الفصل السادس

الطِّبُّ في العالم الحديث

ماذا بعد؟

إنَّ الفصول الخمسة الأولى مرتَّبة ترتيبًا شبه زمنيٍّ، بدءًا بأبُقراط وانتهاءً بالحرب العالمية الأولى، أمَّا هذا الفصل فمعنيٌّ بالطب في القرن الماضي، وفيه نستعرض بإيجاز الأهمية الحالية لكلٍّ من «أنواع» الطب الخمسة: ممارسة الطب عند فراش المريض، وطب المكتبات، وطب المستشفيات، والطب المجتمعي، وطب المعامل؛ فلكل نوع من الأنواع المذكورة حيِّزٌ مخصَّص له في ميزانيات الرعاية الصحية الحديثة وفي حياة المرضى والأطباء.

كانت القوة المحرِّكة وراء الطب الحديث هي التكلفة، فالسؤال الأكثر إلحاحًا الذي تردَّد أكثر من اللازم فيما يتعلق بالرعاية الطبية خلال الجيل أو الجيلين السابقين كان: هل التكلفة معقولة؟ هذا سؤال عابر للحدود الوطنية، ويسري على الأنظمة التي تموِّلها الضرائب مثل هيئة الخدمات الصحية الوطنية في بريطانيا، أو التأمين الخاص والرعاية المقدَّمة مقابل رسوم في الولايات المتحدة الأمريكية، أو الوظائف الصحية والمساعدات الطبية الأساسية في أفريقيا. فمسألة «الاحتياجات» الصحية — أيًّا كانت طريقة قياسها — تبدو مرنة إلى أبعد حد؛ فكلما زاد توفُّرها، زاد الطلب عليها، وقد حدَّدت التكاليف الطبية المتنامية باستمرار شكل الطب الحديث. وفي الوقت نفسه، زادت فعالية الطب بأساليب لم يكن أحد — ولا حتى أوسع الناس خيالًا في الماضي — لِيدركها؛ ومن ثَمَّ، فقد احتلَّ الاهتمام بالكفاءة موقع الصدارة، ودخلت الرعاية الطبية حيِّز الأنشطة العالية الربحية، وصارت تعمل وفق كثير من الاستراتيجيات المعمول بها في الشركات الدولية، بل إنَّ كثيرًا من متعهدي الرعاية الطبية شركاتٌ دولية بالفعل، تُحرِّكها دوافع التربُّح. ويشير قادة دوائر الأعمال إلى أنَّ الشركة التي تُقدم منتجاتٍ رديئةً أو تكلفتُها مبالَغٌ فيها سوف تخسر أمام منافسيها، أمَّا منتقدو شركات الخدمات الطبية الحديثة فيشيرون إلى أنَّ إصلاح الجسد والوقاية من المرض ينبغي ألا يكونا مثل إصلاح السيارات أو بيع اللُّعب. لا يزال الجدل مستمرًّا، ونقاط الاتفاق قليلة.

الطب عند فراش المريض: التراث الأبُقراطي

لا يزال أبُقراط شخصية يُحتَجُّ بها كثيرًا حتى يومنا هذا، والمعالِجون على مختلف صنوفهم وأنواعهم — من الأطباء الغربيين الممثِّلين لتيار الفكر الرئيسي إلى أنواع كثيرة من المعالِجين بالطب البديل — يعتبرونه الأب المؤسِّس لمهنتهم. وثمة سِمَتان للصورة الأبُقراطية متَّصِلتان إحداهما بالأخرى، ولا تزالان جذابتين؛ ألا وهما: شمولية مذهب الأخلاط، وأهمية المريض.

فالشمولية عادت شعار زمننا المعاصر، يراها معظم المُعلِّقين على أنَّها رد فعل للنزوع إلى الاختزال المستمرِّ في العلوم الطبية الحديثة؛ إذْ كان المحور في البداية هو الجسد، ثم الأعضاء، ثم الأنسجة، ثم الخلايا، والآن الجزيئات؛ فلدينا معاهد للطب الجزيئي، على غرار ما فعلته الجامعات الألمانية في القرن التاسع عشر من إنشاء معاهد للفسيولوجيا أو علم البكتيريا أو الباثولوجيا. وإذا نظرنا إلى المسألة بموضوعية (نادرًا ما ينظر الناس إلى صحتهم أو إلى مسألة الرعاية الصحية نظرةً موضوعية)، فسنجد أنَّ الطب الجزيئي يمثل ببساطة تتويجًا لاتجاهٍ حفَّز الأطباءَ منذ القرن السابع عشر على الأقل على تخفيض مستويات تحليل الأمراض، وذلك جزءٌ لا يتجزَّأ مما يمكن أن نصفه عن حَقٍّ بتقدُّم الطب والعلوم الطبية.

إلا أنَّ ذلك الأمل الدائم في تخفيض مستويات التحليل باستمرار لم يلقَ قبولًا لدى الجميع، ولا حتى فيما بين ممارسي الطب؛ فشعورُ أننا «نقتل لنشرِّح» كان أسبق على واضِع تلك العبارة، الشاعر الرومانسي ويليام وردزوورث (١٧٧٠–١٨٥٠)؛ فقد شَنَّ الرومانسيون حَربًا ضد الإصرار على تحليل الأجزاء على حساب الكُلِّ. وعقب أهوال الحرب العالمية الأولى، والنمو السريع لسمة التخصُّص في الطب، شَعَر أطباءُ كُثُر بالحاجة إلى أساس جديد للطب. اتَّخذت الحركةُ الشمولية الناشئة أبُقراط رمزًا لها، وحاولت النظر إلى المرض من منطلق شمولي؛ مثل: بِنية المريض وتكوينه. شجَّع الأطباءُ مرضَاهم على العودة إلى الطبيعة، وتناوُل الأطعمة البسيطة، وارتداء الملابس العملية (أو التجرُّد منها؛ فقد كان مبدأ العُرْي جزءًا من تلك الحركة)، والحياة وفق إملاءات الطبيعة. اجتذبت الحركة عددًا من الأطباء المشاهير، لا سيَّما أولئك الذين كانوا متشكِّكين إزاء العلوم التجريبية وفكرة التخصُّصات الطبية، ونتجَ عنها عددٌ من التجارب الملموسة. في بريطانيا، كان أشهرُها مركزَ الصحة في حي بيكهام بجنوب لندن، الذي افتُتِح عام ١٩٢٨، وقد ذهب مؤسِّسوه إلى أنَّ الطب ركَّز على المرض فترة أطول من اللازم، وأنَّ السمات البيولوجية للصحة ينبغي أن تكون مَحَطَّ اهتمامه الأول. وقد شجَّع الحياة الأُسَرِيَّة، وحَثَّ الأُسَر على التردُّد على المركز بانتظام، والمشاركة في أنشطته البدنية والاجتماعية، التي لم تكن تختلف كثيرًا عن الأنشطة المقدَّمة في نوادي اللياقة البدنية المعاصرة.

إلا أنَّ الحركة الشمولية في الطب لم تكن يومًا أكثر من تعبير عن قِلَّة، وسرعان ما تبخَّر تأثيرها بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يُعزَى جزئيًّا إلى تبنِّي عدد من الأطباء النازيين لها، وإلى أنَّ الطائفة الجديدة من المستحضرات الحيوية والعقاقير المعجِزة — وأهمها: الأنسولين والبنسلين والكورتيزون — كانت تَعِد بأنَّ البحوث التجريبية من الممكن حقًّا أنْ تشفي جميع الأمراض. وقد تصدَّر «العصر الذهبي» للطب الحديث الثُّلُث الأوسط من القرن العشرين، وحظيَ الأطباءُ بعهد غير مسبوق من الهيبة والثقة، وساد ظَنٌّ بأنَّ الأمراض المُعدِيَة انتهت تقريبًا، وأنَّ الاضطرابات النفسية ستتسنَّى السيطرةُ عليها باستخدام عقَّار التورازين الجديد وأنواع أخرى من العقاقير المضادة للذُّهان، وبدأت علاجات السرطان تلوح في الأفق.

ليس من قبيل المصادفة أنَّ الممارسة العامة — أو طب الأُسرة — شهدت تراجعًا في مستواها خلال تلك العقود؛ ففي بريطانيا، افتُرِض أنَّ الممارس العام هو الطبيب الذي تنقصه المهارة اللازمة لكي يصير استشاريًّا في هيئة الخدمات الصحية الوطنية الجديدة، أو استشاريًّا يعمل لحسابه الخاص في شارع هارلي ستريت؛ فقد كانت التخصُّصات الطبية أو الجراحية هي الهدفَ المنشود لأيِّ طالب طب؛ إذْ كان الاختصاصيون هم النُّخبة التي تسوَّدت مهنة الطب.

وبدءًا من ستينيات القرن العشرين، بدأت الأمور تتغيَّر؛ فقد أشعلت حرب فيتنام فتيل جيل الاحتجاجات الذي كان متشكِّكًا إزاء السلطة بجميع أشكالها. وفي الوقت نفسه، قد بدأت تتسارع وتيرة الهجمات على المِهَن — بوصفها اتِّحاداتِ عُمَّالٍ خفِيَّةً — المعنِيَّة بالدخل وحرية التصرف حسب رغبة أعضائها؛ فقد شَنَّ الناقِد الاجتماعي النمساوي إيفان إيليتش (١٩٢٦–٢٠٠٢) هجومه على أرباب المهن التربوية والطبية، وغيرهما من المهن، زاعمًا أنَّ الأطباء يخلقون أمراضًا (أي: «أمراضًا ذات مَنشأ علاجي») بقدر ما يزعمون أنهم يعالجون. وحثَّ إيليتش الناسَ (ليس «المريض» أو حتى «العميل» كما أصبح المريض يُسَمَّى في الآونة الأخيرة) على التحكُّم في أجسادهم وصحتهم. ولم يكن إيليتش سوى واحد ضِمن عدد من أنصار الثقافة المضادة (في بريطانيا، بدأت السيدة ثاتشر هجومها على أصحاب المِهَن من منطلق يميني) الذين أجبروا الأطباءَ وأصحاب المهن الأخرى على التراجع. وبدأت العلاقة بين الطبيب والمريض في التغيُّر؛ إذْ مالت كفة السلطة نحو المريض.

يمكن الاستدلال على ذلك التحوُّل بذكر تطوُّرَين ضمن تطورات كثيرة حدثت؛ أولًا: بدأت إعادة صياغة طبيعة الممارسة العامة؛ فطالما كان اهتمامها ينصَبُّ على «المريض الكامل» أكثر من التخصُّصات، وقد سلَّط مايكل بالينت (١٨٩٦–١٩٧٠) — ضمن آخرين — الضوءَ على كَمِّ الاضطرابات النفسية (مثل الاكتئاب والقلق والأرق) التي يعالجها ممارسون عموميون. واضطلع بالينت بدور رئيسي في إعادة تشكيل طب الأسرة ليصير وجهًا حيويًّا ومهمًّا من أوجُه الرعاية الطبية، وأصبح تخصُّصًا أكاديميًّا، واكتسبَ مكانة مرموقة في التسلسل الهرمي الطبي. ولم يَفُتِ النقَّادَ المفارقةُ المتمثِّلة في أنَّ الممارسة العامة ارتقت بنفسها بأن تحوَّلت إلى تخصُّص «عام»، له مجموعته الخاصَّة به من بروتوكولات التدريب والاختبارات وكلية ملكية (في بريطانيا). وتَظَل الحقيقة أنَّه كان يتكيَّف مع متطلبات العصر.

تمثَّل التطور الثاني في التركيز على الرعاية الأوَّلية في الدول النامية، فالمساعدات الطبية الدولية منذ عهد عُصبة الأمم — التي تكوَّنت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى — حتى منظمة الصحة العالمية والوكالات الدولية ذات الصلة التي أُقيمَت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ركَّزت على البرامج الرأسية المدفوعة بالتكنولوجيا. واختُصَّ بالانتباه الملاريا والجدري والبلهارسيا والدودة الشِّصِّيَّة وداء كُلَّابِيَّة الذَّنَب (عمى الأنهار)، وغيرها من الأمراض المحددة. نجحت حملة استئصال الجدري نجاحًا تامًّا، فيما حققت برامج أخرى نجاحات كبيرة، ولكنَّ برنامج الملاريا باءَ بفشل ذريع.

وفي مؤتمر دولي عقدته منظمة الصحة العالمية في ألما آتا بكازاخستان عام ١٩٧٨، تحوَّلت بؤرة الانتباه رسميًّا نحو البرامج الأفقية؛ أي الرعاية الأوَّلِيَّة والتعليم والبنية الأساسية، عوضًا عن البرامج الرأسية المحدَّدَة الموجَّهة نحو فرادى الأمراض. لم تُهجَر البرامج الرأسية تمامًا، ولكن التحوُّل أدرك أهمية العام عن الخاص — من ناحية الاستدامة والكفاءة — وأعطى الأولوية لممارسي الصحة من الأفراد المسئولين عن تثقيف المرضى الأفراد وأُسَرهم وتشخيص حالاتهم وعلاجها.

إنَّ أبُقراط رمْز مترسِّخ بما يكفي لتوحُّد أي شخص معه دون خشية العواقب، إلا أنَّ كثيرًا من القِيَم التي اشتملت عليها المجموعة الأبُقراطية فيما يتعلق بممارسة الطب عند فراش المريض دخلت تيار الفكر الرئيسي من جديد.

