الفصل الخامس والثلاثون

الأمن المنطقي

حديث صحفي مع طلبة السنة الرابعة بكلية الإعلام، جامعة القاهرة.

حول كتاب «المغالطات المنطقية»
بإشراف الطالبة/حنان إبراهيم
هل من الممكن أن تتفشى مغالطة بعينها حسب المجتمع الذي يحيا فيه الفرد؟

– بكل تأكيد … فإذا كان اللُّب أو الهيكل الصوري للحجج يندرج تحت «المنطق الصوري»، وهو شيء عالمي عمومي شأنه شأن الرياضيات، فإن الغلاف الكثيف الذي يُطبِق على هذا الهيكل النحيل هو شيء نسبي يختلف من مجتمعٍ إلى آخر؛ لأنه ممتزج بلغة الناس وهمومهم وانفعالاتهم وانتماءاتهم وتحيزاتهم، بل بمناخهم وتضاريس واقعهم.

هل الخلفية المرجعية أو أيدلوجية الشخص تلعب دورًا في كثرة وقوعه في مغالطة بعينها أكثر من غيرها … بمعنى، هل يتحد الماركسيون مثلًا في الوقوع في مغالطة «س» بينما يتفق الإسلاميون في الوقوع في المغالطة ك؟

– نعم، إلى حد كبير، فأغلب الأيديولوجيات تنطوي على مصاعب منطقية لا تتسنَّى تسويتُها (ظاهريًّا) إلا بشيء من المغالطة، هناك أيديولوجيات لا تسترد اتساقها (الظاهري) إلا بمغالطات من قبيل: التأييد دون التفنيد، التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، الأنالوجي الزائف أو التفكير التشبيهي، الاحتكام إلى سلطة … إلخ، بل إن بعض الأيديولوجيات لا تعدو أن تكون مصادرةً كبيرة على المطلوب: فهي تنطلق من مسلَّماتٍ أُولى لا دليل عليها تنسج منها وعليها نسيجًا هائلًا من التفكير الدائري وتحصيلات الحاصل!

