

عادةً ما يُنظَر إلى نظرية جرثومية المرض على أنها تمثِّل بدايات الطب الفعَّال؛ ومن ثَمَّ الطب الحديث. وأحيانًا يشير المؤرِّخون التنقيحيون إلى أن اكتشاف تسبُّب الكائنات الحية الدقيقة في كثير من أهم الأمراض على مدى التاريخ — التيفوس والسُّل والزهري والكوليرا والملاريا والجدري والأنفلونزا وأمراض كثيرة أخرى — استغرق عقودًا من النقاشات قبل الوصول إلى نوع من الاتفاق. وإضافةً إلى ذلك — حسبما يؤكِّد التنقيحيون في روايتهم — فقد ظلَّ الطب غيرَ كفء من الناحية العلاجية بعد وفاة باستور بفترة طويلة. وقد وُضِعَت نظرية جرثومية المرض في منظور آخر بظهور أمراض جديدة — مثل عدوى فيروس نقص المناعة المكتسَب وحُمَّى لاسا وداء الفيالقة — واتساع انتشار تطور مقاومة العقاقير فيما بين الكائنات الحية الدقيقة، وتزايُد انتشار الأمراض المزمنة غير المُعدية في المجتمعات الغربية. ومنذ خمسينيات القرن العشرين، نَشَرَ توماس مكيون (١٩١٢–١٩٨٨) — أستاذ الطب الاجتماعي في جامعة برمنجهام — سلسلةً من الدراسات المهمة ذهبَ فيها إلى أنَّ تراجع معدلات الوفيات في المجتمعات الغربية ناتجٌ في المقام الأول عن تحسُّن التغذية ومستويات المعيشة بصفة عامة، وأنَّ الطب النظامي لم يكن له إسهام كبير في ذلك؛ على الأقل حتى الماضي القريب جدًّا.

في إطار تلك القراءات لطب القرن التاسع عشر، ربما كان باستور وروبرت كوخ (١٨٤٣–١٩١٠) وغيرهما من أنصار علم الأحياء الدقيقة وعلم البكتيريا والمجالات المعملية المصاحبة لهما، يُجْرُون أبحاثًا مثيرة للاهتمام، إلا أنَّ ثمة مبالغة في تقدير أهميتها الجوهرية للمرضى ومعدلات الأعمار المتوقعة، فما الذي اكتشفوه تحديدًا؟ وهل كان مهمًّا إلى هذا الحد؟

لم يكن باستور أولَ مَنْ شاهد البكتيريا وغيرها من الكائنات الدقيقة، ولا أولَ شخص يتحدث عن «الجراثيم المَرضية»، إلا أن الأبحاث التي أجراها منذ أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر اتسمت بمنطق ممتاز، ونادرًا ما يجد العلماء سهولة أكبر في ربط المسار المهني الكامل في صورة سلسلة من المشاهدات والفرص الوليدةِ المصادَفةِ، يكون فيها الإجمالي أكبر من المجموع الكبير لأجزائه. وقد اهتمَّ بالكائنات الحية الدقيقة أثناء دراسته لعملية التبلور، وأثبت أن بلورات حمض الطرطريك (وهو ناتج عَرضي لصناعة الدباغة) المصنوعة بأساليب كيميائية عادية؛ دائمًا ما تكون محايدة ضوئيًّا، في حين أنَّ نظيرتها التي تتكوَّن إثر نشاط الكائنات الدقيقة تدوِّر الضوء المستقطَب؛ وهو ما أقنعه بأن الكائنات الحية تتمتع بقدرات خاصة، وحَدَا به إلى دراسةِ خصائص الخميرة وغيرها من الكائنات ذات الأهمية الصناعية والمُستخدَمة في الخبازة وصناعة الجعة والتخمير. وقد شغلته تجاربه الشهيرة في التولُّد التلقائي أعوامًا عدَّة في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، وكان لها تأثير خاصٌّ في أعقاب صدور كتاب «أصل الأنواع» لداروين (١٨٥٩). وتُمثل القواريرُ التي استخدمها ذاتُ الأعناق الشبيهة بأعناق البجع — لاستبعاد الملوِّثات المنقولة بالهواء بعد غَلْي المحاليل بُغية تعقيمها — جزءًا من صورته المحبَّبة في مخيِّلتنا.

أثبتت تلك التجارب له أن الكائنات الدقيقة لا تتولَّد تلقائيًّا، ورَبِحَ المناظرات العامة التي أُقيمت بينه وبين أحد الزملاء، كان قد كرَّر تجارب باستور ووجد السائل مليئًا بالكائنات الحية أكثر من مرة. وقد ثبت بتحليل المذكرات التي كان باستور يدوِّنها في معمله أن تجاربه كانت «تفشل» أحيانًا (أي إنَّ القوارير كان بها كائنات حية)، ولكنه كان ينحِّي تلك النتائج جانبًا بهدوء؛ فقد كان يعمل على عُصيَّة الكلأ (شبيهة بالعامل المُسبِّب للجَمرة الخبيثة) وكانت أَبْوَاغُ تلك البكتيريا مقاومة للحرارة؛ ومن ثَمَّ كان يمكن للمرء أن يتوقع نتائج «سلبية» لتجارب باستور؛ فبالتعتيم على تلك النتائج، تغلَّب باستور على خصومه، فطالما تميَّز بقدرته على الرهان على الجواد الرابح، والثبات على موقفه.

إلى جانب تجارب التولُّد التلقائي، عمل باستور بنشاط في موضوع دور الخميرة وغيرها من الكائنات الدقيقة باعتبارها العامل المسبِّب لعملياتِ تخمُّر عدةٍ؛ للجعة أو الخمر أو تحميض اللبن. وقد خَلَصَ شفان وعلماء ألمان آخرون إلى أن تلك التفاعلات اليومية المهمة هي تفاعلات كيميائية بحتة، ولكن باستور أصرَّ على أنها تحتاج إلى كائنات حية لكي تنتج؛ ومن ثَمَّ فهي عمليات حيوية. وقد قدَّم معرفة عملية مهمة لصنَّاع الخمور والجعة، فضلًا عن إدخاله «البسترة» كوسيلة لتعقيم مواد مثل اللبن؛ بغية تأخير فسادها.

