الفصل الثاني عشر
وآن أن أنام. وِلم يكن يرنق فى عينى نوم. نعم كنت متعبًا مهيضاً. وكنت أرانى أحياناَ بين اليقظان والوسنان. ولكنى لم أكن أشعر بمقاربة النوم أو ثقل الجفون.
ولكن قيل لى إن النوم وجب، فقلت وهو كذلك، ورأيت أن هذا يتيح لى أن أخلو بنفسى فتظاهرت بالطاعة فذهبوا عنى وصرت وحدى فوسعنى أن أفكر فى أمرى، فى سراح ورواح، وأمان من أن يتطفل على خلوتى أحد بوجوده.
وقلت لنفسى هذا يوم الجمعة قد انقضى، لا بسلام، بل بعلقة، ولا عجب أن يطّرد النحس فيه من البداية إلى الختام. وقد انتهت الحفلة يما لا أعرف. فما عنيت بأن أسأل. ولا صدقت لحظة واحدة أن هذا عيد ميلادى. وكيف يكون وأنا لم أولد هنا ولا لهؤلاء القوم الذين ما عرفتهم إلا فى هذا اليوم؟ ولست آدرى هل ينتظر منى فى صباح الغد أن أذهب إلى المدرسة أو تعفينى العلقة منها أياماً؟ وعلى أن هذا لم يكربنى كما يكربنى ما صرت إليه، وما أقصيت عنه فماذا أصنع؟ هلِ أوطنِ نفسى على السكون إلى هذه الحداثة الجديدة، وأحتمل أن أكبر شيئا فشيئاَ، سنة بعد سنة حتى يأذن الله مرة أخرى أن أعود رجلا، بعد أن كنت قد فرغت واسترحت من هذا العناء؟ ولماذا يقضى علىّ أنا وحدى بهذا التكرار؟
وعدت أتساءل: أهذا حلم أم أنا أرى حقا؟ فإذا كان حلماً فلعلنى إذا تحركت أن أستيقظ.
وأغمضت عينى وجعلت أدفع يدى ورجلى وأضرب بهما الهواء وأتقلب بعنف. ثم فتحت عينى وأجلتهما فيما حولى وأنا أتوقع أن أرى غرفتى القديمة التى أسرى بى منها، ولكنى على الرغم من الظلام لم أر أنى قد عدت إليها. فهبط قلبى وكاد اليأس يخامرنى من النجاة أو الأوبة إلى ما خلفت.
ثٍم ضحكت — أضحكنى أنى أتكلف هذا العبث لأستيقظ، وما كنت نائما، ولو كان شىء خليقاً أن يوقظنى، لتكفلت بذلك العلقة السخنة.
وسألت نفسى: «والاَن ما العمل»؟ وجلست ونزعت الكمادة التى تركوها على خدى وحدثت نفسى أن الطبيب الذى عادنى وأنا غائب عن وعيى وعن هذا العالم الجديد الذى قذف بى عليه، حمار. وكيف عجز أن يتبين أن هذا الاهاب الصغير، محشو برجل كبير ولم يفطن إلى هذه الغلطة الجسيمة؟ وما قيمة ورم قليل فى الخد وأنا كلى وارم؟
وكيف غاب عنه أن جلدى مكظوط ومشدود لأن ما هو أكبر منه حشر فيه؟
وكففت عن هذا فما فيه خير. وقلت إن الطبيب لم يكن معنيًّا إلا بما يستحق عليه أجره. ولو كان عُنى بالفحص الجدى لاطلِع على معجزة ولوقع على مالم يقع عليه طبيب من قبل. ولصار بذلك علما خالد الذكر. ولكنه لايعرف إلا مافى كتبه ولايجعل باله إلى الأعراض البارزة جدًّا، ويدخل متأثراً بما قيل له، وقد عادنى وكل مافى رأسه أنى ضربت علقة. فلم يكلف نفسه أكثر من النظر إلى المواضع التى أصابها الضرب. ولو أهمل ما قيل له، ودقق فى الفحص لعلم أنى مدسوس فى جسم غير جسمى.
وبدا لى أن الطبيب سيضيع وقتى، إذا كنت أعود إليه كلما اعتزمت أن آتركه. وماذا كان يسعه؟ أهذا صندوق يستطيع أن ينزع مساميره ويرفع غطاءه ويخرجنى منه؟ إذن فلندعه إلى ما هو أجدى.
