الفصل الحادي والثلاثون

الاحتكام إلى القديم (الاحتكام إلى التقاليد)

Appeal to antiquity; appeal to tradition Ad antiquitatem; ad traditio

إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ

(الزخرف: ٢٣)

التغيرُ يحفظ نظام الأشياء، ويبقي العالم صبيًّا على الدوام.

ماركوس أوريليوس

الإنسان يحيا بالتغير، الحياةُ لم تُعطَ له لكي يحفظها، بل لكي يُغيرها.

أدونيس

عارٌ على الجنس البشري أن يُستكشف العالمُ المادي على هذا النحو المذهِل بينما تبقَى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.

فرنسيس بيكون

عارٌ أن نظل يقودنا أطفالٌ سذجٌ قليلو العلم والتجارب، يُقال لهم الأجداد!

لا معنى للتمسك ببناءٍ فوقي بعد أن انفصم عن بنائه التحتي الذي أفرَزَه.

فليكن النقدُ بالنسبة لنا هو العادة والتقليد والعُرف.

***

يُعد الاحتكام إلى القِدم، أو إلى التقاليد، نوعًا من «الاحتكام إلى سلطة» ad verecundiam، وهي هنا سلطة العُرف أو التقاليد الجمعية، والحق أن هناك فرقًا دقيقًا بين الاحتكام إلى القِدم والاحتكام إلى التقاليد، وما جَمَعنا بينهما إلا توخيًا للتبسيط.
ﻓ «الاحتكام إلى القِدم» appeal to antiquity يجعل من عُمر الفكرة معيارًا لصوابها، ومن مجرد قِدَمها دليلًا على صحتها، وصورته:
س قديم؛
إذن «س» صائب.
أما الاحتكام إلى التقاليد الثقافية الراسخة، وصورته:
س تقليدي؛
إذن «س» صائب.

فإنه يضيف شيئًا ما إلى قِدم الفكرة؛ فالتقليد أو العُرف ليس مجرد شيء قديم، إنه شيءٌ «مجرَّب»، شيءٌ اختبره الأقدمون وأثبت نجاعةً، فتَبَنَّته الأجيال اللاحقة جيلًا بعد جيل، وترسَّخ في وعيها (أو في لا وعيها) بوصفه حقًّا بذاته ولذاته وفي غِنًى عن مزيدٍ من الاختبار والنقد. لقد تَكَفَّل السلف بالاختبار وأَعفَى الخلف من مئونته، وها هم يتَّبعون آباءهم ولا يعرفون — ولا يلزمهم أن يعرفوا — لماذا يفعلون ذلك، إن من الأسلم والأضمن والآمن لك أن تأخذ بما هو مجرَّب ومألوفٌ ومعروف.

•••

وبعد، فمن البَيِّن أن عمر الفكرة «غير ذي صلة» irrelevant١ بِنصيبِها من الصواب أو الخطأ إلا بقدر ما يعكس ثباتها لاختباراتٍ متعاقبةٍ وقاسية، أما القِدَم بحد ذاته فليس ضامنًا لصواب فكرة، وكم من فكرةٍ اعتنقتها الأجيال أحقابًا طويلةً ثم تَبَيَّن خطؤها الذريع، وكم من نظامٍ تَفَشَّى في الأمم دهورًا ثم هجرته لما تَبَيَّن لها ضرره وفساده.

أمثلة

  • نظام الرق.

  • وأد الإناث.

  • ختان الإناث.

  • الاعتقاد بأن السحرة والأرواح الشريرة سببٌ لكثيرٍ من الأمراض الجسمية والنفسية.

  • الاعتقاد بثبات الأرض، ومركزية الأرض، وانبساط الأرض، وضخامة الأرض بالنسبة لحجم الكون.

  • الاعتقاد بأن القلب هو عضو الشعور والتفكير.