طب المكتبات: ثمن المعلومات

أحدث ظهور الكتب المطبوعة في القرن الخامس عشر تحوُّلًا في شكل المعرفة الطبية، وبعد قرنين من الزمان، غيَّرت المجلات الطبية والعلمية النطاق الزمني للمعرفة؛ فالكتب يمكن استعجال طباعتها بغية الإبلاغ عن اكتشاف أو نظرية جديدة مثيرة، ولكنها من الممكن أيضًا أن تكون نتاج تأمُّلات متأنِّية استغرقت عمرًا كاملًا، أما المجَلَّات — بجدول صدورها المنتظِم — فكانت مُعَدَّة لمواكبة أحدث التطوُّرات. كانت المجلات الأولى في معظمها من إصدار الجمعيات العلمية للقرن السابع عشر، وحظيَ فيها الأطباء والموضوعات الطبِّية بتمثيل لائق، وبدءًا من القرن اللاحق بدأ ظهور المجلات العلمية المتخصِّصة. وبحلول العقد الأول من القرن التاسع عشر، لاحت بوادر نمو مُطَّرِد، وإنْ كان ذلكَ قد تمثَّل في إصدارات سنوية جديدة أقل من العدد الذي صار معتادًا لدينا الآن؛ نظرًا لنشأته على أساس متدنٍّ. وأتاحت المجلات الأسبوعية — مثل المجلة التي يُطلَق عليها الآن «ذا نيو إنجلاند جورنال أوف مديسِن» (١٨١٢) ومجلة «لانسِت» (١٨٢٣)، وكلتاهما صوت مسموع في مجال الطب حتى الآن — سرعةً أكبر في عملية النشر، كما شجَّعت المقالاتِ الافتتاحيةَ والأنباءَ والمراسلاتِ، وكلُّها اضطلعت بدور مهم في تكوين مهنة الطب بشكلها الحديث.

وقد كثُرَت التنبؤات بزوال الكتب والمجلات المطبوعة من الوجود خلال العقدين الماضيين، عندما أحدث كلٌّ من الكمبيوتر والإنترنت والنشر الإلكتروني تحوُّلًا في أساليب نشر المعرفة. إلا أنَّ تلك النبوءات لم تتحقق، ولا تزال الكتب والمجلات تصدر بوتيرة متزايدة. تعني القواعد الاقتصادية لعملية النشر أنَّ التغيُّر سيأتي في النهاية تدريجيًّا بلا شك، وعلى الرغم من ذلك، يعيش «طب المكتبات» حاليًّا في عصر الكمبيوتر مثل بقيتنا؛ مما كان له أثران مهمَّان على الأقل في مجال الرعاية الصحية.

أولًا: لقد تغيَّرت العلاقة بين المرضى وأطبائهم في ظل سهولة حصول الأفراد على المعلومات الطبية حاليًّا؛ فالمريض المهتمُّ بمعرفة تبعات تشخيصٍ أو علاجٍ ما يمكنه أن يسأل الطبيب، أو أن يتوجَّه إلى المكتبة. وقد ازدادت تلك العملية سهولةً بظهور الإنترنت، الذي شجَّع المرضى على زيادة مشاركتهم في الرعاية الطبية التي يتلقَّونها. وتلك الظاهرة لم تكن أكثر من إبرازٍ لعمليةٍ لاقَت ترحيبًا منذ جيل أو أكثر، وهي تتطلَّب أن يكون العاملون في مجال الطب أكثر قدرةً على التواصل، وصارت مهارات الاتصال تُدَرَّس الآن (بدرجات متفاوتة من النجاح) في كُلِّيَّات الطب، وتُسْفر أيضًا عن مشكلات؛ إذ إنَّ افتقار الإنترنت إلى التنظيم يستتبع احتمال تلقِّي المرضى معلوماتٍ منقوصةً أو متحيِّزةً أو خاطئةً من الأساس. وقد حوَّل الاهتمامُ في العصر الحديث بحقوق المرضى وسهولة الوصول إلى المعلومات موازينَ القوى بين الأطباء وكثيرٍ من مرضاهم. وهذا وضع مفيد في معظمه، ويُلزِم الأطباء بقضاء وقت أطول مع مرضاهم.

ثانيًا: حدث تحوُّل جوهري في سجلات المرضى نتيجة ثورة المعلومات الجديدة. ثمة قضايا كبرى متعلقة بالوصول إلى المعلومات وسِرِّيَّتها، وأي خطط وطنية — مثل الخطة التي تحاول المملكة المتحدة تنفيذها — تكون باهظة التكلفة ولم تحقق نجاحًا حتى الآن. فالأمل في أن يصبح لدى كل مريض سجل طبي خاص به على رقاقة إلكترونية لا بأسَ به من الناحية النظرية؛ فمن شأن ذلك أنْ ييسِّر الأمور كثيرًا بالنسبة إلى العاملين في قطاع الصحة في غُرَف الطوارئ أو الحوادث، ويُمِدَّ الأطباء بما يحتاجونه من معلومات أينما يكون المريض. فعلى المدى القريب — على الأقل — ستنجح الخطة بالأساس مع المرضى المهتمين بصحتهم بالقدر الكافي لكي يتعاونوا. أمَّا وصول شركات التأمين وأصحابها إلى البيانات فقضية لم تُحَلَّ بعد، ومن المُرجَّح أنْ يظل الهدف المثالي الأسمى محفوفًا بالصِّعاب.

وإذْ تحَوَّل أمناءُ المكتبات إلى موظفي معلومات، وصار الأطباءُ يحدِّقون في شاشات الكمبيوتر عوضًا عن التعامل مع مرضاهم، ربما أصبح من حقِّ المريض المُضطرِب أنْ يفكِّر أنَّ هذا العالَم الجديد ليس هو الأصلح بالضرورة.

طب المستشفيات: ثمن الرعاية

تمتَّعت المستشفيات بمكانة محورية في الطب منذ التحوُّل الذي صاحب الثورة الفرنسية في مجالَي التعليم والفِكر الطبي. ولا شكَّ أنها تطوَّرت خلال القرنين الماضيين؛ من حيث هيئتها الهندسية وتنظيمها وتمويلها ووظيفتاها الطبية والجراحية.

فقد أصبحت هندسة المستشفيات موضوعًا خاصًّا قائمًا بذاته، مع تغيُّر المطالب الاجتماعية والاقتصادية والطبية، فكثيرٌ من المستشفيات في أوائل العصر الحديث عبَّر تصميمها عَمدًا عن أصولها وتطلُّعاتها الدينية؛ فكثيرًا ما كانت تُشَيَّد على هيئة صليب، على غرار الكاتدرائيات، وتُزَوَّد بمذبح، وكنيسة صغيرة طبعًا. وفي أجزاء كثيرة من أوروبا، وفَّرت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كُلًّا من الإلهام الهندسي وطواقم التمريض التي قدَّمت الرعاية اليومية. وفي أوروبا البروتستانتية، نشأت المستشفيات بصُوَر أكثر علمانية، وكثيرٌ من المباني التي شُيِّدَت بغرض الاستشفاء صارت تحمل أكثر من مجرد شَبَهٍ عابر بالمنازل الريفية. المستشفيات التخصُّصية الصغيرة — المَعنيَّة بأمورٍ مثل الولادة أو أمراض الجهاز التناسلي أو الجدري أو أمراض الأطفال أو أمراض الرئتين أو العيون — كثيرًا ما كانت تبدأ في منزل عادي، خُصِّص لذلك الغرض. ثم كانت المستشفيات الناجحة تُنقَل إلى مبانٍ أكبر؛ أحيانًا في منزل أكبر ببساطة، ولكنَّها ازداد نقلها إلى مبانٍ مخصَّصة لذلك الغرض. ولم تكن المتطلبات الخاصة بتلك المباني تختلف كثيرًا عن متطلبات المنزل؛ فكانت تحتوي على مطبخ، ودورات مياه أو مرافق أخرى للتخلُّص من النفايات، وحجرات للأسِرَّة، وعادةً حجراتٍ للأطباء. وكانت عمليات الجراحة أو الولادة تُجرى عادةً في سرير المريض العادي، وأحيانًا كان ذلك السرير يشاركه فيه مريض آخر.

إبَّان القرن التاسع عشر، بدأت تُوضَع شروط طبية وجراحية خاصة لبعض أوجه تصميم المستشفيات، فكانت العنابر المُشَيَّدة على شكل أجنحة — وهي غُرَف مستطيلة الشكل مُزوَّدة بنوافذ طويلة على الجانبين — سمةً من سمات المستشفيات العسكرية، وقد جَعلَت الحركةُ التي دعت إليها فلورَنس نايتينجيل في التمريض ذلك الطرازَ من العنابر طرازًا نموذجيًّا للمستشفيات العامة الكبيرة. وكان ذلك النوع من العنابر يتَّسِم بخاصيتين جذَّابتين؛ فأوَّلًا أدَّت الصفوف المزدوجة من النوافذ إلى تيسير التهوية، في عصر احتلَّت فيه النظريات الوبالية للمرض موقع الصدارة (كانت فلورَنس نايتينجيل من أنصار الوبالية والصحة العامة المتحمِّسين)؛ وكذلك يسَّر ذلك الشكل إشراف التمريض على المرضى. وأثناء تشييد مستشفى جونز هوبكنز في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، أُدرِجَ ذلك الشكل من العنابر في تصميمه.

إلا أنَّه بحلول ذلك الوقت، كان ثمة شروط أخرى؛ فقد أكَّدت المستشفيات الجامعية الألمانية على الحاجة إلى إلحاق معمل صغير بكل عنبر، يمكن فيه للأطباء أنْ يُجروا تحليلًا كيميائيًّا ومِجهريًّا للبول والدم وغيرهما من المواد. وفي معظم المستشفيات، أدَّى قبول الجراحة التطهيرية، متبوعةً بالجراحة المعقَّمة، إلى تخصيص غرف للعمليات، مزوَّدة بالمُعدَّات المناسبة من أجل التعقيم. وترتَّب على نظرية جرثومية المرض احتياج المستشفيات المتطوِّرة إلى معامل خاصة لإجراء مزارع للبُصاق والدم والبول والبراز، وترتَّب على علم الباثولوجيا الخلوية فحْصُ عينات الأنسجة للكشف عن السرطان وغيره من الاختلالات. وكثيرًا ما كان مختصُّ الباثولوجيا المقيمُ هو الذي يفحص الخَزْعَات المأخوذة أثناء الجراحة، وتتوقَّف طبيعة العملية الجراحية المُقَرَّر إجراؤها على نتيجة فحصه. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت مُعدَّات الأشعة السينية تظهر في المستشفيات؛ ممَّا استلزم توفير مساحات لها وفنِّيِّين لالتقاط الصور بالأشعة السينية وتعيين شخص لقراءتها. كذلك أصبحت العيادات الخارجية سمةً مهمةً في المستشفيات منذ سبعينيات القرن التاسع عشر.

إنَّ كل ابتكار من تلك الابتكارات الطبية والجراحية — وكثير غيرها — تطلَّب إدخال تعديل على الترتيبات الهندسية القائمة، أو تطلَّب اهتمامًا خاصًّا مع استمرار بناء مستشفيات جديدة. ينبغي ألا يشدِّد المرءُ على التشبيه التالي أكثر من اللازم، إلا أنَّه ثمة أوجُهُ تشابهٍ بين مصحَّات الأمراض العقلية والسجون في القرن التاسع عشر من ناحية، وبين المستشفيات والفنادق في القرن العشرين من ناحية أخرى. فمَصَحَّات العصر الفيكتوري وكذلك السجون كثيرًا ما كانت تُقام خارج حدود المدن؛ حيث تحيط بها الأسوار ويُشَدَّد فيها على الأمن والعُزلة. وقد تأثَّرت المستشفيات الحديثة بتصميم الفنادق والمنشآت الإدارية؛ فكلها يتعهَّد بتوفير الغذاء والأغطية النظيفة لنزلاء مقيمين لفترات زمنية متباينة، ويحتاج إلى مرافق للغسيل فضلًا عن تُجَّار جُملة يُمِدُّونهم بالمواد الغذائية اللازمة لإعداد الطعام. وكانت الأروقة المركزية الطويلة التي تصطفُّ الغُرَفُ على جانبيها سمةً مشتركة أخرى، ناهيكَ عن مسألة تنظيم إجراءات الدخول؛ بما في ذلك — في الولايات المتحدة الأمريكية والمستشفيات الخاصة في كل مكان — تصنيف تفاصيل الدفع.

وقد تزايد تبنِّي الجانب التنظيمي من إدارة المستشفيات لنماذج قطاع الأعمال؛ ففي أوائل القرن العشرين، وجَّه مديرو المستشفيات الأمريكية أنظارهم عَمْدًا إلى أساليب الإنتاج الصناعي لكي يستلهموا منها سعيهم الحثيث وراء زيادة الكفاءة، فكانت الإنتاجية وخفض التكاليف وتقديم قيمة لائقة للعميل نظير النقود التي يدفعها، مسائلَ منطقيةً ومقبولةً من وجهة نظر المديرين المَعنيين بإدارة مؤسساتهم على أساس ربحي. في أوروبا، كانت معظم المستشفيات لا تزال مؤسسات خيرية، ولكن كان من السهل أن تتغلغل فيها القِيَم ذاتها؛ إذ إنَّ الميزانيات كانت محدودة دائمًا، وكانت السمة الرئيسية في المستشفيات كافة خلال فترة القرن والنصف الماضية هي التكاليف الباهظة. وعند حدوث الصِّدام بين القيم الطبية والاقتصادية، تكون الغلبة للأخيرة عادةً، بصرف النظر عن ماهيَّة مصدر التمويل الأساسي.

