الفصل التاسع عشر

مغالطة التَّشييء

Reification; hypostatization; substantialization of abstracta

رَكِبَه التشييء،
فراح يفك محركَ سيارته، بحثًا عن العشرين حصانًا
التي هي «قوة المحرك»!

***

أراد جحا أن يتزوج، فبنى دارًا تتسع له ولأهله، وطلب من النجار أن يجعل خشب السقوف على أرض الحجرات ويجعل خشب الأرض على السقوف، فراجعه النجارُ دَهِشًا، ولم يفهم ما يعنيه، قال جحا: «أما علمت يا هذا أن المرأة إذا دخلت مكانًا جعلت عاليَه سافله؟ اقلِب هذا المكان الآن يعتدل بعد الزواج.»١

في هذه النادرة الكوميدية «يُشَيِّئ» جحا تعبيرًا بيانيًّا رائجًا، ويُحمل استعارةً بريئةً ما لا تحتمل ويأخذها بغير ما قصدَت إليه، وفي هذه النادرة تضخيمٌ كاريكاتوري لمغالطةٍ شائعةٍ نقع فيها جميعًا، ربما كلَّ يوم، ونبتلعها جميعًا، ربما كلَّ لحظة، حين تأتي في صورةٍ أشَدَّ خفاءً، وتكتسي برداءٍ أكثرَ اعتيادًا وإلفًا.

«التشييء» (الأَقنَمَة) reification/hypostatization هو أن تُعامل المجردات أو العلاقات كما لو كانت كياناتٍ (كائنات) عينية concrete entities، أو أن تَنْسِب وجودًا حقيقيًّا للتصورات العقلية أو البناءات الذهنية.

لقد برع بنو الإنسان حقًّا في خلق تصورات مجردة ومفاهيم ذهنية تساعدهم على حصر الأشياء والأحداث، وتصنيفها واختزالها اختزالًا يتيح لهم من الاقتصاد الذهني ما يمكِّنهم من الإحاطة بأشياء العالم وتناولها، غير أن المأساة تكمن في أن هذه العملية قد تجري أيضًا في الاتجاه العكسي: أي معاملة التصور المجرد كما لو كان «شيئًا» حقيقيًّا، حين يحدث ذلك نكون بإزاء مغالطة منطقية عتيدة مُبيَّتة في صميم العقل البشري ذاته وفي طريقة أدائه لوظيفته.

لا غرو تُعَد «مغالطة التشييء» reification من أهم المغالطات وأكثرها شيوعًا، وإن أنساقًا فلسفية بكاملها، ومذاهب سياسية واجتماعية وأخلاقية، ونظريات علمية، لتقوم على هذه المغالطة الكبيرة وتتأسس عليها، وإذا كان للفلاسفة مطلقُ الحرية في أن يقرَّروا أي الأشياء يُعد حقيقيًّا وأيها غير حقيقي، فليس من حقهم أن يُرحِّلوا تشييآتهم إلى الحقول الأخرى من البحث ملحقين بها اضطرابًا وخلطًا كان منه بُد … يَعِجُّ تاريخ العلم والاجتماع والسياسة، وحتى الرياضيات، بعثراتٍ كبرى عطَّلت مساره حقبًا، كنتيجةٍ لإلحاح المفكرين في طلب «تعريفات حقيقية» تقرر ما «تكونه» الأشياء استنادًا إلى «ما ينبغي أن تكونه» في تصورهم، وإنكار أصقاعٍ كاملة من البحث بوصفها غير حقيقية أو غير صالحة.

للتشييء رغم ذلك مجالُه الذي يُستخدَم فيه، عن قصد وإدراك، لخدمة الحقيقة والتعبير عن الواقع، ذلك هو المجال البياني البلاغي كما يتجلى في ألوان الاستعارة والمجاز والتشخيص، وهي وسائل لغوية شديدة الأهمية والجدوى في الأدب والشعر (بل في العلم نفسه في بعض الأحيان!) وبعيدة عن المغالطة بحكم طبيعة التعبير ذاته وموقفنا فيه ومأخذنا له، على ألا نمتد بتلك الاستعارات البريئة إلى غير مقصدها ونَحمِلَها على غير مَحمَلِها.

