الفصل الرابع عشر

الإحراج الزائف (القسمة الثنائية الزائفة)

false dilemma; bifurcation; black and white fallacy

«أبيض» أو «أسود»
عكازان يتوكأ عليهما كلُّ ذهنٍ مُقْعَد،
عاجزٍ عن التحليق في الفضاء الحقيقي
الرمادي.

***

يقعُ المرء في هذه المغالطة عندما يبني حجتَه على افتراضِ أن هناك خيارين فقط أو نتيجتين ممكنتين لا أكثر، بينما هناك خيارات أو نتائج أخرى، إنه يغلق عالَمَ البدائل الممكنة أو الاحتمالات الخاصة بموقفٍ ما، مبقيًا على خيارين اثنين لا ثالث لهما، أحدُهما واضحُ البطلان والثاني هو رأيُه دامَ فضلُه.

أمثلة

  • (١)

    إما أنك معنا وإما أنك ضدنا.

  • (٢)
    America love it or leave it.
  • (٣)

    إما أن توافق على خفض الضرائب، وإما أن تكون راضيًا عن الخراب العاجل الذي سيحيق بهذا البلد.

  • (٤)

    إما أن تشن معنا هذه الحرب من أجل الحفاظ على منهجنا في الحياة، وإما أن تكون خائنًا جبانًا.

  • (٥)

    إما أن توافق على خفض الدعم الحكومي، وإما أن تكون سعيدًا بفشلنا في علاج عجز الميزانية.

  • (٦)

    إما أن تستعمل صابون دوف، وإما أن تُعرِّض جلدك لضروب خطيرة من التهيج والحساسية.

  • (٧)

    إما أن نفرض حظرًا على «س» من الأمور، وإما أن نترك شخصيتنا ومنظومتنا الحياتية مهددة بالخطر.

  • (٨)

    علينا أن نُبِيحَ الإجهاض دون قيدٍ أو شرط، وإلا فإننا نرغم الأطفال على أن ينشئوا في كنف آباء لا يريدونهم.

  • (٩)

    إما أن نُسرِّح نصف الموظفين وإِمَّا أن تفلس الدولة قبل يناير القادم.

  • (١٠)

    إما أنني موهوبٌ بقدراتٍ نفسية خارقة، وإما أنني دجَّال مخادع، ولكنني لست دجالًا ولم أخدع في حياتي أحدًا قط! (هناك احتمالٌ ثالثٌ تم إغفاله: وهو أن أكون موهومًا.)

  • (١١)

    إما أن يكون هذا الشاهد قد رأى حقًّا مخلوقات فضائية، وإما أن يكون مجنونًا، ولكنه غير مجنونٍ، ولم نعرف عنه ولا شهدنا من تصرفاته ما ينم على أيِّ خلل ذهني على الإطلاق.

  • (١٢)

    إما أن تكون هذه السيدة قد اختُطفت حقًّا في أطباقٍ طائرة وأعيدَت ثانيةً إلى الأرض، وإما أنها تُعاني من ذُهانٍ متقدِّم، ولكنها في تمام العقل والاتزان وملتزمة في عملها ولم يسبق لها قَط أن أدخِلت إلى مصحة للأمراض العقلية.

تروج هذه المغالطة بصفة خاصة في أقوال الباعة ومندوبي الدعاية الذين يُضَيِّقون على العميل نطاقَ الخيارات حتى لا يبقى له خيارٌ إلا في سلعتهم المعروضة؛ وتروج على ألسنة السياسيين الذين يُحيلون كل من ليس مواليًا لهم إلى عدوٍّ مبين، ولا يتركون خانةً للحياديين مثلًا في منظومتهم التصنيفية المتصوَّرة؛ وتروج في خطاب المتطرفين الدينيين على اختلاف مشاربهم، أولئك الذين يُقدِّمون للسذج وكسالى العقل تأويلًا للعالم مفرطًا في التبسيط والتسطيح والزيف والتشويه.