إذن فالتكاليف سمة محورية في المستشفيات الحديثة، وقد اعتُمِدت أساليبُ متنوعةٌ للوفاء بها، فعندما كانت المستشفيات تُدار بالأساس من قِبل منظمات دينية أو جهات خيرية خاصة (كان المستشفى الأهلي هو الأسلوب الرئيسي لتمويل المستشفيات في بريطانيا إلى حين تأميمها في إطار هيئة الخدمات الصحية الوطنية)، كان يُعهَد بمسئولية الميزانيات عادةً إلى الجهات التي تموِّلها، وإنْ كانت نادرًا ما تستخدمها. ومع إدخال الجراحات الحديثة وتقنية الأشعة السينية وغيرها من وسائل التشخيص، صار لدى الأغنياء أيضًا — منذ أواخر القرن التاسع عشر — ما يدعوهم إلى دخول المستشفى. وتَمثَّل الحل أمام المستشفيات الأهلية البريطانية في بناء عنابر للعلاج بأجر للمُوسِرين، تدعم أرباحها العنابر الخيرية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، نشأت عنابر العلاج بأجر في مرحلة أسبق، وقدَّمت المستشفيات الخاصة — مثل مجموعة مايو كلينيك، التي أسَّسها آل مايو في مينيسوتا منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر — رعايةً طبيةً وجراحيةً للأشخاص القادرين على دفع نفقات العلاج أو الذين لديهم تأمين خاص. وحتى الآن، لا يحظى دور شركات التأمين في أوائل القرن العشرين بتقدير كافٍ في تاريخ الطب، وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من شركات التأمين الأولى أكَّدت على أهدافها الخيرية، فقد كان دافع الربح قائمًا على الدوام.

أيًّا كان نظام الرعاية الصحية المُتَّبَع، فإنَّ الدفع عن طريق طرف ثالث هو القاعدة في مستشفيات المجتمعات الغربية؛ وذلك نظرًا لتكاليفها الباهظة. وقد أصبحت تكاليف الإنشاء والتدفئة والإنارة والصيانة وتوفير المُعدَّات والعمالة في تلك المؤسسات المعقَّدة مصدر قلق متنامٍ خلال القرن الماضي. وتنوَّعت الجهات الضامنة ما بين الدولة، أو البلدية، أو منظمة دينية، أو شركة تأمين، أو جماعة خيرية، أو فرد حاكم، أو فاعل خير ثري، أو مزيج مما سبق. وتتعرَّض المستشفيات الربحية — مثل المستشفيات القائمة في الولايات المتحدة الأمريكية — لكثير من الانتقادات؛ نظرًا لضراوة سياسات قبول المرضى فيها، التي تُولِي السياسة التأمينية أهمية أكبر من التشخيص أو الضرورة الطبية. إلا أنَّ السعي وراء الكفاءة، وتبنِّي نماذج قطاع الأعمال، هما السمتان المميِّزتان للمستشفيات الحديثة كلها تقريبًا. في القرن التاسع عشر، كان الخوف من فَقْد مصدر الدخل نتيجة مرض مزمن هو الهاجس الرئيسي لدى الطبقة العامِلة، والآن صار المرض العُضال الذي يستلزم الإقامة في المستشفى لفترات طويلة، والذي لا يغطيه التأمين على نحو كافٍ، هو الهاجسَ لدى الأشخاص الذين يشعرون بالارتياح ما داموا يتمتعون بصحتهم.

وقد خفضت الاكتشافاتُ التكنولوجيةُ الجديدةُ وكذلك القيودُ الماليةُ متوسطَ فترةِ البقاء في المستشفى؛ فقد أصبح إخراج المرضى من فراش المستشفى سريعًا — حتى بعد إجراء عمليات جراحية كبرى — هدفًا جراحيًّا الآن. وثمة أدلة طبية وجيهة على صواب تلك الفكرة؛ إذ إنَّها تقلِّل احتمال الإصابة بالجلطات وقروح الفِراش وضمور العضلات، إلا أنَّ تلك الاستراتيجية تستند أيضًا إلى منطق اقتصادي؛ إذ إنَّها تقلل الفترات التي يقضيها المرضى في المستشفى. وأصبحت الإجراءات التشخيصية، التي كانت تقتضي بقاء المريض في المستشفى في عهدٍ سابق، تُجرَى الآن في أقسام العيادات الخارجية.

على الرغم من المشاكل التي تعتري المستشفيات، فهي باقية؛ لأنها تحمل ثلاث سمات معيَّنة تجعل الاستغناء عنها أمرًا مستحيلًا؛ ألا وهي: التشخيص المتطوِّر، والرعاية الوجيزة للحالات الحادة، والعمليات الجراحية. كان التشخيص هو السمة التي تميَّزت بها المستشفيات الفرنسية في أوائل القرن التاسع عشر، وحتى الآن — لأسباب مختلفة — لا يزال الذهابُ إلى المستشفى لإجراء مجموعة من الفحوصات تجربةً شائعةً في العصر الحديث. وتلتقي التكنولوجيا والعلم في إجراءاتٍ؛ مثل: قسطرة القلب، لتقييم وظائف القلب؛ أو أخذ خَزْعَة من الكبد أو الكُلى، بغية الحصول على قطعة من الأنسجة وإخضاعها للفحص المجهري؛ أو استخدام الموجات فوق الصوتية لرصد نمو الجنين في فترة الحَمل؛ أو إجراء أشعة مَقطَعِيَّة — أيِ التصوير المقطعي المحوري المُحَوسَب — أو التصوير بآلة الرنين المغناطيسي، وهما وسيلتان غير باضِعتين لتصوير البِنى الداخليَّة للجسد. ويستند هذان النوعان من الأشعة إلى مبادئ تكنولوجية وعلمية مختلفة؛ إذ يركِّب النوع الأول صورة للجسد من الداخل من خلال صور متسلسلة تُجمَّع معًا باستخدام جهاز كمبيوتر، بينما يَستخدم النوعُ الثاني مجالًا مغناطيسيًّا قويًّا تتحكم فيه موجة ذات تردد لاسلكي.

fig22
شكل ٦-١: سرعان ما وَجدت الأشعة السينية مجالات استخدام لها في التشخيص والعلاج على حدٍّ سواء. وفي هذه الصورة المأخوذة للعلاج بالأشعة السينية — عام ١٩٠٢ — ثمة واقٍ محيط بالآلة، وهو إجراء احترازي لم يكن معتادًا آنذاك. أما الطبيب نفسه فلم يكن محمِيًّا، ولا يرتدي حتى المعطف الأبيض، رمز مهنته.

ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين هاتين التقنيتين؛ فقد حصل كلا الاختراعين على جائزة نوبل، وكلٌّ منهما يُصدِر صورة ثلاثية الأبعاد تُظهر أيضًا الأنسجة الليِّنة على نحوٍ أوضح كثيرًا مما في الأشعة السينية التقليدية، وكلاهما أحدثَا تطوُّرًا جذريًّا في التشخيص والعلاج، إذْ أتاحا — على سبيل المثال — أخْذ خَزْعَات بالإبَر، وهو ما كان يتطلَّب فيما مضى جراحةً جائرة، وتطلبت كلتا الآلتين تكلفة باهظة لصنعها وصيانتها واستخدامها. ونظرًا لانخفاض مخاطر التصوير بالرنين المغناطيسي على المرضى، وما ينتجه من صورة أوضح لتكوينات الأنسجة الليِّنة الدقيقة، فقد حلَّ محل الأشعة المقطعية إلى حد كبير، ولكنَّ كليهما صارا بدورهما يرمزان منذ ثمانينيات القرن العشرين إلى قوة الطب الحديث المدفوع بالتكنولوجيا وتكاليفه. وإلى جانب ماكينات الليزر والألياف البصرية ومجموعة من الاختراعات الحديثة الأخرى، غيَّرت تلك التقنيات معالم طب المستشفيات؛ إذْ وسَّعت نطاق ما يمكن أن يعرفه الأطباء ويفعلوه، ولكنها زادت أيضًا تكاليف الرعاية الطبية إلى حدٍّ كبير.

أما السمة الثانية الباقية في طب المستشفيات فهي الرعاية الوجيزة؛ فالرَّضْحُ — على سبيل المثال — ليس مجرد فرع مهم من فروع الطب العسكري، وإنما هو أيضًا فرع يتعامل لزومًا مع حوادث السير، والجروح الناتجة عن الطعنات والطلقات النارية، والحروق، والمخاطر التي لا حصر لها التي يطرحها المجتمع الحديث. وقد زادت ظاهرةُ الإرهاب ذلك التخصُّصَ وضوحًا؛ فعند بداية الحرب العالمية الثانية، كانت البلدان الأوروبية تُجري استعدادات روتينيَّة للتعامل مع سقوط عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين، وتُوضَع الآن خطط مشابهة من أجل التعامل مع الكوارث الواسعة النطاق، إلا أن الأفراد ضحايا الحوادث والأمراض الحادة كانوا دائمًا جزءًا من مسئولية المستشفيات.

وقد أُقيمَت أماكن خاصة في المستشفيات تدريجيًّا بهدف توفير الرعاية لذوي الأمراض أو الإصابات الحادة. وبعدما أصبحت الجراحات الكبرى متاحة إثر أساليب التطهير والتعقيم التي أدخلها ليستر، أُضيفَت غُرَف الإفاقة إلى غُرَف العمليات، وأُضيفَ كذلك التمريضُ المختص برعاية مرضى الجراحة إلى طاقم العاملين بالمستشفى. وفي القرن العشرين، أمكن مراقبة ضغط الدم وغيره من العلامات الحيوية. ومع اختراع المحاليل الوريدية وتقنية نقل الدم في سنواتِ ما بين الحربين، ازدادت فعالية معالجة الصدمة الجراحية وغيرها من المضاعفات التالية للعمليات الجراحية. وفي خمسينيات القرن العشرين، أُضيفَت المراقبة المستمرة لضربات القلب إلى المُعدَّات التكنولوجية القائمة في تلك الغرف، ومع شيوع النظر إلى الأزمات القلبية على أنها تمثل حالة طوارئ طبية، نشأت وحدات العناية القلبية لرعاية المراحل الحادة من تلك الحالات. ومثلُ تلك الوحدات ليست مكانًا هادئًا بأي حال للمرضى (أو العاملين)، وفي سبعينيات القرن العشرين جرت نقاشات جادة بشأنِ ما إذا كان الأفضل هو بقاء مرضى الأزمات القلبية في منازلهم؛ حيث يجدون الراحة لا أكثر. إلا أنَّ ما تميَّزت به وحدات العناية القلبية من قدرة أفضل على التحكُّم في اختلال ضربات القلب — وهو سببٌ رئيسي للوفاة في المرحلة الحادة من حالات احتشاء عضلة القلب — فضلًا عن تقنيات الإنعاش الحديثة، كَفَلَتَا دوامها واستمراريتها، على الرغم من تكاليفها وبيئتها اللاإنسانية. ويُعالَج أيضًا في وحدات العناية المركزة هذه، المرضى الذين يتعرَّضون للسكتة الدماغية، أو غيبوبة السكري، أو غيرها من الحالات المستعصية.

ترتبط الجراحة الحديثة أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالمستشفى؛ فالتقنيات التي تتطلَّب تدخُّلًا جراحيًّا محدودًا استتبعت قيام اختصاصيِّي الأشعة وأمراض القلب والجهاز الهضمي، وغيرهم من الاختصاصيين غير الجراحيين، بإجراءات يدوية في كثير من الأحيان، إلا أنَّ الجرَّاح لا يزال يحتلُّ مكانة مرموقة في التسلسل الهرمي للطب الحديث. وإذا كانت جوائز نوبل مقياسًا للقيمة الطبية بأيِّ حال، فقد انخفض تمثيل الجرَّاحين فيها؛ لا سيَّما في الآونة الأخيرة؛ ففي مراحل مبكرة، حصل تيودور كوخر (١٨٤١–١٩١٧) على جائزة نوبل لعمله في مجال جراحة الغدة الدرقية، وكذلك حصل عليها ألِكسيس كاريل (١٨٧٣–١٩٤٤) رائد خياطة الأوعية الدموية، وإنْ كان حصل عليها بالأساس نظير أبحاثه المعنية بمزارع الأنسجة. وحصل تشارلز هوجنز (١٩٠١–١٩٩٧) — اختصاصيُّ المسالِك البولية الكنديُّ المَوْلِد — على جائزة نوبل مناصفةً (١٩٦٦) لإثباته أن أورام البروستاتا يمكن أن تكون قائمة على الهرمونات، وكان قد توصَّل إلى اكتشافه قبل رُبع قرن من حصوله على الجائزة. وحصل طبيب الأعصاب البرتغالي أنطونيو إيجاس مونيز (١٨٧٤–١٩٥٥) على جائزة نوبل مناصفةً عام ١٩٤٩ لقاء عمله المَعنيِّ ببَضْع الفَصِّ الجبهي، الذي صار الآن اكتشافًا مُخزيًا إلى حدٍّ ما؛ نظرًا لما ارتبط به من عواقب وخيمة وصلت أحيانًا إلى الوفاة. وفيما يتعلق بخدمة البشرية، كان جون تشارنلي (١٩١١–١٩٨٢) — جرَّاح العظام البريطاني — يستحق جائزة نوبل نظير أبحاثه الرائدة في تكنولوجيا استبدال مفصل الفخذ ونُهُجها الجراحية، وإنْ لم يَنَلْها. كذلك حصدت تقنية قسطرة القلب (١٩٥٦) جائزة نوبل، ولكنَّ أيًّا من متلقِّيها لم يكن متخصِّصًا في مهنة الجراحة؛ مما يؤكِّد فكرة أنَّ الإجراءات الجراحية صار يُجريها الآن أطباءُ مِن تخصُّصات غير جراحية.