(١) فرنسيس بيكون: تحليل مفهوم «القِدَم»

للفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦) وقفة عِزٍّ مع هذه المغالطة، ففي كتابه «الأورجانون الجديد» novum organum يحذِّرنا بيكون مما أسماه «أوهام المسرح» idola theatri المتمثلة، أحيانًا، فيما تكتسبه المذاهب والنظريات القديمة من نفوذ بحُكمِ قِدَمها لا بحكم صدقها، ويعتبر هذا الوهم وغيره عيوبًا في تركيب العقل يحب أن نعالجه منها لكي يعود لوحًا مصقولًا تنطبع عليه أشياء الوجود كما هي في الواقع ودون تدخل وتشويش من ذواتنا، ويُسفِّه القديم إلى حد أن اعتبر القِدَمَ قرينةً تنتقص من نصيب الفكرة من الحق، بعكس ما يراه العقل الصنمي المريض بالأوهام الأربعة.
يحلل بيكون لفظة «القِدم» antiquity نفسَها، ويكشف تهافت فهمنا لها في هذا المقام، يقول بيكون في الشذرة ٨٤ من الكتاب الأول من «الأورجانون الجديد»: «إن توقير العصور القديمة، ونفوذ الرجال الذين حظوا بمكانة كبيرة في الفلسفة، والإجماع العام، كل أولئك أمورٌ عاقت الناسَ عن التقدم في العلم، وأسَرَتهم إلى حد كبير، أما عن الإجماع فقد تناولتُه فيما سبق، وأما عن الرأي الذي يرفع به الناسُ من قيمة القِدَم فهو رأي عقيم تمامًا ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كِبر العالَم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يُعتبر «قِدمًا» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنِّين فإنهم بالنسبة للعالم مُحدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكمًا أنضج مما نتوقعه من الصغير، بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة، وتنوع، ما رآه وسمعه وتأمل فيه، فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورًا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرتُه واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضًا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرًا من الأشياء الجديرة بأن تُلقِي الضوءَ على الفلسفة قد اكتُشِفت، وأُميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زَخَرَت بها أيامُنا، إنه لَيكونُ مخزيًا حقًّا للجنس البشري أن تُستكشف أصقاعُ العالم المادي — الأرض، والبحر، والنجوم — وتُستظهر على هذا النحو المذهِل، بينما تَبقَى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء.»

(٢) جراهام سَمنَر والمنشأ البدائي للتقاليد

الأعرافُ لا تحفز الفكر بل تثبطه … الأعراف ليست أسئلةً بل أجوبة.

سَمنَر
في مقاله الشهير «الأخلاق نسبية» يذهب عالم الاجتماع الأمريكي وليام جراهام سمنر إلى أن منهج المحاولة والخطأ، ومعيار اللذة والألم يتحكمان في اختيار الجماعات البشرية الأولى للطرق الأنسب عمليًّا لفعل الأشياء، أي الطرق التي يثبت نفعها، وكان الجميع في بداية الأمر يتبنون نفس الطريقة للوصول إلى نفس الغرض، ومِن ثَمَّ تحولت الطرق إلى عادات اجتماعية وأصبحت ظواهر جمعية … تتصف «الطرق الشعبية» folkways بالاطراد والشمول والطابع الآمر والثبات، وبمرور الزمن تزداد طبيعتُها التعسفية والقطعية والأمرية، وإذا سُئِل البدائيون لماذا يسلكون بطريقةٍ معينة في حالاتٍ معينة، فإنهم يجيبون دائمًا بأنهم هم وأسلافهم كانوا دائمًا يفعلون ذلك.٢

الطرق الشعبية إذن لا يبتكرها البشر عن عمدٍ أو تفطُّن، إنها أشبه بنواتج قوى الطبيعة التي يديرها الإنسان عن غير وعي، أو هي أشبه بالطرق الغريزية للحيوان؛ إذ تنجم من الخبرة وتصل إلى شكل نهائي يحقق أقصى تكيف بإزاء غرضٍ ما، وتصير تقليدًا ينتقل من جيل إلى جيل ولا تقبل استثناءً أو شذوذًا، غير أنها يمكن أن تتغير لتوافق ظروفًا جديدة ولكن تغيرها يتم في حدود الطرق نفسها ودون تَفَكُّر أو قصدٍ عقلي.

