الفصل الحادي عشر

الاحتكام إلى النتائج

ad consequentiam appeal to consequences

إن كايوس فانٍ حقًّا، وإن حقًّا عليه أن يموت، أما أنا … إيفان إليش، بكل أفكاري وعواطفي، فشيءٌ مختلفٌ تمامًا، إن من المستبعَد أنني ينبغي أن أموت، إن ذلك لَيكون شيئًا مرعبًا غاية الرعب.

تولستوي، موت إيفان إليش

الحقيقة ليست ملزمةً بأن تتَّبع أهواءنا، وإنما نحن الملزمون بأن نُتَّبعَ الحقيقة.

***

ليس الفكرُ عبدًا «يُخدِّم» على أهوائنا ويدغدغ أمانينا، ويعمل على راحتنا واسترخائنا، وإنما هو «وظيفة بشرية» تتعلق بِتَعرُّف الحقيقة كما هي وإماطة الوهم كيفما كان، ومِن ثَمَّ فإن من المغالطة أن نستخدم «النتائج» (العواقب، التَّبِعات، المترتَّبات، اللوازم، التوالي) consequences، السلبية أو الإيجابية، المترتبة على اعتقادٍ ما كدليلٍ على كذب هذا الاعتقاد أو صدقه.
يمكن تجريد الصورة المنطقية لهذه المغالطة كالتالي:
الاعتقاد بأن «ق» يؤدي إلى نتائج مرغوبة؛
حيث النتائج المرغوبة غير ذات صلة بصدق «ق»؛
إذن «ق» صادقة.
أو كالتالي:
الاعتقاد بأن «ق» يؤدي إلى نتائج بغيضة؛
حيث النتائج البغيضة غير ذات صلة بكذب «ق»؛
إذن «ق» كاذبة.

إن القضية الصادقة هي قضيةٌ صادقة، بغضِّ النظر عن شعورنا تجاه نتائجها، ومن الحصافة أن نُسلِّم بأن العالم لم يُفَصَّل حسب طلبنا، وأن الأشياء لا تأتي على مقاس رغباتنا ومصالحنا، وأن ما نود أن يكون عليه الحال هو أمر غير ذي صلة بما هو عليه الحال بالفعل، ليس ثمة علاقة منطقية تربط ما بين نتائج اعتقادنا في قضية ما وبين «قيمة صدق» هذه القضية (أي نصيبها من الصدق والكذب).

ربما يستدعي ذلك في الذهن قول فرويد في «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي»: «أُوذِيَ الإنسان ثلاث مراتٍ في غروره واعتزازه بنفسه وبمكانته في العالم: كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر في عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣م) الذي افترض أن أرضنا ليست هي مركز الكون، وكان من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة وأن العالم لم يُخلق من أجله، وكانت المرة الثانية عندما قدَّم تشارلس دارون (١٨٠٩–١٨٨٢م) كتابه عن أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، فأثَّرت نظريته في التصور الديني بوجهٍ خاصٍّ عن كون الإنسان صورةَ الله وخليفته في الأرض، أما المرة لثالثة فكان الأذى أشد قسوةً وأعمق جرحًا، إذ جاء من جانب البحث السيكولوجي الراهن الذي يريد أن يُثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدةً في بيتها الخاص، وإنما تظل معتمدةً على أنباءٍ شحيحةٍ عما يجري بصورةٍ غير واعية في حياتها النفسية» (محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي، محاضرة ١٨).

أمثلة

  • (١)
    لا بُدَّ من أن تكون «مركزية الأرض» geocentrism نظريةً صحيحة، وإلا لكان الإنسان كائنًا هامشيًّا شديد التفاهة وليس صورة الله وخليفته في الأرض.
  • (٢)

    من المؤكد أن «نظرية التطور» نظرية مغلوطة، وإلا لكان الإنسان قريبًا لبقية الحيوانات، وكان له أن يفعل فعلَها ويسلك مسلكَها.

  • (٣)

    اعتقاد الطفل في وجود بابا نويل يجعله سعيدًا ومستبشرًا ومهذبًا، إذن بابا نويل موجود.

  • (٤)

    من المحال أن تنشب حرب نووية في أيِّ وقت من الأوقات، إن ذلك كفيلٌ بأن يجعلني متوجسًا هلعًا لا أذوق للنوم طعمًا.