وقد آلت جائزة نوبل الوحيدة في مجال الجراحة في العصر الحديث إلى ثلاثةٍ من روَّاد جراحة زراعة الأعضاء؛ وهي أحد جوانب الجراحة المعاصرة الأكثر تأثيرًا، وإن تضمَّنَت قدرًا كبيرًا من الأبحاث المناعية الأساسية، بغية السيطرة على ميل الجسم إلى رفض الأنسجة والأعضاء التي يعتبرها «أجنبية». والآن تُزرَع الكُلى والقلب والكبد بصفة روتينية من متبرِّعين (متوفَّيْن عادةً، وإنْ كان يمكن لشخص صحيحِ الكليتين أن يتخلى عن إحداهما). يمكن أن يكون الوصف الدقيق لجراحة زراعة الأعضاء هو أنها معجزة علمية وجراحية، ولكنها رمز معبِّر أيضًا عن المُعضِلات التي تواجهها الرعاية الصحية الحديثة؛ فتلقِّي عضو أجنبي عادةً ما ينشئ علاقة طبية تستمرُّ مدى الحياة بين المتلقِّي والمتعهِّدين برعايته؛ إذ يلزم تناول عقاقير قوية لتثبيط المناعة لفترات طويلة، وهي تتضمَّن أعراضًا جانبية مؤسِفة؛ منها زيادة استعداد المانِح للإصابة بالعدوى. ومما يثير مزيدًا من القلق أنَّ نقص الأعضاء المتاحة للزرع أفضى إلى ظهور سوق سوداء دولية، نشأت بالأساس على الفقراء المُعْدِمين في البلدان النامية الذين يبيعون أعضاءهم لكي تُستَخدَم في البلدان الغنيَّة.

المستشفيات تنقذ حياة البشر، كما أنها لا تزال محور التعليم الطبي والبحث السريري، لكنها تعاني مشكلات هيكلية خطيرة؛ فالتمويل مشكلة دائمة، وعلى الرغم من تمسُّك المستشفيات في كثير من الأحيان بخطاب العمل الخيري وخدمة الناس، فلا مفر من إدارتها باعتبارها مؤسسات معقَّدة. وقد شاعت مقاومة المضادات الحيوية لدى كثير من الكائنات الدقيقة المُمْرِضة، ولكن بيئة المستشفيات الغنية بالمضادات الحيوية تجعلها مكانًا مثاليًّا لتكشُّف تلك الظاهرة التطورية. تنشأ مقاومة المضادات الحيوية عن تغيُّر جيني عشوائي في كائن دقيق تَنتج عنه خاصيَّةٌ ما تمكِّنه من مقاومة المضاد الحيوي. وبأساليب كان داروين سيفهمها، تمنح تلك الخاصيَّة الوراثية الجديدة الكائن الدقيق ميزةً؛ ومن ثَمَّ ينمو مزدهِرًا، فالمكوَّرات العنقودية — وهو نوع شائع من البكتيريا يسبِّب دمامِل وكذلك أنواعًا أخطر من العدوى — كانت تُعالَج في البداية بالبنسلين، الذي مثَّل عقَّار المعجزات في أربعينيات القرن العشرين، ولكنها سرعان ما أصبحت مقاوِمة للبنسلين، ومع تطوير مضادات حيوية أخرى، اكتسبت مقاومةً ضد كثيرٍ منها أيضًا؛ والآن صارت تُعرَف بالمُكَوَّرات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين. وتلك مشكلة خطيرة في المستشفيات وفي المجتمع أيضًا؛ نظرًا لوجود حركة دائبة بين المستشفى والعالم الأشمل. وقد طوَّرت كلٌّ من العوامل المسبِّبة للملاريا والدرن وفيروس نقص المناعة البشرية مقاومةً لكثير من أساليب علاجها المعتادة؛ مما زادَ تعقيد تلك الأمراض العالمية الكبرى.

لم «تتسبَّب» المستشفيات في تلك الظاهرة، وإنما هي من صُنْع الإنسان، إلا أن مُسبِّبات المرض المقاومة للعقاقير أصبحت شائعة جدًّا الآن، حتى إنَّ المستشفيات الحديثة تفقد أحيانًا اللقب المرجو لها بوصفها «دُور استشفاء»، وتعود إلى لقبها القديم: «بوابات الموت».

الطب في المجتمع: صحتنا بين أيدينا

أنشأ دُعاة الصحة العامة في القرن التاسع عشر بِنْية أساسية في جميع أنحاء العالم الغربي، بِوَتيرات متباينة، ومراعاةً لأيديولوجيات قومية متباينة. وكما رأينا، حقَّقت تلك الحركة درجة أكبر من الفعالية بعد التوصُّل إلى فهمٍ أفضل لأسباب الأمراض المُعدِيَة، ولكن البنية الأساسية نفسها كانت على القدر ذاته من الأهمية. كانت مجموعة الأفراد (المسئولون الطبيون للصحة، ومحلِّلو المياه والغذاء، ومفتِّشو الصحة والمصانع والبنايات، وطواقم التمريض الزائرة)، وحزمة الضوابط التنظيمية المتنامية باطِّراد التي خُوِّلوا سلطة تطبيقها، ضروريَّين لتحقيق الإصلاحات التي تزايَد إدراكُ الحكومات لمسئوليتها عنها، فكان من المفترض أنْ تصبح الصحة العامة جديرة باسمها، وتشمل جميع أعضاء المجتمع بمنافعها.

بصفة عامة، كان ذلك ما حدث، ولكنَّ الفئات الضعيفة — الفقراء والأطفال والمُسِنِّين والسيدات في سِنِّ الإنجاب — كانت تُستهدَف في كثير من الأحيان وتمثِّل الشريحة الكبرى من المستفيدين. وفي حين أنَّ ذلك قد يضفي سمة الإحسان دون داعٍ على جزء كبير من الأنشطة التي شهدها مجال الصحة العامة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد قال أحد المؤرِّخين إنَّ الحرب تصبُّ في مصلحة الأطفال الرُّضَّع وغيرهم من الأطفال الصِّغار. وكانت الحرب المعنِيَّة هي حرب البوير، بما صاحبها من قلق نتيجة إعفاء عدد كبير جدًّا من الملتحقين بالجيش من المناطق العشوائية في بريطانيا من الخدمة العسكرية لأسباب تتعلق بالصحة، وقد أدَّت النتيجة غير المُرْضِيَة لهذا الخِلاف إلى مخاوف مِن أن تصير بريطانيا عاجزةً عن الحفاظ على إمبراطوريتها دون تحسين صحة شعبها ولياقته. أشعلت مخاوف من ذلك القبيل فتيل حركة الصحة العامة وحركة تشجيع الإنجاب في البلدان الأوروبية الأخرى، حتى وإنْ كان شبح الانحلال العِرقي (وزيادة ملحوظة في مُعدَّل مواليد الطبقة العاملة عن الطبقات الوسطى الرشيدة) قد مثَّل أيضًا حافزًا لحركة تحسين النَّسْل. كانت حركة الصحة العامة ذات توجُّه بيئي عادةً؛ حيث نصَّت تعاليمها على الآتي: تخلَّصوا من القذارة، والازدحام، وأخلاقيات القذارة في الجسم أو المَلبس التي ينمِّيانها، وسيكون الشعب أكثر صحة. وقد خُفِّف ذلك الشعار القديم بالتركيز على السمات الوراثية السيئة، والسيناريو الأحدث الذي مفاده أنَّ الدول الغربية لن تتمكَّن من الاستمرار في هيمنتها على العالم ما لم تُوقِفْ تناسل العناصر غير المرغوب فيها.

fig23
شكل ٦-٢: كان إجراءُ الفحص بالأشعة السينية على عامة الشعب ضِمن حملة مكافحة الدَّرَن سمةً ثابتة في مبادرات الصحة العامة منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وقد حاولت عربة الترام تلك في جلاسجو عام ١٩٥٧ — التي تستحضر إلى الأذهان صورة عربات الملاهي — أن تجعل الفحص بالأشعة السينية إجراءً عصريًّا ومحتشمًا أيضًا (دون خلع الملابس، لكن في إطار من السرعة والسِّريَّة).
fig24
شكل ٦-٣: الحليب الملوَّث كان مصدرًا شائعًا لانتشار مرض الدَّرَن قبل أن تصير عملية البستَرة إلزامية. وقد ورد ذكرٌ لمصادر الخطر المحتمَلة الأخرى التي لُوحِظت هنا في شريحة فانوس العرض الشفافة تلك التي صدرت عام ١٩٢٩؛ مما شجَّع عامة الناس على المشاركة في المسئولية بإبلاغ المسئولين الطبِّيين للصحة والشكوى لبائع الحليب.

كما هو معلومٌ جيِّدًا، فقد بلغت حركة تحسين النَّسْل أوْجَها في ألمانيا النازية. كانت أفكار النازيين عن المصير العِرقي وسمة الانحطاط المتأصِّلة لدى اليهود والغَجَر وغيرهما من الفئات المُهَمَّشة، همجِيَّةً إلى أقصى حد. وكانت الأيديولوجية النازية بأكملها مدفوعة بجمود عقائدي ضارٍ، ولكنَّ المفارقة أنَّها كانت تتضمن أفكارًا عن أهمية الهواء النقيِّ وممارسة الرياضة في الحفاظ على الصحة، واعتقادًا بأنَّ التبغ والكحوليات ضارَّان بالصحة، فثمة طرق عديدة لبلوغ الأفكار الحالية عن نمط الحياة الصحِّي، وليست كلُّها جديرة بالاتِّباع.

بلغ النازيُّون حَدَّ التطرُّف في أفكار التسلسل الهرمي العِرقي، ولكنَّ النزعة العنصرية كانت واسعة الانتشار في تلك الفترة. وفي حين أنَّ الدول المتقدَّمة يمكن أنْ تَعتبر مراقبة الصحة العامة وضبطها أمرَين مُسَلَّمًا بهما — أو تستاء لدى فشلهما — فكثير من مظاهر حركة الصحة العامة القديمة لا تزال متجلِّيَةً في بلدان العالم النامي. لا شكَّ أنَّ أمورًا كثيرة تغيَّرت، ولكنَّ المشكلات التي تواجهها المناطق الأفقر في العالم لم تكن لتفاجئ إدوين شادويك أو غيره من دُعاة الصحة العامة في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر؛ فقضايا وفيات الأطفال والأمهات، والأمراض الوبائية، والفقر، ورداءة المرافق الصحية، لا تزال باقية. وفي حين يحارب الغرب البدانة وأنماط الحياة المتَّسمة بقِلَّة الحركة، يكافح معظم العالم بحثًا عن غذاءٍ كافٍ لسَدِّ رمقه، ولا يزال الكفاح من أجل اتِّباع قواعد الصحة العامة القديمة الطراز قائمًا في بلدان كثيرة. كان شادويك يظنُّ أنَّ المياه النظيفة والإعدادات اللائقة للتخلص من فضلات البشر يمكن أنْ تحلَّ معظم مشكلات أمراض القذارة، وكانت أفكاره الطبية ساذجة، لكنَّ أهدافه الجديرة بالإعجاب لم تتحقَّق بَعْدُ على مستوى العالم.

حقَّقت القوى الاستعمارية بعض الإنجازات في مجال الصحة العامة في مستعمراتها عبر البحار؛ فالبريطانيون في الهند — على سبيل المثال — أَوْلَوا الكوليرا والملاريا اهتمامًا كبيرًا في الواقع، ولم يكن أيٌّ منهما مرضًا تنفرد به «المناطق الاستوائية»؛ إذْ كان كلا المرضَيْن معروفًا في أوروبا. ولكنَّ اكتشاف رونالد روس (١٨٥٧–١٩٣٢) — الذي كان يعمل في وحدة الخدمات الطبية الهندية — دورَ بعوضة أنوفيليس في نقل الملاريا، حفَّز إنشاء تخصُّص طب المناطق الحارة. كانت الإصابة بالملاريا تحدث في المناطق المعتدلة المناخ وكذلك المناطق الاستوائية، ولكنها كانت متماشية من نواحٍ عِدَّة مع النموذج الذي طوَّره باتريك مانسون (١٨٤٤–١٩٢٢) — معلِّمُ روس — للتعبير عن السمات المميِّزة للأمراض التي يُعنى بها ذلك التخصُّص؛ فقد كان المرض ينتقل بواسطة حشرة؛ ومن ثَمَّ اتَّسَم بدورة حياة وأسلوب انتشار أكثر تعقيدًا من الأمراض البكتيرية للعالم القديم. وإضافةً إلى ذلك، فالكائن المسبِّب له كان من المتصوِّرات — وليس البكتيريا — مما عضَّد اعتقاد مانسون بأنَّ الديدان والطفيليات والأنواع الأخرى من الكائنات كانت هي العدو الرئيسي في المناطق الاستوائية. وقد استخدم مانسون عمل روس — الذي أُعلِن خلال عامَي ١٨٩٧ و١٨٩٨ — لإقناع الحكومة البريطانية بتأسيس كلية لطب المناطق الحارة في لندن عام ١٨٩٨، وأُنشئت أخرى في ليفربول قبلها ببضعة أشهر. إضافةً إلى ذلك، كان ثمة فيضٌ من المعاهد والكُلِّيَّات المعنِيَّة بطب المناطق الحارة قائمٌ في مختلف أنحاء العالم قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.

