الفصل الثاني والعشرون

مغالطات الالتباس

fallacies of ambiguity
كثيرًا ما يتبدل معنى الكلمات أو التعبيرات أثناء الحديثِ أو في مَساق حجة، قد يحدث ذلك عن غفلة وقد يحدث عن عمد، فيحمل الحدُّ معنى معينًا في إحدى المقدمات، ويحمل معنى مختلفًا تمامًا في النتيجة، عندما يعتمد الاستدلالُ على مثل هذه التبدلات يكون مغالطًا بطبيعة الحال، ويُطلق على هذا الفصيل من المغالطات «مغالطات الالتباس» fallacies of ambiguity، وهي في أغلب الأحيان مغالطاتٌ فجةٌ سهلة الكشف، غير أنَّها قد تِدق في بعض الأحيان وتخفى على متلقيها أو حتى على مرتكبها!
قد يخلق الالتباس خلطًا خطيرًا حتى لو لم يأتِ في مساق حُجة، ومن الأمثلة المشهورة على ذلك حوادث اصطدام السفن والطائرات من جراء الالتباس في لغة الاتصال، في السابع والعشرين من مارس عام ١٩٧٧ لقي ٥٨٣ شخصًا حتفهم عندما اصطدمت طائرتا ركاب على المَدْرج الذي خَيَّم عليه الضباب في تينيريف بجزر الكناري، قال قائد الطائرة في رسالته اللاسلكية إلى التحكم الأرضي: «نحن الآن at the take off» بمعنى «نحن في نقطة الإقلاع عن المَدْرَج»، إلا أن المتحكِّم الأرضي أخذَ الرسالة بمعنى أن الطائرة كانت منتظرةً على المدرج، وكانت النتيجة أن قضى المئات نحبهم في الصدام، تُبَيِّن مثل هذه الحالات أن المشكلات التي تنجم عن الالتباس لا يُستهان بها، وهي مشكلاتٌ شائعةٌ جدًّا في الوقت نفسه، في القضايا القانونية على سبيل المثال، وفي التعاملات التجارية والتعاقدات المدنية والاتفاقيات الدولية يُشكل الالتباس وتعددُ التأويلات للنص الواحد مشكلةً عتيدة، وما تزال مشكلة «الانسحاب من أراضٍ، أو الانسحاب من الأراضي» تَسْكن ذاكرة كلٍّ منا، وهي مشكلةٌ ناجمة عن الالتباس المُبَيَّت في صميم اللغة الإنجليزية وأدوات التعريف والتنكير بها.

(١) الاشتراك (الالتباس المعجمي/اشتراك اللفظ) equivocation

الوَرَع … ها هو ذا التباس،
بوسعه أن يلعبَ على الكفتين، مرجِّحًا أيًّا منهما على الأخرى،
كم ارتكب من الخيانات زاعمًا أنها في سبيل الله،
ولكن هيهات له أن يلبس شيئًا على رب السماء.
مكبث، الفصل الثاني، مشهد ٣
معظم ألفاظ اللغة هي ألفاظٌ «مشتركة» equivocal لها أكثر من معنًى واحد،١ ولبعض الألفاظ نطاقٌ كبيرٌ من المعاني، يقول أبو حامد الغزالي في كتابه «المستصفَى»:

وأما الألفاظ المشتركة فهي الأسامي التي تنطبق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة: كاسم «العين» للعضو الباصر، وللميزان، وللموضع الذي يتفجر منه الماء — وهو العين الفوارة — وللذهب، وللشمس، وكاسم «المشترِي» لقابل عقد البيع، وللكوكب المعروف.

