الفصل السابع

الاحتكام إلى سُلطة

ad verecundiam; appeal to authority

إياك واحذر أن تكو
نَ من الثِّقات على ثِقَة
ابن فارس
كذبَ الظنُّ لا إمام سوى العقـ
ـل مُشيرًا في صبحِه والمساءِ
المعري

***

يعني «مذهب السلطة» (في الأخلاق وغيرها) authoritarianism أنَّ المصدر النهائي للمعرفة هو سلطةٌ من نوعٍ ماء، سلطةٌ قيِّمة على أمرٍ بعينه، قد تكون هذه السلطة نظامًا كالكنيسة، أو نصًّا كالكتاب المقدس، أو قانونًا أخلاقيًّا أو مدنيًّا، أو شخصًا، سلطة أهل العلم والاختصاص كل في مجاله، في العصور الوسطى المتأخرة، على سبيل المثال، صارت فلسفة أرسطو عقيدةً راسخة لا تناقش وكانت أقواله تُستحضر لحسم الجدال لا لإثرائه، وقد بلغ شخص أرسطو من الجلال والهيبة بحيث صار يعرف ﺑ Ille Philosophus (الفيلسوف، بألف لام التعريف)، وصار الاستشهاد بقوله يعرف ﺑ ipse dixit (هو، نفسُه، قال …)
يقع المرء في مغالطة «الاحتكام إلى سُلْطة» ad verecundiam عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، قد تكون الفكرة صائبة بطبيعة الحال، وإنما تكمن المغالطةُ في اعتبارِ السلطة بديلًا عن البيِّنة، أو اتخاذها بينةً من دون البينة!

لا بأس على الإطلاق في الاحتكام إلى سلطة، وإننا لنحتكم بالفعل إلى سلطة الخبراء في كلِّ مجال كلَّما أعوزتنا الخبرة أو المعرفة الكافية في ذلك المجال، فالمعرفة تخصصٌ، والخبراء هم الأشخاص الذين نذروا عمرهم في دراسة مجالٍ بعينه والتمرس به حتى حصَّلوا فيه معرفةً تجعلهم أبصر بأصوله وفروعه وأقربَ صلةً بالحقيقة في شئونه وشجونه، ومِن ثَمَّ فإن لنا كل الحق في أن نستفتيهم ونسألهم الرأي والمشورة في مجالهم لأن لدينا ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن رأيهم في ذلك أقوم من رأينا وخبرتَهم أصدقُ من خبرتنا، فإذا ألمَّ بالمرء مرضٌ لا خبرة له به فإنه يلجأ إلى الطبيب المختص ويأخذ بمشورته ويتبع إرشاداته، وإذا استعصى عليه خلل بجهاز الحاسوب فإنه يلجأ إلى خبيرٍ بالحواسيب ليُصلح له الخلل، وهكذا الحياة وبخاصة في العصر الحديث: تخصصاتٌ وأفرعٌ موكلٌ بها خبراءُ متخصصون نثق برأيهم ونأتمر بأمرهم ونحتكم إلى سلطتهم، ليس في الأمر هنا حجبٌ للدليل أو استهانة بالبينة، بل توجُّهٌ إليهما والتماسٌ لهما (في مظانِّهما)! فما جعل الخبيرَ خبيرًا في نظرنا إلا ثقتنا بأن عنده الدليلَ ولديه البيِّنة.

على أن الأمور على صعيد الواقع لا تسير دائمًا هذا السير الهَيِّن ولا تسلك دائمًا هذا الجَدَد الآمن، يبدأ التعثر والوقوع في الاحتكام المغالط إلى السلطة في الأحوال التالية:

(١) إذا كان الاحتكام إلى السلطة غير ضروري

ذلك أن كثيرًا من الأمور تخضع للملاحظة المباشرة أو الحساب المحض، هنالك يلتقي المرءُ التقاءً مباشرًا بالبينة ويكون الالتجاء إلى السلطة لطلب البينة هو عبث لا معنى له وكسل يستوجب اللوم، إنه أشبه بالتيمم وقد حضر الوضوء! ذلك أن الملاحظة المباشرة أعلى يقينًا من السلطة وتجُبُّ أيَّ سلطة، هكذا كانت ثورة «النهضة» ضد سلطة أرسطو وسلطة الكتاب المقدس، تلك الثورة التي أعقبت تطورًا علميًّا حقيقيًّا لم تشهد البشرية مثلَه في العصور السوالف، لقد كان رأي أرسطو في العصور الوسطى يؤخذ مأخذ التسليم حتى في الأمور الإمبيريقية التي تمكن معرفتُها بسهولة بواسطة الملاحظة، وكأن ذهن أرسطو أصدق رؤية من نواظر الخلق!