كانت تلك الكُلِّيَّات تهدف إلى تدريب الأطباء على التعامل مع مجموعة الأمراض التي يمكن أن يتعرَّضوا لها في آسيا وأفريقيا وغيرها من المناطق الاستوائية في العالم. وكان من المفترض أن يحوِّل طبُّ المناطقِ الحارةِ تلك المناطقَ إلى مناطقَ آمنةٍ للأوروبيين، حتى يتمكَّنوا من إتمام جهودهم الساعية إلى تنصير الشعوب الواقعة تحت سيطرتهم وتهذيبها وإدخالها في التجارة. وقد استهان بعض المؤرِّخين بتلك الجهود باعتبارها نابعة كُلِّيًّا من خدمة مصالحهم الذاتِيَّة؛ حيث بذلتها حكومات وأفراد لا يعنيهم «السكان المحليون»، ولم يَعْنِهم على أي حال سوى تهيئة مواقع آمنة للرَّعايا الأوروبيين من جنود وتجار وأصحاب مَزارع وموظفين في دوائر الخدمة المدنية. وإذا نَظر المرءُ بموضوعية إلى دوافع كثير من الأشخاص الأساسيين المشاركين في تلك الجهود ومسيراتهم المهنية، فسيصل إلى تصوُّرٍ أكثر تنويرًا بكثير. فعلى أقل تقدير، تقضي المصلحة الشخصية المستنيرة بضرورة السيطرة على الأمراض فيما بين الفئات كافة. وفي آسيا — على وجه التحديد — كان الأوروبيون يدركون عادةً ثراء الثقافات الخاضعة لسيطرتهم واستغلالهم. وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، سادت مجموعة مختلفة من الظروف، عزَّزتها شراسة أنماط المرض في غرب أفريقيا تحديدًا، وغياب الثقافة المكتوبة. إلا أنَّ إغفال الجهود الطبية وجهود الصحة العامة التي بُذِلَت في المناطق الخاضعة للحُكم الاستعماري باعتبارها جهودًا استغلالية بحتة، يمثِّل تشويهًا للتاريخ.

نشأت معظم صور «طب المناطق الحارة» قبل الحرب العالمية الأولى بمبادرة القوى الاستعماريَّة؛ بغية خدمة ممتلكاتهم الخاصة، وكان استثناء ذلك هو طب الإرساليات، الذي تمثَّل في ممرضات وأطباء عُنوا بنشر رسالة القيم الصحية الغربية إلى جانب نشر الدين. وكانت الإرساليات مسئولة عن إقامة المراكز الصحية والمستشفيات في مناطق عديدة من العالم وتزويدها بالعمالة، وفي حين أنها عادةً ما كانت تتبع الحدود الجغرافية التي أرساها الاستعمار، كان ثمة بعض النشاط للإرساليات خارج مجال سيطرة بلدها الأصلي. وقد بدأت حركة دولية لصحة الأجِنَّة بالتَّزامن مع نشأة عُصبة الأمم عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وإنْ كان جزء كبير من نشاطها في مجال الصحة عُنِي بشرق أوروبا وأجزاء أخرى من تلك القارة التي مزَّقتها الحرب. وعلى الرغم من تردُّد حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في دعم العُصبة، فقد كانت مؤسسة روكفِلر والوكالات الدولية التابعة لها نشطة على نحو ملحوظ خلال السنوات الفاصلة ما بين الحربين العالميتين. وكان مسئولو المؤسسة حريصين على إنشاء معاهد على الطراز الغربي (كليات طب ومعاهد بحثِيَّة ومستشفيات تعليمية) في المناطق التي توفرَّت فيها إمكانية الدعم المحلي المستمر؛ ومن ثَمَّ الاستمرارية. فكانت أوروبا والمكسيك وأمريكا اللاتينية المناطقَ الرئيسية للنشاط الدولي لتلك المؤسسة، وإنْ كان اهتمام المؤسسة بالملاريا والبلهارسيا والدودة الشصِّيَّة دَفَعَ مسئوليها إلى الذهاب إلى بقاع أخرى من العالم أيضًا.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ترسَّخَت النزعة الدولية أخيرًا من خلال منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ولا سيَّما منظمة الصحة العالمية. وطالما كان لمنظمة الصحة العالمية أهداف جديرة بالإعجاب، إلا أنها واجهت صعوبة في التعامل مع المشكلات المعقَّدة التي سعت إلى التصدِّي لها؛ فقد كان الأسلوب السائد لمهاجمة الأمراض في فترةِ ما بين الحربين رأسِيًّا؛ حيث كانت أمراضٌ معيَّنة تتميَّز بأساليب انتقال محدَّدة تُختَصُّ بالاهتمام باعتبار ذلك الوسيلةَ الأكثر كفاءة للنهوض بالصحة في البلدان الفقيرة؛ فقد كان الجدري والملاريا هَدَفَي حملتين كبيرتين لمنظمة الصحة العالمية في خمسينيات القرن العشرين وما بعدها؛ حيث استُلهِم برنامج الملاريا — الذي أقرَّته الجمعية العمومية لمنظمة الصحة العالمية عام ١٩٥٥ — بالأساس من توفُّر المبيد الحشري دي دي تي، الذي ابتُكِر أثناء الحرب العالمية الثانية واستُخدِم بفعالية كبيرة في التصدي للملاريا والتيفوس (مرض يحمله القَمْل) في مناطق الحروب.

منذ اكتشف روس وجي بي جراسِّي (١٨٥٤–١٩٢٥) في إيطاليا دور بعوضة أنوفيليس في نقل الملاريا، وشَرَحا دورة حياة المتصوِّرة المسئولة عن المرض، بدت السيطرة عليها مسألة بسيطة؛ فإذا تسنَّى استئصال البعوضة — عن طريق الإخلال بأماكن تكاثرها من خلال تصريف المياه وسكب الزيت على سطح الماء واستخدام «فِرَق مكافحة البعوض» للقيام بدوريات في مناطق الضرر — فمن المفترض أن يختفي المرض. وإضافةً إلى ذلك، فقد استطاع عقَّارُ الكينين معالجةَ ذلك المرض، وثبت منذ فترة طويلة أنَّه يقي من المرض إذا ما أُخِذ بانتظام. وقد قضى روس العقود الثلاثة الأخيرة من حياته يناصر فكرة إمكانية الوقاية من الملاريا، إنْ خُصِّصَت لها موارد كافية. كانت المعرفة متوفرة، ولا شيء سوى انعدام الإرادة (والمال) حَالَ دون تحقُّق ذلك الهدف المنشود.

من وجهة نظر روس، كان تطبيق البرنامج الرأسي واستئصال المرض أو تهميشه سيفرز قوًى عاملة أفضل صِحَّةً من شأنها أن تحقق النمو الاقتصادي الذي يظلُّ مستحيلًا طالما كان المرض متفشِّيًا، أما بالنسبة إلى مختصين آخرين في مرض الملاريا، فلا جدوى إلا في البرامج الأفقية. وقد أشار تراجع الملاريا في أوروبا إلى أنه إذا توفَّر مستوَى معيشةٍ لائقٌ ونموٌّ اقتصاديٌّ وتعليمٌ، فسيترتَّب على ذلك تلاشي الملاريا تدريجيًّا. وكانت الحُجة التي استند إليها أولئك المختصُّون بالملاريا هي أنه في المناطق التي يرتفع فيها معدل الإصابة بالملاريا (أجزاء كبيرة من أفريقيا، على سبيل المثال)، يؤدِّي التعرُّض المستمر للمرض منذ الولادة إلى اكتساب السكان مناعةً إلى حدٍّ كبير، ولو انتهى ذلك التعرُّض «الطبيعي» للمرض، فستزدهر الأشكال العالية الوبائيَّة من ذلك المرض.

بدا أنَّ تلك الآراء صارت تاريخًا ماضيًا بعد مجيء المبيد الحشري دي دي تي؛ فقد كان منخفِض التكلفة، ويخلِّف أثرًا باقيًا بعد رشِّه، وكان يبشر بحلٍّ تكنولوجي لمشكلة طبية معقَّدة وواسعة الانتشار. استُبعِدَت بعض الأجزاء الأكثر تضرُّرًا في أفريقيا من النطاق الذي غطَّاه المبيد، ولكنْ كان المُزمَع أنْ تصير بقِيَّة أنحاء العالم خالية من الملاريا في غضون عقدين من الزمان. وقد أُقِرَّت الحملة ضمن نوبة التفاؤل التي سادت مرحلةَ ما بعد الحرب، ولكنَّ المشاكل لاحَقَتْها منذ البداية؛ فكانت مُعدَّات الرشِّ تصل ولا يتوفَّر المبيد الحشري، والعكس صحيح، وكان تدريب العُمَّال الميدانيين عملية بطيئة وشاقَّة، وتباينت نتائجها في مناطق العالم المختلفة. ثم اعترضت حركة متنامية من حركات حماية البيئة — استهلَّها نشر كتاب «الربيع الصامت» لراشيل كارسون (١٩٦٢) — على الآثار الأشمَل للدي دي تي، وأعربت الحركة الاحتجاجية لستينيات القرن العشرين عن استيائها من التنظيم الواسع النطاق لتلك الحملة، ولا سيَّما الأرباح التي تُحققها الشركات الأمريكية (بالأساس) منها. وأخيرًا، بدأ يظهر بَعوض مقاوِم لمبيد دي دي تي.

fig25
شكل ٦-٤: أدَّى الطب الوقائي دورًا مهمًّا في الحملات التي أُقيمَت أثناء الحرب العالمية الثانية. وهذا المنشور يحثُّ الجنود على تناول الجرعات المنتظمة من عقَّار أتِبرين، وهو العقار الأوسع استخدامًا ضد الملاريا في تلك الفترة؛ فقد كان الملاريا لا يزال مرضًا مهمًّا في ساحات القتال بالشرق الأوسط وجنوب أوروبا وآسيا.

تحوَّل برنامج استئصال الملاريا دون ضجَّة إلى تركيز على السيطرة على المرض عام ١٩٦٩، صحبته جلبة أقلُّ بكثير من الجلبة المصاحبة لإطلاقه. ومنذ ذلك الحين صارت أخطاؤه هدفًا سهلًا للتحليل النقدي، ولكنه كان قد حقَّق بعض النجاح، في بلدان أوروبا المُطِلَّة على البحر المتوسط على سبيل المثال؛ حيث كان الملاريا قد عاد للظهور أثناء اضطرابات الحرب العالمية الثانية. وأُعلِن خلال سنوات الحملة انتهاء الملاريا في إيطاليا وإسبانيا والبرتغال؛ وعلى نحوٍ لافت للنظر، في اليونان، التي كان معدل النمو الاقتصادي فيها أقلَّ بكثير من البلدان الأخرى، واقتربت سريلانكا من ذلك الهدف، بينما انخفض معدل الإصابة بالملاريا على نحو جذري في الهند.

وعلى النقيض من ذلك، لا تزال مبادرة منظمة الصحة العالمية لاستئصال الجدري محلَّ إشادة باعتبارها نصرًا للطبِّ الحديث. وقد كانت نصرًا بالفعل؛ إذ سُجِّلَت آخر حالة جدري طبيعية المنشأ في عام ١٩٧٧، وأُقِرَّ اندثار المرض في التجمُّعات البشرية في مايو من عام ١٩٨٠. كان ذلك في النهاية نِتاج التعاون الدولي والنوايا الحسنة، وليس العلوم الطبية؛ فقد كان قائمًا على الاكتشاف القديم (الشعبي) للتطعيمات، والأساليب المتوارثة التي تضمَّنَت تتبُّع الحالات وعزلها والتطعيم الجماعي للجماعات السكانية المعرَّضة للخطر، ولم يكن ثمة علاج سوى التدابير الداعمة. وقد تسنَّى استئصال الجُدري لأنه لم يكن له مستودع حيواني طبيعي، وإنما كانت العدوى تنتقل من فرد لآخر، وكان يمكن السيطرة عليها عبر العزل والتطعيم. كانت تلك حملة إداريَّة، وإنْ لم ينتقص ذلك من أهميتها بأيِّ حال.

لا تزال الحملات الرأسية الموجَّهة نحو مرض واحد جذَّابةً، وقد كُلِّلَ عدد منها بالنجاح، فَشَلَلُ الأطفال استُؤصِل تقريبًا، وحَمْلتا داء الدودة الغينية وعمى الأنهار اعتُبِرتا فعَّالتين. وعلى الرغم من البريق الذي تتسم به استراتيجيات المرض الواحد (وإنْ كان العمل الذي تتضمَّنه روتينيًّا)، فقد كان ثمة إدراك لأهمية الرعاية الأوَّلِيَّة أيضًا. وقد أوصى رسميًّا مؤتمر ألما آتا، الذي عقدته منظمة الصحة العالمية، بتطبيق البرامج الأفقية باعتبارها هدفًا ضروريًّا للرعاية الصحية الدولية. وكان ذلك في الأساس مجرد تصديق على حقيقة بديهية مفادها أنَّ إقامة بِنية أساسية طبية واجتماعية شرطٌ مسبق لتوفير الصحة العامة والرعاية الصحية الحديثة بصفة مُستدامة. وقد جاء تحقُّق تلك البنية الأساسية بطيئًا؛ إذ كان التباين الاقتصادي بين الأثرياء والفقراء قد تزايد في العقود القليلة الماضية، وكذلك تخلَّلها ظهور فيروس نقص المناعة البشرية، والحروب، وسلالات الملاريا والدَّرَن المقاومة للعقاقير. كان ثمة مكاسب، ولكن الانتكاسات كانت أكثر أثناء العقود الأخيرة من القرن الماضي، وأقل ما يمكن أن تُوصف به آفاق المستقبل هو أنها مليئةٌ بالتحديات.

