الفصل الثالث والعشرون

مغالطة التركيب والتقسيم

composition and division
تتمثل مغالطة التركيب والتقسيم في الانتقال غير المشروع من خصائص الكل إلى خصائص أجزائه المكوِّنة (تقسيم division)، أو الانتقال، على العكس، من خصائص المكونات إلى الكل (تركيب composition)، إنها ﻟ «نقلةٌ خاطئةٌ» تخرق قواعد الاستخدام اللغوي والمنطقي السليم أن تنسب صفات الكل إلى الأجزاء، أو، في الاتجاه المقابل، أن تنسب صفات الأجزاء إلى الكل بوصفه كلًّا، ذلك أن خصائص الكل (بوصفه كلًّا) وخصائص الجزء (إذ يُفرد على حدة) ليست دائمًا بالشيء الواحد، ولا ينبغي أن نتوقع تطابقها في جميع الأحوال.

(١) مغالطة التركيب composition

هي مغالطة إضفاء صفات الجزء على الكل.

يقع المرء في مغالطة التركيب حين يذهب إلى أن ما يَصدُق على أفراد فئةٍ ما، أو أجزاءِ كلٍّ ما، يصدق أيضًا على الفئة (معتبرةً كوحدةٍ واحدة) أو على الكل بوصفه كلًّا.

ألا نشهد كل يومٍ مدرِّبًا رياضيًّا يستورد، من الخارج والداخل، خِيرة اللاعبين وأعلاهم سعرًا، ويُشكل منهم فريقًا كلُّ أفراده نجومٌ متلألئة، فإذا بفريق الأحلام هذا يفشل في كل المسابقات فشلًا مستغربًا، لا تفسره مهارات لاعبيه ونجوميتُهم؛ ذلك أن الفريق هو الكل العضوي المتآلِف وليس المجموع الجبري لأعضائه.

يَعْرف ذلك أيضًا قائدو الأوركسترا المتمرسون، فقد تضم الأوركسترا أمهرَ العازفين قاطبةً ثم لا تتألف منهم فرقةٌ ناجحة؛ ربما لأن كل عازف من هؤلاء يكون مأخوذًا أكثر مما ينبغي بعرض براعته بحيث لا يأتي النغمُ الكلي وحدةً متسقة.

كذلك هو الحال في ميادين القتال، فقد يَعِنُّ لقائد عمليات خاصة أنه حين يضم في فوجه أقوى رجال الجيش جميعًا يستوي له أقوى فرق العمليات، غير أن قوة الفوج تعتمد على عوامل أخرى غير قوة كل جندي على حدة: تعتمد على انسجام الأداء وسرعته، والروح المعنوية للفريق وقدرته على العمل تحت أصعب الظروف وأقل الإمدادات.

تكمن المغالطةُ هنا في عدم القدرة على إدراك أن الجماعة كيانٌ قائم بذاته ومتميز عن أعضائه، ويتصف من ثم بخصائصَ قد لا تنطبق على الأفراد، ومهما تقدم من بيِّنةٍ لإثبات جودة هؤلاء الأعضاء، كل على حدة، فإن هذه البينة غير ذات صلة حين يتعلق الأمر بتقييم الجماعة.

وكثيرًا ما نشهد في حياتنا الواقعية أمورًا تصدق على الأفراد، أو قطاعات من الأفراد، غير أنها لا تعود كذلك إذا توسعنا فيها لتشمل الجماعة بأسرها: خذ الدعم الحكومي كمثال: تُدعِّم الحكومة الحبوب فيستفيد المزارعون، وتدعم الجلود فيستفيد منتجو الجلود … وهكذا. من التسرع رغم ذلك أن «نمد تقديرنا الاستقرائي» extrapolation ونقول: إن الاقتصادَ كله حقيقٌ بالفائدة إذا دعمنا جميع المنتجات، ذلك أن المزارعين ومنتجي الجلود لا يستفيدون إلا إذا كانوا ضمن فئة صغيرة تستفيد من الدعم على حساب كل فرد آخر، فإذا ما امتدَّ المبدأ ليشمل الجميع فإن كل فرد ينال الدعم، وكل فرد يدفع الضرائب للحكومة لكي تقدم الدعم، وكل فرد من ثم يخسر الكثير مما يَصُب في جيب البيروقراطية التي تدير هذه التحويلات!
حين نُنعِم النظرَ إلى مفهوم اﻟ «كل» Whole نجد لدينا صنفين من الكل: هناك «الكل البنائي أو التركيبي» structured whole١ أي الكل «المركب» من أجزاء مثل: الآلة، فريق الكرة، العمل الروائي … إلخ، وهو بالطبع أكثر من مجموع أجزائه، وهناك أيضًا «الكل غير التركيبي» unstructured whole أو الكل التراكمي، وهو كومة من الوحدات أو العناصر التي تؤلف هذا الكل، في هذه الحالة يكون الكل هو مجرد مجموع عناصره لا أكثر، مثال ذلك حبات الفول في العلبة أو حبات الرمل في حِفنة الرمل أو النسخ المفردة في الرزمة، وفقًا لهذا التقسيم لمفهوم «الكل» يمكننا أيضًا تصور صنفين من مغالطة التركيب:
  • (١)

    مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل بوصفه كلًّا، مثال ذلك أن نقول: «كل جزءٍ من أجزاء هذه الآلة خفيف الوزن؛ إذن هذه الآلة خفيفة الوزن.» أو أن نقول: «كل مشهد في هذه المسرحية متقنٌ فنيًّا؛ إذن هذه المسرحية متقنةٌ فنيًّا.» أو أن نقول: «كل قطعة من الأسطول جاهزة للقتال؛ إذن الأسطول جاهزٌ للقتال.»

  • (٢)

    مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الأفراد أو العناصر إلى خصائص الفئة الكلية التي تضم هذه العناصر، مثال ذلك أن نقول «الباص يستهلك بنزينًا أكثر من السيارة الخاصة؛ إذن الباصات (كفِئَةٍ) أكثرُ استهلاكًا للبنزين من السيارات.»

بوسعنا أن نرد هذا الصنف من مغالطة التركيب إلى الخلط بين الاستعمال «الإفرادي» distributive والاستعمال «الجَمعي» collective للحدود العامة أو الكلية، الحق أننا نستخدم أحيانًا الأسماء العامة، أو حتى كلمة «كل» نفسها، ونقصد بها «كل فرد» من الفئة مُعتبَرًا على حدة، ونستخدمها أحيانًا أخرى ونعني بها «الفئة» ككل. نعم، الباصات تستهلك بنزينًا أكثر من السيارات الخاصة «إفراديًّا» distributively أي باعتبار كل باصٍ وكل سيارة على حدة، أما «من الوجهة الجمعية» collectively فالسيارات الخاصة أكثر استهلاكًا بكثير نظرًا لكثرتها العددية. تكمن المغالطة هنا في القول بأن ما يمكن إسناده إلى اللفظة الكلية على نحوٍ «إفرادي» يمكن إسناده إليها أيضًا على نحو «جمعي».

(١-١) متى يكون الانتقال من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل مشروعًا؟

الحق أن الانتقال بين خصائص الأجزاء وخصائص الكل يكون مشروعًا في كثير من الأحيان (وربما في أغلبها)، إنما نهدف من تحليل المغالطات إلى أن نضبط تفكيرنا في جميع الأحوال، وأن نقف على الأساس المنطقي الذي يجعل نقلتنا الاستدلالية صحيحة ويَزَعنا من النقلات الخاطئة في التأمل وفي الجدل، انظر إلى الأمثلة التالية وجميعها صائبةٌ في الانتقال من خصائص الأجزاء إلى خصائص الكل:
  • جميع أجزاء هذا الكرسي بيضاء؛

    إذن هذا الكرسي أبيض.

  • جميع أجزاء هذا الجلباب قطنية؛

    إذن هذا الجلباب قطني.

  • كل جزء من هذه الآلة حديدي؛

    إذن هذه الآلة حديدية.

ما الذي يجمع بين هذه الخصائص «أبيض للكرسي»، «قطني للرداء»، «حديدي للآلة»، ويجعل الانتقال مشروعًا من الجزء إلى الكل؟

يَرُدُّنا هذا السؤال إلى تقسيمٍ للخصائص من حيث كونها:
  • مطلقة أو نسبية.

  • معتمدة على البنية أو مستقلة عن البنية.