الحق أن التشييء ليس أكثر من استخدام «استعارة» metaphor، غير أنه، حين يكون مغالطة، يأخذ الاستعارة بعيدًا، أو يأخذنا بها؛ حتى ننسى أنها استعارة ونبدأ في الاعتقاد بأن كياناتنا التصورية المجردة لديها الخصائص العيانية التي أضفيناها عليها على سبيل الاستعارة، إن طريقتنا في وصف الشيء لها بالغ الأثر فيما نعتقده عن الشيء، يعني ذلك أن انطباعنا عن الواقع تُشيِّده، إلى حد كبير، اللغةُ التي نستخدمها في وصف الواقع، هكذا تهيب بنا دراسة «التشييء» أن نتوخى الحذر في طريقتنا في وصف الأشياء، لئلا نشرع، دون أن ندري، في تصور أن وصفنا يحوي ماهيةً موضوعيةً خارج اللغة ذاتها.
من الحالات النمطية للبارانويا، أو الفصام البارانوي، أن يُعاني المريض من اعتقادٍ راسخٍ بأنه مضطهدٌ من قبل إخوته وأقاربه وزوجته وجيرانه وأصدقائه وزملاء عمله، وقد يكون هناك شيء من الاضطهاد الطفيف كرد فعل لسلوكه العدواني تجاههم، وقد يكون هؤلاء انفضُّوا عنه نتيجة شكوكه واضطرابه، غير أن المريض لا يعني ﺑ «الاضطهاد» هنا مجرد وصف لسلوك هؤلاء، ولا «يرده» إلى مجموع استجاباتهم السلوكية تجاهه، بل «يُشَيِّئ» (يُؤَقنِم) reify, hypostatize الاضطهاد ويوقن بأن هناك «قوة سرية» من وراء هذه الاستجابات السلبية، ليس «الاضطهاد» عنده مجرد «فئة» من الأحداث يصنِّف تحتها سلوكات الآخرين حياله، بل هي «كيان حقيقي» مستقل عن العالم يقبع من وراء هذه السلوكات ويسببها بطريقة سرية، وما الإخوة والأقارب والزوجة والجيران وزملاء العمل إلا عملاء لهذه «القوة»، إنها كيانٌ واقعي أفلاطوني قائم، يتمتع بوجودٍ حقيقي ووضعٍ أنطولوجي.

إن التشييء ضربٌ من الجنون العقلي سهل الانكشاف في حالة البارانويا، غير أنه أصعب انكشافًا في الحالات الأكثر اعتيادًا وإلفًا، والتي نصادفها كل لحظة في حياتنا اليومية وفي حواراتنا وقراءاتنا ومشاهداتنا التليفزيونية.

يُشيِّئ العرَّافون وزبائنهم مفهوم «المستقبل» وكأنه «شيءٌ» يمكن أن يقبع في المرمدة أو الفنجان أو كرة البلور، أو كأنه نوع من البلاد قائم هناك حيث تجري الحوادث التي سوف يُعاد إنتاجها على هذه الأرض حين يأتي أوانها، إنها «هناك» تمكن رؤيتها على نحوٍ غامض في الكف وثفالة البن وأوراق اللعب، وما عليك سوى انتظار وصولها مثلما تنتظر خطابًا هو في البريد بالفعل.

يقول هيجل:

الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد في الحاضر … إنها القوة المطلقة على الأرض، إنها غاية ذاتها وموضوع ذاتها، إنها الغاية النهائية التي لها الحق الأعلى على الفرد.

ورغم أننا يمكن أن نفهم هيجل فهمًا استعاريًّا يبرِّئه من التشييء، إلا أن كلماته صارت تُفهم فهمًا تشييئيًّا لدى ملايين البشر من مختلف الاتجاهات: منها الماركسي، ومنها النازي وغيره من ضروب الشوفينية البغيضة، وصارت تعني أن الأمة غايةٌ عُليا بمعزلٍ عن رخاء الفرد وصالحه، بمعنى أن هناك كائنًا عملاقيًّا قائمًا يسعد ويشقى ويصح ويمرض يُقال له «الأمة» نضحي من أجله بالأفراد ونذبحهم تقدِمةً لجلاله.