الغزالي، المستصفَى، ج١
ينشأ الاشتراك نتيجةً للتطور التاريخي للغات الطبيعية، والتي نعلم اليوم أنها تقوم على «المواضعة» convention والاتفاق، وأن علاقة الدال بالمدلول فيها هي علاقة «اعتسافية» (اعتباطية) arbitrary لا ضرورة فيها، وأنها تتطور ببطء ونادرًا ما تكون التغيرات التي تلحق بها متعمدة من جانب الأفراد أو الجماعات، وقد كان هذا الاشتراك القائم في صميم المعجم اللغوي حريًّا أن يُهدد الوضوح والإفصاح ويُعطل الوظيفة الاتصالية للغة، لولا أن اللغة تتغلب على الالتباس الكامن في ألفاظها بواسطة السياق الصريح الذي يتكفل، في أغلب الأحوال، ببيان المعنى المقصود، يقول لودفيج فتجنشتين: ليس للكلمة الواحدة من كلمات اللغة معنى محددٌ دقيق، وإنما للكلمة الواحدة، كما هي مستخدمة بالفعل في الحياة اليومية، معانٍ لا حصر لها تتحدد بحسب السياقات والظروف المختلفة التي تُستخدم فيها، فالكلمة مطاطة تتسع استخداماتها وتضيق وفقًا للظروف والحاجات، ومثلها كمثل أدوات النجار — ليس لكل أداة استخدامٌ واحد وإنما استخدامات مختلفة في الظروف والحاجات المختلفة، ولا يوجد بين الاستخدامات المختلفة للكلمة الواحدة عنصرٌ مشترك محدد، وإنما يوجد بينها «تشابهات عائلية» family resemblances متداخلة مندمجة كالتي نراها بين أفراد الأسرة الواحدة.
السياق إذن من وسائلنا للتغلب على التباس الألفاظ، ومن وسائلنا الأخرى أن نستخدم «التعريف» فنتواضع على الطريقة التي سوف نستخدم بها هذه الكلمة أو تلك في سياق معين من القول، وينشأ الالتباس حين يعجز كل من السياق والتعريف عن حصر نطاق المعاني الخاص بكلمة ما في معنى واحد بعينه، ونحن حين نقوم بخلط المعاني المختلفة لكلمة أو تعبير، عفوًا أو عن قصد، فإننا إذن نستخدم اللفظة استخدامًا مشتركًا equivocally، وحين نفعل ذلك في مساق «حجة» argument نكون قد ارتكبنا «مغالطة الاشتراك» fallacy of equivocation، ذلك أن الحجة لا تكون منتجةً منطقيًّا، ولا تؤدي فعلها كحجة، ما لم تكن ألفاظها تحمل ذات المعنى في كل مرة ترد فيها، سواء في المقدمات أو في النتيجة.

حين أقول لك «كن مؤمنًا» فقد يعني ذلك «ثِقْ في رحمة الله» وقد يعني «اعتقِد في وجود الله»، وحين أقول «إنني أعتقد في» الرئيس فلان فإن ذلك يعني أنني أثق في كفاءته كرئيس، ولكن حين أقول «إنني أعتقد في» التلباثي (التخاطر) فإنني أستخدم التعبير نفسه ولكن بمعنى جِد مختلف، وهو أنني أعتقد في وجود ظاهرة التخاطر.

كذلك تحمل الألفاظ النسبية، من قبيل «جيد»، «قصير»، «صغير» … إلخ، خطر الاشتراك حين يُساء استخدامها، من ذلك أن النملة «الكبيرة» تظل حيوانًا «ضئيلًا»، والفيل «الصغير» يظل حيوانًا «ضخمًا»! والباحث «الجيد» قد يكون محاضرًا «رديئًا» والجنرال «القدير» قد يكون رئيسًا «ضعيفًا»، والانتقال من أي حد من هذه الحدود إلى الآخر يُعد انتقالًا مغالطًا.

أمثلة أخرى

  • (١)

    كل قانون ينبغي أن يُطاع.

    قانون الجاذبية هو قانون؛

    إذن قانون الجاذبية ينبغي أن يُطاع.

    (هنا تُستخدم لفظة «قانون» بمعنيين مختلفين، ويُسمَّى هذا الصنف من المغالطة «مغالطة التباس الحد الأوسط».)

  • (٢)

    كل العلوم تؤدي إلى الفهم الأفضل للعالم؛

    إذن علوم السحر تؤدي إلى فهم أفضل للعالم.

    (حيث تُستخدم كلمة «علوم» بمعنيين مختلفين.)

  • (٣)

    كل قتلة الأطفال غير إنسانيين (بمعنى غير رُحماء)؛

    إذن ليس هناك قاتل أطفال ينتمي إلى النوع الإنساني (بمعنى الإنسان العاقل homo sapiens).

•••

للاشتراك طاقاتٌ بلاغية هائلة حين يُستخدم للتأثير البياني والشعري والخطابي، ومن الأمثلة المأثورة للاستخدام البلاغي الموفق للاشتراك قول بنيامين فرانكلين:

«إذا لم نتعلَّق ببعضنا البعض فسوف نتعلق على انفراد.»

if we don’t hang together، we will hang separately.