وخطر لى أن أجدى من ذلك أن أنهض وأحاول أن أتصل بأهلى! وقد عرفت أن ههنا آلة تليفون، وقد نام البيت، ففى وسعى أن أستخدمه، وبحسبى أن أسمع صوت زوجتى أو غيرهما ممن فى البيت، فما أطمع أن يصدقونى إذا قلت لهم إنى رجلهم! ورأيتنى وأنا أهبط على درجات السلم بحذر وعلى أطراف أصابعى أتساءل: «كيف يكون الحال إذا طلبت بيتي فأجابنى صوت كصوتى الذى أمسيت به وأصبحت بخلافه؟ أى إذا تبينت أنى لا أزال هناك وإن كنت هنا»؟
وطردت هذا الخاطر فإنه مثبط ومزعج، وذهبت أنسل من غرفة إلى أخرى وأتلفت وأستثبت قبل أن أدخل حتى اهتديت إلى التليفون، وكان فى غرفة تشبه غرفة مكتب إلا أنه لا كتب فيها ولا شىء سوى مكتب ألصق بالحاط ووضعت عليه ربطات مختلفة مزدانة ذات ألوان بهيجة، خطر لى أنها عسى أن تكون «الهدايا» التى أهديت إلى فى «عيد ميلادى» ونسوا — لا أدرى كيف؟ — أن يقدموها إلىّ، أو حتى أن يذكروها. ولكنى لم أعن بها وانصرفت عنها إلى التليفون، وهو فيما أعلم، أو فيما كنت أعلم، مجعول لتيسير أسباب الاتصال بين الناس، ولكنه كان فى ليلتى هذه كأنما جعل لمكيدتى وامتحان صبرى، فما رفعت السماعة عنه مرة وأدرت رقم تليفونى إلا خلتنى فى نادى سمر وقصف، وما أكثر ما سمعت مما لو قرأته فى كتاب، أو شهدته على مسرح أو فى سينما لقلت إنه شطط فى التخيل، ومبالغة فى الاغراب، وكثر المتطفلون على، وكانوا ينهروننى ويأمروننى أن «أخرج» ويوبخونني ويقولون لى إن استراق السمع عيب، كأنما كنت قد فعلت ذلك، أو تعمدته، أو كأنما هم لا يُعدون أيضاً متطفلين علىّ! وشتمنى واحد بألفاط لم أكن أعلم أنها مما يجرى به اللسان حتى بين المرء ونفسه، فتعجبت للإنسان وما ينطوى عليه من جبن أصيل، وسوء أدب وقلة مروءة، وظننى بعضهم فتاة لأن صوتى قد صار كصوت البنات كما أسلفت، فراح يغازلنى ويحاول أن يتعد معى!
وكدت أخرج عن طورى، فقد أجهدنى وأتلف أعصابى هذا الخلل الذي أصاب التليفون، ورأيتنى مرات أهم بأن أصيح لأطرد هؤلاء الطفيليين الواغلين الذين لا يزالون يحشرون أنفسهم كلما طلبت الرقم كأنهم، آلوا على أنفسهم ليحولن بينى وبين الاتصال بمن أريد، وخفْتُ عاقبة الصياح فألقيت السماعة وعدت أدراجى إلى غرفتى، لأطمئن،َ فقد جري بظنى أن لعل بعضهم قد زارِنى ليرى كيف حالى.
ولكنى وجدت كل شىء هادئاَ كما تركته. فقلت أنفض الأرض حول البيت فإن الليل فرصتى، فلن يأخذ أحد على متوجهى.
وكان باب الشرفة مفتوحاً ليدخل الهواء. فخرجت إليها ومددت، فجذبت غصنا من الشجرة التى لفتت نظرى فى الصباح والتى تسلقها عم أحمد لما جاءنى بالنمل. وجلست على حافة الشرفة، وثبت رجلى بين فرعين. وانتقلت إلى الشجرة. وتذكرت أنى كنت فى حداثتى الأولى أحسن تسلق الشجر. وشجعنى ذلك وقوى قلبى، وإن كان الحذر لم يزايلنى، وكان فى أغضانها خشونة آذت هذا الجلد الرقيق الريان، وخطر لى وأنا أتأفف أن حمادة على حق، فما هذا بجلد صالح لجسم رجل. وتذكرت وأنا أنتقل هابطاً بين الغصون شجرة جميز سهوقٍ فى بيتنا الذى نشأت فيه كنت أوثرها على السلم. ولكنى كنت ولدا قويًّا مصكا لا أعيا بعمل لا كهذا الخرع الذى دسونى فيه.
وبعد مشقة عظيمة صارت قدماى على الأرض. فنفضت التراب والورق. وشرعت أتلفت. وتمنيت لو كنت أعرف أين العم أحمد الاَن، فأذهب إليه وأستعين به فإنى بغيره خليق أن أسير على غير هدى. ولم يكن فى رأسى خطة واضحة. وكان كل ما يخطر لى هو أن أحاول أن أعرف آين آنا من الكرة الأرضية؟ فقد رجح عندى أنى ما زلت عليها. ولقد كان هذا أولى بالنهار. ولكن ما فات مات. ولا فائدة من الأسف.
