الفصل الخامس

الرنجة الحمراء

red herring

الكلاب تَجِدُّ في طلب الطريدة،
الرائحة ترسم طريق الطِّراد،
تعبر الرنجة الحمراء، فيتحول المسار؛
ينسَى الطريقُ طريقَه.
الرنجة الحمراء، بشميمها الأنفَذ
بَرَكةُ آلهةِ الفرار،
وملاذُ كلِّ من أثْخَنَه الجدل.

***

هي حيلةٌ كان يستخدمها المجرمون الفارون لتضليل كلاب الحراسة التي تتعقبهم، وذلك بسحب سمكة رنجة حمراء عبر مسار المطاردة، فتجتذب الكلابَ رائحتُها الشديدة عن رائحة الطريدة الأصلية، وقد استعيرت للتعبير عن كل محاولة لتحويل الانتباه عن المسألة الرئيسية في الجدل، وذلك بإدخال تفصيلات غير هامة، أو بإلقاء موضوع لافت أو مثير للانفعالات وإن يكن غيرَ ذي صلة بالموضوع المعْنِي ولا يشبهه إلا شبهًا سطحيًّا، فيقذف بالخصم خارج مضمار الحديث.

من دَأب محترفي هذه المغالطة أن يستهلكوا الخصم في تُرَّهاتٍ خارجة عن الجادة، وأن يثيروا مشاعر المستمعين وانتباههم بطرح مسألةٍ براقة أخاذة وإن تكن بعيدة عن موضوع الحديث، فتَهوِي إليها أفئدة الحضور ولا يعود أحدٌ يذكر الموضوعَ الأصلي، إنهم بذلك لا يُحاجُّون بل يصخبون ويتلاعبون ويتداهون وينفثون سحابات التمويه والتعمية، ويتحدَّثون في أيِّ شيء إلا الشيء المَعْنِي، وكثيرًا ما ينجحون في صرف الانتباه وتحويل مسار الحديث وتبديد النقاش، فينفردون بالساحة حقًّا ويبدون منتصرين في الجدل، وكأنهم يفوزون لتغيُّب الخصم!

تجتمع لجنة على سبيل المثال لمناقشة إجراء جديد للحد من تلوث الهواء، فينبري أحد الأعضاء ويتحدث عن الأعباء الضريبية التي تثقل كاهل المواطن، ويتصدَّى عضو آخر بحديث مطول عن سطوة الشركات المتعددة الجنسية التي تملك زمام العالم، وينبغي أن نضع حدًّا لهيمنتها وتسلطها، ويفيض ثالث في الحديث عن نوعية المناخ قديمًا وكيف كان الهواء أكثر (أو أقل) نقاءً عندما كان طفلًا يمشي كل يوم ثلاثة كيلومترات ليصل إلى مدرسته البسيطة التي كانت تقدس التعليم وتجعل منه رسالة لا وسيلة للابتزاز والربح … إلخ. انظر هل ترَى في هذه الاستطرادات أيَّ صلة بالموضوع الرئيسي الذي اجتمعت من أجله اللجنة، وهو بالتحديد: هل من شأن هذا الإجراء الجديد أن يحِدَّ من تلوث الهواء؟ هل ستكون إيجابياته أكثر من سلبياته؟ وهل ثمة إجراء أفضل من ذلك للحد من تلوث الهواء؟

(١) متى يكون التحول عن الموضوع مشروعًا؟

كثيرًا ما تتخذ المسائل المعقدة تراتبًا هرميًّا بحيث يتعذر حسم مسألة معينة قبل أن يتم حسم مسألة أخرى، مثال ذلك ما يجري في كثير من محاورات أفلاطون؛ في محاورة الجمهورية، على سبيل المثال، يتحول مسار الحديث إلى مسائل ميتافيزيقية وإبستمولوجية مجردة؛ وذلك لأننا لا يتسنى لنا الإجابة عن أسئلة عملية عن معاقبة المجرمين أو تربية الأطفال حتى نعرف أولًا ما هي «العدالة»، ولن نعرف ما هي العدالة حتى نعرف المقصود بمفهوم «الخير»، وهذه بدورها تتطلب تحليلًا كاملًا لعلاقة الأفكار بالعالم الفيزيقي!

هكذا نتبيَّن أن الوصول إلى اتفاق عقلاني قد يتطلب العودة بالحوار إلى أسئلة أكثر أساسية، ثمة إذن تحولٌ مشروع عن موضوع الحوار في بعض الأحيان: ذلك هو التحول إلى مسألة جذرية تمهد المسرح لمناقشة الموضوع المَعْنِيِّ وتُفْضي إليه، إنها لا تُغَشِّي عليه بل تزيده وضوحًا، ولا تذهب به طي النسيان بل تؤدي إليه وتضعه في نصابه.