كذلك كان يستَشهَد بالكتاب المقدس كسلطةٍ لا مُعقِّب لها، حتى في المسائل التجريبية والرياضية ومن الطريف أن قيمة اﻟ pi (النسبة بين طول محيط الدائرة وقطرها، ط) كانوا يدعون أنها ثلاثة استنادًا إلى فقرات معينة بالعهد القديم! غير أن قيمة ط هي مسألة رياضية يحددها علم الحساب (وهي اثنان وعشرون على سبعة) والالتجاء فيها إلى السلطة هو أمر غير ذي صلة.

وكيف تنسى البشرية زمنَها الذي ضاع ودماءَها التي أُريقت من جراء الخضوع لسلطة الكنيسة طيلة العصور الوسطى، حين ارتهن الناسُ لديها حواسَّهم وملكاتهم الإدراكية التي أُودِعوها لتكون أوثقَ الأدلة وأصدقَ الرسل، وأُخذوا على الاعتقاد بأن الشمس تدور حول الأرض فهكذا يقول الكتاب المقدس ولو كان كتابُ الكون يقول غير ذلك، وأخذوا على الاعتقاد بأن تاريخ البشر على الأرض لا يعدو السبعة آلاف سنة، ولو دَلَّ علمُ الحفريات على أنهم أقدم من ذلك بما لا يُقاس.

(٢) إذا كانت الدعوى غير داخلة في مجال خبرة الشخص الذي يُحتكَم إليه كسلطة

حين يطرح الشخص دعوى معينة في مسألة تخرج عن نطاق خبرته فإنه لا يعود خبيرًا في هذا السياق الجديد، ولا يعود بإمكانه أن يدعم رأيه بالدرجة المطلوبة من الخبرة، ولا يعود هناك فرق بين رأيه في هذا الأمر ورأي سواه من عامة الناس، لقد تركَته سلطته لدى الباب فدخل وحده وصار في هذا المجال الغريب واحدًا من «غير المتخصصين» laymen.
ومن الأهمية بمكان أن نتذكر في هذا الصدد أن تضخم المعارف في العصر الحديث قد جعل التخصص الدقيق فرضًا محتَّمًا على كل من يريد أن ينجز في العلم إنجازًا حقيقيًّا وتستوي لديه خبرةٌ كافية في مجالٍ ما، الأمر الذي يجعل الخبراء الحقيقيين في أغلب الأحيان على غير دراية كبيرة بما يقع خارج تخصصاتهم، ليس هذا فحسب، بل إنه كثيرًا ما يحدث أن يكون تعليم المرء وخبرته في ميدان معين عائقًا فعليًّا في وجه قدرته على إصدار أحكامٍ خبيرة في ميدان معين آخر، يُطلق على هذا الصنف من العجز الناجم عن التمرس الكبير بمجال معين «العجز المكتسب» learned incapacity، فالتعليم العلمي مثلًا قد يحول بين المرء وبين إصدار أحكام في الميدانين الفني والأدبي.
ومن الأمور الشائعة في عصرنا — ذلك الاستغلال للسلطة، المُسمَّى بالإعلان عن طريق الشهادة testimonial advertising، حيث يقوم نجوم الشاشة والرياضة ومعبودو الجماهير في مختلف الميادين بالإعراب عن إعجابهم بأنواع من السجائر والصابون وغير ذلك من السلع، ففي كل الأحوال تقريبًا لا تكون لهذه الأحكام أية قيمة مشروعة؛ لأن العلاقة بين من يصدر الحُكم وبين السلعة هي ذاتها العلاقة بين المستهلك العادي وبين هذه السلعة ذاتها، فعندما تعلن ممثلة السينما الآنسة «س» أنها تُدخِّن سيجارة من نوع «ص» وحده، فإنها لا تعبر دون شك إلا عن تفضيل شخصي، قد لا يكون أعمق في نقده أو تحليله من رأي المدخن العادي، والنتيجة الضمنية التي يودُّ المُعلِن أن يحملها إلى أذهان الجمهور هي أن ذوقها في السجائر على مستوًى يتناسب مع شهرتها من حيث هي شخصية من شخصيات الشاشة، أما مسألة كون المعلن ينجح في ذلك أم لا، فينبغي أن تُترك للمسئولين عن ميزانيات هذا النوع من الإعلان، فلا بُدَّ أن يكون أصحاب الإعلانات مقتنعين بأن الإهابة بسلطة النفوذ هي وسيلة مُربحة.١

(٣) إذا كان هناك خلاف بين الخبراء في المسألة المعْنِيَّة

في هذه الحالة تكون كل من الدعوى ونقيضها مدعمًا برأي بعض الخبراء الثقات، بحيث لا يعود ممكنًا حسم المسألة بمجرد الالتجاء إلى رأي الخبراء.

