الفصل الثامن عشر

مهاجمة رجلٍ من القش

straw man fallacy

مَن يَدرِي لعل التاريخ
(الذي كَتَبه المنتصرون)
قد حجب عنا نصف الحقيقة،
واستبدل به رجالًا من القش!

***

هي تلك المغالطة العتيدة التي يعمد فيها المرء إلى مهاجمة نظريةٍ أخرى غير حصينة بدلًا من نظرية الخصم الحقيقية، وذلك تحت تعميةٍ من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصيٍّ متطرف، ويشبه هذا الجهد العقلي العقيم، سواء حسنت النية أو ساءت، أن يكون رميًا لخصمٍ من القش بدلًا من الخصم الحقيقي، أو قصفًا لكتيبةٍ هيكلية بدلًا من قصف الكتيبة الحقيقية! إنه لأيسر كثيرًا أن تنازِل رجلًا «دُمية» من أن تُنازِل رجلًا حقيقيًّا.

وتأتي التسمية من تلك الممارسة التي كانت شائعةً في العصور الوسطى، والتي تُستخدم فيها دميةٌ على هيئة رجل محشوةٌ بالقش لكي تمثل «الخصم» في ممارسة المقارعة بالسيف، وما تزال صيغٌ من هذه الممارسة شائعةً حتى الآن، وبخاصة في مواقف التعبير عن الاحتجاج والكراهية وفي مظاهرات المناهضة السياسية.

تحمل هذه الممارسة مسحةً من بقايا الفكر البدائي قبل المنطقي، حيث يلتئم الرمز والمرموز إليه، ويقوم الجزء مقام الكل، ويُعامَل اسم الشخص أو خصلة من شعره أو أي أثر من آثاره كأنه بديل له.١

تتم مغالطة رجل القش بأن يَجْبُل المحاورة حجةً هشةً سهلة المنال غير حجة الخصم الحقيقية وينسبها إلى الخصم، ثم يُعمِل فيها مَعاوِل الهدم والتقويض، فيضفي انطباعًا زائفًا بأنه نجح في التفنيد، ويعلن انتصاره على خصمه، قد يتم ذلك عن عمدٍ فيكون حيلةً قذرةً وينم على الخبث وسوء النية والافتقار إلى الأمانة في الجدل، وقد يتم عن غير عمد فينم على الغفلة أو الجهل ويكون، في كل الأحوال، مضيعةً للوقت وإهدارًا للجهد في معركة وهمية غير ذات صلة وتُرَّهةٍ خارجة عن الموضوع!

ثمة طرائقُ مختلفةٌ لاتخاذك رجلَ القش: فقد تُقَدِّم الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنك تُفنِّد النظرية من كل جوانبها، وقد تقدم حجة الخصم في صورة مضَعَّفة أو مبسطة، وقد تشوه أو تحرِّف حجة الخصم أو تسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًّا تنسب إليه أقوالًا وأفعالًا وعقائد وتتظاهر بأنه يمثل الطائفة التي ينتمي إليها الخصم.

لم تَرِد مغالطة رجل القش في تراث أرسطو على نحوٍ صريح، غير أنه أوصى بالأمانة والإخلاص fidelity في تمثيل آراء الآخرين على حقيقتها، واعتبرها شرطًا للجدل الحقيقي، وحذَّر من الاكتفاء بإسباغ مظهر الآراء الأخرى دون جوهرها، واعتبر ذلك ضربًا من السفسطة، تدل هذه الوصايا الأرسطية على أنه أدرك مغالطة رجل القش وميَّزها، وإن لم يُدْرِجها في قائمة المغالطات ويسبغ عليها اسمًا.

(١) التحريف بالتجزيء

قد تتناول جزءًا صغيرًا من موقف الخصم، فتأخذه بأكثر من حجمه، وتفْرِط في تعميمه فتعامله كما لو كان ممثلًا لموقفه الكلي، بينما هو لا يمثل شيئًا ذا قيمة، وإنه لتبديدٌ للطاقة وإجهاضٌ للجدل، فضلًا عن كونه إجحافًا ومغالطة، أن تتناول بالتفنيد جانبًا هامشيًّا من جوانب المذهب أو صيغة ضعيفة مفرطة التبسيط لموقف الخصم، إن الأيديولوجيات التي كسبت أنصارًا ودامت حقبًا هي، على الأرجح، أنساقٌ تتمتع بمزايا معينة عليك أن تقف عليها وتكتنهها؛ حتى يتسنى لك أن تفندها في جوانبها القوية، فالمسألة الجديرة حقًّا بالتناول إنما ينبغي التماسُها في هذه الجوانب القوية وعلى هذا المستوى الرفيع.