إنَّ بعض مشكلات البلدان الأكثر فقرًا مجرد انعكاس لقضايا قائمة في الغرب؛ حيث أصبح إدمان الكحوليات وتعاطي المخدِّرات وسلالات الدَّرَن المقاوِمة وفيروس نقص المناعة البشرية والسمنة مشكلاتٍ صحيةً كبرى. وثمة عادة اجتماعية — صدَّرها الغرب إلى تلك البلدان — تهدِّد بالتحوُّل إلى قنبلة موقوتة في العقود القادمة؛ ألا وهي تدخين السجائر. ويعتبر اكتشاف الصلة المباشرة بين السجائر وسرطان الرئة من أعظم اكتشافات المتابعة الوبائية الحديثة؛ فقد كان سرطان الرئة مرضًا نادرًا في القرون الماضية، ولاحظ أطباءُ كُثُر وبعض الإحصائيين زيادته التدريجية في سنواتِ ما بين الحربين. وبحلول أواخر أربعينيات القرن العشرين، أُدرِك كونُه مرضًا خطيرًا من أمراض الحَداثة، وكلَّفَ مركزُ البحوث الطبية في بريطانيا فَردَيْن — طبيبًا ذا ميول رياضية وخبيرًا إحصائيًّا — بالتحقيق في مسألة انتشاره، ومحاولة الوقوف على سببه. كان الطبيب هو ريتشارد دول (١٩١٢–٢٠٠٥)، بينما كان الخبير الإحصائي هو أوستِن برادفورد هيل (١٨٩٧–١٩٩١). وقد دلَّهما حَدْسُهما العملي على أنَّ سرطان الرئة مرض ناتج على الأرجح عن ظاهرة التلوُّث في العصر الحديث؛ متمثلةً في عوادم السيارات أو القار الذي تُغَطَّى به أسطح الطُّرُق.

فبدآ العمل بصياغة استبيان للمرضى الذين شُخِّصت حالاتهم في مستشفيات لندن على أنها سرطان الرئة أو الكبد أو الأمعاء. وكانت النتيجة المبدئية المفاجئة أنَّ سمة التدخين الشَّرِه كانت قائمة لدى المصابين بسرطان الرئة دونًا عن أشكال السرطان الأخرى. وفي الوقت نفسه، وَجدت دراسة أمريكية (١٩٥٠) — قائمة على تشريح جثث مرضى تُوفُّوا جرَّاء سرطان الرئة — شيوعًا كبيرًا للتدخين بين الضحايا. واستنادًا إلى تلك النتائج المقترَحة، صمَّم دول وهيل دراسة استطلاعية تتبَّعت المصائر الصحيَّة لأكثر من ٣٤ ألف طبيب بريطاني وافقَ على المشاركة في الدراسة. ونظرًا لأنَّ الأطباء يتعيَّن عليهم إخطار السِّجِلِّ الطبي — قائمة سنوية بالأشخاص المؤهَّلين لمزاولة مهنة الطب — بأي تغيُّرات تطرأ في عناوينهم كل عام، تمكَّن دول وهيل من تتبُّع مجموعتهما الخاضعة للدراسة على مرِّ السنين؛ ومن ثَمَّ تحديد العلاقة بين احتمالات إصابة المرء بسرطان الرئة وبين عادة التدخين. وبما أنَّ كثيرًا من الأطباء (بمن فيهم دول نفسه) أقلعوا عن التدخين عند كشف مخاطره، فقد أتاحت الدراسة أيضًا فرصة إجراء تقدير إحصائي للسنوات التي يكسبها المرء بالإقلاع عن تدخين التبغ. نُشِر الجزء الأخير من الدراسة في عام ٢٠٠٤ — أيْ بعد مرور ٥٠ عامًا على تاريخ نشر أول تقرير عن الدراسة — وكتبه دول نفسه، بالاشتراك مع زميل له. ومن المرجَّح أن تكون تلك أروع تجربة «اجتماعية» أُجرِيَت يومًا في ميدان الطب؛ فقد اتَّسمت بالبساطة في تصميمها والمثابرة في تنفيذها، وتكشَّفت نتائجها من خلال سلسلة من الأبحاث على مدى نصف القرن. وبحلول وقت انتهاء «التجربة»، كانت أدلة أخرى كثيرة قد صدرت بخصوص التبعات الصحية لتدخين السجائر، ولكنْ يمكن القول إنَّ دول وهيل أرسيا قواعد الحركة الحديثة المسمَّاة «طب نمط الحياة».

يبلغ عُمر تلك العبارة بالكاد عقدين من الزمان، ولكنها على ما يبدو باقية. يتضمَّن الطبُّ المجتمعيُّ المتابعةَ، وقد أسفر تجميع المشاهدات والملاحظات عن تكوُّن صورة يكون فيها للفرد العادي مساهمة كبيرة في حالته الصحية؛ فاختياراتنا تؤثِّر على رفاهتنا. وخلال العصر الذهبي للطب — منذ أربعينيات القرن العشرين إلى أوائل السبعينيات من القرن نفسه — سادت ثقة كاملة بأنَّه أيًّا كان ما نفعله، ففي مقدور الأطباء أن يعتنوا بنا. ففيما بين الجراحة والمضادات الحيوية والمهدِّئات والهرمونات وموانع الحمل (تأثير الطب على نمط الحياة عِوضًا عن طب نمط الحياة)، وطائفة العقاقير والعلاجات الأخرى، لاحَ في الأفق وعدٌ بحلول عهد الصحة. وعلى الرغم من أنَّ الطب صار أكثر قوةً الآن، فقد قَلَّت ثقتنا فيه؛ فقد ظهرت العواقب الوخيمة للممارسات من قبيل إدمان الكحوليات والتدخين، وتعاطي المخدِّرات، وأمراض الجهاز التناسلي، والسِّمنة، والوجبات السريعة التي تحتوي على نسب عالية من الدهون والأملاح، والزراعة التصنيعية، وغيرها من أبعاد المعيشة الغربية الحديثة. كثير من تلك التصرُّفات الطائشة قديم، وإنْ كان بعضها حديثًا. وقد تغيَّرت العلاقة بين الطبيب والمريض، واقترنت سلطة المريض بإدراك مسئوليَّته.

fig26
شكل ٦-٥: تجلَّى طب نمط الحياة في عام ١٩٩٢ في مُلصَق استهدف محاربة السِّمنة والآثار الضارة للإفراط في تناول الكحولِيَّات على حدٍّ سواء.

يذكِّرنا التركيز الأبُقراطي على الاعتدال بأنَّ الأطباء طالما كانوا بمنزلة شرطة أخلاقية. أمَّا ما يُعَدُّ أخلاقيًّا وما يُعَدُّ غير أخلاقي، فعادةً ما يتغيَّر باختلاف السياق الثقافي؛ ففي أوائل العصر الحديث، كانت الإصابة بالزُّهري بمنزلة وسام شرف في بعض الفئات الاجتماعية، وفي فترةِ ما بين الحربين كانت التغذية السليمة تَعني تناول كميات كبيرة من اللحوم الحمراء والقشدة والبيض، وكان تدخين السجائر رمزًا لتحرير المرأة، فالمجتمعات تتغيَّر، وكذلك تتغيَّر النصائح الطبية. وثمة أسباب وجيهة تدعونا إلى التفكير في أنَّ نصائح اليوم أفضل مما كانت عليه أحيانًا في الماضي، وحتى الأشخاص الذين لا يثقون في الأطباء والعلوم الطبية لا يزالون يتمتعون بمزايا المتابعة والدراسات الوبائية التي تحاول التمييز بين الضارِّ والنافع، فعندما تَنْتابُك الظنون، تذكَّرِ النصيحة الأبُقراطية بأنَّ الصحة تكمن على الأغلب في المنتصف.

طب المعامل: استمرار وعود الاكتشافات الجديدة

لم يسبق أنْ كان معمل الطب الحيوي الحديث بعيدًا — وقريبًا مع ذلك — إلى هذا الحد من المواطن العادي الواعي، فكثيرًا ما يدعو العلماءُ إلى عقد مؤتمرات إخبارِيَّة عندما يتراءى لهم أنَّ لديهم نبأً هامًّا يعلنون عنه، وجميع وكالات الأنباء تنقل أنباءً عن العلوم الطبية بصفة منتظمة، كما تتيح شبكة الإنترنت المعرفة المتطوِّرة لكل مَنْ يسعى وراءها. وعلى الرغم من ثقافتنا الحديثة المدفوعة بالمعلومات، تكشف الدراسات الاستقصائية أنَّ الجهلَ العميق بمسائل الصحة والعلم منتشرٌ ومقلِق. من المرجَّح أن ذلك كان هو الوضع القائم دائمًا، وقد كان — ولا يزال — الطرحُ النَّقدي للعالِم الفيزيائي والروائي سي بي سنو «ثقافتان» يلقى صدًى قبل أنْ يبيِّن هو معالمه في عام ١٩٥٩؛ حيث رأى سنو أنَّ معظم الأشخاص من غير العلماء أقل درايةً بالأفكار الرئيسية للعلم من دراية العلماء بأفكار الثقافة العامة؛ فالجهل في كل مكان، ولكنَّه يتجلَّى كأوضح ما يكون في مجالَي العلم والطب.

وإنِ استعصت التفاصيل على الناس، فمعظمهم يعلم أنَّ الطب الذي يُمارَس في القرن الحادي والعشرين تأثَّر تأثُّرًا قويًّا بالعلوم الطبية. وأهمُّ من ذلك أنَّ العدسات الإخبارية رصدت اكتشافات العقاقير الحديثة، والجدل الدائر حول مشروع الجينوم البشري وأبحاث الخلايا الجذعية في الآونة الأخيرة. صحيح أنَّ هذين الأخيرين خارج نطاق هذا السرد التاريخي، إلا أنَّ الطب المعاصر شهد تحوُّلًا بفعل القوة العلاجية للعقاقير. وكان للمصادفة دور في اكتشاف عدد منها، ولكنَّ المعمل كان المحلَّ الرئيسي لبدء رصد الإمكانات العلاجية الكامنة فيها. ولا يزال التعليق الصادر عن كلود بارنار في القرن التاسع عشر ساريًا إلى الآن؛ فالمعمل هو ملاذ الطب التجريبي.

بدءًا من أواخر القرن التاسع عشر، بدأ عدد من العوامل الدوائية الفعَّالة يجد طريقه إلى الساحة، وظلَّ محتفظًا بقوة باقية؛ منها: الأسبرين والفيناسيتين وهيدرات الكلورال والباربيتورات، وكلُّها تشترك في تركيبتها الكيميائية البسيطة نسبيًّا، الملائمة لأساليب التحليل المتاحة آنذاك. وكثيرًا ما يُذكَر الأسبرين باعتباره عقَّارًا ما كان ليستوفي معايير السلامة الحديثة؛ نظرًا لأنه يتسبب في تهيُّج المعدة ويمكن استخدامه للانتحار. ومن المفارقة أنه قد ثبتت فعاليته — عند تناوله بجرعات منخفضة — في الوقاية من تجلُّط الدم؛ ومن ثَمَّ فإنه يُستخدم في الوقاية من الأزمات القلبية والسكتات الدماغية، وهما استخدامان بعيدان عن الغرض الذي اختُرِع من أجله ذلك الدواء في الأساس. إن تأثيره محدود على الفرد ولكنه كبير في إطار جماعة كبيرة، ولم تُكتَشَف آلية عمله إلا في زمن الجيل الأخير، بعد عقود من استخدامه بصفة روتينية، كدواء مضاد للالتهابات ومُسَكِّن للألم وخافِض للحرارة.

ما بين صدور هذه المجموعة من العقاقير وعشرينيات القرن العشرين، طُوِّرت عدَّة مواد كيميائية وبضع مواد بيولوجية، لا سيَّما اللقاحات والأمصال المضادة. لكن لا يمكن لأيٍّ منها مضاهاة الأنسولين، الذي اكتشفه عالِمُ فيزياء شابٌّ تحوَّل إلى دراسة الفسيولوجيا وطالبُ طبٍّ في جامعة تورونتو عام ١٩٢١. كان فريدريك بانتِنج (١٨٩١–١٩٤١) — عالِم الفسيولوجيا — قد تسنَّى له استخدام المعمل أثناء العطلة الصيفية، بينما كان أستاذه في إجازة. أما تشارلز بِست (١٨٩٩–١٩٧٨) — طالب الطب الذي أصبح هو نفسه اختصاصيَّ فسيولوجيا بارزًا فيما بعد — فقد ساهَم في عَزْل الهرمون النشِط الذي يفرزه البنكرياس بعناية. والمدهش أنَّ تلك المادة خفَّضت مستوى السكر في الدم لدى المصابين بالسكري، وحصل بانتِنج والأستاذ الغائب — جيه جيه آر ماكلويد (١٨٧٦–١٩٣٥) — على جائزة نوبل مناصفةً بصورة شبه فورية. وقد تقاسم بانتِنج وماكلويد نصيبيهما من الجائزة بالعَدل مع بِست والكيميائي جيه بي كوليب (١٨٩٢–١٩٦٥)، الذي ساهم في تنقية المادة موضع الاختبار. وكانت تلك التجربة مثالًا نموذجيًّا على التجارب الكلاسيكية الفريدة من نوعها، ذات التبعات العلاجية الواسعة النطاق والجديرة تمامًا بالجائزة التي سرعان ما نالتها. وفي غضون عام، كان الأنسولين التجاري متاحًا في الأسواق، وبالنسبة إلى مرضى السكري كان من الممكن أن ينقذ ذلك العقَّار حياتهم. والأنسولين مثال نموذجي على كلٍّ من الطب التجريبي والرعاية الطبية الحديثة؛ فقد سيطر على السكري وإنْ لم «يشفِ» منه، وقد ظلَّ مرضاه يعانون داءً مستديمًا يحتاج إلى مراقبة يومية. وعلى الرغم من طرح وسائل أفضل لتقديم ذلك العقَّار والمستحضرات الدوائية المختلفة، فإنَّ مرض السكري المعتمِد على الأنسولين لا يزال مشكلة تستمرُّ مدى الحياة مقترنة بمضاعفات عديدة تحتاج إلى مراقبةٍ هي الأخرى عند حدوثها. ومَرَّة بعد أخرى، طالما كانت الآمال الحديثة في الشفاء هي الأساس الذي تُبنى عليه الرعاية الطبية المزمنة، التي كانت أفضل من بديل الاستغناء عنها، وإنْ ظلَّت دون مستوى التوقُّعات المبكِّرة. فالحقيقة القاسية هي أنَّ الجسد البشري آلة مُبهِرة في تطوُّرها، ونادرًا ما يضاهي الطبُ الطبيعةَ في عملها.