وبحلول عام ١٨٧٠ كانت شهرته قد بلغت مبلغًا حَدَا بالحكومة الفرنسية إلى أنْ تطلب منه تقصِّي مرضٍ بدا معديًا لدى دود القزِّ، وشكَّل تهديدًا لصناعة الحرير. فاصطحب أسرته معه، وأَشْرَكهم في العمل؛ حيث عرَّف الكائنَين الدقيقَين المسئولَين عن المرض، ثم أوضحَ كيف يمكن كفُّهما عن الأذى. وبعد هذا العمل، زاد حديثه عن «نظرية جرثومية» للمرض، وتزايَد انشغاله بقدرة البكتيريا على التسبُّب في المرض. وبما يتماشى مع ذلك العالِم الذي لا يحمل أيَّ مؤهلات طبية، فقد تطرَّق إلى مرض شائع بين الحيوان والإنسان؛ ألا وهو الجمرة الخبيثة، وهو مرض غير معتاد؛ فخلافًا لمعظم أنواع العدوى البكتيرية، عندما تُصاب الحيوانات أو البشر بالجمرة الخبيثة، يمكن مشاهدة البكتيريا المسبِّبة لها بصورة روتينية على شرائح مصنوعة من الدم (تسمى «اللُّطاخَة الدموية»). وإذْ أقرَّ بأن تلك البكتيريا هي العوامل المسبِّبة للمرض، بَحَثَ (وكذلك عددٌ من منافسيه) عن سبل «يُوهِنُ» بها البكتيريا؛ بحيث تكوِّن مناعة دون التسبُّب في المرض. وإذْ أصبح لدى باستور ما ظنَّه تطعيمًا مُرضِيًا ضد الجمرة الخبيثة، أتى على فعلة جريئة (كان ماهرًا في الدعاية، وربما كان أول عالِم كبير يخطب ود وسائل الإعلام)؛ إذْ دعا الصحافة لمشاهدة حَقن حيوانات المَزارع باللقاح الذي اخترعه، ثم حقنها بعُصيَّات حية شرسة من الجمرة الخبيثة. وكانت النتيجة المُعلَنة هي نفوقَ كثيرٍ مِن الحيوانات غير المحصَّنة، دونًا عن الحيوانات التي تلقَّت التطعيم، وذاع الخبر في جميع أنحاء العالم.

بعد الجمرة الخبيثة، سُلِّطَت الأضواء على باستور، وكان هو مستعدًّا لذلك؛ إذ كان آخرُ اكتشاف كبير له هو علاجَ السُّعار، الذي كان مرضًا نادرًا نسبيًّا، لكنه كان يتسبَّب في ميتة شنعاء حتى إنه أثار الخوف والقُشَعْريرة. اضطر باستور إلى العمل على مرض السُّعار مغمض العينين؛ إذ إن السُّعار (كما نعرف الآن) مرض فيروسي، والفيروسات كائنات متناهية الصغر لم تكن معروفة وقت باستور إلا بآثارها. كانت أمراضٌ من قبيل الجدري والحمى الصفراء والحصبة والأنفلونزا — وطائفة أخرى من الأمراض الفيروسية — قد أعلنت عن وجودها بالفعل، وكانت كلمة «فيروس» تُستَخدَم منذ وقت طويل بالمعنى العام — أيْ باعتباره «سُمًّا» يتسبب في المرض — ولكنها اكتسبت معناها البيولوجي الأكثر تحديدًا في أوائل القرن العشرين، بوصفها «فيروسًا قابلًا للترشيح»؛ أيْ عامِلًا صغيرًا يمرُّ من المرشِّحات التي تحجز البكتيريا وغيرها من مسبِّبات المرض البيولوجية الأكبر حجمًا. وقد أتاحت أساليبُ زراعة الأنسجة والمِجهر الإلكتروني في نهاية المطاف التعرُّفَ على الفيروسات وتصنيفها.

بالنسبة إلى باستور، استتبع التعاملُ مع «فيروس» السُّعار العملَ أيضًا مع عامِلٍ لم يعرف كيفية زراعته، بل إنه إذْ أدرك أن أعراض السُّعار تشير إلى نوعٍ من عدوى الجهاز العصبي، طفقَ يعمل على النخاع الشوكي للأرانب، وتعلَّم من خلال إدخال المادة الملوَّثة بالعدوى على أجزاءٍ أنْ يتحكَّم في شراسة «سُمِّ» السُّعار. إنَّ زمن الكمُون بين عضَّة الكلب، أو أيِّ حيوان آخر مسعور، وظهور الأعراض على الضحية، كان معناه احتمال وجود وقت لاستثارة مقاومة للمرض لدى الشخص الذي عضَّه الحيوان. كان ثمة الكثير من الأمور المجهولة المستحيلة التقدير، حتى إنَّ طلب مثل تلك المنحة لم يكن له أن يتخطى أول عقبة في أي وكالة تمويل حديثة، ومغامرة باستور بأكملها — في ضوء ما كان يعرفه هو ومعاصروه عن السُّعار والفيروسات — لم يكن ليُقْدِم عليها سوى شخص يتملَّكه ما أسمَاه اليونان «غطرسة». إلا أنه خلافًا لأبطال المآسي الإغريقية، نجح باستور في التوصل إلى علاج للسُّعار، وانتقل من مكانة النجومية العلمية إلى القداسة العلمية؛ فقد نجا أولُ مريض أُعلِن علاجه له — جوزيف مايستر — بعدما عضَّه كلب كان مسعورًا على الأرجح، وسرعان ما عُولِج مرضى آخرون أيضًا، وحاز علاج السُّعار على إشادة المجتمع الدولي، وتوافَد المرضى من جميع أنحاء أوروبا إلى باريس (إذْ كان الوقت عامِلًا حاسمًا) لتلقِّي جرعة الحُقَن. كذلك أقنع ذلك العلاجُ كثيرين من عامة الشعب بجدوى الأبحاث الطبية، وصوَّتوا لصالحها بنقودهم؛ فقد جاء تمويل معهد باستور في باريس عن طريق تبرُّعات الجمهور بالأساس، وافتُتِح في عام ١٨٨٨ وسط ضجة كبيرة وتبعته معاهد أخرى كثيرة، في مناطق النفوذ الفرنسي وما وراءها. وكثير من تلك المعاهد الباستورية الهامشية كان مكرَّسًا بالأساس لصنع اللقاحات وغيرها من المنتجات البيولوجية؛ فالمقر الرئيسي في باريس كان يصنِّع اللقاحات، ولكن هدفه الرئيسي أيضًا كان (ولا يزال) هو البحوث الطبية. وقد أمضى باستور الأعوام السبعة الأخيرة من حياته رئيسًا للمعهد الذي يحمل اسمه، حيث عاش ومات ودُفِن.