حيث «نتعلق» الأولى تعني «نتضامن»، والثانية تعني «نُشنَق» غير أن الحُجة صائبة لأننا حقًّا إذا لم نتضامن في مراحل الصراع أو الثورة فثمة احتمالٌ كبير بأن نفشل ونُعدَم شنقًا، وباستخدام ذات الكلمة بأكثر من معنى فقد تبلورت الفكرة واستوَت في صياغةٍ موفقة تستقر في الذاكرة بسهولة ورسوخ.

ومن الاستخدامات المأثورة للاشتراك قول الإمام الشافعي: «ما جادلتُ عالمًا قَطُّ إلا غَلَبته، وما جادلتُ جاهلًا قط إلا غَلَبَني!»٢

ومنها: «دولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.»

«من الفن ألا يظهر الفن!» (حيث كلمة «فن» الأولى تعني art وكلمة «فن» الثانية تعني الصنعة techne).

ليس الاشتراك بحد ذاته مغالِطًا، غير أنه يَبقَى شَرَكًا لغويًّا منصوبًا يجعلنا عرضةً للوقوع في المغالطة، وذلك حين ينجح الاشتراكُ في أن يجعل الحجةَ المغلوطة تبدو حجةً صائبة.

(٢) التشابه (التباس المبنَى/اشتراك التركيب) Amphiboly

من الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقةٍ غامضة تجعلها عصيةً على الإخفاق، تجعلها غير قابلة للدحض.

كارل بوبر
تُعد العبارة «متشابهة» amphibolous إذا كان معناها غيرَ محدد، نتيجةً لتفكك مبناها وتعثر الطريقة التي تتضام بها ألفاظها، بحيث تكون قابلة، بسبب تركيبها، لأكثر من تفسير واحد، أي «حمالة أوجه»،٣ قد تكون العبارةُ المتشابهة صادقةً وفقًا لتأويلٍ معين، وكاذبةً وفقًا لتأويلٍ آخر، فإن أوردناها كمقدمةٍ على تأويل الصدق، واستخلصنا منها نتيجةً على تأويل الكذب، نكن قد وقعنا في «مغالطة التشابه» أو «الاشتباه» أو الالتباس النحوي أو التركيبي (التباس المبنى) amphiboly fallacy.
من حِيَل المنجمين والكُهَّان منذ أقدم العصور أن يصوغوا تنبؤاتهم في صيغ «متشابهة» غامضة ملتبسة، بحيث تتملص من أيِّ شيء كان حقيقًا أن يُكذِّب التنبؤ لو أنه كان محددًا دقيقًا، إنها «خُدعٌ تحصينية» immunization stratagems تجعل النبوءةَ متمنِّعةً على التكذيب أصلًا وأساسًا، وتجعلها مساوِقةً لكل ملاحظةٍ ممكنة، وموافِقةً للشيء ونقيضه، ومهما يكن مآل الأمور فإنه سيكون متفقًا مع تأويلٍ معينٍ من تأويلات العبارة، وقد دأب الناس بدورهم على أن يُسبغوا على النبوءة التأويلَ الذي يريدون، إن مغالطة التشابه مكينةٌ في حياة البشر ضاربةٌ في صميم العقل الإنساني.
كانت المنطوقاتُ المتشابهات هي عُدَّة كاهنات الوحي في دِلفي باليونان القديمة، يروي هيرودوت أن الملك كروسوس ملك ليديا أخذ مشورة كاهنة الوحي في دلفي قبل أن يَشْرَعَ في حربه ضد سَيْرُس (قورش) ملك فارس، فكانت النبوءة:

إذا ذهب كروسوس ليحاربَ سَيْرس فسوف يُدَمِّر مملكةً عظيمة.

ابتَهَجَ كروسوس للنبوءة، وقد فهم أنها تعني أنه سوف يُدَمِّر مملكة فارس العظيمة، فزحف بجيشه لقتال سيرس ولكنه مُنيَ بالهزيمة على يد ملك الفرس، وإذ كُتب له البقاء فقد عاد إلى دلفي وشكا مُرَّ الشكوى مما لحق به بعد أن تلقى مشورة الوحي، هنالك ردَّت الكاهنات بأن نبوءة دلفي كانت صادقةً تمامًا: «بذهابه إلى الحرب دَمَّر كروسوس مملكةً عظيمةً — مملكته هو!» والحق أنك لو أنعمت النظرَ في منطوق النبوءة فسوف تلاحظ أنها لم تُبيِّن بوضوح أي «مملكة» تلك التي سيلحق بها الدمار، وقد ألمح هيرودوت إلى أن كروسوس كان ينبغي عليه، لو أنه فطنٌ حقًّا، أن يعود ثانية ليسأل الكاهنة أي «مملكة» تَعني.

