الفصل العشرون

انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)

Confirmation bias

دَلَفَ إلى المناظرة التليفزيونية يتأبَّط أضابير منتفخة
بقصاصاتٍ ووثائق تؤيد دعواه،
ولعله بنصف هذا العَرَق
كان قمينًا أن يجمع ضِعفيها
من القصاصات والوثائق المُفَنِّدة!

***

في تجربة شهيرة١ عُرِض على المشاركين أربع بطاقات، كل بطاقة منها تحمل عددًا على أحد وجهيها وحرفًا أبجديًّا على وجهها الآخر، مثل هذا:

ثمة فرضيةٌ في هذه البطاقات تقول بأنه: «إذا كان في البطاقة حرفٌ متحرك على أحد وجهيها، فإن على وجهها الآخر عددًا زوجيًّا بالضرورة.» والمطلوب من المشارك أن يقدم أسرع طريقة لاختبار هذه الفرضية (أو يُطلَب منه، بصيغة أخرى، تحديد بطاقتين اثنتين فقط عليه أن يقلبهما لكي يختبر صدق هذه الفرضية).

في هذه التجربة وقع جميع المشاركين تقريبًا في الاختيار الخطأ (وهو: E، 4) ولم يهتدوا إلى الجواب الصحيح (وهو: E، 7)، ذلك أن عليك أن تقلب بطاقة E لتكشف إن كان هناك عدد زوجي على ظهرها، فإذا لم يكن فالفرضية كاذبة، يتعين عليك أيضًا أن تقلب البطاقة 7 لكي تتيقن من أنها لا تحمل في ظهرها حرفًا متحركًا، فإذا وجدتَه فالفرضية كاذبة، وما دامت البطاقة E بها عدد زوجي والبطاقة 7 ليس بها حرف متحرك فإن الفرضية صادقة، ولا يهم ما يكون على ظهر البطاقة 4 والبطاقة K ولا يغير من الأمر شيئًا.٢

«والآن ما هو مصدر الضلال هنا؟»

«لماذا نميل فعلًا إلى اختيار البطاقة 4 بدلًا من 7؟»
يبدو أن لدينا ميلًا صميمًا إلى أن «نؤيِّد» confirm مثل هذه الفرضيات بدلًا من أن «نُفنِّدها»  disconfirm، إننا نقلب البطاقة 4 لأننا نبحث فقط عن أمثلة موجبة للفرضية وليس أمثلة سالبة، إننا أميل إلى البحث عن دليل «مؤيد» حتى إذا كان الدليل «المفنِّد» أكثر دلالةً بكثير.

يفكر الواحدُ منا بمثل هذه الطريقة: «إذا قلبتُ بطاقة العدد الزوجي ووجدت حرفًا متحركًا أكون قد أيَّدتُ العبارة» غير أن العثور على مثالٍ يؤيد القاعدة لا يُثبت أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثالٍ واحدٍ يُكذِّب القاعدة هو أمرٌ يكفي لأن يُثبت كذبها على نحوٍ نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً مبرمًا.

انظر أيضًا إلى المثال التالي: فهذا سياسي يرى أن إلغاء الضرائب المحلية سوف يؤدي إلى انخفاض معدلات الجريمة؛ ومِن ثَمَّ فقد طلب من الباحثين لديه أن يجمعوا أمثلةً لحالاتٍ أُلغِيتْ فيها الضرائب المحلية ثم انخفضت معدلات الجرائم، وجد الباحثون أن هناك مائةً من هذه الأمثلة، إذاك خلص السياسي إلى أنه محقٌّ في افتراض أنه بخفض الضرائب المحلية يمكنه أن يقلِّص الجريمة.

لقد أراد السياسي أن «يؤيد» فرضيته فحسب، لا أن «يُفنِّدها»، وربما يكون بذلك قد ضلَّ السبيل، ولعل باحثيه لو جدُّوا في الطَّلَب لأتوا له بمائتي حالةٍ ارتفعت فيها الجريمة بعد إلغاء الضرائب المحلية!