ثمة مجالات علمية كثيرة تعجُّ بالخلافات الداخلية بين أهلها حتى في المسائل المحورية والأسس الكبرى للتخصص، من هذه المجالات علم الاقتصاد، فقد يذهب بعض خبرائه الثقات إلى أن «العجز» هو العامل المفتاحي في مجال الاقتصاد بينما يذهب آخرون، ليسوا أقل خبرة، إلى العكس، من ذلك تمامًا، ومن المجالات المشهرة بالخلافات بين خبرائها علم النفس والطب النفسي، حيث نجد مدارس مصطرعة بينها شقاق حاد في تصور السواء والمرض وفي منهج التشخيص والعلاج.

يتبين من ذلك أن الخبير الذي يُحتكَم إليه في شأن من الشئون التخصصية قد لا يكون ممثلًا لرأي جميع الخبراء في ذلك المجال، والحق أنه في قطاعات كبيرة من البحث البشري يكون بوسع المرء أن يجد خبيرًا يدعم له أي رأي يراه أو موقف يريده، يذَكِّرنا ذلك بالقول المأثور: «افعل أي شيء تقررُه وستجد نصًّا يُبررُه!»

ذلك أن الخبراء هم في النهاية بشر، يُصيبون ويخطئون، حتى في مجال تخصصهم، ولعل هذا هو ما يُبرر أخذ «رأي ثانٍ» (وربما ثالث) في الحالات الطبية حين يكون تشخيصها غامضًا غير محسوم، يَفهَم أغلبُ الناس المغزَى في أخذ رأي ثانٍ حين يتعلق الأمر بحياتهم وصحتهم، غير أنهم كثيرًا ما يتشبثون برأيٍ واحد لا يمثل آراء الخبراء جميعًا حين يكون هذا الرأي موافقًا لهواهم ومدعِّمًا لتحيزاتهم.

(٤) إذا كان الخبير متحيزًا أو تكتنفه شبهة التحيز

قلنا إن الخبراء بشر، والبشر غير معصومين من التحيز والهوى كيفما كانوا، وليس ثمة شخص يمكنه أن يدَّعي الموضوعية المطلقة، ومهما يبلغ أحدنا من النزاهة والحياد يبقَ لديه شيء من الهوى والميل تجاه آرائه الخاصة، وربما كان علينا أن نقبل درجةً ما من التحيز لدى كل شخص ما دامت ضئيلة الأثر، أما في الحالات التي يكون الخبير فيها في موقع يميل به ميلًا شديدًا في اتجاه رأي بعينه فإن لنا كل الحق في أن ننصرف عن الاحتكام إلى رأيه بوصفه «مجروحًا» على أعلى تقدير، من ذلك على سبيل المثال نتائج أبحاث خبراء طبيين عن أضرار التدخين على غير المدخنين حين تمولها شركات التدخين الكبرى ذاتها!

قد يأخذ التحيز والميل ألوانًا أخرى عديدة، من ذلك أن الخبير قد يتأثر بموضعه الشخصي ومآزقه الخاصة، فالمحامي الذي يدافع عن نفسه، والطبيب الذي يحاول تشخيص مرضه الخاص (أو مرض أحد أبنائه)، هو عُرضة للميل والحيود، وقمين بالخطأ الناجم عن التفكير الآمل Wishful thinking أو الخوف.

(٥) إذا كان مجال خبرة ذلك الخبير هو علم زائف أو مبحث معرفي غير مشروع

الخبرة بالوهم ليست خبرة على الإطلاق، ولا قيمة من ثم لأي خبرة مهما كبرت، ومهما ازدانت بالشهادات والرُّخص، إذا كان مجالها نفسه علمًا زائفًا أو مبحثًا معرفيًّا كاذبًا، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر: التنجيم astrology والفأل، الفراسة وتحديد الشخصية من شكل الجمجمة phrenology، العلاج بطرد الأرواح الشريرة.

(٦) إذا كانت الخبرة، أو الفتوى، غير معاصرة

لأن المعرفةَ تتقدم بسرعةٍ هائلة، والتقدم في المعرفة يكاد يكون مرادفًا للمراجعة والتصحيح، الأمر الذي يجعل كثيرًا من الآراء العلمية عرضةً للنسخ والتعديل خلال سنواتٍ قليلة وربما أشهر.