وفي مسرحية مكبث لشكسبير تقول إحدى نبوءات الساحرات: «كن جريئًا رابط الجأش فاقد الرحمة، فلن يستطيع حيٌّ وضعته أنثى أن يضر بمكبث.» فلما اقتتل مكبث وعدوه ماكدوف قال مكبث: «محال أن تحاول: ليس في طاقتك أن تسفك دمي، أكثر مما في قدرتك أن تطبع في الهواء أثر حسامِك، اذهب وحارب غيري ممن تُمس جسومهم، أما جسمي ففي حماية رُقيةٍ سحرية، لا يحلها إلا رجلٌ لم تضعه امرأة.» هنالك قال ماكدوف: «أنا ذلك الرجل، دع وهْمَ رقيتك السحرية، واعلم أن ماكدوف نُزِع من بطن أمه نزعًا، ولم تضعه أمه وضعًا.» لقد وُلِد ماكدوف ولادةً أشبه بالقيصرية ولم تلده أمه ولادة طبيعية، حين أدرك مكبث «التشابه» amphiboly الذي أضاعه صاح قائلًا:

لا يَحْسُن بعاقلٍ منذ اليوم أن يُصدِّق الشياطين الخداعين الذين يغروننا بألفاظ ذات معنيين، فيَسُرُّون آذاننا بالمواعيد ثم يخيبون آمالنا — لن أقاتلك.

أمثلة أخرى

  • (١)

    «لا تقتل نفسك هكذا يا رجل، دعنا نساعدك.»

  • (٢)

    يقول الرجل لزميله في بلاد نيام نيام أكلة البشر: «الزعيمُ يريدُك للغداء.»

  • (٣)

    «إنني ضد الضرائب التي تعطل النمو الاقتصادي» (ماذا يريد هذا السياسي أن يقول: هل يعني أنه مناوئ لكلِّ الضرائب لأنها جميعًا تعطل نمو الاقتصاد، أو أنه مناوئ فقط لذلك الصنف من الضرائب التي من شأنها أن تعطل نمو الاقتصاد؟ بوسعك بالطبع أن تؤول العبارة وفقًا لهواك السياسي وبرنامجك الاقتصادي وتحيزاتك الخاصة، وأن تَضرِبَ صفحًا عن التأويل المضاد).

  • (٤)

    «في مقابل دهان مصنعي فأنا أتعهد بأن أدفع للسيد عطا الله مرزوق مبلغ عشرة آلاف جنيه، وأن أعطيه سيارتي الفيات فقط إذا انتهى من الدهان قبل يناير ٢٠٠٧» (إذا أنعمت النظر في منطوق هذا التعهد فسوف تجد أنه يحتمل أكثر من ثلاثة تأويلات).

  • (٥)

    «كان ضَربُ زيدٍ مبرِّحًا» (لا يُبيِّن لنا تركيب الجملة ما إذا كان زيدٌ هو الضارب أو المضروب).

  • (٦)
    وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ (المعنى إذا وُقِف على «الله» مغاير للمعنى إذا وُقف على وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

(٣) النَّبْر accent

(٣-١) النبر على الأحرف داخل الكلمة (أرسطو)

«النَّبر» (الارتكاز، التشديد، التوكيد) من المغالطات الثلاث عشرة التي بَيَّنها أرسطو في عمله الرائد On sophistical refutations، وهو بالتحديد من الأغاليط الست المعتمدة على اللغة، والتي يقول عنها أرسطو: «تلك هي الطرق التي قد نعجز بها عن أن نعني ذات الشيء باستخدام ذات الأسماء أو التعبيرات.» النبر، إذن، عند أرسطو هو ضرب من مغالطة «الالتباس» ambiguity.

ولكي نفهم ما عناه أرسطو بالنبر ينبغي أن نعلم بعض الأشياء عن اللغة اليونانية المكتوبة في زمنه، فإذا كانت اليونانية الآن تحتوي على علامات نبرٍ تُستخدم لتحديد النطق، فإن هذه العلامات لم يكن لها وجودٌ في الكتابة اليونانية القديمة، وإنما كان يعرفها القارئ المُلِم باليونانية المنطوقة (مثلما هو الحال بالنسبة للغة العربية القديمة الخالية من الإعجام؛ أي النقط، والتشكيل)؛ لذا كانت بعض الكلمات تُنطَق على نحوٍ مختلفٍ بينما تُكتب على نحوٍ واحد، الأمر الذي يفتح باب الالتباس في اللغة المكتوبة.