الخصائص المطلقة: هي التي لا تنطوي على مقارنة، صريحة أو ضمنية، بشيء آخر، أو بمعيار أو محك مثال ذلك أسماء الألوان، أو الخامة المصنوع منها شيء ما، أو الصفات المتعلقة بالشكل أو الحقائق الثابتة مثل قابلية الاشتعال أو السُّمِّية أو قابلية الأكل … إلخ، أمثلة للخصائص المطلقة: أبيض، أحمر، قطني، دائري، مربع، سام، قابل للاشتعال …
الخصائص النسبية: هي التي تنطوي على مقارنة، صريحة أو ضمنية، بشيء آخر، أو بمعيارٍ ما، مثل وزن الشيء، ومثل المقاسات (الطول والعرض والعمق والحجم … إلخ)، ومثل القوة، السعر، صفات الشخصية، المظهر … إلخ.
الخصائص المستقلة عن البنية structure-independent properties: مثالها: أخضر، نحاسي، ثقيل، خفيف، قوي …
الخصائص المعتمدة على البنية structure-dependent properties: مثالها: جيد، رديء، مثلث، مُربع، قوي، قابل للأكل.

خلص بعض المناطقة إلى أن الانتقال بين صفات الكل وصفات الجزء لا تكون مشروعة إلا في حالة الخصائص «المطلقة المستقلة عن البنية»، وفيما عدا ذلك من الخصائص يكون الانتقال عرضة لخطأ التركيب والتقسيم.

أمثلة أخرى لمغالطةالتركيب

  • جميع أجزاء هذه الآلة خفيفة الوزن؛

    إذن هذه الآلة خفيفة الوزن.

  • جميع مكونات هذا العقار رخيصة؛

    إذن هذا العقار رخيص.

  • كلا العددين ١، ٣ هو عدد فردي.

    ١، ٣ هما كل أجزاء العدد ٤؛

    إذن العدد ٤ هو عدد فردي.

  • الذرات لا لون لها.

    الكرة مكوَّنة من ذرات؛

    إذن الكرة لا لون لها.

  • الصوديوم والكلور كلاهما سام للإنسان؛

    إذن كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) سام للإنسان.

  • الهيدروجين غاز قابل للاشتعال، والأكسجين غاز يساعد على الاشتعال؛ إذن المادة المكوَّنة من اجتماعهما (الماء) ينبغي أن تكون غازًا هائل الاشتعال.

  • أعرف أنك تحب الحليب، وتحب التمر، وتحب السمك وقد خلطُّها لك جميعًا في هذا الطبق الذي تشتهيه!

  • الفيل يأكل أكثر مما يأكله الفأر أضعافًا مضاعفة؛

    إذن الفيلة (كفئةٍ) تأكل أكثر مما يأكله جميع الفئران على الأرض.

  • القنبلة النووية أكثر تدميرًا من القنبلة العادية؛

    إذن القنابل النووية التي أُلقِيَت في الحرب العالمية الثانية خلَّفت دمارًا أكثر مما خلفته جميع القنابل الأخرى.

  • كل عضو في المحكمة العليا لديه تحيزاتُه الشخصية؛

    إذن قرارات المحكمة ككل هي النتاج المحتوم لهذه العناصر الشخصية. (لاحظ أن فكرة القرارات الجمعية ذاتها هي أن تَجَمُّع المعرفة يمهد لحكمٍ أقرب إلى الصواب من حكم أي عضو واحد من المجموعة إذ يفكر بمفرده.)

  • أفاد أحد أعضاء المجلس بأن فرض تعريفة على اللحوم سوف يفيد منتجي اللحوم، وفرض تعريفة على الفحم سوف يفيد عاملي المناجم، وفرض تعريفة على لعب الأطفال سوف يفيد منتجي اللعب، وبالتالي فإن فرض تعريفة على كل السلع سوف يفيد منتجيها، وبالتالي سوف يفيد المجتمع ككل. (لاحظ أن جميع المنتجين هم أيضًا مستهلكون، وبالتالي فإن فرض تعريفة على كلِّ شيءٍ قد يُكلف الناس، إجماليًّا، أكثر مما يفيدهم، كما أنه يُفضي إلى مضاعفات وخيمة على التجارة الدولية وعلى الإنتاج المحلي.)

