الفصل الرابع والثلاثون

الأنثروبومورفيزم

Anthropomorphism
تتألف كلمة أنثروبومورفيزم من كلمتين يونانيتين: Anthropos وتعني «إنسان»، وmorphe وتعني «شكل»، الأنثروبومورفية إذن هي «أنسنة» غير الإنسان، أو أخذ اللاإنساني مأخذ الإنساني، أو إضفاء صبغةٍ بشرية على ما ليس بشرًا، والأنثروبومورفية (الأنسنة) وفقًا لمعجم أكسفورد الفلسفي هي «تمثيل الآلهة، أو الطبيعة، أو الحيوانات غير البشرية، على أن لديها أفكارًا ومقاصد إنسانية، أحيانًا ما يكون ذلك تمثيلًا استعاريًّا معلنًا، فتكون المشكلة إذاك أن نفهم وجه الاستعارة.»١
وقريب من ذلك مصطلح «المغالطة الوجدانية» pathetic fallacy، أي إسباغ الخصائص الإنسانية، المشاعر بخاصة (أو الانفعال أو «الوجدان» pathos) على الطبيعة والجمادات، من مثل قولنا: السماء الضاحكة، البحر الغاضب، إعصار لا يرحم، بحيرة هادئة، أشجار حزينة … إلخ.
الأمر كما ترى هو نوع من «التمركز على الإنسان» anthropocentrism يُصادر بأن كل شيء آخر في الوجود لا بُدَّ يشبهنا على نحوٍ ما، أو هو محاولة منا، نحن البشر، لفهم أي شيء لا نملك إليه منفذًا معرفيًّا مباشرًا، فنتخيل أنه يسلك مثلنا تمامًا، وقد يوغل العقل، البدائي بخاصة، إلى حد أنسنة أرواح الأشياء والظواهر الطبيعية، الرياح والأنهار والرعد … إلخ، والأحداث كالحرب والموت … إلخ، والمفاهيم المجردة كالحب والكره والجمال والخصام … إلخ!

(١) في الميثولوجيا والثيولوجيا

كانت الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية أنثروبومورفية قلبًا وقالبًا، سواء في هيئتها أو في علاقاتها العائلية والاجتماعية، ففي قصائد هوميروس نجد الآلهة تسكر وتتزوج وتختصم وتتزين، شأنها شأن البشر تمامًا، ولكي يميز الإغريق بين الآلهة والبشر فقد أضفوا على الآلهة وحدهم صفتي الخلود والشباب الدائم، كان للآلهة طعامٌ خاص يتكون من النكتار nectar والأمبروزه ambrosia (التي تعني حرفيًّا «غير فان») يصير إلى سائلٍ مختلف عن الدم البشري يجري في أجسادهم اسمه أيكور ichor.
وكان بالإمكان في الميثولوجيا الإغريقية أن يتهاجن الآلهة والبشر، وانفرد الآلهة بالقدرة على اتخاذ هيئة غير هيئتهم البشرية بواسطة «التحول» (الميتامورفوسيس) metamorphosis، وظل الخلود والشباب الدائم حكرًا على الآلهة، ومن طرائف الأساطير الإغريقية أن إيوس إلهة الفجر أحبت الفاني تيثونوس ووعدته أن تلبي له أي شيء يطلبه، فطلب الخلود، ونسي أن يذكر معه الشباب الدائم، ومن ثم فقد أخذ يشيخ ويشيخ حتى لم يبق من ذاته الجسدية إلا صوته!
كان الفيلسوف اليوناني زينوفان Xenophanes (ولد على الأرجح عام ٥٦٥ق.م) أول من استخدم مصطلح الأنثروبومورفية، ليصف كيف كان الناس يتصورون آلهتهم شبيهة بهم في شكلهم ودوافعهم، فكانت الآلهة عند اليونان شقراء الشعر زرقاء الأعين، بينما كانت آلهة الأثيوبيين سمراء الجلد سوداء الأعين، وبعبارة أخرى فقد كانت الأوصاف الأنثروبومورفية تكشف عن واصفيها من البشر أكثر مما تكشف عن المقدس. صوَّب زينوفان سهام نقده إلى الأنثروبومورفية قائلًا: «إن الإله الأعظم لا يُشبه الإنسان لا في صورته ولا في عقله.» وشن هجومًا عنيفًا على الآلهة التقليدية، وكان هدفه الرئيسي استئصال مجموعة آلهة الأوليمب التي اتخذ كلٌّ منها صورة الإنسان.٢