مثال ذلك أنه في الإنجليزية قد تنطق الكلمات المتشابهة الهجاء بالنبر على المقطع الأول لتدل على الاسم، وبالنبر على المقطع الثاني لتدل على الفعل: من ذلك record = تسجيل، record = يسجِّل، وفي الإيطالية كلمة capito تعني «أصل» بينما capito بالنبر على حرف i تعني «فهمت»، وفي العربية: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (الرعد: ٤٣) تقرأ أيضًا «ومِن عنِده علمُ الكتاب».٤

(٣-٢) النبر على الكلمة داخل العبارة

تُعَد حجةٌ ما مخادعةً وباطلة إذا تبدل المعنى داخلها نتيجة تبدَّل النبر على كلماتها أو أجزائها، فإذا ما أتينا بمقدمة تعتمد في معناها على نبر كلمة معينة، ثم استخلصنا منها نتيجة تعتمد على معنى الكلمات نفسها منبورةً على نحوٍ مختلف، نكون قد ارتكبنا «مغالطة النبر» fallacy of accent.

أمثلة

  • (١)

    ينبغي أن نكون «أمناء» مع أصدقائنا.

    ينبغي أن نكون أمناء مع «أصدقائنا».

    فهي بالنبر على كلمة «أمناء» تعني أننا ينبغي أن نكون أمناء بعامةٍ وفي المقام الأول، وهي بالنبر على كلمة «أصدقائنا» تعني أننا في حِلٍّ من الالتزام بالأمانة مع غير أصدقائنا.

  • (٢)

    جميع الناس خُلقوا «سواسية».

    جميع الناس «خُلقوا» سواسية.

    فإذا كان التشديد، أو النبر، على كلمة «سواسية» فإنها تعني المساواة بين الناس على الإطلاق، أما إذا كان التشديد على كلمة «خُلِقوا» فقد توحي بضدها: أي بأن جميع الناس ليسوا الآن سواسية، بذلك يتيح النبر للناطق أن يومئ إلى السامع باستدلالٍ معين ثم يتنصلَ منه فيما بعد وينكر أنه قال ذلك!

(٣-٣) الاجتزاء

(الاقتباسات المنتزعة من سياقها/النبر على عبارات أو فقرات من سياقٍ أعم.)

يُلحق بعض المناطقة تلك الاقتباسات بالنبر، باعتبار أن الاجتزاء أو الاقتباس المنبَتَّ عن سياقه يغير الارتكاز على نحوٍ مضلِّل، بينما يعده البعض مغالطة التباسٍ منفصلةً باعتبار أن ما يفعله فقدان السياق هو أكبر من ذلك: إنه السماح بعودة الغموض الطبيعي للكلمات لكي يؤكد نفسه، ذلك أن السياق، مثلما ألمحنا من قبل، هو قوام المعنى ومحدِّد القصد ومانع الالتباس، وفي غياب السياق يختلط حابل المعنى بنابله، ويمكن للمغالِط أن يأسر ما شاء من المقاطع «السائبة» ويرتكز عليها ويحمِّلها أي معنى يريد!

أمثلة

  • (١)

    في الحملة الانتخابية عام ١٩٦٦م ادَّعى الجمهوريون أن ألجور، نائب الرئيس، قد قال «ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين وسرطان الرئة»، وإنه لقائلُها! غير أن سياق عبارته كالتالي: «بعض علماء شركات الدخان سوف يدَّعون بصفاقة أن ليس هناك صلة مؤكدة بين التدخين وسرطان الرئة …» غير أن الأدلة الراجحة المقبولة لدى الأغلبية الساحقة من العلماء تقول: «نعم، التدخين يسبِّب سرطان الرئة.»

  • (٢)

    في ظهر كتابه الأخير ادَّعى المؤلف فوسيدال أن سيدني بلومنثال يقول عنه: «يعتبره الكثيرون أنبه صحفيي جيله»، وهي عبارة منتزعة من سياقٍ ينتقد فيه بلومنثال المفكرين المحافظين ويقول، قاصدًا تسفيههم بمثال: «بين اليمنيين المحافظين فإن واحدًا مثل فوسيدال «يعتبره الكثيرون أنبه صحفيي جيله»!»