في مجال الاستدلال الإحصائي يُعدُّ انحياز «التأييد» confirmation (أو «التحقيق» verification) ضربًا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة، ومن أجل معادلة هذا الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقة تُلزِمنا بأن نحاول تفنيد disconfirmation (أو تكذيب falsification) فرضياتنا.
وفي مجال السيكولوجيا يُعرَّف انحياز التأييد بأنه ظاهرة تتميز بميل صانعي القرار إلى ملاحظة الأدلة المؤيدة لدعاواهم والاحتفاء بها والتماسها بهمةٍ، بينما يميلون إلى تجاهل الأدلة التي قد تنال من الدعاوى، وإلى التقاعس عن طلبها والبحث عنها، وهي بهذا المعنى تُعد صورة من صور «الانحياز الانتقائي» selection bias في جَمْع الأدلة.
يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية «المُخَلِّدة لذاتها» و«المُحققة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن البشري بحُكم تكوينه يجد صعوبةً في «معالجة» processing الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة.
وتُشير الدراسات الحديثة رغم ذلك إلى أنه بينما تسود مغالطة التأييد كحالةٍ مبدئية، فإن تكرار ورود البيانات المفنِّدة يُحدث تحولات في التفكير النظري، فالمسلك العام لدى الباحثين هو استبعاد البيانات المفنِّدة في البداية باعتبارها نتاج زللٍ أو سهو أو عوامل دخيلة، غير أن تكرار البيانات المفنِّدة وتراكمها وإلحاحها في الظهور يُحدث تغيرًا في استراتيجيات الاستدلال السببي.٣

(١) كارل بوبر: مذهب التكذيب falsificationism

«كان بوبر مناوئًا لفكرة أن المعرفة العلمية تتراكم عن طريقة تأييد الفرضيات أو تحقيقها، وفي تصور شديد الاختلاف والجدَّة لدينامية العلم ذهب بوبر إلى أن الفرضيات لا تكون جديرة حقًّا بالقبول ما لم تكن قابلة للتكذيب، كانت فكرته مدمِّرةً وبسيطة: من السهل أن تجد أمثلة مؤيدة للفرضيات، سهولة تجعل من المستبعد أن يكون هذا هو طريق العلم الصحيح، تأمل مثلًا فرضية بسيطة مثل: «جميع النباتات تتكاثر جنسيًّا»، فإذا كان كل ما يلزمني هو الشواهد المؤيدة لذلك، فإن بميسوري أن أُهرَع إلى الحديقة وأكتشف أن جميع الزنابق الستمائة وأربع وستين تتكاثر جنسيًّا، وهلمَّ جرًّا، وسرعان ما يجتمع لديَّ عددٌ هائل من الأمثلة الموجبة، ومع ذلك فلو اطَّلع أيُّ عالمِ نبات على عملي فلن يأبه له؛ لأنني لم أحاول أن أجد مثالًا «مفنِّدًا»، لم أنظر إلى حالات يمكن أن تكون «أمثلة مضادة» counter-examples، فقبل تَبَنِّي أي فرضية ينبغي عليَّ أن أفحصَ كثيرًا من الأنواع المختلفة من النباتات المزهرة، وأن أفحص الأعشاب والسراخس، وبعامةٍ، يجب عليَّ أن أحاول جهد ما أستطيع أن «أُكذِّب» falsify فرضيتي.
تأمل فرضية أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج الكلام، فلكي يُبرهن المرءُ على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين حالات تَلَف منطقة بروكا وبين فقدان الكلام، فلا بُدَّ للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك مرضى بتلفٍ في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كانت هناك حالات فقدان نطق مع تلف في مناطق أخرى، عندئذٍ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات المؤيدة، تفيد دعوى بوبر أن العالم إذا قبِل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيِّدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يُحصَى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من الطرق المسدودة، أما إذا ظفر بفرضيةٍ صمدت لمحاولاتٍ عنيفة لتكذيبها، فعندئذٍ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيَّدة، بل باعتبارها أفضل فرضية متاحة حتى الآن.»٤