رَأَسَ روبرت كوخ عددًا من المعاهد أيضًا، وإنْ كانت معاهده في معظمها قد نشأت بتمويل من الدولة الألمانية، وهو ما يدل على اختلاف التوجُّه إزاء الأبحاث العلمية بين ألمانيا وبقية العالم. وقد اتسمت العلاقات الفرنسية الألمانية بالفتور عقب الهزيمة المنكرة التي ألحقتها قوات بسمارك البروسية بفرنسا في الحرب الفرنسية البروسية (١٨٧٠–١٨٨١). كان (ولا يزال) من المفترض أن يكون العلم دوليًّا وموضوعيًّا، متجاوزًا لحواجز العِرق أو الدين أو الجنسية أو نوع الجنس، ولكن الواقع طالما كان مختلفًا، والحقيقة أن كوخ وباستور عبَّرا عن تلك المشاعر القومية العدائية في علاقتهما الشخصية والمهنية؛ فقد أعاد باستور أوسمةَ الشرف التي حصل عليها من الولايات الألمانية عقب الحرب الفرنسية البروسية، ورفض شرب الجعة الألمانية، بينما كان كوخ حريصًا على تصيُّد أكبر قدر من الأخطاء عندما واجه اكتشافات فرنسية في مجالَي علم البكتيريا وعلم المناعة. وقد اتسمت لقاءاتهما في المؤتمرات الدولية بطابع رسمي لا يخلو من فتور.

fig18
شكل ٥-٢: كان لويس باستور من أكثر العلماء الذين تصدَّروا اللوحات الفنية في القرن التاسع عشر. وهنا نراه في إحدى طبعات مجلة «فانيتي فير» لعام ١٨٨٧، حامِلًا أرنبين؛ حيث كانت الأرانب بالغة الأهمية في أبحاثه المعنية بالسُّعار. لم تكن تلك المجلة الأسبوعية ذات الشعبية — التي استمر نشرها من عام ١٨٦٨ إلى عام ١٩١٤ — تختار سوى الأشخاص الأكثر شهرة لسلسلة الصور الواردة فيها.

كان ثمة غنائم علمية وفيرة تُرضي كليهما في ظل الفرص العظيمة التي توفرت في بداية عهد علم البكتيريا، ولكنَّ كلًّا منهما كان له أسلوب علمي مختلف تمامًا عن الآخر؛ فقد كان باستور يفضِّل زرع الكائنات الدقيقة في قوارير، ويغيِّر باستمرار عناصر الحساء الذي تتغذى عليه الكائنات في المزرعة، وكان يحتفظ بجزءٍ كبيرٍ من أعماله البحثية لنفسه ولزملائه المقرَّبين. أما كوخ — الذي كان أصغر منه بجيل — فكان أكثر دقةً بكثير في التقنيات التي استخدمها؛ فقد قدَّم تقنية التصوير المجهري بغية تحسين عملية تقديم البيانات الموضوعية إلى العالم. وكان يزرع البكتيريا على طحالب الأغار، وهو وسيط صُلب يقلل المشكلات الناجمة عن التلوث إلى أدنى حدٍّ ممكن، وقد كان أول مَنِ استخدم أدوات التعقيم، وقدَّم تلميذُه بتري الطبقَ الذي يحمل اسمه. كان كوخ مختصًّا بالبكتيريا الطبية، بينما كان باستور مختصًّا بالأحياء الدقيقة وأسَرَه عالَم الكائنات البالغة الصِّغَر. انطلق باستور من نصر إلى نصر، في حين تَمتَّع كوخ بعقدين من الإنجازات المبهرة وشيخوخة عَجَزَ فيها عن استعادة أمجاد شبابه العلمي.

تضمَّن أول عمل مهم لكوخ مرض الجمرة الخبيثة، وقد اكتشف — بوصفه ممارِسًا عامًّا عقب انتهاء الحرب الفرنسية البروسية مباشرةً — دورةَ حياة ذلك النوع المعقد من البكتيريا، التي تبدأ في صورة بَوْغٍ تُعزَى إليه قدرتها على أن تظل كامنة في التربة سنواتٍ طويلة. كذلك فقد خلَّفت أبحاثه انطباعًا قويًّا لدى أحد أساتذته القدامى حَدَا به إلى أن يكفل لكوخ المرافق البحثية اللازمة لعمله، فكانت النتائج المبكرة لعمله مذهلة دون مبالغة؛ تمثَّلت في الابتكارات الفنية المذكورة أعلاه، وعملٍ مهمٍّ عن دور البكتيريا في نشأة التهابات الجروح، وتُوِّجَت جميعًا بالتعرُّف على الكائنين المتسبِّبين في أهم مرض في القرن التاسع عشر: السُّلِّ (١٨٨٢)، والوباء الأكثر إثارةً للقلق: الكوليرا (١٨٨٤). ومثَّل هذان الاكتشافان إنجازَين فنيَّين لا يُستهان بهما. وتتسم عُصيَّة الدرن بتطلُّبِها ظروفًا خاصة لزراعتها، وبطءِ نموها، وصعوبةِ صبغها؛ فالسُّلُّ لم يكن مرشَّحًا بديهيًّا لقضيةٍ بكتيريولوجيةٍ جديرةٍ بالتبني؛ إذْ كان مرضًا مزمنًا تُرجِعه مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ إلى طائفة واسعة من العوامل البنيوية والبيئية.

fig19
شكل ٥-٣: كَثُر تصوير روبرت كوخ أمام مِجهره، وفي هذه الصورة — في جنوب أفريقيا عام ١٨٩٦-١٨٩٧ — يظهر في هيئة العالِم المجتهِد في معمله، محاطًا بالأدوات الأخرى المُستخدَمة في علم البكتيريا، مثل القوارير وصحون بتري. كان أي مكان تُمارَس فيه العلوم الغربية يعد معملًا.

سجَّل كوخ البحث الذي أجراه على الكوليرا في الهند؛ حيث ذهب بعد انطلاق بعثة استكشافية فرنسية وأخرى ألمانية إلى مصر في عام ١٨٨٣، إلى تقصِّي أمر وباء الكوليرا المتفشي هناك. أخذت البعثة الفرنسية منحًى كارثيًّا؛ إذْ تُوفي شاب واعِد من تلامذة باستور، ورجع أعضاء البعثة دون أن يحققوا أيَّ نتائج إيجابية. كان كوخ يعتقد أنه توصل هو ومجموعته إلى الكائن المسئول عن الكوليرا في مصر، ولكن التيقُّن من أيِّ كائن محدَّد في المعدة أمرٌ صعب؛ نظرًا لكثرة البكتيريا التي تعيش فيها. ثم ذهب كوخ إلى الهند — الموطن التقليدي للكوليرا — وتعرَّف على كائن شبيه بعلامة الفاصِلة الإنجليزية وجده في كلٍّ من إمدادات المياه لدى الضحايا ومخرجاتهم. ونظرًا لقوة الاعتقاد في أن الكوليرا مرض ناتج عن القذارة والماء الفاسد وارتفاع منسوب المياه الجوفية، تأخَّر قبول فكرة كوخ المتمثلة في تحديد كائن معين مسئول عن ذلك المرض. وقد كان لمختص الصحة الألماني الرائد — ماكس فون بِتِنكوفر (١٨١٨–١٩٠١) — نظريته الخاصة عن التفاعل الضروري بين عدَّة عوامل مسبِّبة، كانت «الجرثومة» مجرد واحدة منها. وفي بادرة شهيرة، ابتلعَ علنًا قارورةً من القوارير التي يضع فيها كوخ العُصيَّةَ، ولم يُصَبْ إلا بنوبة إسهال خفيفة، لا ترقى بحال للإصابة الفعلية بمرض الكوليرا في صورته الكاملة. وفي تسعينيات القرن التاسع عشر كانت مزايا نظرية العُصيَّة التي وضعها كوخ وعيوبها لا تزال قيد النقاش العلمي المتخصِّص. وساهمَ لقاح ضد الكوليرا ذو فاعلية جزئية — أعَدَّه مختص علم البكتيريا الروسي المَوْلِد فالديمار هافكين (١٨٦٠–١٩٣٠) في الهند من عُصيَّة الكوليرا — في تحويل مجرى الأحداث، كما بدا انتشاره عن طريق الفم والبراز إجابةً عن معظم قضايا الوبائيات.

وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر كانت الآراء الطبية العلمية التوجُّه بشأن نظرية جرثومية المرض قد تبدَّلت، ومعظم النقاشات الدائرة باتت تتعلق بما إذا كان كائن معيَّن يتسبب في مرض معيَّن، أو — مع زيادة المعرفة المكتسَبة في مجال الطبيعة المناعية والباثولوجية الفسيولوجية للعدوى — بطبيعة السموم البكتيرية. أُدرِج مبدأ نظرية جرثومية المرض في المَراجع الطبية، ودرسه معظم طلاب الطب في مقرراتهم، إلا أنَّ بعض الرجال في الأوساط الطبية ظلوا رافضين للنظرية طبعًا، بينما رأى آخرون أن البكتيريا قد تضطلع بدور جزئي في الأمراض المُعدية، لكنها ليست كافية لتفسيرها بأي حال من الأحوال. تمثَّل معيار السببية الذهبي في مُسَلَّمات كوخ، وهي التي أشارَ إليها ضمنيًّا وإنْ لم يعبِّر عنها صراحةً قط مثلما فعلَ تلميذه فريدريش لوفلر (١٨٥٢–١٩١٥)، الذي كتب عن الخُناق ما يلي:
إذا كان الخُناق مرضًا يتسبَّب فيه أحد الكائنات الدقيقة، فلا بد مِن تحقُّق ثلاث مسلَّمات. وتحقُّق تلك المسلَّمات ضروري للتبيُّن التام للطبيعة الطفيلية للمرض:
  • (١)

    يجب إثبات وجود الكائن بصفة دائمة في شكلٍ وتنظيمٍ مميَّزَين في النسيج المصاب بالمرض.

  • (٢)

    يجب عزلُ الكائن الذي يبدو من سلوكه أنه المسئول عن المرض وإنباتُه في مزرعة نقية.

  • (٣)

    يجب أن يُثبَت بالتجارب أن المزرعة النقية تسبِّب المرض.

لكن المعيار الذهبي يصعب تحقُّقه في كثير من الأمراض، وكلما زادت معرفة مختصي علم البكتيريا وعلم المناعة بالخصائص الباثولوجية الفسيولوجية للعدوى، ازداد تجلِّي الطبيعة الغامضة للعملية بأكملها؛ فمن السهولة بمكان استزراع البكتيريا من الجلد أو المعدة أو البلعوم أو سوائل الجسم لدى أشخاص لا تظهر عليهم علامات المرض، وكثير من تلك البكتيريا كانت مطابقة للبكتيريا لدى أفراد آخرين مصابين بالمرض. ويمكن للمتشككين في العملية بأكملها أن يشيروا إلى حقيقة أنَّ كثيرًا من الجراثيم التي حدَّدها طبيب باعتبارها العامل المسبِّب للمرض، شكَّك فيها أطباءُ آخرون؛ ورُبِطَت الجراثيم بحالات كثيرة نُسِبَت بعدها إلى أسباب أخرى. وقد عرَّف كوخ نفسُه حالة «حامِل المرض»، التي انطوت على أهمية كبيرة في حالة ماري التيفوئيد؛ حيث «حمل» شخص سليمُ الصحةِ تمامًا الجرثومةَ المُمرِضَة. كما طرحت نوبات تفشِّي أمراض كثيرة — عند تقصِّيها — قضايا معقَّدة تتعلق بسبب استسلام بعض الأشخاص للمرض، فيما يتعرَّض له آخرون مثلهم دون أن يصيبهم أذًى؛ فالأمراض الفيروسية سلكت مسلك الأمراض «الجرثومية»، ولكن العوامل المسبِّبة لها لم تكن مرئية. وثمة عدد من الأمراض — التي صرنا ندرك الآن أنها فيروسية — سبقَ أن اقتُرِحَت البكتيريا عامِلًا مسبِّبًا لها، فكثير من الأمور لزم تصديقها من باب الثقة دون دليل، ولا شك أنَّ الأطباء اختلفوا فيما بينهم.

الجراثيم والطب والجراحة

على الرغم من الخلافات واللَّغو الكثير اللذين أُثيرا تحت مسمَّى العِلْم، فقد كانت الثقة مبرَّرة، لسببَين نظريَّين وآخرَين عمليَّين. لم يكن أيٌّ من السببين النظريَّين جديدًا تمامًا، ولكنَّ كليهما اكتمل كلِّيًا بعد ظهور نظرية جرثومية المرض. تَمثَّل السبب الأول في الفَصْل بين سبب المرض وجسد المريض؛ فقد كانت الجراثيم عوامل خارجية، وعلى الرغم من أنَّ استجابة الفرد كان لا بد من فهمها من خلال الأحداث التي تجري داخل الجسد، كان لا بد من البحث عن السبب من خارجه. كان المرض شيئًا يصيب المريض، وعلى الرغم من أن ثقافة اللوم على المرض لم تختفِ تمامًا (ولا تزال قوية، لا سيَّما فيما يتعلق بالأمراض المنقولة بالاتصال الجنسي وما يُسمَّى بأمراض نمط الحياة)، فقد يسَّرت الفجوةُ بين المريضِ وسببِ المرض على الأطباء مسألةَ وضْع معايير موضوعية للتشخيص.