وكان أفلاطون أيضًا مناوئًا للتمثيل البشري للآلهة، وفي محاورة «الجمهورية» بصفةٍ خاصة يعترض على عملية إسباغ المثالب البشرية على كائنات إلهية. كان أفلاطون، شأنه شأن زينوفان، يرمي إلى تطهير العقيدة بتنقيتها من العناصر التي يعدها بدائية وفجَّة.

جاءت الديانات السماوية مُناوِئةً بشدة للأنثروبومورفية، ومنزهة للرب عن أيِّ شبه بالإنسان، صحيح أننا نصادف في الكتاب المقدس كثيرًا من التعبيرات الأنثروبومورفية مثل «صورة الرب»، «يد الرب»، «ذراعه الممدودة»، «عيني الرب»، «مسند قدميه» … إلا أن التأويل السائد هو أن التوراة تتحدث بلغة الناس، وأن الكتاب المقدس يستخدم مثل هذه الألفاظ لأنها اللغة الوحيدة التي يمكن للبشر أن يفهموها، غير أن عليهم ألا يأخذوها بمعناها الحَرفي، إن هي إلا استعاراتٌ لوصف ما يستحيل وصفه على أي نحو آخر؛ لذا كان أحبار الحقبة التلمودية يلجئون إلى تعبيرات عديدة لتفادي الفهم الحرفي: تعبيرات مثل «إن جاز أن نقول ذلك»، وكان المترجمون يضيفون أحيانًا كلمة أو كلمتين لدرء التشبيه: من ذلك أن الآية ٨: ١٢ من سِفر العدد «سأتحدث إليه فمًا لفم» ترِد في النسخة اليونانية هكذا: «سأتحدث إليه فمًا لفمٍ ظاهريًّا.»

(٢) الأنسنة استراتيجية إدراكية

إن المبدأ عينٌ نرَى بها.