  • جميع أجزاء هذا الشكل مثلثة؛

    إذن هذا الشكل مثلث!

figure

(٢) مغالطة التقسيم division

مغالطة التقسيم هي، ببساطة، مقلوبُ مغالطة التركيب أو ظلُّها؛ أي إضفاء خصائص الكل على المكونات، أو الانتقال غير المشروع من خصائص الكل إلى أجزائه المكونة، يقع المرء في هذه المغالطة حين ينسب إلى أفراد جماعة شيئًا لا يَصدُق إلا على الجماعة كوحدة، أو حين يظن أن ما يصدق على الكل لا بُدَّ له من أن يصدق أيضًا على أجزائه.

يمكننا تصنيف هذه المغالطة أيضًا، وفقًا لتصنيف مفهوم «الكل» إلى «كلٍّ تركيبي بنيوي»، و«كلٍّ تراكمي غير بنيوي»، إلى نوعين:
  • (١)

    مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الكل بوصفه كلًّا إلى خصائص أجزائه المكوِّنة، مثال ذلك أن تقول: هذه الآلة ثقيلة، أو معقدة أو ثمينة، إذن هذا الجزء أو ذاك من الآلة هو بالضرورة ثقيل (أو معقد أو ثمين)، أو أن تقول إن سكن الطلاب ضخم جدًّا، إذن غرفة هذا الطالب المقيم في هذا السكن لا بُدَّ من أن تكون غرفة كبيرة.

  • (٢)
    مغالطة الانتقال غير المشروع من خصائص الفئة الكلية إلى خصائص الأفراد أو العناصر المكونة لهذه الفئة، مثال ذلك أن تقول: إن طلاب الجامعة يدرسون الطب والهندسة والقانون والأسنان والعمارة، إذن هذا الطالب الجامعي أو ذاك يدرس الطب والهندسة والقانون والأسنان والعمارة، ذلك أن طلاب الجامعة من «الوجهة الجمعية» collectively يدرسون فعلًا كل هذه الأفرع، غير أن من الخطأ أنهم «إفراديًّا» distributively يدرسون كل هذا، وكثيرًا ما تبدو الحجج المعتمدة على هذه المغالطة شبيهة جدًّا بالحجج الصائبة؛ وذلك لأن من الحق أن ما يصدق «إفراديًّا» على الفئة الكلية يصدق أيضًا على كلِّ عضو فيها (إذا كانت الجماعة «س» مثلًا هم من الأطباء، فمن البين أن هذا العضو أو ذاك من هذه الفئة هو بالضرورة طبيب) ومِن ثَمَّ ينبغي التفطن إلى المغالطة الخفية التي تنتقل من صفة تصدق «جمعيًا» على فئة كلية وتلصقها بكل فرد من أفراد هذه الفئة (مثال ذلك: التعليم في الأردن رفيع المستوى، إذن هذا الخريج الأردني رفيع المستوى).

كثيرًا ما تستخدم مغالطة التقسيم لجلب شرف شخصي إلى حوزتنا بفضل انتمائنا لفئة تستحق التقدير، مثال ذلك أن أقول لك:

«المصريون نوابغ في الطب منذ أقدم العصور، إذن دع لي هذا المريض وكن مطمئنًا.»

وكثيرًا ما تُستخدم، بنفس القياس، لجلب الخزي إلى مناوئينا بسبب انتمائهم لفئة موصومة بشيء معين.

(٢-١) أمثلة أخرى لمغالطة التقسيم

  • العدد ٤ عدد زوجي.

    ١، ٣ هما كل أجزاء العدد ٤؛

    إذن ١، ٣ هما عددان زوجيان.

  • الكرة زرقاء؛

    إذن الذرات التي تكوِّن الكرة هي أيضًا زرقاء.

  • الخلية الحية هي مادة عضوية؛

    إذن المواد الكيميائية المكونة للخلية لا بُدَّ من أن تكون أيضًا مادة عضوية.

  • كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) مادة قابلة للأكل؛

    إذن كل من الكلور والصوديوم هو مادة قابلة للأكل.

  • القنابل التقليدية أحدثت دمارًا أكثر مما أحدثته قنبلتا هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية؛ إذن القنبلة التقليدية أشد تدميرًا من القنبلة النووية.