يتمثَّل الأثر النظري الثاني للجراثيم في تأكُّد فكرة خصوصية المرض؛ فالمراحل السابقة من حركة الصحة العامة تعاملت مع معظم الأمراض الوبائية باعتبارها وحدة واحدة، قادرة على تغيير خصائصها أثناء تفشِّيها في المجتمع. فكانت «أمراض القذارة» فئة تشخيصية واحدة بالنسبة إلى إدوين شادويك، سواءٌ تجلَّت في صورة تيفوس أم تيفوئيد أم كوليرا أم حُمرة أم حمى قِرْمِزية، أم أي مرض وبائي آخر من الأمراض التي تفشَّت في المناطق الحضرية الفقيرة المكتظة بالسكان، فقدَّمت الجراثيمُ أساسًا بيولوجيًّا للتمييز بين «أنواع الحمى» المختلفة، وأخيرًا أُدرجت الحمى تحت علامات المرض، وليس المرض نفسه. كان تصنيف الأمراض قد أصبح قضية طبية كبرى بعد أن شاع تسجيل الوفيات (وأسبابها) بصفة روتينية في جميع الدول الصناعية. وقد أفضى الاهتمام الدولي بالأوبئة الكبرى — لا سيَّما الكوليرا — إلى زيادة الحاجة إلى أن تكون سجلات أسباب الوفاة مفهومة عبر الحدود الوطنية، وكان الاهتمام بتصنيف الأمراض مجرد جزء من الجهود الكبيرة المبذولة لزيادة دقة المفردات العلمية والطبية.

كانت الآثار العملية لنظرية جرثومية المرض كثيرة، ولكنْ ثمة أثران جديران بتسليط الضوء عليهما؛ كان الأثر الأول هو الجراحة التطهيرية، متبوعة بالجراحة المعقَّمة. أحدثَ استخدام المادتين المخدرتين — الأثير والكلوروفورم — بدءًا من أربعينيات القرن التاسع عشر، تحوُّلًا في أولويات الجرَّاحين، بعد أن صارت السيطرة على الألم ممكنة. وتتجلى الأهمية المستمرة للمعمل في الممارسة السريرية من حقيقة كَون هاتين المادتين نتجتا عن الأبحاث الكيميائية. ومن الجدير بالذكر أنَّ التخدير بالأثير كان أول اكتشاف أمريكي كبير في مجال الطب، وإنِ اقترنت بدايته بقصص مخيفة عن أولويات متنازعة، ومحاولات فاشلة للحصول على براءات اختراع، ونهايات مؤلمة لمسارات مهنية واعدة. قُدِّم أول عرض للجمهور لإجراء جراحة تحت تأثير مخدر الأثير في مستشفى ماساتشوستس العام يوم ١٦ أكتوبر من عام ١٨٤٦. وسرعان ما بلغت الأنباء أوروبا بأسرع ما أمكن للمراكب أن تحملها، وإنَّ السجلات الطبية الوطنية حافلة بعمليات «أولى» محلية أُجرِيَت باستخدام تلك المادة الجديدة، وتبعها الكلوروفورم خلال عام، وظلَّ البحث جاريًا عن مواد أخرى يمكن أن تقي المرضى الألم.

ليس ثمة ابتكار طبي خالٍ من الجدل، والتخدير ليس استثناءً في ذلك؛ فقد حاربَ البعضُ استخدامه في الولادة لإيمانهم بأن الأمر الإنجيلي لحَواء كان معناه أن عملية الولادة ينبغي أن تكون مؤلمة، وبعض الأطباء العسكريين رأوا أن الجنود الجرحى بحاجة إلى حافز الألم لزيادة تحمُّلهم للعملية، كما انتبه الأطباءُ إثر حدوث بضع وفيات أثناء التخدير إلى مخاطر تلك المواد. وأحيانًا ما تُبرز الأدبيات التاريخية تلك القضايا، ولكنَّ سرعة انتشار الإمكانية الجديدة للسيطرة على الألم — فيما بين الأطباء والمرضى على حدٍّ سواء — هي السمة الأبرز في التاريخ المبكر لتقنية التخدير. وقد أدَّت إتاحة مزيد من الوقت للجرَّاحين أثناء العمليات إلى تيسير الحفاظ على الأنسجة، إلا أنَّ زيادة فترة تعرُّض الجروح المفتوحة للهواء زادت أيضًا احتمال عدوى ما بعد الجراحة. ونتيجةً لذلك، وسَّعَت عملية التخدير نطاق العمليات التي يمكن للجرَّاحين إجراؤها، ولكن ليس بالضرورة فرص خروج المريض حيًّا من تلك المحنة.

مثَّل التخدير أساس إحدى سمات الجراحة الحديثة، أما التطهير — لا سيَّما التعقيم — فمثَّل الأساس لسمة ثانية. كان جوزيف ليستر (١٨٢٧–١٩١٢) رائد الجراحة التطهيرية في أواخر ستينيات القرن التاسع عشر. كانت لِليستر أصول من جماعة الأصدقاء الدينية، وقد ساهم والده في اختراع المِجهر العديم اللون؛ أيْ إنه نشأ في أسرة علمية التوجُّه، ويُقال إنه حضر أول عملية جراحية علنية في بريطانيا باستخدام الأثير، أجراها روبرت ليستون (١٧٩٤–١٨٤٧) أستاذ الجراحة في مستشفى كلية لندن الجامعية. وقد نشر ليستر أبحاثًا مهمة عن الفحص المجهري بينما كان لا يزال طالبًا في كلية الطب، وبعد تخرُّجه في كلية لندن الجامعية، توجَّه إلى إدنبرة لمواصلة دراساته في مجال الجراحة، وهناك تزوج من ابنة أستاذه وقضى عقدين من الزمان تقريبًا في إدنبرة وجلاسجو، قدَّم خلالهما نظامه للجراحة التطهيرية في عام ١٨٦٧.

استلهم ليستر عمله من أبحاث باستور عن دور الكائنات الحية الدقيقة في عملية التخمُّر والتعفُّن وعمليات حيوية أخرى، وقد استشهد بباستور في مؤلَّفه الأصلي. وبالمزج بين الرؤى التي قدَّمها باستور والمعرفة بأن حمض الكربوليك (الفينول) استُخدِم بنجاح في تطهير مياه الصرف الصحي، استخدم ضمادات الكربوليك على الجروح الناتجة عن العمليات الجراحية ليثبت إمكانية إغلاق الجرح الناشئ عن الكسور المضاعَفة (حيث تنفذ العظام المكسورة من الجلد؛ ومن ثَمَّ تصير مكشوفة للجوِّ) باستخدام هذا العلاج. كان الحل البديل المعتاد في حالة الكسر المضاعَف هو البَتر؛ إذ كانت المحاولاتُ الجراحية لإغلاق الجرح، ومن ثَمَّ إنقاذ الطرف المُصاب، محدودةً للغاية. كان المنطق الذي استند إليه ليستر معقَّدًا، وقد أعادَ تركيب عمله السابق في مرحلة لاحقة حتى يجعل الأمر يبدو وكأن نظام التطهير الذي دعا إليه كان قائمًا على نظرية جرثومية لتلوُّث الجروح، ولكنه في الواقع كان قائمًا على اعتقادٍ بأن جسيمات الغبار العالقة في الجوِّ تنقل مصادر التلوث (في تجارب التولُّد الذاتي كان باستور يبعد الغبار عن قواريره)، وأنه إذْ يضمد الجروح بضمادات مغموسة في حمض الكربوليك، فإنما يستبعد مصادر تلوُّث الجروح.

fig20
شكل ٥-٤: يتضح من تحضير مريضةٍ لعمليةِ استئصالِ ثديٍ مدى التعقيد والفوضى اللذين اتسمت بهما جراحات جوزيف ليستر التطهيرية في الواقع، من الناحية العملية. هذه الصورة مأخوذة من كتاب (١٨٨٢) لأحد أتباعه، هو السير ويليام واتسون شين.