وطار طائر ففزعت لحركة جناحيه المفاجئة وخفقهما. وكنت قد نسيت الظلام وما عسى أن يطالعنى به. فسألت الله السلامة. ولست ممن يخافون الليل وسواده، ولكنى انتقلت إلى جسم جديد، أجهل كنهه. ولقد امتحنته فى المساء فخيب أملى فمن أدرانى الاَن أنى لست متهوراً فى هجومى به على هذا الليل الأسود؟
وما كاد هذا يمر بخاطرى حتى رأيت عينين واسعتين شاخصتين فاضطربت وزاد اضطرابى أنى لا أرى الجسم الذى تطلان منه. ولم أدر أهما عينا أفعى أم قط أم بومة؟ وتراجعت ويدى على فمى لأكتم الصرخة التى أحسست أنها ستنطلق. ولم أر أن ذا العينين يدنو منى فاطمأن قلبى قليلا. وخطر لى أن أجرب. فقلت: «بس» فاختفت العينان. فأقدمت وسرت خطوات. وإذا هما أمامى مرة أخرى. فقلت: «بس» فاختفتا ثانية. فمضيت فى طريقى وقد أيقنت أن هذا قط أسود ولكن خوفى ما كان يخف إلا ليشتد، ولا يذهب إلا ليجىء. فقد كان القط — كلما قلت «بس» — يتركنى أو يختفى، او يمضى أمامى، ولكنه كان فيما يخيل إلىّ، كأنما ينط ويدور ويرشقنى بهذه النظرة الجامدة الساكنة التى لا يتغير تعبيرها؛ وكان ربما كبر فى وهمى أنه عفريت، خرج لى فى فى زى قط، ولكنى كنت أطرد هذا الخاطر وأقول إن «سونه» قد تفزعه العفاريت أو القطط ولكن سونه يحتل بدنه عقلى أنا الناضج الذى لا تخيفه هذه الأوهام.
وصار القط رائدى، فهو يمضى قدامى، وأنا أمضى خلفه. فما كان يهمل أن يبدو لى بعد كل اختفاء، وما كان أغرب أن أمشى مهتديا بعينين تومضان في ظلمة الليل، ولشد ما وددت أن ألمس الجسم الذى هما فيه. فقد كانتا كأنهما منزوعتان ومرسلتان فى الفضاء وحدهما، وبمجردهما.
وإنا لنخبط فى هذا الليل — أنا والقط أو أنا وعيناه — وإذا بزمارة الإنذار تنطلق مؤذنة بغارة جوية. يا خبر أسود! وما العمل الآن؟ لقد بعدت عن البيت حتى اختفى فأنا لا أراه ولا أعرف موقعة من الجهات الأربع. فأين أختبئ إذا احتجت إلى الاختباء؟ وسيلتمسوننى فى غرفتى ليحملونى معهم إلى مخبأ — إذا كان لهم مخبأ — أو ليطمئنونى ويذهبوا عنى الروع. ولن يجدونى. وحينئذ تقوم القيامة. وكيف حال أهلى يا ترى الآن؟ أهلى أنا لا أهل الذى أنا مدسوس فيه؟ وحدثت نفسى أنه لا خوف عليهم أن يجزعوا كما أرى الذى ابتليت بجسمه يجزع. فقد راح ينتفض ويرعد حتى كاد يخلع لى فؤادى. ثم ذهب يعدو ويدردب من الخوف ويحملنى معه هنا وههنا من فرط الفرق والحيرة. وأنا أصيح به — من الباطن: ماهذا؟ ليس هكذا يصنع العقلاء.. ألايمكن أن تقف وتسكن حتى أفكر لك؟ فلا يقف ولايسكن ولايتيح لى فرصة للتفكير. فأنا محمول معه بكرهى إلى حيث لا أعلم.
وسمعت طلقة مدفع فقلت: «آه جاءك الموت ياساكن جسم سونه الأهوج الاخرق الوهنان» أترى عقله قد أخلق وتمزق واحتاج أن يرقع بعقلى؟ وليته يدعنى أرقعه له! إذن لاستطعت أن أجرى أمره على استواء.
وذهبت أعدو معه، وهل كان يسعنى أن أتخلف؟ وإذا بى أصطدم بما حسبته أول الأمر شجرة أو نخلة، ثم تبينت أنه إنسان مثلى، فقد قال: «أخ» كما قلت ووقعت على الأرض ولكن يدى كانت مطبقة على قطعة من ثوبه عرفت، فيما بعد، أنها تكة سراويله، فأدركت أنه العم أحمد. على أنه أعفانى من إضناء عقلى فقد سآلنى: «من هذا؟ لكأنى به سونه»؟ فعرفته من صوته قبل أن أعرفه من شارته ورايته — أعنى تكته.