إلى أي مدى يساهم غياب التفكير النقدي في ظهور المغالطات المنطقية؟ وما أكثر المغالطات شيوعًا نتيجة لذلك؟
– التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي، حيث يرتقي العقل النامي إلى الوعي بوجود افتراضات تحتية أساسية يقوم عليها بناؤه الفكري، وإخراج هذه الافتراضات إلى واضحة النهار، ووضعها تحت أضواء النقد، التفكير النقدي ليس شيئًا سليقيًّا فطريًّا، بل يحتاج إلى تعَلُّم وممارسة، في البدء كان الخطأ، في البدء كانت المغالطة، في البدء كانت التحيزات المتأصلة والأوهام الموروثة الغائرة، وحين يمارس المرء التفكير النقدي إنما يسبح ضد هذا التيار ويجتاز هذه «العوائق الطبيعية». في غياب التفكير النقدي تتدفق المغالطات تدفقًا تلقائيًّا طبيعيًّا غيرَ موقوفةٍ وغير مُعترَضة unopposed، ومن ثم فإن أكثر المغالطات شيوعًا هي تلك المغالطات المبيَّتة في بنية الدماغ البشري نفسه: الأنالوجي الزائف، والتعميم المتسرع، والتشييء، والبروكروستية، ومن أكثر المغالطات شيوعًا بصفةٍ خاصة تلك الطرائق من التفكير التي خدمت الجنسَ البشري في مراحله الأولى، وأعانته على البقاء حين كان الرهان الإدراكي والتفسيري باهظًا: مغالطة المنشأ، والأنسنة (تشبيه اللاإنساني بالإنساني)، والاحتكام إلى التقاليد.
الأصل في التدليل على الحجة هو رد ما هو غير مقبول إلى ما هو مألوف … إلى أي مدى يكون هناك نجاح في الوصول إلى أصل مقبول أو مألوف لجميع الناس؟
– كثيرًا ما تكون المماحكة في الجدل ميسورةً حتى في أكثر الأفكار خطلًا وبُعدًا عن العقل، وقد أوضح كارل بوبر أن تجنب التفنيد هو أمر ميسور دائمًا، وأفاض في تبيان آليات ذلك، غير أن من البين المتواتر أيضًا أنه كلما توافر للناس حججٌ أكثر قبولًا وصلابة ازداد بُعدهم عن الحجج المغالطة. إن الوقائع facts الصلبة قائمة مشهودة قلما يختلف عليها الناس، وقوانين الفكر الثلاثة (الهوية، عدم التناقض، الثالث المرفوع) وقوانين المنطق الصوري بصفة عامة هي شيء عمومي لا خلاف عليه، من الممكن في أغلب الأحوال أن ننصرف عن الشيء الذي نختلف حوله إلى شيءٍ آخر لا نختلف حوله، ونحاول أن نستدل منه على ذلك الشيء، على أن نعترف في النهاية بأن من الناس من يعتصم في جدله بدرجةٍ من التنَطُّع والمماحكة يستحيل معها أي نقاشٍ مُنتِج.
أجرينا استبيانًا على عينة من المثقفين حول قضية «الدولة الدينية والدولة العلمانية»، وجاءت أكثر المغالطات ظهورًا في العينة مغالطة «تجاهل المطلوب» تليها «المصادرة على المطلوب» … ما دلالة ذلك من وجهة نظرك؟
– مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi مغالطةٌ جذابة حقًّا! لأن الحجة فيها منتِجة، غير أنها منتِجة لشيءٍ آخر غير الشيء المطلوب البرهنة عليه، الأهداف التي تسعَى إليها الدولة الدينية (وغير الدينية في حقيقة الأمر) هي أهدافٌ نبيلة مرجوة، ولكن السؤال الصعب حقًّا هو: هل البرنامج المحدد لهذه الدولة كفيلٌ ببلوغ هذه الأهداف؟ وهل هو أجدَى في بلوغ هذه الأهداف من غيره من البرامج الممكنة؟ إن التغافل عن هذا السؤال الأصلي وتغييبه في عمومياتٍ براقة وغايات كبرى، يجعلنا «نحيد عن المسألة» ونطيش عن المرمى، ونقع في مغالطة «تجاهل المطلوب».
أما «المصادرة على المطلوب» begging the question فهي طريقة أثيرة لدى أصحاب الدعوات الكبرى. إن من السهل دائمًا أن يجرفنا انفعالنا الأيديولوجي ويقيننا المذهبي ويَعصبَ أعيننا عن رؤية أننا في حقيقة الأمر نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه. ثمة فرق كبير بين السبب الذي يجعلك تعتقد شيئًا ratio credentis وبين السبب الذي يجعل هذا الشيء حقًّا أو صوابًا ratio veritatis.
في إحدى فقرات الكتاب تقول «وفي محاورة فايدروس يُبيِّن سقراط حجة معينة باختراع أسطورة صغيرة عن القدماء المصريين، فيرد عليه فايدروس بقوله إن بوسع سقراط أن يخترع قصصًا عن المصريين القدماء أو عن أي مكان يشاء، عندئذٍ يرد سقراط باختراع أسطورة أخرى …» إن كان فايدروس قد وقع في مغالطة المنشأ … أفلا يعتبر الاعتماد على أساطير في تبرير الحجة مثلما فعل أفلاطون مغالطة منطقية؟

– لا، ولو قلنا ذلك لوقعنا نحن في «مغالطة المنشأ»، إن للحق أو الصدق معايير ليس من بينها منشأ القضية، هب أن مجنونًا قال لك إن ٢ + ٢ = ٤ فهل تَعُد جنونَه دليلًا على خطأ العبارة؟! والحقيقة أننا نظلم الميثولوجيا كثيرًا لو فهمناها بهذه الطريقة وأخذناها هذا المأخذ، إنما الأسطورةُ استعارةٌ كبيرة! وينبغي أن نفهمها فهمًا مجازيًّا استعاريًّا، وقد سبق لي أن تناولت هذه القضية في كتابي «فهم الفهم» وتساءلتُ: ما الذي يخاطبنا في الأسطورة ومن خلالها؟ ليست الأسطورة وهمًا او كذبةً أو خرافة، إنها حقيقةٌ كبرى نضجت على مهلٍ في ضمير الأجيال كما ينضج اللؤلؤ في ضمير الصَّدف، فاكتسبت قوامًا واتخذت شكلًا وصارت مشهدًا حيًّا يملأ علينا مسارح الوجدان ويأخذ بمجامع الوعي، ويوقظ فينا شيئًا هاجعًا ما كنا لِنذكرَه، وما كنا لننساه.