  • هذا الجدار القرميدي طوله عشرة أقدام؛

    إذن قوالب القرميد في هذا الجدار طولها عشرة أقدام.

  • المخ قادر على التفكير والوعي؛

    إذن كل خلية مخية قادرة على التفكير والوعي.

  • مجلس الوزراء متردد في اتخاذ القرار؛

    إذن الوزراء مترددون في اتخاذ القرار. (لاحظ أن المجلس، معتبرًا ككل، قد يكون مترددًا لا لشيء إلا لأن نصف أعضائه يرون بحسمٍ عكس ما يراه النصف الآخر بحسمٍ مثله.)

  • يستطيع النمل أن يدمر شجرة؛

    إذن هذه النملة تستطيع أن تدمر شجرة.

  • الشعراء في مصر ينقرضون؛

    إذن الشاعر مسعد عبد العاطي ينقرض.

١  وفقًا ﻟ «نظرية الأنظمة العامة» general systems theory ينطوي العالم على علاقات متبادلة بين جميع الظواهر واعتماد متبادل بين جميع الأشياء، فالكائنات الحية والمجتمعات والأنساق البيئية الكبرى كلها أنساق أو أنظمة تتراتب في هيئة بِنيات متعددة المستويات، يتكون كل مستوى من أنظمة تحتية، كل نظام تحتي هو «كل» بالنظر إلى أجزائه وهو «جزء» بالنظر إلى النظام الأعلى الذي يندرج فيه، كهذا تجتمع الذرات فتكوِّن جُزيئات، وتتحد الجزيئات فتكون بلورات أو لتكوِّن — في الأحياء — عُضيَّات (أعضاء الخلية)، والتي تتحد لتكوِّن الخلايا، ومن اجتماع الخلايا تتكون الأنسجة والأعضاء التي ترتبط معًا لتكوِّن الأجهزة المختلفة، ومن تضافر الأجهزة يتشكل في النهاية الكائن العضوي (الإنسان، …) ومن أفراد البشر تتكون الأمم، ويمضي التراتب صُعدًا فتتكوَّن الأنظمة الأعلى التي تضم معًا مكونات حية وغير حية، وتشمل الأنساق البيئية، والكواكب والأنظمة الشمسية والمجرات … إلخ.
للأنظمة الأكثر تعقيدًا، والتي تقع على مستوى أعلى في التراتب، خصائص لا يمكن وصفُها بالحدود المستخدمة في وصف مكوناتها أو أنظمتها التحتية الواقعة على مستوًى أدنى، دون إغفال جوانب هامة من تلك الأنظمة، مثل هذه الخصائص الجديدة التي تبزغ أو «تنبثق» في التركيبات أو الأنساق الأكثر تعقيدًا تُسمَّى «الخواص الانبثاقية» emergent properties، وبتعبير أبسط: حين تجتمع بعض المكونات لتكَوِّن نظامًا (نسقًا) تبزغ لهذا النظام الأعقد صفاتٌ جديدة لا يمكن التنبؤ بها بشكلٍ كامل (في مرحلتنا الراهنة من العلم على الأقل) من خلال صفات مكوناتها.
هكذا تلفتنا نظرية الأنظمة إلى حقيقةٍ ما تفتأ تواجهنا على الدوام، وهي أننا قلَّما يتسنى لنا أن نستنبط خواص مفردات أكثر تعقيدًا من خواص مكوناتها، فخواص الماء مثلًا (كالسيولة أو الميوعة والخمول والتوتر السطحي …) هي خواص لا تُشبه من قريب أو بعيد خواص الأوكسجين أو الهيدروجين، وهكذا تتجلى لنا مزالق النزعة الردية (الاختزالية) reductionism في أوضح صورة: ذلك أن أنساق الطبيعة تنطوي على «جِدَّة» novelty حقيقية، وأن للمستوى الأعلى من مستويات الوجود صفاته الجديدة وقوانينه الخاصة التي يجب أن نتوجه إليها مباشرة ونقابلها على أرضها وندرسها بحقها الشخصي (عادل مصطفى: أنثوية العلم، مجلة سطور، القاهرة، العدد ٩٧، ديسمبر ٢٠٠٤، ص٨٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