(١) رهان بَسكال pascal’s wager

تقوم حجة الرهان الشهيرة للفيلسوف الفرنسي بليز بسكال على الموازنة بين النتائج المترتبة على الإيمان وتلك المترتبة على عدم الإيمان، وقد آثَرتُ أن أفرد لرهان بسكال عنوانًا منفصلًا؛ وذلك لأنه محل خلاف بين الفلاسفة منذ زمن طويل، فهو مغالطة أكيدة لدى البعض، وبخاصةً من أصحاب المذهب الطبيعي، وهو حجة سديدة لدى البعض الآخر، مثل وليم جيمس الذي أسهب في تبيانه في كتابه «إرادة الاعتقاد» the will to believe، يقول بسكال في «الخواطر» Les Pensées: «إما أن الله موجود أو غير موجود، ولا يملك العقل وحده أن يحسم هذا الأمر، وما دام الاختيار هنا لا بُدَّ منه فلتنظر إليه على أنه «رهان»: إذا ما راهنتَ على أن الله موجود وسلكت في حياتك وفقًا لذلك ثم ربحت ربحتَ نعيمًا أبديًّا، أما إذا خسرت فلن تخسر شيئًا يُذْكَر.»

وقد سبق لأبي العلاء المعري أن صاغ هذه الحجة عينَها صياغةً بليغةً محكمة في لزومياته إذ يقول:

قال المُنجِّم والطبيبُ كلاهما
لا تُحشر الأجساد قلتُ إليكما
إن صَحَّ قولكُما فَلَستُ بخاسرٍ
أو صحَّ قولي فالخَسارُ عليكما
يقول وليم كليفورد William K. Clifford في «أخلاق الاعتقاد» ethics of belief مُفنِّدًا حجة الرهان: «إن الإيمان يفقد قداسته إذا ما تعلق بعبارات لا دليل عليها ولم توضع موضع التساؤل، لمجرد راحة المؤمن ولذته الشخصية، فلو قُبل الإيمان على أساس أدلة غير كافية فإن اللذة تكون لذة مختلَسة، حتى لو كان الإيمان صحيحًا.» يرى البعض أن المراهنة على الرب تحمل المرء على أن يختان نفسه وينتهك بذلك واجبًا «كانتيًّا» تجاه ذاته، ويُصر كليفورد على أن اعتقاد الفرد في شيءٍ بلا دليلٍ كافٍ هو أمرٌ يُؤذي المجتمع كله؛ لأنه يُعزز السذاجة ويُعدي مثلما تعدي الأوبئة! «وإنه لمن الخطأ دائمًا وفي كل مكان، ولكل شخص، أن يؤمن بأي شيء على أساس أدلة غير كافية.»

(٢) متى يكون الاحتكام إلى النتائج صائبًا منطقيًّا؟

فطن الفلاسفة منذ أرسطو إلى أهمية الاحتكام إلى النتائج للمفاضلة بين القضايا المختلفة في حالة تساويها في كلِّ شيء، يقول أرسطو في «الطوبيقا»: «حين يكون شيئان من التماثل بحيث يصعب تفضيل أحدهما على الآخر فإن علينا أن نحتكم إلى نتائجهما، وذلك الشيء الذي يُفضِي إلى نتائج أفضل هو الجدير بالاختيار، أما إذا كانت نتائج كليهما شرًّا فإن علينا أن نختار أقلَّهما شرًّا.»

غير أن أرسطو، وغيره من الفلاسفة، إنما يحتكمون إلى النتائج في مجال «العقل العملي» لا النظري؛ أي حين يكون الاختيار هو بين مسارين من الفعل، أو بين نهجين من السلوك، والحق أنه من الوضوح الذي يجري مجرى البدائه ونوافل القول إن الموازنة بين الأفعال إنما يتم بالموازنة بين تَبِعاتها ونتائجها المتوقَّعة، أما إذا كان السؤال هو عن الحق أو الصواب فإن الاحتكام إلى النتائج يكون أمرًا خارجًا عن الموضوع، ومن الخطأ دائمًا أن نوجسَ من كلِّ نظرية علمية جديدة تكشف جانبًا من الحقيقة، أو نرفضَها، لا لشيءٍ إلا لأنها تتحدى قناعاتنا الثقافية، أو تجرح كبرياءنا البشرية، أو تمس عواطفنا الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