نجح النظامُ الذي وضعه ليستر وبدأ يدرِّسه لطلابه، ولكن رفضه عدد من الجرَّاحين، لا سيَّما أولئك الذين كانوا يحققون نتائج جراحية جيدة بالفعل باتباع النظافة فحسب. وقد قدَّمت الحرب الفرنسية البروسية تجربة مقارَنة مناسبة — وإن لم تكن مُخَطَّطًا لها — إذْ كان الجرَّاحون الألمان قد بدءوا يعتمدون التدابير التي دعا إليها ليستر، فيما أحجمَ عنها معظم نظرائهم الفرنسيين؛ فتفوَّقت التجربة الألمانية في الجراحة أثناء الحرب على التجربة الفرنسية بوضوح، وبدأ اسم ليستر يرتبط بنوع محدد من التقنيات الجراحية. أمَّا ليستر نفسه فطالما كان جرَّاحًا محافِظًا إلى حدٍّ كبير وظلَّ يقتصر في عمله على المجالات التقليدية للجراحة؛ أيِ الأطراف والمفاصل والمثانة والأجزاء السطحية من الجسم.

ظلَّ ليستر يعدِّل في نظامه التطهيري؛ إذ اخترع رشَّاش الكربوليك وغيَّر روتين الرعاية اللاحقة للجروح الناشئة عن الجراحة، فاستمرَّ في تحقيق نتائج جيدة واكتسبَ شهرة على المستوى الدولي. كان ثمة قدر كبير من الاحترام المتبادل بينه وبين باستور، وكثيرًا ما اعتليا المنصة ذاتها في المحافل الطبية الدولية التي تزايد شيوعها في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. ومع تزايد التقدير لدور البكتيريا في تلوُّث الجروح، بدأ نظامه يغيِّر تدريجيًّا مبرراته النظرية ويوثِّق ارتباطه أكثر بعلم البكتيريا الجديد. كان عمر الجراحة التطهيرية قصيرًا على أي حال؛ إذ سرعان ما استُعيض عنها بالجراحة المعقَّمة، التي لا تستهدف قتل الجراثيم المسبِّبة للتلوث، وإنما استبعادها من الأساس. فقد استبعدت عملية التعقيم البكتيريا بأشمل صورة ممكنة؛ عن طريق تعقيم المعدات والأدوات والضمادات وأيدي الجرَّاحين وجلد المريض؛ وذلك استنادًا إلى المبدأ العام الذي مفاده أنَّ أنسجة الجسم خالية من الجراثيم في الأساس، وإذا أمكَن استبعاد البكتيريا أثناء العملية الجراحية، فمن شأن الجرح أن يلتئم بصورة طبيعية، وفق ما أسمَاه الجرَّاحون منذ زمنٍ «المقصد الأول»؛ أيِ التئام الجرح دون تكوُّن صديد. وفي النهاية، فتحت مبادئ التعقيم تجويفات الجسد الثلاثة الكبرى — البطن والصدر والجمجمة — أمام المِبْضَع، وأصبحت الجراحة تخصُّصًا فائق الجاذبية في الثُّلُث الأخير من القرن، ووجدت تقنياتٌ ابتكرها كوخ وآخرون في معمل علم البكتيريا تطبيقًا طبيعيًّا لها في مسرح العمليات الجراحية، الذي تحوَّل شيئًا فشيئًا إلى مكان منفصل يخضع لتنظيم مُحكَم في المستشفيات.

عندما أجرى الجرَّاحون عملياتهم على التجويفات التي كانت مُحَرَّمة فيما مضى، كانت معدلات نجاحهم منخفضة جدًّا في البداية؛ إذ نشأت مشكلات أخرى، مثل النزيف الحاد والعدوى. (القناة الهضمية — على سبيل المثال — مفتوحة على العالم الخارجي من طرفيها؛ ومن ثَمَّ فالأمعاء ليست معقَّمة مثلما تكون معظم أعضاء الجسم الداخلية عادةً.) واقتنع الجرَّاحون المتلهِّفون لاستخدام مباضعهم بمقولة «فرصة للقطع هي فرصة للعلاج»؛ إذْ بدا أنَّ حالات كثيرة استطاع الأطباء تشخيصها ولم يستطيعوا التصرُّف حيالها أصبح من الممكن فجأة معالجتها على نحو جذري. ينبغي هنا أن نتذكر الوفيات التي كانت تحدث في عمليات زراعة القلب المبكرة قبل أن ندين عهدًا سابقًا، ولكن هياكل المحاسبة الحديثة لم تكن قائمة آنذاك، وكان ثمة علاقة بين الجرَّاحين والمرضى كأفراد، واستُخدِم المِبْضَع في حالاتٍ ما كنَّا لنعتبرها تستأهل جراحة؛ فكانت المبايض تُزال إثر الهستيريا أو آلام الحيض، بينما أُزيلَت أجزاء كبيرة من الأمعاء بسبب الإمساك أو التعب المزمن، وكانت اللوزتان تُزالان بصفة روتينية، على سبيل الوقاية من جميع أنواع الشكاوى في مرحلة الطفولة. وقد حظي مبدأ «العدوى البؤرية» بشعبية هائلة في أوائل القرن العشرين، واستُخدِم مسوِّغًا لإزالة أجزاء من الأمعاء والأسنان واللوزتين وأعضاءٍ أخرى لشتى أنواع العِلل، بما في ذلك الجنون.

fig21
شكل ٥-٥: عالِمُ الطب بطلًا: اجتذب عيد الميلاد السبعون للويس باستور في عام ١٨٩٢ إشادة دولية. وهنا، يحيِّي ليستر المُعلِّم، أمام جمهور بالآلاف.