أما مغالطة الرنجة الحمراء فليست من ذلك في شيء؛ لأن الموضوع الجديد الذي يُلقَى به في مسار الجدل ليس أكثر أساسيةً بل أكثر بريقًا وشحنًا انفعاليًّا فحسب، ولأن الموضوع الجديد لا يُفضي بطبيعته إلى الموضوع الأصلي بل يُقْصِي عنه ويُنْسِيه ويصرف دونه الانتباه والذاكرة.

(٢) الفرق بين مغالطة الرنجة الحمراء ومغالطة تجاهل المطلوب

في مغالطة «تجاهل المطلوب» ignoratio elenchi ثمة صيدٌ تم الظفر به ولكنه غير المطلوب، وثمة نتيجة محددة تصل إليها الحجة ولكنها غير النتيجة المطلوبة، إنه خطأ في الاستدلال، أما في مغالطة «الرنجة الحمراء» red herring فإن الحجة تنحرف في اتجاهٍ مختلف ولا تصل إلى شيء: فهي إما حيودٌ خارج الموضوع diversionary irrelevance إلى موضوع آخر مثير انفعاليًّا فحسب، وإما تمويهٌ وسحابة تَعْمِية pettifogging لا تُفضي إلى شيء ذي بال، ليس هنا استدلال أخطأَ هدفَه، بل خداع للمستمع واستهلاك له وانحراف عن الموضوع برمته إلى مسألة أخرى.

أمثلة

  • (١)

    «كيف توافق على حظر الماريجوانا؟ الماريجوانا لا ضرر منها البتة، إنني لأُحِسُّ بأمان حين يكون السائق يدخن الماريجوانا أكثر بكثير مما أحسه حين يكون السائق تحت تأثير الخمر، إن الخمر حقًّا هي أم المشاكل، أتعرف أن إباحة الخمر تُكلِّف العالم سنويًّا، بين ثمن صناعتها وتعاطيها وثمن الكوارث التي تُلحقها، أكثر من تريليون دولار!» (لاحظ أن الموضوع الأصلي ليس كوارث الخمر، بل كوارث الماريجوانا ومبررات حظرها).

  • (٢)

    «مواقف السيارات؟ أعرف أن الأستاذ الدكتور سليم السيد كان يشكو في الاجتماع الأخير من ضيق أماكن الانتظار بالكلية، ولكن هل تدري أنه تم ضبطه في علاقة مشبوهة مع إحدى طالباته؟ إلى متى يحيد التعليم العالي عن هدفه ويتحوَّل إلى كمين للتحرش والابتزاز؟ بالله لا تحدثني عن هذا الرجل مرة أخرى»، (المسألة الأصلية هي ضيق أماكن الانتظار، وليست قصة مثيرة عن علاقة أستاذ بطالبة أو عن فساد التعليم العالي).

  • (٣)

    «يقول صديقك: إن قهوة تسترتشويس أفضل مذاقًا من قهوة فولجرز؟ يبدو أنه يتجاهل حقيقة أن تسترتشويس تنتجها شركة «نسله» التي أنتجت ذلك الحليب الذي أحدث ضجة كبيرة، لقد صَدَّرته لدول العالم الثالث، فراح ضحيتَه آلافُ الأطفال عندما كان الحليب الجاف يمزج بماء ملوث.» (إن مسألة وفيات الأطفال لمثيرة حقًّا، ومِن ثَمَّ كانت جديرة بصرف الانتباه عن الموضوع الأصلي: أي المذاقين أفضل؟)

  • (٤)

    «تقول صحيفة كونسيوم ديجست: إن لمبات جي إي أطول عمرًا من لمبات سيلفانيا، ولكن هل تعلم أن جي إي هي أكبر منتج للأسلحة النووية؟ إن الأضرار الناجمة عن سلوكها غير المسئول تفوق التصور، وليس أقلها أنها تخلِّف آلاف الأطنان من النفايات النووية التي لا تعرف أين تواريها.» (لاحظ أن الموضوع الأصلي «أيُّ اللمبات أطول عمرًا؟» قد اختفى تمامًا تحت سحابة الأسلحة الفتاكة والنفايات النووية.)

  • (٥)

    «إنَّ أنصار البيئة لَيقيمون الدنيا ويُقعدونها في حديثهم عن مخاطر القوة النووية، غير أن للكهرباء مخاطر جمة بغض النظر عن مصدرها، هناك صواعق طبيعية، وهناك كهرباء المصانع والمصاعد والبيوت، إن آلاف البشر كل عام يُصعَقون بسبب الإهمال والجهل، ومن الممكن تجنب هذه الأخطار المُحِيقة بمزيد من إجراءات الاحتياط والتوعية.»

  • (٦)

    ثمة كثير من اللغط هذه الأيام عن الحاجة إلى حظر استخدام المبيدات في حقول الخضروات وبساتين الفواكه، غير أن كثيرًا من هذه الأطعمة ضروري لصحتنا، فالجزر مصدر ممتاز لفيتامين أ، والقرنبيط غني بالحديد، والبرتقال وغيره من الموالح تحتوي على نسب عالية من فيتامين ج … إلخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