تتحدد الطرق من جانبها السلبي؛ أي بواسطة «المحرمات» taboos، والطريقة الصحيحة هي الطريقة التي اتبعها الأسلاف، والتي أورثوها الأخلافَ، التقليد هو برهان ذاته ومسوِّغ نفسه، التقاليد تحمل في ذاتها مبرراتها، فهي لا تقع في النفس موقعًا يُعَرِّضها للتحقيق بالخبرة، إن فكرة «الصواب» قابعةٌ في الطرق الشعبية، الصواب لا يأتي من الخارج، من مصدرٍ مستقل، لكي يختبرها ويتحقق منها، فأيما شيء تقوله الطرق الشعبية فهو حق؛ ذلك لأنها تقليدية موروثة تنطوي في داخلها على سلطة أرواح السلف.

هكذا ينبغي أن نتصور الأعراف على أنها نسقٌ عريض من الأحكام التي تشمل الحياةَ كلها وتخدم مصالحها جميعًا، وتحمل في ذاتها مبرراتها عن طريق التقليد الموروث والاستخدام والعادة، ويسلم الناس بها خضوعًا لسطوةٍ سريةٍ باطنةٍ إلى أن تؤسس، عن طريق التأمل العقلي، تعميماتها الفلسفية والأخلاقية الخاصة، والتي ترقَى عندئذٍ لتصبح «مبادئ» الحق والصواب.

تسيطر الأعراف على كلِّ جيلٍ ناشئ وتُخضِعه لسلطانها، والأعراف لا تحفز الفكر بل تثبطه، فالتفكير قد تم وقُضِي أمره وتجسد في الأعراف، ولا تحمل الأعراف على الإطلاق أي احتمالات بمراجعتها وتعديلها، فالأعراف ليست أسئلة بل أجوبة — أجوبة عن مسائل الحياة، وهي تقدم نفسَها كشيءٍ نهائي وغير قابل للتغيير؛ لأنها تمثل أجوبةً مقدمة بوصفها «الحقيقة».

ليس بوسع أية فلسفة شعبية أن تقدم نفسَها كشيءٍ مرحلي وغير مكتمل وقابل للدحض غدًا مع نمو المعرفة، فهذا التوجه الفلسفي حديثٌ للغاية، ذلك أنه يكلف المرء عنتًا ذهنيًّا شديدًا، إن جميع الشعوب التي نرى أعرافَها أدنى مستوى من أعرافنا هي على قناعةٍ تامةٍ بما لديها من أعراف مثلما نحن على قناعة بما لدينا، فالأعراف إنما تُقَيَّم بمدى تجاوبها مع ظروف الحياة ومصالحها في زمان ومكان معينين، ومِن ثَم فمن الصلاح والتيسير ألا يوليها أحدٌ تفكيرًا أو تأملًا بل أن يتعاون الجميع في تنفيذها غريزيًّا.

(٣) اختبار الزمن

قد يقول قائل: ولكن كيف يتسنَّى لاعتقادٍ ما أن يدوم كلَّ هذا الزمن لو لم يكن هذا الاعتقاد حقًّا وصوابًا؟! أليس بقاء الفكرة أو العادة ردحًا طويلًا من الزمن دليلًا على نجاحها وصحَّتها وإسعافها للناس في حياتهم على الأرض؟ أليس دليلًا على أنها قد «اجتازت اختبار الزمن» passed the test of time، وأثبتت فاعليتَها في مواقف متتالية وتجارب متعاقبة؟ ألا يُقيم العلم نفسُه وزنًا لما يسمَّى «اختبار الزمن»، ولما يسمَّى «تكرار التجربة» replication؟
«الحق أن الاحتكام إلى التقاليد كثيرًا ما يعكس ضروبًا معقدةً من التكيف مع البيئة، ما إن تنشأ هذه التكيفات حتى تنتقل على نحوٍ ثقافي وليس كحجةٍ ممنطقةٍ، فيكون الناس على وعي بحكمة تقاليدهم أو على غير وعي، وأغلب الاحتمال أن تكون التقاليد صائبةً في البيئة الثابتة حيث أتيح لكثير من الاختلافات أن تُختبر في الماضي، على أن التقاليد تميل إلى أن تَبلَى وتندثر في البيئة السريعة التغير.»٣