إمرسون
الحقيقة أن إسناد فاعلية بشرية للأشياء والظواهر هو استراتيجية تفسيرية عظيمة الفاعلية رغم فشلها في بعض الأحيان، فنحن بعد كل شيء نعيش في بيئة يشكل البشرُ جانبَها الأهم والأكثر تواترًا وأشد تأثيرًا؛ ومِن ثم فلا مفرَّ لنا من أخذ كل ما هو بشري في الاعتبار الأول، ولا مفر لنا في حالة عدم وضوح الرؤية من الرهان على التفسير الأنثروبومورفي، إن بناءاتنا التصورية والإدراكية لَتميلُ بنا غرزيًّا إلى النزعة الإحيائية animism والنزعة الأنثروبومورفية، كما أن توصيل الحقيقة إلى البشر لا يتسنَّى له أن يتم إلا عبر وسيط من الأفكار البشرية، ولا يمكن التعبير عنه إلا بلغة ملائمة لفهم البشر.
إن مقولات الفهم ومخططات الإدراك المبيَّتة في أدمغتنا قد شيدتها تجارب بشرية ولغات بشرية ومواضعات بشرية، ولا مندوحة لنا عن استخدام هذه المقولات categories وتلك المخططات schemata إنْ كان لنا أن نحظَى بأيِّ إدراك أو فهم على الإطلاق.
إن العالمَ يتراءى أمام أعيننا في تدفق كاليدوسكوبي مضطرب، ونحن نحدس أو نخمن بما نراه وفقًا للنموذج القائم في أدمغتنا عن العالم، والذي شيدته أدمغتُنا خلال تخمينات سابقة وما آلت إليه تلك التخمينات، في سلسلةٍ لا نهاية لها من المحاولة والخطأ، وبعبارة أخرى فإن ما نراه يتوقف على النموذج الذي نستخدمه، وإن النموذج الذي نستخدمه إنما شيدته تجاربُنا السابقة في الرؤية. يلخص توماس كون هذه الفكرة بقوله في كتابه «بنية الثورات العلمية»: «شيء يشبه البارادايم paradigm (النموذج الشارح) هو متطلب أساسي حتى في الإدراك نفسه، إن ما يراه المرء يعتمد على ما ينظر إليه لتوه، بالإضافة إلى خبرته البصرية السابقة وما علَّمَتْه أن يرى.» ويقول فييرابند: «حين نُعطَى مثيراتٍ ملائمة ولكن مع أنساق مختلفة من التصنيف (تهيؤ ذهني مختلف) فإن جهازنا الإدراكي ينتج موضوعات إدراكية لا تمكن المقارنة بينها بسهولة.» ويقول الأنثروبولوجي جون بيتي: «إنما يرى الناس ما يتوقعون أن يروه، ذلك أن تصنيفات إدراكهم تحددها إلى حد كبير، إن لم يكن كليًّا، خلفيتهم الاجتماعية والثقافية.» ويلخص فيلسوف العلم نوروود رسل هانسون N. R. Hanson كل ذلك في تعبير واحد أصبح مصطلحًا مأثورًا ومفهومًا محوريًّا في فلسفة العلم، هو أن الإدراك «مُحمَّل بالنظرية» theory-laden، ذلك أن خلفيتنا النظرية، تصوراتنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل في كيفية رؤيتنا له.٣
ويذهب الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر إلى أن من المحال أن يتم فهمٌ على الإطلاق بغير فروض مسبقة أو «تحيزٍ» prejudice ما! فمحاولة الوصول إلى تأويل مُبرَّأ من أي تحيز أو فهم مسبق هي محاولة عابثة؛ لأنها تمضي في الحقيقة ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من الشيء أو «الموضوع» object هو ما يسمح له المرءُ أن يظهر، وذاك أمرٌ يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية، ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمر «واضح بذاته»، بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيء يقوم على حشدٍ غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يُشيده المُؤوِّل الذي يظن نفسَه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة. لقد أماط هيدجر اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم.٤

(٣) ستيوارت جوثري: «وجوهٌ في الغمام»

في كتابه Faces in the Clouds (وجوه في السحاب أو الغمام) يذهب جوثري S. Guthrie إلى أن ميلنا إلى أن نعثر على خصائص إنسانية في العالم غير الإنساني ينجم عن استراتيجية إدراكية غائرة: فبإزاء اللايقين الشامل بما نراه فنحن «نراهن» على التأويل الأوثق دلالةً بالنسبة لنا: فإذا كنا في الغاب مثلًا ولمحنا شبحًا داكنًا من بعيد قد يكون صخرةً وقد يكون دبًّا، فمن الحصافة أن نظنه دبًّا: فإذا كنا على خطأ لم نخسر شيئًا، وإذا كان على حق فقد ربحنا الكثير!

هكذا كلَّما تفرَّسنا العالم فنحن نفتش فيه عما يَعنينا أكثر من غيره نفتش عن الأشياء الحية، وبخاصة الأشياء البشرية، وحتى الحيوانات تفتش عن الخصائص والأمارات البشرية، مثلما يتبدَّى عندما تتجنب الطيور الفَزَّاعات (خيال المآتة)! وباختصار فنحن نتبع مبدأ السلامة، ذلك المبدأ الذي أعان الجنس البشري على البقاء حين كان الرهانُ الإدراكي باهظًا.