(٢) التصنيف والتنميط

يميل العقلُ البشري بطبيعته إلى تصنيف الأشياء وتنميطها (حتى ليغدو ذلك شرطًا من شروط الإدراك)؛ لأن العقل لا مَحِيد له عن أن يفرض نظامًا على الفوضى ويضفي معنى على الشواش، ربما لذلك يميل المرء أحيانًا إلى أن يصنف الخصم تصنيفًا خاطئًا ويتوسَّم فيه غيرَ ما هو، ويُسقط عليه من تصنيفاته الفئوية الخاصة ما لا يناسبه، وكان المرء هنا يكشف عن ذات نفسه أكثر مما يكشف عن الآخر، ويَسرِي عليه قول سبينوزا: «إنَّ ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس.»

وقد يميل المرء إلى «التنميط» stereotyping فيدمغ الخصم بصفاتٍ معينة تميز الجماعة أو الطائفة التي ينتمي إليها، بينما الخصم يرى رأيًا يحيد كثيرًا عن تلك الطائفة أو يذهب مذهبًا يمثل جناحًا معينًا منها، والذي قد يختلف اختلافًا مهمًّا عن آراء الأجنحة الأخرى من نفس الطائفة.

(٣) رجل القش المتطرف

ويجري مجرى التبسيط أن ترمي الخصم بالتطرف وهو معتدل، وبالمطلقية وهو نسبي، والحق أن أمثل النماذج لرجل القش هو أن تهوِّل من موقف الخصم وتزيحه من الأواسط إلى الأطراف، ذلك أن المواقف المتطرفة أسهل في التفنيد لأنها لا تسمح باستثناءات، انظر إلى هذا الطيف من المواقف:
كل «أ» هو «ب».
معظم «أ» هو «ب».
بعض «أ» هو «ب».
بعض «أ» ليس «ب».
معظم «أ» ليس «ب».
لا أحد من «أ» هو «ب».
الأطراف هنا هي: «كل «أ» هو «ب»»، «لا «أ» هو «ب»»، هذه المواقف هي الأيسر تفنيدًا، ولا يلزم لتقويضها إلا «مثال مضاد» counterexample واحد، مثل هذه القضايا الكلية هي عادة كاذبة (ما لم تكن «أ» و«ب» مرتبطتين بالتعريف)، وذلك بحكم طبيعة العالم وتكوينه، وتزداد صعوبة هذه القضايا في التفنيد تدريجيًّا حتى تبلغ أوج الصعوبة في أوسطها: «بعض «أ» هو «ب»»، «بعض «أ» ليس «ب»»، فلِكي تفند إحدى هاتين القضيتين يتعين عليك أن تثبت أحد الطرفين: «لا «أ» هو «ب»» أو «كل «أ» هو «ب»» على الترتيب، المتطرفون إذن هم القائلون بمذاهب تبدأ ﺑ «كل» أو «لا أحد»، فالمتطرفون في قضية الإجهاض مثلًا هو القائلون: «كل إجهاض مباح.» أو «كل إجهاض حرام.» من هنا دأبت مغالطة رجل القش على مهاجمة الأفكار أو الاتجاهات في صورتها المتطرفة حيث هي أضعف ما تكون.
قد يكون رأي الخصم «تعميمًا مقيَّدًا» (أو مشروطًا) qualified generalization فتأخذه أنت مأخذَ «التعميم المطلق» absolute generalization؛ لكي تسهِّل على نفسك مهمةَ تفنيده بذكر مثال مضاد أو بضعة أمثلة، إنك إذن تقع في مغالطة «إغفال المقيدات» secundum quid.٢
وقد يكون رأي الخصم معتدلًا فتزيحه أنت إلى حافة الشطط والغلو التي كثيرًا ما ينقلب عندها الرأي إلى مسخٍ غريب منفِّر (أو شيطان demon) هو أبعد ما يكون عن الموقف المتوازن الذي يتخذه الخصم: فينقلب «التحرر» مثلًا إلى «تحلل»، أو ينقلب «التحفظ» إلى «تزمت»، أو ينقلب «الحزم» إلى «قسوة»، أو تنقلب «الحصافة» إلى «جبن» … إلخ، يُطلق على هذه العملية، أي عملية قلب الموقف المعتدل إلى موقف متطرف، اسم «شيطنة» demonization (إضفاء الصبغة الشيطانية)، ويمكن بالتالي تسمية هذه المغالطة الفرعية اسم straw demon (شيطان القش).

كان دور رجل القش تاريخيًّا هو أن يُهوِّل مخاطر التغيير! يذكرنا التاريخ أن بضعةً من المفكرين والمصلحين يدعون إلى التحرر والتسامح قد تم سحقهم بفيالق جرارة من «رجال من القش» يدعون إلى الفوضى والإباحة وتدمير المجتمع … إلخ، وكان دور رجل القش سياسيًّا، وما يزال، هو تأليب الرأي العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زعماء الأحزاب الأخرى.