في فقرة أخرى خاصة بمغالطة الحجة الشخصية … ذكرت أن «بيكون» أثناء مثوله أمام القضاء لم يدافع عن نفسه بقوله إنه ليس الأول والأخير الذي يقبل هدايا من الطرفين المتنازعين … لكن قال في نهاية دفاعه «ولكن أناشد سيادتكم وحسب أن تأخذكم الرأفة ببوصة منكسرة.» ألم يقع «بيكون» بقوله هنا في مغالطة مناشدة الشفقة؟
– نعم لو أنه أراد بذلك إثبات أي شيء، إنه يقول صراحة: «لا أُبرئ نفسي، إنني لأعترف بأنني مذنب وأرفض كلَّ الدفوع.» الشفقة ليست من جنس الحجة، والشفقة هنا تجول على مستوى مختلف عن مستوى الحجة، فرنسيس بيكون عقل كبير، وهو هنا لا يريد من شيخوخته وضعفه إلا أن يكونا بمثابة ظرفٍ خاص يُراعَى من أجل «تخفيف المسئولية» diminishing responsibility بمصطلح أهل القانون.
هل هناك ترافق في حدوث بعض المغالطات … مثل مغالطة إغفال المقيدات وسرير بروكرست، التركيب والتقسيم والتعميم المتسرع؟
– لقد وضعت يدك هنا على خاصةٍ أساسية في المغالطات المنطقية، فالحقيقة أن المغالطات جميعًا متداخلة متشابكة، بل متبادلة «متعاوضة» interchangeable في أحيان كثيرة، في كل مغالطةٍ شيءٌ من المغالطات الأخرى! ولا نَنْسَ أن المنطق غير الصوري مبحثٌ حديث ما زال في طور التكوين، وربما يشهد في المستقبل كثيرًا من الصقل والتحسين والتطوير. هناك خلافات كثيرة بين روَّاد هذا المبحث في مسائل كثيرة: هناك مغالطات صورية بحتة (مثل «إثبات التالي» و«إنكار المقدَّم») وهناك مغالطات ليس حجةً أصلًا حتى تكون مغالطة (مثل الاحتكام إلى القوة مثلًا)، إلى غير ذلك من الاشتباهات والالتباسات، غير أن هذا لا ينفي أهمية مبحث المغالطات — حتى في صورته الراهنة الناقصة — في تنبيهنا إلى طرائق خاطئة من التفكير، وحثنا على تجنبِها.
أحيانًا قد يتضمن تبرير حجة ما تناقضًا في مضمونه … ألَا يُعتَبر الوقوع في التناقض مغالطة منطقية؟
– الوقوع في التناقض خطأ في جميع الأحوال، و«قانون التناقض» law of contradiction (أو عدم التناقض في حقيقة الأمر) من قوانين الفكر الأرسطية الثلاثة، وهي من أسس المنطق الصوري، ولا نَنْسَ أن المنطق الصوري عمومي، وأنه هو المعيار النهائي حتى في مجال المنطق غير الصوري، فنحن في مجال المغالطات المنطقية يكون عملنا أشبه ﺑ «أخذ صورة أشعة» x-raying للحجة المطروحة، تُصوِّر هيكلها الصوري المطمور، لكي نُقدِّر نصيبَه من الصواب والخطأ وفقًا للمعيار المنطقي الصوري العتيد: صدق المقدمات وصواب الاستدلال.
هل يمكن اعتبار مغالطة الاحتكام إلى السلطة جزءًا من مغالطة المنشأ؟

– التداخل واردٌ جدًّا في حالات كثيرة، قد يكون الاحتكام إلى سلطة احتكامًا إلى مصدرٍ أُجِلُّه وأحبه وأثق فيه، والعكس أيضًا قد يصح في أحوال كثيرة، فقد أعتبر مصدر الفكرة سلطة قيِّمةً على الأمر المعنيِّ وأبصر مني بأصوله وفروعه.