(٤) الوراثة الثقافية والضغط الانتخابي

في كتابه «التكيف البشري» يذهب ستيفن تولمن إلى أن تطور الأفكار العلمية شبيه بالعمليات التطورية الأخرى، وإن لم يكن تطورًا داروينيًّا بالمعنى الحرفي: ﻓ «المتخالفات» (المتغايرات) variants في العلم ليست «سمات» traits بل «أفكارًا» مخالفة، والضغط الانتخابي في العالم الفكري يعود إلى «شدة النقد»، إن «التفكير النقدي» لَيقدم لنا بديلًا عن «الانتخاب الطبيعي».٤
من الواضح أن تولمن متأثر في دراساته بأفكار كارل بوبر عن تطور المعرفة البشرية والنظريات العلمية، يذهب بوبر إلى أننا نحقق تقدمًا في معرفتنا، ونقارب الحقيقة، بواسطة عملية محاولة وخطأ، ويُقدم نظرية تطورية لنمو المعرفة، مفادها أننا نبدأ من مشكلة معينة (م١)، نقوم إزاءها باقتراح «حل اختباري» tentative solution أو «نظرية اختبارية»، ثم نحاول عندئذٍ استبعاد النظريات الكاذبة بتعريضها لاختبارٍ قاسٍ ونقدٍ شديد، عندئذٍ يبرز موقفٌ جديد أو مشكلة جديدة (م٢) نتناولها على نفس النحو، وهكذا تنمو المعرفة باطراد، في حلقات متتالية تبدأ من مشكلة وتنتهي بمشكلة، لكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة، هذه الجِدة هي التي تكفل التقدم المستمر للمعرفة.٥
صفوة القول إن «الوراثة الثقافية» cultural inheritance قد تُعد تكيفية، وأن الثقافات قد تتطور لأنها تقدم للجنس البشري «مزايا انتخابية»، ففي البيئة الثابتة يمكن أن تتطور تقاليد ثقافية تكيفية، من أمثلة ذلك استمرار عادة أكل الباقلاء fava beans ألوفًا من السنين بين شعوبٍ متوسطية عديدة، برغم خطره على بعض من لديهم استعداد جيني معين، فقد تَبَيَّن أن الجين الذي يؤدي إلى حساسية للباقلاء يُضفي أيضًا مقاومةً للملاريا، ومِن ثَمَّ فقد كان هذا الجين يُنتخَب طبيعيًّا في المناطق الموبوءة بالملاريا، وهكذا كان لأكَلة الباقلاء في هذه المناطق مزايا بقاء جعلتهم أكثر عددًا بفضل مقاومتهم للملاريا، وهكذا فإن سمةً ثقافيةً انتقلت من جيلٍ إلى جيل قد انتُخِبت طبيعيًّا، وسادت المجتمع بعد أجيال عديدة.٦

ومن ذلك أيضًا أن فلاحي الريف الأوروبي الإقطاعي درجوا على أكل البطاطس والجبن والبيض، دون أن يعانوا من زيادة دهون الدم ومن تصلب الشرايين، وغير ذلك من الأمراض المتوقعة من مثل هذا الطعام الدهني أو العالي السعرات، توارثَ الناس أكل هذا الطعام وأصبح عادةً راسخة، ولم يفطنوا إلى السبب من وراء ذلك: فقد كانت الكثافة السكانية آنذاك عالية ومصادر الطعام شحيحة، ومِن ثَمَّ كان هذا الطعام هو الأنسب لمن يعيش على الكَفاف.

ومن ذلك عادة أكل الطَّفل (الطين) في جبال بيرو! لقد ترسخت لدى السكان هذه العادة الغريبة دون أن يسألوا عن السبب من وراء ذلك، كان هؤلاء السكان يأكلون صنفًا معينًا من البطاطس مغذيًا ولكنه سام، وقد تبين أن أكل الطَّفل مع هذا الطعام هو بمثابة ترياقٍ له إذ يمتص المواد الكيميائية السامة.٧
غير أن اختبار الزمن في الممارسات الاجتماعية قد تم في بيئة محددة وظروفٍ بعينها، وينبغي أن نكون على استعداد لإعادة تقييمها إذا ما تغيرت الظروف:
  • فإذا ما تبنَّت البلاد الموبوءة بالملاريا مشاريع صرفٍ ونجحت برامج مكافحة البعوض في القضاء على الملاريا، هنالك قد يغدو أكلُ الباقلاء عادةً بالية.