يقول سلفادور دي مادارياجا Salvador de Madariaga في تعليقه على هذا الاتجاه: «كلَّا وألف كلَّا، الغاية العليا هي الفرد، وينبغي ألا تكون للمؤسسات الجمعية سلطةٌ عليه إلا بقدر ما يلزم لنموه الفردي الخاص.»٢
وكثيرًا ما يتحدث هواة السيكولوجيا عن «الأنا» ego و«الهو» id كأنها أنفسٌ بديلة تتناوب الأمر داخل الرأس (مثل «الشبح داخل الآلة» the ghost in the machine على حد تعبير جلبرت رايل ساخرًا من ثنائية ديكارت).
ويُشيِّئ أغلب الناس الحب وكأنه كائنٌ شبحيٌّ يتلبس المحب فيسهِّده ويُبليه، الحب ليس «جوهرًا» substance بل «علاقة» relation، ليس «كائنًا» بل انسجام كائنَين، ولعل هذا التشييء هو ما يجعل المحِبَّ يستسلم للحب ولا يرجو مهربًا من حبائله، ظنًّا منه أن الأمر برُمَّته قَدَرٌ لا فكاك منه، لقد سكن الحبُّ قلبَه وأقام به فكيف له أن يطرد هذا الساكن المقيم؟! ويظل المحب يسقط نموذجه الأنثوي المثالي على محبوبته الحقيقية «الأرضية» فيجعل منها إلهًا لا وجود له إلا في خياله، حتى إذا ما اقترب منها اقترابًا واقعيًّا خاب أملُه وأخنت عليه الحقيقة، وسقط على صخرة الواقع فشَجَّته بقدر ما علا بالمثال، وصدق فيه قول المتنبي:
مما أضرَّ بأهل العِشقِ أنهمُ
هَووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تَفْنى عيونُهُم دمعًا وأنفسهم
في إثر كلِّ قبيحٍ وجهُهُ حَسَن

أمثلة أخرى

  • (١)

    «الطبيعة تبغض الفراغ» (لاحظ أن الطبيعة لا تبغض شيئًا).

  • (٢)

    «أغراض الطبيعة دائمًا نبيلة، ومِن ثَمَّ ينبغي علينا أن نقبل بالطبيعة» (لاحظ أن الطبيعة لا أغراض لها).

  • (٣)

    «وحدها القوانين العادلة ما يداوي آلام المجتمع» (القوانين لا «تداوي» شيئًا، و«المجتمعات» لا تتألم).

  • (٤)

    «الصناعة خطر على الطبيعة والمجتمع» (الصناعة ليست «شيئًا»، ولا تجترح أي فعل، والطبيعة والمجتمع ليسا «أشياء» لكي يُفعل بها أي شيء، بعض الصناعات قد تسبب ضررًا ببعض الأشياء الطبيعية أو بعض الأشخاص في مجتمعٍ ما، غير أن معاملة أيٍّ من هذه ككيانات، حتى لو كانت كيانات جمعية، هي مغالطة).

  • (٥)

    ماذا تساوي الاعتبارات الشخصية إلى جانب حاجات المجتمع، ومصير الأمة، والحفاظ على الثقافة؟ (لاحظ أنه ما دام «المجتمع» لا حاجات له، و«الأمم» لا مصائر لها، وليس هناك «شيء» من قبيل «الثقافة» لكي تحفظه، فإن الاعتبارات الشخصية في حقيقة الأمر هي كل ما يتبقى هناك!)

يمكننا بالطبع أن نفهم «الطبيعة» و«المجتمع»، و«الصناعة»، و«الأمة»، و«الثقافة» في الأمثلة السابقة فهمًا استعاريًّا مجازيًّا فلا تعود في الأمر مغالطة، غير أن الناس كثيرًا ما تعامل مثل هذه «الأنساق» الكلية كم لو كانت «كيانًا شبيهًا بالشيء»، وهنا تبدأ بالمغالطة.

كان هتلر في أواخر أيامه، وقد صار على يقين من الهزيمة، يتحدث عن «الأمة» وكأنها كائنٌ حقيقي قائم بمعزلٍ عن الأفراد … كائن أعلى ينبغي أن يفديه الأفرادُ جميعًا بأرواحهم حتى لو قضوا عن آخرهم!

١  عباس محمود العقاد: جحا، الضاحك المضحِك، دار نهضة مصر، القاهرة، ١٩٩٧، ص١٠٧.
٢  Sontage and Beddie, Nazi-Soviet Relations. New York: Didier, 1948, p. VIII.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