متى يمكن اعتبار مناشدة الشفقة جزءًا من الحجة وليس مغالطة منطقية؟

– حين يكون انفعالُ العطف هو نفسه موضوع الحجة، أو حين يكون سببًا ذا صلة بقبول النتيجة: هذا طالبٌ أصيب وهو في طريقه للامتحان إصابةً بليغة، إن من حقه «إذن» أن يُمتحَن لاحقًا وأن يُحتفَظ له بالتقدير، بل أن أُيَسِّر عليه بعض التيسير ما دمت مقتنعًا بمُصابه مقدِّرًا لظروفه مدرِكًا لأثر الإصابة على استعداده وعلى أدائه.

ما هو الخط الفاصل بين استقراء الواقع والخروج من ذلك بنتائج والوقوع في مغالطة المنحدر الزلق؟

– توجيه الاتهام بمغالطة «المنحدَر الزلق» يستلزم أولًا استقراء الواقع بيقظةٍ ودقة، والتيقن من أن الكوارث المتوقعة بعيدةُ الاحتمال، وأن من الممكن التوقف ببساطة عند نقطةٍ ما على ذلك المنحدر. إذا كان استقراء الواقع يُنبئ فعلًا بحدوث العواقب المذكورة في الحجة فلا مغالطة في الأمر، أما إذا كانت سلسلة الأحداث المنتهية بكارثة هي مجرد مبالغة وتنطُّع ووسواس لا وجود له إلا في عقل صاحبه فهي مغالطة «المنحدر الزلق» أو «أنف الجَمَل»، الخط هنا خط تقديري يتوقف على الحالة المذكورة.

كيف يمكن الحيد بأفراد المجتمع عن الوقوع في المغالطات المنطقية؟ وهل ترى كيفية معينة من خلالها يمكن التوعية بمبادئ المنطق غير الصوري؟

– دراسة المغالطات المنطقية ينبغي أن تكون جزءًا من التعليم الأساسي، وجزءًا من برامجنا الثقافية، وحتى الترفيهية، على جميع الوسائط؛ وينبغي أن نجندَ لها كل المرافق التربوية وكل المنابر الإعلامية. الفراغُ الفلسفي والمنطقي هو أفتَكُ ضروبِ الفراغ؛ لأن الدماغ البشري يبغض الفراغ، ويبحث عما يملؤه، وفي غياب المناخ التنويري الصحي فإن «الخرافة» هي أسرع ما يملأ هذا الفراغ، العقولُ الفارغةُ الكسولة الموقوفة النمو، ربيبة عقودِ الفساد والتجهيل المنظم، تستمرئُ الخرافة وتستزيدها؛ لأنها تقدِّم لها أجوبةً سهلةً على الأسئلة الصعبة، ولا تُجشِّمها جهدًا يُذكر لاستيعاب هذه الأجوبة، ها هو خبزنا اليومي: مصادراتٌ صفيقةٌ على المطلوب، تفكير دائري يفسر الماء بالماء، احتكام إلى سلطةٍ مزعومة سرقت صولجان السلطة في غفلةٍ من الزمن، احتكام إلى الأغلبية ولو كانت الأغلبية غُثاءً كغثاء السيل، هجوم شخصي رقيعٌ يؤذي الشخص ولا يَمَس حجتَه، تحويل المخالِفين إلى دُمى من القش، تَلَفُّعٌ بالرايات واحتماء بالقطيع وانضمام إلى الزفة، تلويح بالعصا (أفشل أداةٍ للإقناع وأفشل مفتاح للعقل والقلب) تَمَحُّل أمثلةٍ مؤيدة وغض الطرف عن تلال الأمثلة المفندة، تلفيق البيانات وملأ الثغرات ولَيُّ أعناق النصوص وإكراهها على البغاء!

لقد أصبحت تربية التفكير النقدي ضرورة بقاء لنا جميعًا؛ لأن الجهل الذي عشَّش في دارنا عقودًا وباض وأفرخَ وطاب له المُقام لن يتركنا بسهولة ولن يفارقنا طوعًا، وها هو التفكير البدائي الضيق يهز قاربنا بعنفٍ ويهدد وحدتَنا ويوشك أن يُودي بالجميع، الأمن الحقيقي في مثل هذه القلاقل الناجمة عن عللٍ «عقلية» غائرة إنما هو أمنٌ «عقلي» بالدرجة الأساس، أمنٌ فلسفي، أمنٌ منطقي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