  • وإذا قُدِّر لشخصٍ أوروبي حديث (حيث وفرة الطعام وقلة المجهود) أن يعيش حياتَه على البطاطس والجبن والبيض فبشِّره بطول بقاءٍ في العناية المركز لأمراض الشريان التاجي.٨
  • وإذا ما تقدمت المجتمعات اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا لم يعد ثمة معنى لبقاء المرأة في البيت، وقد صار بوسعها تَقَلُّد وظيفةٍ مريحةٍ ومضاعفة دخل الأسرة.

زِد أن الممارسات المنتخَبة إنما هي محض «تكيفٍ» مع الموقف وليست «مبررًا» له بحال.

(٥) هابرماس وعلاقات القوة في الوراثة الثقافية

ليكن النقد والتمحيص والتنقيح هو العادة والتقليد والعُرف.

يذهب الفيلسوف الألماني يورجين هابرماس J. Habermas إلى أن التقاليد قد تَخلُق بُنَى اجتماعية وعلاقات قوة كفيلة بدورها أن تقمع الحجة وفقًا للعلاقات القائمة على السلطة أو الثروة، ومِن ثَمَّ فإن على المرء أن يميز بين تقليدٍ تؤيده أجيالٌ من الاختبارات وتقليدٍ تفرضه السيطرة والطغيان وتَحُول دون اختباره: إن التقاليد قد تُفرَض بالقوة لكي تَصُب في مصلحة الطبقة المسيطرة، وإن الظلم الاجتماعي لَيعوق تطور المجتمعات إذ يمنع انتخاب التنوعات التكيفية.٩

وإذا كانت الممارسات الثقافية الثابتة هي أفضل ما أتيح تجريبه في الماضي، فقد تكون بعض التنويعات الجديدة التي لم يتم تجريبها جديرةً بأن تأخذ حظها من الاختبار الحصيف، وها هنا يكون الاتصال بين المجتمعات مصدرًا ثريًا للبدائل الجديدة والتحسينات الممكنة، ربما يكون الطب الشعبي، على سبيل المثال، أفضل العلاجات المكتشفة لدى ثقافةٍ ما، ولكن أفضلية الطب الحديث في علاج الأمراض المعقدة، كالسرطان، هي أمر لم يَعُد محل جدال.

صحيح أن التقاليد القديمة كانت عملياتٍ منتقاةً بالضغط الانتخابي، عمليات مجرَّبة أثبتت نجاعةً في زمنها وتحت ظروفها، ولكن ليس من الحكمة التمسك ببناءٍ فوقي بعد أن انفصم عن بنائه التحتي الخاص، وليس من الحكمة التشبث بتقاليد عتيقة بعد أن انبتَّت صلتها بأساسها القديم ولم تَعُد تلائم الأزمنة المتغيرة.

من الحكمة، كما يقول جون ستيوارت مِل، إن نفسح المجال لشيءٍ من «التجريب» في الفعل والسلوك، وأن نتحلَّى برحابة الصدر والعقل تجاه كل غريبٍ مختلف، ذلك أن تعدد التجارب البشرية دليل ثراء وخصب، مثلما أنه سبيل تقدم وارتقاء، ومن شأن الزمن وحده أن يبين لنا أي هذه التجارب هو الأفضل والأجدى والأنجع فنأخذ به كعادةٍ ونكتسبه اكتسابًا.١٠

لم يشهد تاريخ البشرية حقبةً تزعزعَت فيها الروابط بين المجال البيئي والمجال الاجتماعي مثل هذه الحقبة التي نعيش فيها: النمو السكاني، الميكنة، التجديدات التكنولوجية المتسارعة، نحن اليوم بإزاء إيقاع من تغير الظروف بَلَغَ من السرعة مبلغًا لم تعرفه الأجيال السابقة، يَفرِض علينا أن نُعوِّل على مَلَكاتنا النقدية، وأن نغامر بتجريب طرائق جديدة واختبارها وانتخاب أفضلها، وأن نجعل النقد نفسه، والتجريب والاختبار، تقليدًا وعادةً وديدنًا.