يمكن تجريد الصورة المنطقية للإحراج الزائف كما يلي:
إما «ق» وإما «ك»،
لا «ق»؛
إذن «ك».
من الواضح أن هذا القياس صحيح بحد ذاته ولا غبار عليه، مثال ذلك:
إما أن سليمان ميت وإما أنه حي،
سليمان ليس ميتًا؛
إذن سليمان حي.
ومثال آخر:
إما أن عمرَ لديه رخصةُ قيادة وإما أنه غير مسموح له بالقيادة،
عمر لم يحصل على رخصة قيادة؛
إذن عمر غير مسموح له بالقيادة.
ويأتي الخللُ دائمًا إذا كانت «ق» و«ك» لا تَستغرقان جميعَ الاحتمالات القائمة بحيث يحق لنا تجريدُ الصورة المنطقية للإحراج الزائف، بُغْيَةَ الإيضاح والدقة، كما يلي:
  • (١)

    إما أن تختار «ق» وإما أن تختار «ك»،

  • (٢)

    ليس هناك اختيارات أخرى،

  • (٣)

    لا يمكنك أن تختار «ق»؛

إذن لا بديل لك من أن تختار «ك».

ويكمن الخلل هنا في كذب المقدمة ٢؛ ومِن ثَمَّ لا يلزمك لكي تفند للخصم حجته وتظهره على خطئه سوى أن تكشف له هذه المقدمة المضمرة أو الافتراض المسبق: «ليس هناك بدائل أخرى»، وتخرجه إلى واضحة النهار.

حين يعم الاستقطاب الذهني ويتواتر يصبح سمةً شخصيةً تميز الفرد، أو أيديولوجية جمعية تميز الجماعة، وهو على المستويين لا يورِث إلا العجز والجمود، يقول د. آرون بك رائد العلاج المعرفي: «يميل العصابيُّ إلى التطرف والشطط في التفكير حين تكتنفه مواقفُ تمس الجوانب الحساسة من نفسه، مثل تقديره لذاته في حالة الاكتئاب، واحتمالات الخطر الشخصي في حالة عصاب القلق، وقد يقتصر الشطط الفكري على مناطق قليلة، ويعني الشطط (التطرف الفكري thinking in extremes) أن نَسِمَ الأحداث والوقائع بأنها بيضاء أو سوداء، حسنة أو سيئة، رائعة أو فظيعة، وقد أُطلِق على هذه الخاصة اسم «التفكير المنقسم» dichotomous thinking أو «التفكير ثنائي القطبية» bipolar thinking، شأن المقدمات الأساسية التحتية لهذا النوع من التفكير أن تصاغ في حدود مطلقة مثل «دائمًا» أو «مطلقًا».»١
ويتجلَّى الاستقطابُ الذهني الجمعي في أوضح صورة في ظاهرة العنصرية أو ما يعرف بمركزية العِرق ethnocentrism، وتعني مركزية العِرق النظر إلى الأشياء على أن جماعتنا هي محور كل شيء والإطار المرجعي الذي يُقاس عليه كل شيء آخر وتقيَّم به كل الجماعات الأخرى: جماعتنا هي الصواب وغيرها الخطأ … هي الحق وغيرها الباطل، هذه العنصرية الصميمة هي التي تحمل كل شعب على أن يغلو في أية عناصر يجدها خاصة به وحده ومميزة له عن الآخرين، وهذا الاستقطاب الذهني هو الذي يُفضِي بالحضارات إلى التجمد والذبول، وهو الذي يذكي الضغائن بين الجماعات المختلفة ويورطها في صراعات منهِكة ويزجي بها إلى حروبٍ مقدسةٍ في وهم الطرفين، ويعطلها في هذا العصر عن الاندماج في المجتمع الكوكبي الجديد. إن أول ما يحيد بالجماعات عن المنطق السديد وعن الاندماج الجديد هو التفكير المستقطب: عقلية «نحن-مقابل-هم»، حيث يُقيَّم كل طرفٍ بتبسيطٍ مفرِط: فإما خيرٌ كله وإما شرٌّ كله.٢
١  آرون بك، «العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية»، ترجمة: د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٠، ص١٠٠.
٢  Greenspan, S. I. (1997). The growth of the mind and the endangered origins of intelligence. Readings, MA: Addison Wesleg.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