وعلى الرغم من القضايا المستمرة المتعلقة بالسيطرة على السكري، فقد كان الأنسولين اختراعًا مهِمًّا، وهكذا يراه المرضى؛ فقد حثَّ عامةَ الشعب على رفع سقف التوقُّعات المرجُوَّة من الأبحاث المعملِيَّة، وهو اتجاه تَعزَّز بالنجاح في معالجة فقر الدم الخبيث. لم تكن النتائج مدهشة على غرار نتائج مرضى غيبوبة السُّكَّر الذين يفيقون إثر تناول الأنسولين والجلوكوز، ولكنَّ فقر الدم الخبيث — كما يبدو من اسمه — كان مرضًا مُنهِكًا ومؤلِمًا وقاتلًا في نهاية المطاف. إلا أنَّه على غرار الأنسولين، كان الأساس المنطقي للعلاج قائمًا في المعمل، في تجاربَ تغذويةٍ أُجريت على كلاب. ولم يكن الحلُّ — الذي تمثَّل في تناول كَمِّيات كبيرة من الكبد النيِّئة — بالأمر الذي قد يفضله المرضى تمامًا، ولكنَّ معظمهم رآه أفضل من تبعات المرض.

مِثلُ تلك الابتكارات المعملية وغيرها — تحديدِ فصائل الدم الذي أصبحت عمليات نقل الدم آمنةً بفضله، واللقاحاتِ المتنوعة، وزيادةِ الفهم لطبيعة الفيروسات — أَبْقَت الطب العلمي في النطاق العام. وجاءت الانطلاقة في السنوات إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، التي أسفرت في النهاية عن العلم الكبير الذي لا نزال نتمتع به. فعقاقير السَّلفا — على سبيل المثال — أثبتت فعالية ضدَّ عدَّة أنواع شائعة من البكتيريا؛ وكان إحدى تبعاتها حدوث انخفاض سريع في معدل وفيات النساء جرَّاء حمى النفاس (وهي العدوى التي تصيب النساء كثيرًا عقب الولادة). طُوِّرَت تلك العقاقير قُبَيْل الحرب (رفض النازيُّون السماح لمكتشِفها — جيرهارد دوماك (١٨٩٥–١٩٦٤) — بالذهاب إلى ستوكهولم لتسلُّم جائزة نوبل)، أوقفت الحرب نفسها النظام الدولي لبراءات الاختراع؛ بحيث تسنَّى تصنيع عقاقير السَّلفا خارج حدود ألمانيا. كَثُر استخدام تلك العقاقير خلال السنوات الأولى من الحرب، وعندما وضعت الحرب أوزارها، كان البنسلين قد حَلَّ محلَّ عقاقير السَّلفا.

البنسلين على الأرجح هو أروع دواء على مَرِّ العصور، وقصة اكتشافه تمثِّل مصدر جَذب إضافي؛ إذ اكتشفه ألكسندر فليمنج (١٨٨١–١٩٥٥) بمحض المصادفة في عام ١٩٢٨، عن طريق عَفَن تكوَّن على طبق بتري مكشوف، ولكنه لم يُعِره اهتمامًا يُذكَر طوال عقد من الزمان (جرت بضع محاولات منفردة لاستخدامه في الأغراض العلاجية). ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كُلِّف أستاذ الباثولوجيا في جامعة أكسفورد هاورد فلوري (١٨٩٨–١٩٦٨) وفريقُه بالبحث عن عوامل علاجية جديدة مضادة للعدوى البكتيرية، وكان البنسلين من بين المواد التي اختاروها. وباستخدام مُعدَّات مُرتَجَلة وسط ظروف الحرب، عَزلوا قدرًا كافيًا من ذلك العَفَن الثمين لإثبات فعاليته المذهلة. وكان أول مريض يعالجونه شُرطيًّا من أكسفورد أُصيبَ بعدوى المكوَّرات العنقودية عقب جرح أحدثتْه شوكةُ إحدى الورود، وتحسَّنت حالته لكن لم يكن ثمة ما يكفي من البنسلين لشفائه تمامًا من المرض، على الرغم من استعادته من بول المريض وإعطائه له من جديد؛ وتُوفي المريض.

أثناء الحرب، ذهب فلوري بصحبة أحد زملائه إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تكتنف عملية تصنيع المستحضرات الدوائية مشكلات أقل. كان لدى فلوري معتقدات رجعيَّة بشأن علانية البحث العلمي؛ ومن ثَمَّ لم يُعِرْ نظام براءات الاختراع اهتمامًا. أما مُصنِّعو المستحضرات الدوائية الأمريكيون فكانوا أكثر حصافة، وبحلول العامين الأخيرين من الحرب كانوا يُصَنِّعون كميات كبيرة، ويحقِّقون مكاسب مالية هائلة. في البداية كان البنسلين حِكرًا على الاستخدام العسكري لدواعي الضرورة (فقد أثبت فعالية ضد أنواع عديدة من العدوى البكتيرية، منها الزُّهْريُّ والسَّيَلان، فضلًا عن بعض ملوِّثات جروح الحرب وبعض أشكال الالتهاب الرئوي البكتيري)، ثم عُمِّم استخدامه بين المدنيين بُعَيْد انتهاء الحرب، في عام ١٩٤٥.

إنَّ قصة البنسلين وثيقة الارتباط بالعصر الحديث. ونظرًا لأن البنسلين كان مُربِحًا للغاية، فقد تطلَّبَ أساليبَ تصنيعيَّة للإنتاج والتوزيع. وأثبتَ فعالية كبيرة ضد العديد من الكوارث السائدة آنذاك، وانخفض سعره، وأنقذ حياة أُناس كُثُر، وزاد هَيْبةَ المعمل إلى حدٍّ كبير والطب الحديث على نحو أشمل. كان عقَّارًا مُعجِزًا، حتى وإنْ كانت المعجزات لا تدوم أبد الدَّهْر. كان البنسلين يُعطَى للمرضى دون تمييز، بجرعات غير سليمة، لحالات غير مناسبة، ودون إتمام برنامج العلاج الذي يشتمل عليه. ثم بدأ يفقد فعاليته، مع ظهور البكتيريا المقاوِمة للبنسلين. في البداية، بدت تلك مجرد مشكلة صغيرة؛ حيث إنَّه كان ثمة أنواع أخرى من البنسلين قيد التصنيع، وظهرت أنواع أخرى من المضادات الحيوية في الأسواق؛ منها ستربتومايسين، الذي أثبت فعالية في مقاومة الدَّرَن، وهو المرض البكتيري المزمن الذي كان يفتك بمرضاه منذ الأزل. صُنِع ستربتومايسين في الولايات المتحدة الأمريكية، وعندما وصل إمداد محدود منه إلى بريطانيا بعد انتهاء الحرب مباشرةً، أحسن أوستن برادفورد هيل (الذي سرعان ما حوَّل اهتمامه إلى سرطان الرئة) استغلال محدوديَّة الكمية المتاحة؛ إذْ صمَّم تجربة مُحْكَمة دقيقة «مزدوجة التعمِيَة»، لم يعلم فيها لا الأطباءُ ولا المرضى المشاركون ماهيةَ العلاج الخاضِع للاختبار، وهكذا، أمكن استبعاد التحيُّز الناتج عن التوقُّع. وقد أثبتت النتائج الفعالية العلاجية لدواء ستربتومايسين، وأصبح النموذج التجريبي الذي صمَّمه هيل المعيار الذهبي لتقييم العلاجات الجديدة.

استهلَّت المضادات الحيوية من قبيل ستربتومايسين والبنسلين وغيرهما عصرًا ذهبيًّا، بدت فيه العقاقير واللقاحات الفعَّالة الجديدة نتيجة حتميَّة للبحوث الدوائية والطبية الحيوية. ثم ظهر الكورتيزون في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وصحبته أفلام تصوِّر مرضى بالتهاب المفاصل الروماتويدي يعانون إعاقة شديدة ثم استطاعوا النهوض من الفراش والمشي. وظهرت عقاقير جديدة تَعِدُ بالسيطرة على أنواع السرطان الخارجة عن نطاق الجراحة أو العلاج الإشعاعي اللذين يشهدان تطوُّرًا متزايدًا. كذلك أحدثت مضادات الذُّهان انخفاضًا كبيرًا في أعراض الفُصام، والاكتئاب الحاد، وغير ذلك من أنواع العلل التي عاناها مرضى قضوا حياتهم في المصحَّات النفسِيَّة. وأفاق ضحايا لمرض التهاب الدماغ النُّوامِيِّ — وهو وباء يرجع إلى عشرينيات القرن العشرين — كانوا مستغرقين في غيبوبة منذ عقود من الزمان، في أواخر خمسينيات القرن العشرين بعد إعطائهم جرعات من الدُّوبامين، وهو عقَّار كان قد طُرِح حديثًا لعلاج مرض باركنسون (كانت الاستجابة قصيرة الأمد ولكنها خلَّفَت تأثيرًا كبيرًا). وبحلول أوائل ستينيات القرن العشرين، كان طب النفس المجتمعي هو الشعار السائد؛ إذْ صار المرضى النفسيون يُعالَجون في العيادات الخارجية للمستشفيات، مع الاعتقاد بأنَّهم سيمكنهم أنْ يعيشوا حياةً شبه طبيعيَّة إنْ تناولوا أدويتهم فحسب. وطُرِح الليبريوم والفاليوم في الأسواق لعلاج الأشخاص الذين يعانون حالات خفيفة من الاكتئاب أو القلق، وبدا أنَّ الطب يمتلك بالفعل — أو على وشك أنْ يمتلك — دواءً لكل داء.

قبل أربعينيات القرن العشرين، اعتمدت معظم الأبحاث الطبية في الولايات المتحدة الأمريكية على دعم المؤسسات الخاصة والجمعيات الخيرية، التي تصدَّرتها الجمعيات الخيرية المعنِيَّة بأمراض السرطان والدَّرَن وشلل الأطفال. وقد أبقتْ إصابةُ فرانكلين دي روزفلت نفسِه بمرضِ شللِ الأطفالِ ذلكَ المرضَ ضِمن دائرة اهتمام وسائل الإعلام.

وعندما اتَّخذ ذلك المرض صورة وبائيَّة، صار أكبر معوِّق للأطفال والناشئين؛ إذ كان متوسط عدد حالات الإصابة به ٤٠ ألف حالة بين عامَي ١٩٥١ و١٩٥٥. ونظرًا لأنَّه مرضٌ فيروسِيٌّ، فهو لم يكن يستجيب للمضادات الحيوية، وكانت نتيجة ذلك لدى مَنْ نَجَوْا من الموت بالمرض هي إصابتهم بِعاهة مستديمة. وعلى الرغم من انتشار شلل الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي بلد آخر، فتوزيعه يغطِّي العالم أجمع (وترتفع نسبته في الغرب عن البلدان الأكثر فقرًا)، وقد كان الوباء الذي ضرب كوبنهاجن عام ١٩٥٢ مؤثِّرًا؛ ليس لشِدَّته فحسب، وإنما لبوادر الإنسانية التي أثارها؛ فبغية إبقاء حالات الإصابة الشديدة على قيد الحياة، استُخدِم إجراءُ فَغْرِ الرُّغامَى (إحداث فتحة في القصبة الهوائيَّة) والتنفُّسِ الصناعيِّ المتقطِّعِ الإيجابيِّ الضغطِ؛ حيث قضى نحو ١٥٠٠ متطوِّع ١٦٥ ألفَ ساعةٍ في ضَخِّ الهواء يدويًّا إلى ضحايا شلل الأطفال لمساعدتهم على التنفُّس. ولم يُفرِّق شلل الأطفال بين غنيٍّ وفقيرٍ؛ فهو مرضٌ مصاحِب للمستوى اللائق من النظافة؛ فالأطفال في البلدان التي لا تتوفر فيها مياه نظيفة يُصابون بالفيروس في مرحلة الرضاعة؛ حيث لا ينتج عنه التلف العصبي العضلي الذي يَحدث حين يتعرَّض الأطفال الأكبر سِنَّا، أو الناشئون، للفيروس لأول مَرَّة.