(٤) كيف نحدد موقف الخصم الذي سنتناوله بالتفنيد

علينا، مثلما أوصى أرسطو من قبل، أن نمثل رأي الآخرين، تمثيلًا أمينًا وكاملًا وجوهريًّا، ولن يتسنى ذلك إلا بأن نحدد قائمة التزامات الخصم بكاملها، تلك الالتزامات التي ألزم نفسه بها في الحوار، والمسجَّلة عليه كتابيًّا أو صوتيًّا من خلال أسئلته أو إقراراته التي طرحها طوال الحوار، المشكلة هنا مشكلة عملية: كيف يمكنك أن تثبت أن موقفًا ما لخصم ما قد تم تحريفه في حالةٍ معينة؟ الأمر هنا يتوقف على تأويل ما عناه الخصم بقوله، واستشفاف موقفه الحقيقي في مسألة معينة، وهي مهمة صعبة أحيانًا بسبب تعدد التأويلات الممكنة.

من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم التسجيل الدقيق لمجريات الحوار: صوتًا وكتابةً وشهودًا؛ وذلك لتجنب عثرة «أنت قلت/لا لم أقل»، غير أنه ليس من الميسور في المجالات اليومية المعتادة أن نتجنب هذه العثرة، وذلك لقصور الذاكرة البشرية من جهة، ولتفاوت الفهم وتأويل الأقوال من جهةٍ أخرى.

(٥) مبدأ الإحسان principle of charity

وهنا تتجلى أهمية المبدأ المسمى «مبدأ الإحسان» في تأويل النصوص وفهم الآخرين: فحيثما تشعَّبت التأويلات الممكنة لقول الخصم، فإن من الحكمة أن تفسر الشك لمصلحة الخصم وأن تتناول التأويل الأوجه والأقوى بالنقد والتفنيد.

وقد استَنَّ كارل بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدًا يعد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته، لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير، غير أن لهذه الطريقة عيوبًا كبيرة: ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف، ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها، ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر، لعل هذا هو السر في أننا قلَّما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلًا، فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم، إذ تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.

أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظريته أكثر فأكثر وسد ثغراتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه، إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصمًا جديرًا بمهاجمته»، وأن ينقَضَّ على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها، إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها، إذا ما نجحت، قاصمةٌ مدمِّرة، ومن الصعب أن تقوم لنظريته قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تمَّ تدميره.٣

(٦) أمثلة لمهاجمة رجل من القش

  • (١)

    السيد النائب يطلب خفض الزيادات المخصصة للخدمات الصحية بنسبة ٢٠٪، ولكن كيف لنا أن نبخس الصحة نصيبها من اهتمامنا ونحرم أطفالنا من حقهم في التطعيم والرعاية. (قد لا نوافق النائب على اقتراحه، ولكن لاحظ أن الخفض الذي يطالب به النائب هو خفض في زياداتٍ مضافة، وليس خفضًا فيما هو قائم، وأن النسبة المطلوب خصمها (الخمس) لا تبلغ أن تكون «بخسًا»، وأن محصلة الاقتراح لن تفضي إلى النتيجة الكارثية المزعومة (لا تطعيمات، لا رعاية)، وأن النسبة المدخرة قد تقيَّض لمرفقٍ آخر ليس أقل أهمية من الصحة، كالتعليم والبحث العلمي … إلخ.)

  • (٢)

    «إن التصويت لجولد ووتر إنما هو تصويت للحرب النووية» (ليندون جونسون في حملته الانتخابية عام ١٩٦٤).

  • (٣)
    «كيف تحظى نظرية أينشتين بكلِّ هذا القبول وهي تذهب إلى أن كلَّ شيء مباح، وأن الأخلاق إنما هي شأن نسبي يختلف من بيئة ثقافية إلى أخرى.» (لاحظ الخلط بين نسبية أينشتين theory of relativity الفيزيائية الخالصة والنسبية، أو النسبوية، الأخلاقية moral relativism التي تتحدث عن المجال الأخلاقي والقيمي ولا صلة لها بمجال الفيزياء من قريب أو بعيد.)
  • (٤)
    كثيرًا ما تؤخذ المادية الحديثة، والتي تُسمَّى أحيانًا «المذهب الفيزيائي» physicalism بجرائر المادية الكلاسيكية الساذجة القديمة.
  • (٥)
    وكثيرًا ما تُفنَّد الوضعية المنطقية logical positivism تفنيدًا لا ينطبق إلا على وضعية كونت.
  • (٦)

    وكثيرًا ما يؤخذ المذهب الشكلي عند أمثال كلايف بِل على أنه تركيز على الشكل على حساب المضمون، بينما تعني نظرية كلايف بِل شيئًا مختلفًا تمامًا ويكاد يتجه إلى العكس!