يمكننا أن نفسرَ العلاقةَ المنطقية بين التحقيق والتكذيب كما يلي: تتنبأ النظرية القائلة بأن الدببة القطبية يجب أن تكون بيضاء بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة سيكون أبيض، فإذا حدث أن كان الدب القادم أبيض حقًّا فقد يُغرِيني ذلك بأن أقول إن مشاهدتي هذه تؤيد النظرية، ولكن الحقيقة أن هذه المشاهدة لا يمكن أن تُعد برهانًا نهائيًّا على صدق النظرية؛ ذلك لأن هناك احتمالًا سيظل قائمًا أبدًا بأن يأتي دب قادم في رَتَل الملاحظة غير أبيض، وإذا حدث هذا تكون هذه الملاحظة وحدها كافية لتكذيب النظرية بصفةٍ نهائية، هكذا يتبين لنا أن التأييد لا يحسم أمر النظرية بينما التكذيب يمكن أن يَكِيل للنظرية ضربةً واحدةً قاضية.

التكذيب إذن، وليس التأييد، هو معيار العلم.

أما عن التأييد فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأدلة التي تتسق معها وتؤيدها، وتزعم معظم النظريات التي تدعي الصفة العلمية أنها مشيدة أصلًا على أساس التفكير الاستقرائي؛ أي استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعًا، وماذا يكون التأييد هنا سوى الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عُقم لم يأتِ بجديد، أما المنهج المُجدي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيًّا ونفتش عن حالات مفنِّدة للنظرية؛ لأن العثور على مثال مضاد واحد سيكون كافيًا للإجهاز عليها، أما إذا صمدت النظرية ستُعَد قوية وأهلًا بالأخذ بها باعتبارها أفضل فرضية متاحة آنيًّا.

(٢) فرنسيس بيكون: المثال السلبي فوق المثال الإيجابي

اقرأ واستمع: لا لكي تمارِي وتُفحِم، ولا لكي تعتقدَ وتُسلِّم، ولا لكي تظفر بحديثٍ أو قول، بل لكي تروز وتُمحِّص.

فرنسيس بيكون
يقول بيكون في «الأورجانون الجديد» Novum Organum: «من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيًا (سواء لأنه الرأي السائد أو لأنه راقَه وأعجبه) أن يَقسِر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددًا وثقلًا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقةً تُسوِّل له أن يزيحها وينبذها، لكي يَخلُص، بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق، إلى أن استنتاجاته الأولى لا تزال سليمةً ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابًا وجيهًا ذلك الذي بَدَرَ من رجلٍ أطلعوه على صورةٍ معلقةٍ بالمعبد لأناسٍ دفعوا نذورَهم ومِن ثَمَّ نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنًا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»

وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث نجد الناس، وقد استهوتهم هذه الضلالات، يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق، رغم أنها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.

على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاءً ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكمُ الأول لونَه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يُقاس، وفضلًا عن هذا، وبِغَض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تَسِم الفكرَ الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومُولَع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أيِّ قانون صادق يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهةً وفعالية» (الأورجانون الجديد، الكتاب الأول، شذرة ٤٦).

١  تُسمَّى «مشكلة بطاقات واسون» Wason card problem.
٢  لاحظ أنَّ الفرضية هنا هي عبارة شرطية conditional، والعبارة الشرطية تكون كاذبة إذا — وفقط إذا — كان مُقدَّمها (عبارة إذا) صادقًا وتاليها (عبارة إذن) كاذبًا.
٣  لمزيدٍ من الإيضاح انظر أيضًا «بنية الثورات العلمية» لتوماس كون، وله بالعربية أكثر من ترجمة، ومن تمام القول أن نُشير إلى أنه في السياق العياني لا يقع الناس في خطا انحياز التأييد بنفس المعدل: من ذلك أنه لدى تقديم نسخة «عيانية» من نفس الاختبار اهتدَى عددٌ كبير من المشاركين إلى الإجابة الصحيحة، من أمثلة هذه الصيغة العيانية تقديم أربع بطاقات كل بطاقة بها مشروبٌ معين على أحد وجهيها وعُمْرُ شارِبِه على الوجه الآخر: قهوة، كولا، ١٤، ١٨، وتقول الفرضية إنه إذا كان الشخص يشرب القهوة فإن عمره إذن لا بد من أن يكون فوق ١٦.
٤  Churchland, P. S., Neurophilosophy, ninth edition, A Bradford book, The MIT Press, 1996, pp. 259-260.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