هكذا يتحلَّى الإدراك الأنثروبومورفي بقيمة بقاءٍ جعلت الضغوط التطورية تنتخب أولئك الذين اتَّبعوا مبدأَ السلامة ورهنوا على الرؤية الأنثروبومورفية، وهكذا أورَثَنا أسلافنا هذه النزعة الطبيعية: أن نخطئ، إن أخطأنا، في جانب السلامة، وهكذا صار مُبيَّتًا في الدماغ البشري أن يتوسم وجود بشر آخرين، أو آثار بشر، في الظواهر الطبيعية.٥

(٤) في الإيثولوجيا٦

في كتابه «علم البيولوجيا» يقول و. ت. كيتون: «إن كل ألفاظنا تقريبًا تشتمل على نوعٍ من الدلالة البشرية، ومن تضمين الدافعية البشرية والغرض البشري، غير أن هذه الدافعية والغرض قد لا تكون لها صلة بسلوك الحيوانات الأخرى، وعلينا دائمًا الاحتراز من إضفاء خصائص بشرية لا مسوِّغ لها على الأجناس الأخرى، فالتفكير الأنثروبومورفي والغائي لا مكان له في الدراسة العلمية لسلوك الحيوان … واللغة الإنجليزية، شأنها شأن جميع اللغات الإنسانية، إذ تَنَشَّأت حول الأنشطة البشرية والتفسيرات البشرية، لم يكن لها بُدٌّ من أن تعكس هذه الأنشطة والتفسيرات … ومِن ثَمَّ ينبغي أن يتفطَّن المرء إلى المزالِق التي ينطوي عليها أي تطبيق للغة ذات التوجه البشري على أنشطة الحيوانات الأخرى.»٧
وقد جرى العرفُ في المجتمع العلمي على الانتقاص من اللغة الأنثروبومورفية التي تُومِئ إلى أن الحيوانات لديها مقاصد وعواطف، واعتبارها دليلًا على افتقاد الموضوعية، وقد دأب علماء البيولوجيا على تجنب الفرضية القائلة بأن الحيوانات تشارك البشر نفس القدرات العقلية والاجتماعية والانفعالية، مُعَوِّلين بدلًا من ذلك على الأدلة القابلة للملاحظة بشكلٍ صارم، فالحيوانات كما يقول بافلوف «ينبغي أن تُدرَس دون حاجة إلى اللجوء إلى تأملات خيالية عن احتمال وجود أيِّ حالات ذاتية.» والمنهج العلمي يتضمن ملاحظات وتعريفات وقياسات لموضوع البحث، أما «المُواجَدة» empathy فلا تُعد أداةً نافعة عند جمهور العلماء.
غير أن دراسة القردة العليا في بيئتها الخاصة قد غيرت المواقف تجاه الأنثروبومورفية، فقد غدا من المقبول على نطاق واسع أن المواجدة قد تلعب دورًا مهمًّا في البحث، يقول فرانس دي وال «لقد طالما اعتُبر خطيئةً علمية أن نسبغ عواطف إنسانية على الحيوانات، غير أننا إذ نفعل ذلك نغامر بفقدان شيء أساسي عن الحيوانات وعن البشر معًا.»٨ وقد واكب ذلك بزوغُ وعي متزايد بالقدرات اللغوية للقردة العليا، وتُبين أنها صانعة للأدوات وأن لديها فرديةً وحضارة.

لعل الموقف الصائب هو موقفٌ بين بين: فرغم أنه من الواضح أن للحيوانات انفعالات معينة، إلا أنه قد لا تكون انفعالات بشرية تمامًا، وقد يميل عشاق الحيوانات المنزلية المدللة إلى إضفاء صفات إنسانية على حيواناتهم، غير أن الطفل المحب لقطته قد يُصدَم حين يراها تقتل فرخَ طائر صغير مدفوعةً بالغريزة، ومُسَيَّرة بإشارات خاصة بها لا يدري عنها شيئًا، وإذا كانت الأنسنة تسهِّل فهمنا للأشياء التي تبدو غريبةً، فإنها إذا تجاوزت حدَّها فقد تُفضي بنا إلى عمى إدراكي يعوقنا عن اتخاذ المنظور الصحيح للكائنات الأخرى.