  • (٧)

    ينبغي زيادة الدعم للأمهات المطلقات العاطلات عن العمل خلال العام الأول من الولادة حتى يتسنى لهن تقديم الرعاية اللازمة لمواليدهن.

    إنك تطالب بأن تنال بضع طفيليات عاطلات متبطلات ما طاب لهن من عرق دافعي الضرائب من المواطنين العاملين الشرفاء.

(٧) الاستخدام المشروع لرجل القش

أحيانًا ما تظهرنا الصورة الكاريكاتورية على مميزاتٍ وعيوب لم نكن نلحظها في الشخص الأصلي، وكذلك يفعل التقليد الفكاهي للشخصيات والمحاكاة الأسلوبية الساخرة للمؤلفين (الباروديا parody)، وليس ما يمنع أن يستعين المرء بصورة هزلية كاريكاتورية للرأي الذي سوف يتناوله بالتحليل والنقد، ما دام يعلن ذلك إعلانًا ويُسلِّم بأن هذا ليس رأي الخصم على وجه الدقة، ولكنه كاريكاتور فيه تضخيم لعيوبٍ دقيقة ربما تلطُف على ملاحظة القارئ العادي، إنه يقدمه على سبيل التوطئة؛ لكي لا يلبث أن يُسدل عليه الستار دون طعن ويركز الضوء على هذه النقاط الدقيقة بحجمها الطبيعي وبكل الأمانة في التمثيل والطرح، في هذه الحالة يكون رجل القش تقنية بيداجوجية، أو وسيلة إيضاح مسعفة، تَتَغيَّا المزيد من الدقة في التمثيل، وتتبرأ من التحريف والتشويه وليِّ الحقائق.

•••

ومهما يكن من شيءٍ فإن مهاجمة خصم من القش بدلًا من الخصم الحقيقي هي في أغلب الأحيان ضرب من الغش والجبن، وخروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت والجهد، ومحاولة بائسة لإحراز انتصارٍ رخيص، تنم بالأحرى عن افتقارٍ إلى انتصارات حقيقية غير مختلقة، وتعطُّشٍ إلى نجاحات واقعية غير موهومة.

كن رجلًا إذن، ولا يكن دَيْدَنُك أن تنسج الدُّمى وتحشوها قشًّا وتُوسعها لكمًا، متحاشيًا بين ذلك التقاء الخصوم وبأسَ الرجال:

وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ
طلبَ الطعنَ وحدَه والنزالا

كن محسنًا لخصمك، واعرِض حجتَه في أدق صورة وأقواها، ثم قَوِّضها تَكن قد فَعَلت شيئًا يُذْكر.

١  «من الأمثلة على التئام الرمز والمرموز إليه، معاملة اسم الشخص كجزء جوهري منه، كأنه بديل له، فلدينا عدد من الأقداح الفخارية الكبيرة نُقش عليها ملوك «المملكة الوسطى» المصريون أسماء القبائل المعادية لهم في فلسطين، وليبيا، والنوبة، وأسماء حُكامها، وأسماء بعض المتمردين المصريين، كانت هذه الأقداح تُحطَّم في احتفال مهيب، قد يقام أثناء جنازة سلف الملك، والغاية من هذا الطقس مذكورة بصراحة: إنها الدعوة بالموت على هؤلاء الأعداء كلهم؛ لأنهم بعيدون عن قبضة الفرعون، غير أننا إذا دعونا تحطيم الأقداح طقسًا رمزيًّا، فاتنا مغزاه، فقد كان المصريون يشعرون أنهم يُلحقون بأعدائهم أذًى حقيقيًّا حين يحطمون أسماءهم، فيضيفون بعد أسماء الخصوم، الذين يعددونهم ويدعون عليهم بالموت، عبارات كهذه: «كل فكرٍ مؤذٍ وكل كلام مؤذٍ وكل أحلام مؤذية وكل صراع موذٍ.» إلخ، فكتابة هذه الأمور على الأقداح التي ستحطَّم تنال، في اعتقادهم، من قدرتها الفعلية على إيذاء الملك أو تقليص سلطانه» (ﻫ. فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الطبعة الثالثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٢، ص٢٥).
٢  هي معاملة القاعدة ذات الاستثناءات المقبولة على أنها مبدأ مطلق (أو العكس: أي معاملة الاستثناء معاملة القاعدة). انظر تفصيل هذه المغالطة في موضعها.
٣  نستثني من ذلك نقد بوبر لهيجل؛ وهو نقد غير مُنصف، ويعج بالقدح الشخصي والسب المقذِع، راجع كتابنا «كارل بوبر، مائة عام من التنوير ونُصرة العقل»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢، ص١٥١ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