من ثَمَّ، قامت الجراحة في العصر الحديث على أساس علاقات القوة الجديدة بين الجرَّاحين والمرضى، فقد اتسع نطاق ما يمكن أن يفعله الجرَّاحون، وكان على المرضى أن يثقوا في جرَّاحيهم. ثمة ميل إلى تسليط الضوء في الأدبيات التاريخية على العمليات الشاذة في الأدبيات التاريخية، أو العمليات التي اتسمت بارتفاع معدلات الوفاة وضآلة فرص النجاح. وبالنظر إلى التطورات الفنية المُبهِرة التي شهدتها الجراحة في نصف القرن السابق للحرب العالمية الأولى، نجد أنَّ تقنية الجراحة نمت بمعدل أسرع من شبكة الدعم التي تستند إليها (عمليات نقل الدم، والمضادات الحيوية المقاوِمة للعدوى، ومراقبة غرفة العناية المركَّزة)، كما نجد أنَّ المعايير الأخلاقية الحاكِمة (في المقام الأول) للممارسة الطبية والجراحية الحديثة لم تكن قائمة آنذاك. وكان ثمة تباين كبير في أساليب التشخيص وكذلك في القدرات الفنية للجرَّاحين؛ لذا كان — ولا يزال — حَريًّا بالمرضى أن يُحسِنوا اختيار جرَّاحيهم.

تَمثَّل الإرث العملي الثاني الكبير لعلم البكتيريا في القدرة على فهم مصادر العدوى والأمراض الوبائية وأنماطها، والتوصُّل إلى الاستجابة الملائمة لها؛ فكان طب المعامل بذلك مرشدًا للطب المجتمعي؛ فقد كان مختصُّو علم البكتيريا «خبراءَ» من نواحٍ لم يرقَ إليها الجيل القديم من مختصي الصحة العامة؛ ومن ثَمَّ تمتع مختصو علم البكتيريا بثِقَلٍ أكبر لدى الحكومات والساسة؛ فقد دعا شادويك إلى فكرة المياه «النظيفة»، ولكنَّ مدلول النظافة تغيَّر مع إدراك أنَّه ثمة بكتيريا مُمرِضة محدَّدة تنتقل في المياه؛ ومن ثَمَّ ينبغي تحليل المياه قبل اعتبارها صالحة للشرب، يسري ذلك أيضًا على المواد الغذائية المُضافة وجَودة اللحوم ونقاء الهواء ومجموعة العناصر الأخرى التي نتناولها. وقد أخذ العلماء زمام المبادرة في تحديد تلك العناصر، ووفَّروا أساسًا لنهج شامل في مجال الصحة العامة.

الفسيولوجيا: العَزْم الجديد

كان علمُ البكتيريا أكثرَ فروع العلم تأثيرًا في حياة الأفراد العاديين في أواخر القرن التاسع عشر، أمَّا الفسيولوجيا التجريبية فكانت الفرع الذي أثار أشدَّ احتجاجات ملموسة؛ إذْ بدأ مختصُّو الفسيولوجيا يُجْرُون العمليات على الحيوانات الحية بانتظام. وكان علماء البكتيريا يستخدمون الحيوانات كثيرًا أيضًا، ولكن تجاربهم لم تُثِر قدر المشاعر التي أثارتها الفسيولوجيا التجريبية، لا سيَّما في بريطانيا؛ حيث كان علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) أكثر تطوُّرًا من علم البكتيريا (البكتيريولوجيا).

أنشأ الألمانُ مَعاهدَ في جميع فروع العلوم الطبية، وكان أبرز معهد للفسيولوجيا هو معهد كارل لودفيج (١٨١٦–١٨٩٥) في جامعة لايبتسيج؛ حيث كان الطلابُ يأتون من جميع أنحاء العالم بهدف الدراسة. وكان لودفيج أحد أعضاء مجموعة مكوَّنة من أربعة فسيولوجيين من الشباب أصدروا بيانًا في العام الثوري ١٨٤٨، أعلنوا فيه أن مشاكل الفسيولوجيا كافة يمكن حلُّها عن طريق التطبيق المنهجي لعلمَي الفيزياء والكيمياء. ومضى اثنان من أفراد المجموعة الباقين في طريقهما ليرأسا معاهد فسيولوجية في برلين وفيينا، بينما تحوَّل الرابع — هرمان فون هلمهولتس — إلى الفيزياء في نهاية المطاف؛ حيث كان — إضافةً إلى عمله المهم في مجال الكهرومغناطيسية وحِفظ الطاقة — خبيرًا في فسيولوجيا أعضاء الحواس الخاصة، وفيزياء السَّمْع. وقد احتفظ أعضاءُ المجموعة الأربعة بتوجُّههم الفيزيائي الأساسي إزاء الفسيولوجيا. تركَّزت اهتمامات لودفيج البحثية الرئيسية في وظائف القلب والكُلى، وقد راج كتابه المرجعي في كلٍّ من الأراضي الناطقة بالألمانية وخارجها، عبر التراجم. كانت الألمانية هي لغة العلوم الطبية في تلك الفترة؛ لذا حظيت الطبعة الألمانية نفسها بقُرَّاء كُثُر على الصعيد الدولي. ثم بدأت معامل هؤلاء الفسيولوجيين وغيرهم من الفسيولوجيين الألمان تتلوَّن بصِبغة الحداثة؛ إذِ استفادَ العلماءُ أنفسهم من أحدث الوسائط التكنولوجية المساعِدة؛ فاخترع هلمهولتس مِنظَار العين، وابتكر لودفيج الكيموغراف (مخطاط التموُّج)، وهو عبارة عن أسطوانة دوَّارة موصولة بآلة تسجيل تتيح قياس التغيُّرات الوظيفية المستمرة؛ مثل: النبض أو انقباض العضلات أو التغيُّرات في نسبة التوتُّر. وقد أصبح التسجيل التخطيطي للأحداث الحيوية سمة متزايدة الظهور في مجال أبحاث الطب الحيوي ومجال الطب السريري.

ازدهرت الفسيولوجيا في ألمانيا، على الرغم من أنَّ الفسيولوجي الرائد في ذلك القرن كان فرنسيًّا؛ ألا وهو كلود برنار (١٨١٣–١٨٧٨)، الذي درس في كلية طب باريس، وأقرَّ بأنَّ التوجُّه السريري المسيطر عليها قد بلغ مداه في فهم آليات المرض أو في البحث عن علاجات جديدة. كان قد تحصَّل من زيجته الفاشلة على صداق أتاح له مستقبلًا مِهَنيًّا في مجال البحوث الطبية، وإنْ زادته تجاربه على الحيوانات بُعدًا عن زوجته وابنته. كان برنار في المقام الأول بارعًا وموهوبًا في أمور الجراحة في معمله، وقد وضَّح عملُه المبكر دورَ الكبد في عملية استقلاب السكر، ووظيفة البنكرياس في عملية الهضم. وقد توصَّل إلى اكتشافات مهمة أخرى فيما يتعلق بوظائف الأعصاب الطرفية، وشرَح كيفية تسبُّب أول أكسيد الكربون في التسمم، وأنتجَ نوعًا من مرض السكري من خلال الإتلاف الانتقائي لجزء من الدماغ. وكان أكثر ما أثار اهتمامه هو الكيفية التي تتفاعل بها الآليات الفسيولوجية لإنتاج حيوان كامل سليم الوظائف. وقد ساعده مفهومه عن «الوسط الداخلي» في شرح آلية عمل الكائنات الحية بإبقاء مُعامِلات فسيولوجية كثيرة ضمن نطاق محدود؛ مثل درجة الحرارة والأملاح الأيونية في مجرى الدم، ومستوى السكر في الدم. وقد أعاد الفسيولوجي الأمريكي والتر كانون تسمية ذلك المفهوم فيما بعد إلى «الاستتباب»، وهو لا يزال جوهريًّا في فهمنا لمسائل الصحة والمرض والتطور.