(٥) في العلوم الطبيعية

الطبيعة تكره الفراغ.
الهواء يكره التزاحم، وعندما يُضغط سيحاول الهرب إلى منطقة أقل ضغطًا.
الجسم المتحرك، بسبب كتلته، يريد أن يبقى متحركًا.
تريد الكرة أن تتدحرج إلى أسفل التل.
لا تستطيع مادةٌ أن تشتعل في غياب الأكسجين؛ لأن الأكسجين يساعدها على الاشتعال.

قد يظن أستاذ العلوم الطبيعية أنه يساعد تلاميذه على فهم الظواهر الطبيعية باستخدام استعارات أنثروبومورفية من هذا القبيل، غير أنه في أغلب الأحيان لا يعدو أن يشوش فهمهم للسبب الذي يجعل العالم الطبيعي يسلك بالطريقة التي يسلك بها، ويرتد بهم إلى صوفية القرون الوسطى، ويحول بين أفهامهم وبين الاستبصارات الحديثة إزاء سلوك الطبيعة.

لست مضطرًّا حين تشرح سلوك العالم الطبيعي إلى أن تفسر «لماذا» يسلك هذا المسلك، وبحسبك أن «تصفه»، فإذا كان عليك أن تقدم تفسيرًا فليكن تفسيرًا علميًّا صحيحًا لا مصادرةً أنثروبومورفية لا دليل عليها مفادها أن «الطبيعة تحاكِي سلوكَ الإنسان».

لقد أورَثَنا أسلافُنا إرثًا ذهنيًّا مغلوطًا حين تصوروا العالمَ الطبيعي على شاكلة بيئتهم البشرية، ذلك التصور الذي أعانهم على البقاء واجتَبَته ضغوطهم الانتخابية الخاصة بزمنهم، إن حقيقة أن معظم عمليات الكون وظواهره تنجم عن قوى لا شخصية ذاتية التنظيم لا عن أفعال قصدية، هذه الحقيقة هي شيء لا يقع لنا على نحو طبيعي غرزي، لقد استغرق الأمرُ قرونًا طويلةً من التجريب الدقيق والعمل النظري الشاق لكي تُسفِر الحقيقةُ عن وجهها، على أننا حين نُسْلِم فروضنا للنظام الصارم للعلم الطبيعي الحديث نحس باغتراب عن عملياتنا الفكرية الطبيعية … وذلك عندما نكتشف كم هي متمركزة على الإنسان نظرتُنا إلى العالم، وكم هي أنثروبومورفية هذه النظرة في حقيقة الأمر.

«يبدو أن تخلص الفكر الإنساني من الأنثروبومورفية هو شيء بعيد الاحتمال جدًّا، في المستقبل المنظور على أقل تقدير، ولا نحن راغبون في ذلك، فمثل هذا التخلص قد يكون له آثار جانبية غير مرغوبة، ليس أقلها فقدان الإبداعية والخيال، والقدرة على استبانة دببةٍ في الغاب، لقد أثبتت الأنثروبومورفية أنها موصولة ببقائنا كنوعٍ بحيث غدت، ربما، جزءًا من الكائن الإنساني يتعذر اقتلاعه، ومِن ثَمَّ فقصارى ما نأمله عندما ندرك ونخلق أشكالًا في السحاب هو أن ننمي القدرة على أن ننظر فيما وراء إدراكاتنا، أن نكتشف وجهًا، وأن نعترف بجماله، وأن نُسَلِّم بأنه لا وجود له.»٩

(٦) متى تصح الأنثروبومورفية؟

لا بأس بالأنسنة عند تناول الإنسان.