أدَّى المَنشأ الفيروسي لشلل الأطفال، وحقيقة أنَّ الأشخاص الذين يتعافون منه لم يُصابوا به بعدها قَط، إلى جعل التطعيم أكثر استراتيجية معقولة. كانت «مؤسسة مارش أوف دايمز» مؤسسة غَنِيَّة، وإنْ كانت طلبات المِنَح تُقَيَّم وفق معايير، ما كانت لتُقبَل في يومنا هذا. فأُعِدَّت لقاحات عدة في أربعينيات القرن العشرين، ولكنَّ حملات التطعيم الواسعة النطاق لم تدخل حَيِّز التنفيذ إلا باكتشاف لقاحَي سولك وسابين في خمسينيات القرن؛ فقد اخترع جوناس سولك (١٩١٤–١٩٩٥) لقاحًا من فيروس مقتول. وعلى الرغم من بعض أوجُه القصور الخطيرة، كان اللقاح فعَّالًا، ولكنْ سرعان ما تفوَّق عليه لقاحُ الفيروسِ الحَيِّ المُوهَّن الذي اخترعه ألفريد سابين (١٩٠٦–١٩٩٣). كان لقاح سابين فمويًّا، يُعطَى إلى المريض فوق قطعة سُكَّر؛ مما أدَّى إلى سهولة توزيعه وشعبيته لدى الأطفال. وكانت ميزته أنَّ الفيروس المُوهَّن كان عندها يخرج في البراز، ويقدِّم وقاية طبيعية من خلال المسار المطابِق لمسار انتشار المرض (مسار الفم والبراز). وعلى غرار الجُدَري، يمثِّل شلل الأطفال قصة نجاح للعصر الحديث، ويكاد المرض أن يكون قد استُؤصِل في جميع أنحاء العالم. وإنَّ قصَّة ذلك المرض لَمليئة بالشخصيَّات القوية، وقدرٍ ليس بقليل من السلوك المخادع، ولكن النتيجة كانت طيِّبَة ومحمودة.

شجَّع النجاح المُحرَز في قصة القضاء على شلل الأطفال على إجراء المزيد من الأبحاث الطِّبية، وتكوَّن المتن العلمي الصناعي الهائل الذي لا يزال في حوزتنا. كانت أكبر منظمة للأبحاث الطبية في العالم — معاهد الصحة الوطنية في بيثيسدا بماريلاند — إحدى الجهات المستفيدة؛ فمنذ خمسينيات القرن العشرين، أصبحت الحكومة الأمريكية من الأطراف الكبرى المشارِكة في الأبحاث الطبية، وصارت المَعاملُ المتناميةُ الحجمِ والأوراقُ العلميةُ المتعددةُ المؤلِّفِين هما القاعدة. وأيًّا كان المُعامِل قيد القياس، فقد حدثت طفرة مذهلة في عدد الأبحاث الطِّبِّية الرئيسية خلال العقود القليلة الماضية، وكذلك في التحسينات التي أُدخِلت على مجال الرعاية الصحية؛ في الغرب على الأقل. وقد أصبح بإمكان الأطباء في أوائل القرن الحادي والعشرين تشخيص الأمراض والتعامل معها على نحو أفضل مما كان بإمكانهم في سبعينيات القرن العشرين. ولم يعد من المرجَّح أن تمثِّل أمراضٌ مثل الربو والسرطان والقرحة المَعِدِيَّة وأمراض القلب الوعائيَّة وكثير غيرها حُكمًا بالعجز الصحي المُزمن أو الموت على مَنْ يصابون بها مثلما كانت قبل جيل واحد فقط. ويتضح من تغيُّر الأنماط العُمرِيَّة أنَّ الأمراض المزمنة ازدادت بروزًا، كما استتبعت ترجمة الأبحاث الطبية إلى ممارسات سريرية ارتباطَ كثير من مكاسب الطب الحديث بالرعاية، وليس الشفاء. وإنَّ الوعود بالتحسينات الصِّحية الممكن إدخالها من خلال تحديد تسلسل الجينوم البشري أو أبحاث الخلايا الجذعية لم يتحقق معظمها حتى الآن. وإذْ يرتفع مستوى القدرات العلمية، يرتفع مستوى التوقُّعات أيضًا، وكثير من المرضى لم يعودوا يتحلَّون بالصبر؛ نظرًا لكَمِّ الوعود المقطوعة لهم.

الطب الحديث: حقيقة الاكتشافات الجديدة

تتحدَّد المواقف إزاء الطب في العصر الحديث وما يمكن — وما لا يمكن — له تحقيقه بالملاحظة بقدر ما تتحدَّد بالواقع؛ وقد مثَّلت كارثة عقَّار ثاليدوميد نقطة تحوُّل. بدا ذلك العقَّار متميِّزًا في توفير مستوًى رائع من الوقاية ضد الغثيان الصباحي في مراحل الحَمْل المبكِّرة، وسرعان ما طُرِح في الأسواق دون إجراء اختبارات كافية عليه. وقد مَنع مسئولٌ دقيقُ الملاحظةِ في الولايات المتحدة تداوُلَ العقَّار في بلده، لكن آلاف النساء في أكثر من ٤٠ بلدًا تناولْنَ العقَّار أثناء الحَمْل قبل أنْ تتَّضِح العلاقة بين ذلك العقَّار والتشوُّهات الظاهرة في أطراف أطفالهن عند الولادة. وعلى الرغم من أنَّ تلك الواقعة أسفرت بالفعل عن تشديد معايير السلامة المفروضة على الأدوية الجديدة، فقد أضعفت ثقة العامة في قطاع الصناعات الدوائية. لم يَصدر عقَّار بعده مُضِر بالصحة على هذا النحو البادي، وإنْ كانت عقاقيرُ عدَّةٌ سُحِبت من الأسواق بسرعة بعد ظهور أعراض جانبِيَّة لها. وقد كانت الصناعاتُ الدوائية الحديثة مثلَ غيرها من الشركات المتعددة الجنسيات؛ فالشركات الصغيرة تبتلعها الشركات الكبيرة، والميزانيات المخصَّصة في زمننا المعاصر للدعاية والمبيعات أكبر من الميزانِيَّات المخصَّصة للبحث والتطوير. وقد أَدخلت الدعاية المباشرة للعقاقير التي لا تُباع إلا بوصفة طِبِّية في الولايات المتحدة الأمريكية عنصرًا جديدًا مزعِجًا في قطاع الصناعات الدوائية، وتشغل الأدوية «المُكمِّلة» — حيث تُجرى تغييرات طفيفة على عقَّار موجود بالفعل — جزءًا أكبر من اللازم من وقت ذلك القطاع. عادةً ما تتابع الأبحاث الاضطرابات الشائعة في الغرب، التي تنطوي على احتمالات رِبح، عوضًا عن الأمراض الكبرى في البلدان الأكثر فقرًا؛ حيث تشتدُّ الحاجة ولكن تنخفض فرصة تحقيق أرباح كبيرة. فالمرض المزمِن الطويل الأجل — الذي يضطرُّ فيه المريض إلى تناول العلاج لسنوات، أو حتى لِمَا تبقَّى من عمره — هو الهدف المثالي لأيِّ عقَّار جديد.

fig27
شكل ٦-٦: الطبيب المجتهِد إلى جوار سرير المريض: السير ويليام أوسلر — أحد أكثر الأطباء احترامًا على مَرِّ العصور — يقوم بعمله في التشخيص والتفكير المتأمِّل بشأن ما عرفه. تلك هي ممارسة الطب عند فراش المريض بمدلولها الحديث.

يقدِّم فيروس نقص المناعة البشرية (متلازمة نقص المناعة المكتسَب/الإيدز) درسًا عمليًّا على وضع الرعاية الصحية الحديثة التي تمثِّل السوق الدافع المُحَرِّك لها؛ فمنذُ نشأة ذلك الفيروس في صورة شديدة الضراوة في ثمانينيات القرن العشرين — بالأساس بين الرجال المِثليين جنسيًّا ومتعاطي المخدرات بالحُقَن في الولايات المتحدة — أصبح رمزًا لقوة الرعاية الصحية المعاصرة ومشكلاتها. ونظرًا لأنَّ أول تجلٍّ له كان في بلد غني، فقد نُظِّمَت أبحاث الطب الحيوي بسرعة، وإنْ كان بعض الزعماء الدينيِّين ظلُّوا مُصِرِّين على أنَّ ذلك المرض كان ببساطة عقابًا إلهيًّا على المثلِيَّة الجِنسيَّة وغيرها من أشكال الرذيلة. فقد استغرق الرئيس رونالد ريجان بعض الوقت قبل أنْ يلفظ كلمة الإيدز في العَلَن، فيما رفَضَت الكنيسة الكاثوليكية أنْ تُقِرَّ استخدام العازل الذَّكَرِيِّ وسيلةً لمنع انتشار ذلك المرض الذي ينتقل بالاتصال الجنسي. ولا يزال الإيدز يحمل وصمة عار قويَّة حتى الآن.

وإنْ كان المُعَرَّضون لخطر ذلك المرض يرون الاستجابة الرسميَّة دون المستوى، فينبغي مقارنة ذلك بلامبالاة الغرب التقليدية بأمراض البلدان الفقيرة التي لا تشكِّل تهديدًا للبلدان الغنِيَّة. فبعد مرور رُبع قرن من الزمان، تبدو الفترةُ الفاصلةُ بين ظهور أولى حالات ساركوما كابوزي — الذي كان نوعًا نادرًا من السرطان آنذاك — والأجهزة المناعية المنقوصة لدى شباب كانوا أصِحَّاء فيما مضى من ناحية، وتحديد الكائن المسبِّب لهما — عام ١٩٨٤ — من ناحية أخرى؛ فترةً قصيرةً إلى حدٍّ كبير. وتتجلَّى علامة أخرى من علامات ذلك العصر في تحديد مجموعتين — إحداهما في الولايات المتحدة والأخرى في فرنسا — في وقت واحد تقريبًا للفيروس القهقري المسئول عن المرض، وحصول كلٍّ منهما على الغنيمة؛ فقد كان ثمة تنافُسٌ دءوبٌ في هذا العصر على الجوائز الكبيرة في مجال العلوم.

كان فيروس نقص المناعة البشرية يُطلَق عليه في البداية باستعلاء «مرض ثري إتش»؛ حيث كانت الفئات المصابة به تبدأ كلها بحرف إتش الإنجليزي: المثليُّون جِنسيًّا homosexuals، ومدمنو الهيروين heroin-users، وسُكان هايتي Haitians. فقد حُدِّد الفقراء في هايتي ضمن الفئات الأولى المعرَّضة للإصابة بالمرض، ولكنْ سرعان ما انضمَّ إليهم الفقراء الأفارقة، وإنَّ أبرز القضايا وأخطر تبعات اجتماعية واقتصادية للإيدز تكمن في أفريقيا وغيرها من البلدان النامية. أمَّا في الغرب، فسرعان ما تحوَّل المرض من مرض حادٍّ إلى مرض مزمن، وإنْ كان لا يزال مقترنًا بمعدل وفيات خطير؛ فالعلاجات القائمة على المضادات الفيروسية — المتاحة منذ تسعينيات القرن العشرين — تعمل على إبطاء تقدُّم المرض، ولكنها لا تزال غالية الثمن وتشوبها أعراض جانبية. وإنَّ جودة الرعاية التمريضية ومعالجة الإصابات عند حدوثها دون إبطاء عاملان مهِمَّان أيضًا في رفع جودة الحياة وخفض نسبة المرض ونسبة الوفيات. إلا أنَّه على غرار كثير من الأمراض الناشئة عن كائنات دقيقة، فقد بدأت مشكلاتُ مقاوَمةِ العقاقير تَبرز إلى السطح، وصار وصف المرء بأنَّه مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية وصفًا مخيفًا.

في بعض أنحاء أفريقيا، يمثِّل الإيدز مرضًا يَشيع انتقاله عن طريق الجِماع بين الجنسين، ونسبة إصابة الأفراد هناك بفيروس نقص المناعة البشرية — إضافةً إلى مَنْ يعانون متلازمة الأعراض الكاملة — كاسِحة. والعلاج مرتفع التكلفة، ويتطلَّب على أيِّ حال بِنية أساسية للرعاية الصحية غير متوفرة ببساطة في معظم أنحاء القارة. فإلى جانب الملاريا والدَّرَن، تصدَّر الإيدز الساحة الصحِّية الدولية في العقود القليلة الماضية. فتلك الأمراض الثلاثة تتسم بسلالاتٍ مقاوِمة للعلاج الكيميائي التقليدي، وإنَّ آثارها العَرَضِيَّة المتمثِّلة في نسبة المرض ونسبة الوفيات بين الشباب لَهائلة. لقد فاقم المرض التفاوت بين الأغنياء والفقراء، ويَعِدُ بالاستمرار على هذا المنوال في المستقبل القريب، على الرغم من الإسهامات الكبيرة لمؤسسة جيتس وغيرها من الوكالات الدولية.

كان الإيدز يُوصَف بأنَّه مرض اجتماعي يتطلَّع مرضاه إلى العلوم الطبية بحثًا عن حَلٍّ. وإنَّ العلم والممارسة الطبية القائمة عليه مِن أهم الإنجازات التي حققتها الثقافة الغربية. نحن بحاجة إليهما، ولكن العلوم الطبية لا يمكنها أن تَحُلَّ مشكلات البشر بمفردها؛ فنحن لم نعُدْ نعيش في عالم تستند فيه فكرة حتمِيَّة التقدُّم إلى قناعة قويَّة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