تميَّز برنار بمنحًى فلسفيٍّ في فكره، وقد لخَّص مساره البحثي — فضلًا عن صياغة فلسفة للبحث الطبي — في كتابه الكلاسيكي «مقدمة إلى دراسة الطب التجريبي» (١٨٦٥)، وهو كتاب لا يزال جديرًا بالقراءة حتى الآن. وفيه زعم برنار أن المعمل هو الملاذ الحقيقي للعلوم الطبية، فلا يمكن لعلم تجريبي حقيقي أن يزدهر في المستشفى؛ حيث يحتاج المرضى إلى رعاية ويستتبع عدد المتغيرات ضرورة كون المشاهدات مجزَّأة. وفي المعمل فقط يمكن للقائم بالتجربة أن يتحكم في المتغيرات ويثبِّتها، بحيث تكون التغيُّرات واضحة لا التباسَ فيها. قال باستور ذات مرة إن الصدفة تُحظي الذهن المُهَيَّأ، وقد كان برنار مدرِكًا تمامًا لدور المشاهدات الوليدة المصادفة التي تقوده إلى مسارات بحثية مُثمِرة. على سبيل المثال، عادةً ما يكون بَول الأرانب قلويًّا وعكِرًا، ولكن عندما لاحظَ أنَّ بَول الأرنب يصير حمضيًّا عندما تكون معدته فارغة، استنتج من ذلك أنَّه يستقلب أنسجته ذاتها، وقد أدَّى به ذلك الاستنتاج إلى بحث عملية الهضم لمواد غذائية مختلفة. تتمثل فلسفته الاستكشافية فيما صار يُدعَى الآن الطريقة الافتراضية الاستنتاجية؛ حيث يضع العالِم فرضيةً عن ظاهرةٍ ما، ثم يستنتج ما يمكن أن يَحدث نتيجة لفرضيته، ويُجري التجارب ليعرف ما إذا كانت تلك الفرضية سليمة أم لا، مع الحرص على تنحية توقعاته جانبًا أثناء إجراء التجربة. وشبَّه برنار تلك التوقعات بالقبعة التي تمثِّل هنا أداة التفكير؛ والعالِم الجيد يضع قبعته على الرَّفِّ أثناء إجراء التجربة، ولكنه لا ينسى أن يرتديها مرة ثانية عندما يغادر المعمل، حتى يفكر فيما شاهده ودلالاته. وعلى أساس تجربته، يمكن أن يؤكِّد فرضيته أو يدحضها أو يعدِّلها، ثم يجري عليها مزيدًا من الاختبارات إذا لزم الأمر.

رأى برنار أن أعمدة الطب التجريبي الثلاثة هي: الفسيولوجيا، المَعنيَّة بالوظائف الطبيعية؛ والباثولوجيا، التي تبحث في الوظائف غير الطبيعية؛ والأساليب العلاجية، المَعنيَّة باكتشاف العلاجات الفعَّالة. وقد ساهمَ بأبحاثه في كلٍّ من تلك المجالات الثلاثة، ولكن النقطة الجديرة بالاهتمام هي أنَّ كل مجال منها يجب أن يستند إلى تجارب مُحكَمة، وهو هدف لم يكن يتسنى تحقيقه إلا في المعمل. كان من الممكن توفير البيانات الأوَّلية والمساعدة في صياغة أسئلة وثيقة الصلة بالموضوع من خلال العمل الميداني وتشريح الجثث والمشاهدات الناتجة عن مراقبة المريض في فراشه، إلا أن الهدف الجوهري للعلم هو توضيح الآليات والأسباب. كان برنار وباستور صديقَين، وقد أدرك برنار أهمية عمل باستور، حتى وإنْ كان قد تُوفي قبل أن يكشف عن إمكاناته كاملةً. أمَّا باستور فرأى في برنار مدافِعًا طليق اللسان عن المنهج التجريبي في الطب؛ الذي مثَّل المستقبل.

وعلى الرغم من أنَّ الفسيولوجيا التجريبية تحمَّلت وطأة الحركة المناوئة لتشريح الحيوانات الحية، فلم يَصدر تشريعٌ لتنظيم التجارب الحيوانية إلا في بريطانيا. في البداية أثار قانون القسوة ضد الحيوانات لعام ١٨٧٦ قلق الباحثين في مجال الطب، ولكنه في الواقع قدَّم إطارًا معقولًا لإجراء الأبحاث القائمة على الحيوانات، وساعد — بإبعاده الأبحاث عن المعامل الخاصة في منازل العلماء — على إضفاء الطابع المؤسسي عليها في المنشآت العامة والجامعات. كانت أهم أداة للفسيولوجيين هي التخدير؛ فهو لم يمنع شعور حيوانات التجارب بالألم فحسب، وإنما يسَّر أيضًا ظروف إجراء العمليات. كذلك خدمت تِقْنِيَتَا التطهير والتعقيم علم الفسيولوجيا، وهو مثال آخر على الدور الذي يلعبه الطب السريري والعلم التجريبي في تعزيز كلٍّ منهما للآخر.

أفادت الأبحاث الفسيولوجية عددًا من تخصُّصات الطب؛ فطب الأعصاب — على سبيل المثال — كان يعتمد على توضُّع الدماغ، واستفاد أطباء القلب من الأبحاث القائمة على الحيوانات في موضوعَي تقلُّص القلب وتنظيم ضربات القلب. كذلك فقد تسنَّى إنشاء طب الغدد الصماء باكتشاف الهرمونات، على يد فسيولوجيَّيْن: إرنست ستارلِنج (١٨٦٦–١٩٢٧) وويليام بايليس (١٨٦٠–١٩٢٤). فتَخصُّصا الطب والجراحة لم يكونا «طبيعيَّين» ببساطة؛ وإنما اعتمدا أيضًا على أنشطة جماعات الأفراد الحريصين على مستقبلهم المهني ومكانتهم. ولكن عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كان لدى الطب والجراحة مخزونٌ وفير من المعرفة يركنان إليه، وكان مصدر هذا المخزون هو المعمل، وتم جمع هذا المخزون على نحو متزايد على أيدي أشخاصٍ ينتسبون إلى مجال العلوم الطبية، لا الطب السريري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