  • (٣)

    في إعلان للدعاية: تخفيضات تصل إلى ٩٠٪ (مع تكبير ٩٠٪ وتصغير «تصل إلى») أما إذا استعرضت السلع فسوف تجد أن ما «وصل» تخفيضه إلى تسعين بالمائة هو جانب لا يُذكر من السلع، بينما الغالبية العظمى من التخفيضات هي أقل كثيرًا من ذلك.

  • (٤)

    حتى الصدق الحرفي يمكن أن يُستخدم للخداع بالنبر: كان قبطان إحدى السفن ممتعضًا من معاونه الأول الذي كان مخمورًا على الدوام أثناء العمل، فجعل يكتب كل يوم تقريبًا بسجل الأداء: «المعاون سكران اليوم»، فلما تَوَلَّى المعاون عملية التسجيل إذ كان القبطان مريضًا، فقد ثأر لنفسه وكتب في السجل: «القبطانُ غيرُ سكران اليوم!»

  • (٥)
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ (النساء: ٤٣)، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (الماعون: ٤).

(٣-٤) ألوان أخرى من النبر

يعرف الموسيقيون وقائدو الأوركسترا أننا لو غيَّرنا الارتكازات في العزف لخلقنا لحنين مختلفين! ويعرف التشكيليون أننا لو غيرنا الارتكازات في اللوحة لخلقنا دلالتين مختلفتين، والنبر في الشعر أيضًا يُسمَّى «ارتكازًا» ictus إذ تتميز بعض المقاطع عن بعض بالشدة أو اللين (الارتفاع أو الانخفاض) ويكون ذلك ناشئًا عن احتشاد الجهاز الصوتي عند إخراج بعض المقاطع دون بعض، وفي عروض الشعر العربي يضطلع النبر بدورٍ مهم ما زال قيد الدراسة والبحث، وقد قدم الدكتور شكري عياد مشروع دراسة علمية بعنوان «موسيقى الشعر العربي» أفاض فيها في تبيان تأثيرات النبر على الوقع الموسيقي للشعر،٥ ويذهب الدكتور محمد النويهي في كتابه «قضية الشعر الجديد» إلى أن النبر يمكن أن ينشئ نظامًا جديدًا للعروض العربي، مثال ذلك أن في العروض العربي بحرًا شديد الارتباط بنظام النبر والتأثر به، وهو بحر المتدارك أو الخبب، فالنبر «يلوِّن» الإيقاع في بحر الخبب ويُخرجه من أسر النظام الكمي الدقيق، ويمضي الدكتور النويهي إلى أبعد من ذلك فيقول: إن هذا البحر ينقسم إلى قسمين عظيمين يكاد كل منهما يكون بحرًا مستقلًّا إذا استمعنا إلى النظام النبري الغالب فيه.

وفي المذاهب والأيديولوجيات تقوم «الأولويات» مقام النبر، بمعنى أننا لو غيرنا ترتيب الأولويا ت في مذهب أو عقيدة لخرجنا بمذهب آخر وعقيدة أخرى من حيث النتاج والأثر، يعرف ذلك كثير من الأيديولوجيين حتى ليذهب بعضهم إلى أن إصلاح مذهب أو عقيدة ربما تَطَلَّب تغيير الأولويات دون مساسٍ بجوهر أي مفهوم فرعي بحد ذاته!

١  في تعريفات الجرجاني: المشترك ما وُضع لمعنى كثير، كالعين؛ لاشتراكه بين المعاني … وضده المترادف أي ما كان معناه واحدًا وأسماؤه كثيرة، كالليث والأسد.
٢  بمعنى أنني أغلب العالِمَ بالحجة والدليل، بينما يغلبني الجاهلُ بالصوت والمَحْك.
٣  في المعجم الوسيط: المُتشابه النص القرآني يحتمل عدة معانٍ، غير أن الجرجاني يُعرِّف المتشابه تعريفًا ضيقًا فيقول «المتشابه (عند الفقهاء) هو ما خفِيَ بنفس اللفظ ولا يُرجَى دَركُه أصلًا، وضده المُحْكَم.»
٤  عبد الرحمن بدوي: «المنطق الصوري والرياضي»، الطبعة الخامسة، وكالة المطبوعات، الكويت، ١٩٨٧، ص٢٤٩.
٥  د. شكري محمد عياد: موسيقى الشعر العربي، دار المعرفة، القاهرة، يوليو ١٩٦٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