(٧) إذا كان الخبير المزعوم مجهولًا أو غير محدد

حين تكون السلطة غير محددة فإنه يكون من المحال التحقق مما إذا كانت تلك سلطة على الإطلاق، وكثيرًا ما يلجأ الناس إلى تدعيم مواقفهم بادعاء أنها مصدَّقة من جانب خبراء ثقات أو مؤسسات أو منظمات، دون تحديد شيء من ذلك بالاسم، ودون ذكر البينة التي تستند إليها هذه المنظمات أو أولئك الخبراء، وكثيرًا ما يُشار إلى هذه السلطة المجهولة بلفظ عام من قبيل: «العلماء»، «الأطباء»، «القادة»، «المختصون»، أو حتى بمجرد «شخص ما»، «هم يقولون»، «قرأت في صحيفة»، «قرأت في بحث»، «شاهدت في التلفاز» … إلخ.

والحق أننا كثيرًا ما نُشير باللفظ العام إلى فئة الخبراء، ويكون ذلك معقولًا تمامًا وبخاصةً إذا كان هناك إجماع بين أهل المجال على الرأي الذي نطرحه، والأجدى على كل حال أن نشفع ذلك بذكر البينة التي تستند إليها هذه السلطة غير المُسماة، غير أن الأمور ليست دائمًا بهذه البراءة، فكثيرًا ما يدل هذا الأسلوب على التميع والغموض وعدم الإلمام بالمسألة، وإلا فإن ذكر الخبير بالاسم ليس بالأمر العسير، وكثيرًا ما يتبين أن الدعوى المطروحة هي مجرد إشاعة، والإشاعات كما نعلم هي دعاوى مجهولة المصدر في الأغلب الأعم، وكثيرًا ما تُنسَج عمدًا لتشويه صورة الخصم.

أمثلة

  • (١)

    الشمس تدور حول الأرض لأن الكتاب المقدس يقول ذلك بوضوحٍ لا لبس فيه.

  • (٢)

    يؤكد العالِم الكبير وليم جينكينز الحائز على نوبل في الفيزياء أن فيروس الإنفلونزا سوف يتم القضاء عليه بجميع أنواعه بحلول عام ألفين وخمسين، ومثل هذا العالِم الفذ لا يُستهان برأيه. (خبير في غير مجاله.)

  • (٣)

    ليس للتدخين كبيرُ ضررٍ على المدخنين، هكذا أثبتت دراسة فريق الأطباء الباحثين الذين يعملون لدى شركة مارلبورو. (خبرة متحيزة أو مجروحة.)

  • (٤)

    لقد حددتُ رقم حظي وتعرَّفت على شريك حياتي الملائم: لقد استشرت في ذلك الأستاذ جبور جبور الفلكي الشهير في عيادته. (مبحث معرفي زائف.)

  • (٥)

    يقول «المتخصصون» إن سنسوداين هو أفضل معجون يضمن سلامة الأسنان. (خبرة غير محددة.)

  • (٦)

    لا شكَّ أن برسيل هو مسحوق الغسيل الأفضل لجميع الألوان، هكذا أثبتت «الأبحاث العلمية».

  • (٧)

    لا أستعمل غير عطر أوبيام؛ لأنه أفضل العطور جميعًا، هكذا يقول عمر الشريف في الإعلان.

ومهما يكن من شأن السلطة وهيبتها وجدواها فهي في نهاية المطاف ليست معرفة من المنبع first hand بل معرفة بالوساطة second hand، وهي في نهاية المطاف معيار غير أساسي وغير مباشر، بل مشتقٌ من غيره ومتكئٌ على سواه، ويعلمنا التاريخ قديمه وحديثه أن السلطات تخطئ وتجهل وتتضارب وتصطرع، وتتخذ هي ذاتُها معايير للحق متباينة مختلفة؛ ولذا فإن المعرفة المستمدة من السلطة لا تعدو أن تكون «ظنًّا» أو «دوكسا»، ولا ترقى إلى أن تكون معرفة بالمعنى الدقيق للكلمة، ويجمل بنا بعد كل شيء أن نتجنب الاحتكام فلنشفعه بعرض البينة التي تستند إليها هذه السلطة بقدر ما يسعفنا الإلمامُ والفهم.
١  هنترميد: «الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها»، ترجمة د. فؤاد زكريا، الطبعة الثانية، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧٥، ص١٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