(٦) التطويع الاجتماعي؛ غسيل الدماغ المحتوم

«تتم صياغة «الأنا الأعلى» super-ego (أو «البيئة المُدخلة» internalized environment) في فترة دقيقة خاصة من حياة الكائن البشري: فترة طفولة جبرية طويلة، فيها يتصل الكائن بالواقع لأول مرة، معتمدًا في إشباعاته على مَن يحيطونه من الوالدين وأشباههما من البالغين السابقين في تجربة الوجود، غير قَوِي على غير الخضوع والطاعة التماسًا للإشباع وتجنبًا للحرمان.
في هذه الفترة المتطاولة من الضعف والاعتمادية يتم دمج النماذج السلوكية الموروثة والمعايير الخُلُقية المقررة، يتم دمجها في الذات العليا مُشَكِّلةً أصل ما يُسمَّى بالضمير، وجذور ما يسمَّى باﻟ «محافظة» (السياسية – الأخلاقية – الفنية – اللاهوتية … إلخ) التي تتحدد مهمتها في إطالة عمر «الوضع القائم» status quo ودعم التقاليد والنظم الاجتماعية السائدة التي أفرزتها ضروراتُ اقتصادية واجتماعية سالفة، وربطها بأعماق النفس وتغليفها بالهيبة والقداسة، ومقاومة كل تغيير فكري أو اجتماعي مهما تكن بداهتُه ووجاهته وجدارته بتخفيف آلام المجتمع وتحسين أحواله.

في هذه الفترة المستطيلة من الضعف والاعتمادية يتم بتر الدهشة وإخصاء التساؤل واصطياد «النقد» في الماء العكر.

وإن شيئًا تمت صياغتُه في ظروف من القهر والجبر، وفي حدود مما كان ومما هو كائن، لا يجمل ائتمانه على ما يأتي ولا استفتاؤه فيما ينبغي.»١١
«وإنه لَيُعجِزنا أن نحزر كيف كان يمكن أن يكون حالُ عالمنا لو لم يداخل الشك بعض العقول الباسلة والبصائر النبيلة، فيسوِّل لها أن تركل كهفَها الدافئ وتذبح أمانَها السمين، كيما تستنطِق الحقَّ وتستجوِب الطبيعة، وكيف كان يمكن أن يكون حالُه لو أن كل رهطٍ من البشر ظلوا قابعين في حظيرتهم، مُتَحَكِّكين كالخِراف، غيرَ مُنبتِّين عن جهالة الآباء أو متجاوزين «لطفولة» الأجداد!»١٢

(٧) متى يكون القِدَم معيارًا صائبًا؟

يزداد شغفي بك على مرِّ الليالي،
كأنك الخمر أو العطر أو العود أو اللؤلؤ،
أو أيٌّ من تلك الأشياء المحظية القليلة
التي استأثرها الزمن بمودته،
وتبناها الفَلَك في دورته،
فهو يُرضعها ولا يدوسها
ويُكرمها ولا يهينها،
ويُغليها ولا يُرخِصها.
غني عن القول أن القدم قد يكون معيارًا للجودة في بعض السياقات:
  • فبعض الآلات الموسيقية يزداد رنينُها بقدر ما يجف خشبُها بفعل الزمن.

  • والنبيذ المعتق، والجبن المعتق، والعطر القديم …

  • والأثر التاريخي، والوثيقة التاريخية، والأثر الفني …

  • واللؤلؤ جوهر نفيس يستغرق تكوينه زمنًا هائلًا في جوف المحارة.

  • والصداقة، وغيرها من العلاقات الإنسانية، تتقَوَّت بالزمن، وتزداد مع الأيام قوةً ورسوخًا.

ها هنا يكون الزمنُ طرفًا فاعلًا، ويكون القِدم «ذا صلة» relevant بقيمة الشيء.

(٨) الاحتكام إلى الجِدة appeal to novelty

بعض العقول مُغرَم بالقديم، وبعضُها متيَّم بالجديد … بينما الحقيقة ينبغي ألا تُلتمسَ في هناءة أي عصرٍ، فذاك شيء غير مستقر، بل تُلتمس في ضوء الطبيعة والتجربة، فذاك شيء خالد.

فرنسيس بيكون
مغالطة الاحتكام إلى الجِدة هي معكوس المغالطة السابقة، وتفترض أن جِدة الفكرة دليل على صدقها، وصورتها:
س جديد؛
إذن «س» صحيح أو أفضل.
ومن ثم تعد هذه المغالطة وثيقة الصلة ﺑ «مغالطة عربة الفرقة» bandwagon fallacy.

أمثلة

  • هذا المنتج حديث؛ إذن فهو أفضل.