هايك

في كتابه (المشترك) «النفس ودماغها» يقول كارل بوبر بمعرض حديثه عن تشبيه أفلاطون للعقل بربان سفينة الجسم: «هذه امتدادات قد تُرفَض على أنها ضروب من الأنثروبومورفيزم (الأنسنة)، ولكن لا بأس بأن يكون المرء أنثروبومورفيًّا في تناول الإنسان كما قد ذكَّرنا هايك.»

كان الفيلسوف جيامباتيستا فيكو G. Vico في كتابه «العلم الجديد» يُنكر إمكانية تطبيق نماذج العلم الطبيعي على الطبيعة الإنسانية، ويعلن أن الدراسة العلمية للطبيعة الإنسانية لا بُدَّ لها أن تقوم على أساس صيغة إنسانية بحتة من التفاعل والتفاهم، يرى فيكو أن هناك هوة لا يمكن اجتيازها بين البشري والطبيعي، بين ما شيده البشر وما هو مُعطى في الطبيعة … ويرى أن منتجات العمل البشري، كالفن والقانون والتاريخ نفسه، وبالضبط لأنها من صنع الإنسان، يمكن فهمها فهمًا أفضل من فهم العالم الطبيعي، حيث إن العالم الطبيعي هو عالم مغاير لنا بشكل لا حيلة فيه وغير قابل لأن نعرف حقيقته النهائية.١٠
في كتابه «ضد التيار، مقالات في تاريخ الأفكار»، يلخص إيزايا برلين حجة فيكو في قوله: «إذا كانت الأنسنة هي أن نسبغ على عالم الجماد عقلًا وإرادة دون وجه حق، فهناك عالم لعل من الصواب أن نضفي عليه هذه الصفات بالتحديد، هذا العالم هو عالم الإنسان، عليه يمكن القول إن أية محاولة لدراسة البشر على أنهم كيانات طبيعية صرف، شأنهم شأن الأنهار والنباتات والأحجار، هي عمل يقوم على خطأ أساسي، ونحن البشر نُعَد فيما يتعلق بأنفسنا ملاحظين نتمتع بامتياز خاص هو الرؤية من الداخل (الرؤية الباطنة)، ويُعد تجاهل ذلك سعيًا وراء مثال من العلم الموحد لكل ما هو موجود وطريقة عالمية مفردة للبحث، يعد إصرارًا على الجهل وتعمدًا له».١١
١  The Oxford Dictionary of Philosophy. Oxford, New York: Oxford University Press., 1996, p. 19.
٢  برتراند رِسل: حكمة الغرب، ترجمة د. فؤاد زكريا، الجزء الأول، عالم المعرفة، العدد ٦٢، فبراير ١٩٨٣، ص٤٥.
٣  انظر في ذلك فصل «نسبية الإدراك الحسي»، في كتابنا «صوت الأعماق، قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٤، ص٢٣٨–٢٤٧، وانظر أيضًا ما قلناه في فصل «البروكرستية».
٤  Richard E. Palmer: Hermeneutics. Northwestern University Press, 1969, p. 136.
٥  Stewart E. Guthrie: Faces in the Clouds, a New Theory of Religion. New York: Oxford University Press, 1993.
٦  دراسة سلوك الحيوانات في بيئتها الطبيعية.
٧  Keeton W. T.: Biological Science. New York: W.W. Norton. 1967, p. 452.
٨  Frans de Waal. “Are we in Anthropodential?”, Discover. 1997–07، pp. 50–53.
٩  Sally Morem: Peering at Faces in the Clouds. Secular Nation, September-October 1996, pp. 2–5.
١٠  مايكل كول: علم النفس الثقافي، ماضيه ومستقبله، ترجمة: د. كمال شاهين، د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢، ص٥١-٥٢.
١١  Berlin, I. Against the Current: Essays in the History of Ideas. Oxford: Oxford University Press, 1981, p. 96.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