  • هذه الأغنية جديدة؛ إذن فهي جيدة.

  • هذه النظرية أحدث؛ إذن فهي أصوب.

  • هذا الاتجاه الفكري أحدث؛ إذن فهو أصوب.

تستقي هذه المغالطة جاذبيتها من مصادر كثيرة:
  • منها ذلك الالتزام الشديد للثقافة الغربية بفكرة أن الأشياء الجديدة لا بُدَّ أن تكون أفضل من الأشياء القديمة.

  • ومنها فكرة «التقدم» progress أي الاعتقاد بأن الأزمنة المتأخرة هي تحسينات على الأزمنة المتقدمة، وأن الأشياء الأحدث عهدًا أرقى من الأشياء الأقدم، ويبدو أنه اعتقاد مستمد جزئيًّا من فكرة «التطور» evolution.
  • ومنها وسائط الدعاية التي كثيرًا ما تدس رسالةً ضمنية بأن الأحدث لا بُدَّ أن يكون هو الأفضل.

بديه أن عمر الفكرة لا صلة له بنصيبها من الحق أو الصواب، وأن كون الشيء جديدًا هو أمر لا يضمن جودة ذلك الشيء، ويكفي أن نذكر أنه ما من فكرةٍ باليةٍ نرفضها اليوم باعتبارها هراءً باطلًا إلا وكانت فكرةً جديدةً في يومٍ من الأيام!

(٩) متى تكون الجِدةُ معيارًا صائبًا؟

الاحتكام إلى الجِدة، شأنه شأن غيره من المغالطات، قد يصح في بعض السياقات ويكون له ما يبرره: متى يصح الاحتكام إلى الجِدة؟ عندما تكون الجِدة ذات صلة بالجودة:
  • فلبن اليوم لا شكَّ أفضل من لبن الأمس لأنه طازجٌ لم تعمل فيه عوامل الفساد.

  • وعلوم العصر أصوبُ من العلوم القديمة؛ لأنها تُراكِم عليها وتُصحح أخطاءها.

  • ومدارِكُ الناس، من ثم، في زمننا أوسع بما لا يُقاس من مدارك الأسلاف في القرون الغابرة.

١  يُسمى هذا الصنف من المغالطات «مغالطات الصلة» fallacies of relevance، ويشمل كثيرًا من المغالطات المذكورة، مثل: الاحتكام إلى سلطة، إلى النتائج، إلى العامة، إلى الشفقة، إلى القوة … إلخ.
٢  Sumner, Graham. “Ethics are relative”. In James A. Gould (ed), Classic Philosophical Questions, second edition, Charles E. Merrill publishing Company. Howell company, Colombus, Ohio 43216, pp. 82-83.
٣  William D. Harpine, university of Akron: The appeal to tradition: Cultural evoluation and logical soundness., Informal logic, XV.3, Fall 1993, p. 209.
٤  Toulmin, Stephen E. “Human adaptation”. Jensen and Harre, pp. 176–195.
٥  Popper, K. R., Objective Knowledge. The Clarendon Press, Oxford, 1972, p. 119.
٦  Katz, S. H. and J. Schall. “Fava Bean Consumption and Biocultural Evolution”. Medical Anthropology 3 (1979): 459–476.
٧  Johns, Timothy. With Bitter Herbs Eat It: Chemical Ecology and the Origins of Human Diet and Medicine. Tucson: University of Arizona Press, 1990, p. 67.
٨  William D. Harpine. The Appeal to Tradition., p. 214.
٩  Ibid. p. 215.
١٠  انظر فصل «عن الحرية، جون ستيوارت مِل»، في كتابنا «صوت الأعماق»، دار النهضة العربية، بيروت٢٠٠٤، ص٥٥–٧٩.
١١  عادل مصطفى: بشرف منطقي، في سبيل إعادة صياغة المشكلة الأخلاقية، مجلة «الإنسان والتطور»، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد ٣، يوليو، أغسطس، سبتمبر، ١٩٨٢.
١٢  عادل مصطفى: فضيلة الشك وضرورة المنهج، مجلة «الإنسان والتطور»، دار المقطم للصحة النفسية، القاهرة، السنة الثالثة، العدد ٤، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر ١٩٨٢، ص٢٧–٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