وقال سونه — أخزاه الله: «خبئنى ياعمٍ أحمد»!
فخجلت، ولو كنت بادياً، ولم اكن مختبئا، فى جسده الخوار لتصببت عرقاً. وماكنا سمعنا سوى قذيفة واحدة فما كل هذا الفزع والجزع؟ ومن حسن الحظ آن العم أحمد لايستطيع أن يرانى فى مخبئى الآدمى، وإلا لذبت خجلا.
وربت العم أحمد على كتف سونه — ولو استطعت لدفعت يده، فما كانت بى حاجة إلى طمأنية — وقال: «لاتخف! تعال معى.» قلت: «إلى أين»؟
قال: «إلى البيت طبعاً … لماذا خرجت؟ وكيف خرجت فى هذا الوقت»؟
فاختلفت أنا وسونه: هو يريد أن يحدثه عن الغراب الذى طار عن الشجرة فأطار لبه، والقطة التى أرعبته فى الظلام بعينيها، وأنا أشعر أن فى وسعى أن أكاشف هذا الرجل بسرى، ألست قد تبينت أنه يحب لولو والحب يلين القلوب وينشط الخيال، ويكبر القلب، ويقوى العطف، والرجل الذى يحب لولو لابد أن يكون له نظر وذوق، وإن كان لايحتاج إلى نظر كثير ليفطن إلى جمالها، فأخلق به — بفضل فطنته ونظره — أن يرى أنى مخبوء فى هذا البدن الذى ليس لى، وأنى فى الحقيقة موءود فيه! وعسى أن يساعدنى على الاهتداء إلى بيتى وأهلى فأتصل بهم ولو من ناحيتي أنا.
ولم يطل الخلاف، فقد تغلب سونه فإنه ذو اللسان، وأنا أخرس أو لا لسان لى على الأصح، فقد بقى هناك مع جسمى الفارغ، فلشد ماتتحكم الأجساد فى النفوس وتسيطر عليها! هذا أنا — أسكن جسدا لم يسو على قدى، ولم يصنع على قياسى، فهو يستطيع أن يصنع بى ماشاء، ولا أستطيع أنا إلا أن آتأسف وأهز رأسى هزًّا مجازيا، فما لى رأس كما لاحاجة بى أن أقول.
ولم أكن أعرف أن سونه كذاب مذّاع، فأدهشنى فشره ومعره، وأخجلنى أيضاً، وحاولت أن أغمزه ليقتصد فيما يزوّر ويختلق من الأباطيل والترهات، ولكنه لم يحفل غمزى أو لم يشعر به، وراح يخبر عن خرافات لا أصل لها، ولم يقع منها شىء ويقول فيما يقول إن ماردا سد الطريق فى وجهه، فرماه باية الكرسىٍ فاحترق المارد وخلا فى وجهه — اعنى سونه — الطريق.. وزعم أيضا أن ذات مئزر أبيض همت بعناقه وضمه إلى صدرها الذى كانت الابر البارزة منه تلمع فى الظلام ولو ضمته لانغرزت الابر فى صدره هو فمات — فقلت فى سرى: ليتك مت! إذن لأمكن أن أنقل إلى جسم آخر لاتخجلنى سكناه — ولكنه حاورها وفر.
وصارت القطة فى أساطيره ذئباً، تارة، وكلباً عقوراً تارة أخرى. أما الغراب فكان ساحرة يطير بمقشة كما رآها على مايظهر فى بعض الصور المتحركة.
فقلت لنفسى: «والله إنك لذو خيال ياهذا، ولكنه خيال لايعدو خيال الصبيان من أمثالك ولايجاوز بك آفاقهم.
فإذا كان لابد لك من الكذب والادعاء فهلا كنت استشرتنى لألهمك ماهو أبرع من ذلك»؟
ولكن المدهش أن العم أحمد لم يدهش، ولم يشمئز من هذا الكذب الصراح، بل كان يشجعه عليه ويستزيده منه ويبدى له التصديق، والاستطابة، ويحمد الله — تعالى — على نجاته تارة ويثنى على شجاعته وقوة قلبه طوراً، وهكذا إلى أن بلغنا البيت فقلت لنفسى ستسمع بضع أساطير أخرى حين تجتمع علينا الأم والعم والخدم. فما يليق أن يحرمهم السيد سونه الاستمتاع بمثل ما استمتع به الجناينى من ثرثرة لسانه الحلو الذى يظهر أنه يفرح بقدرته على دهورته فى شدقه.
وتحسسنا طريقنا حتى هبطنا إلى حجرة مسدودة النوافذ، وفيها نور ضئيل أخضر من مصباح بترول صغير موضوع على الأرض فى ركن، وكنت اتعجب لعم أحمدِ ودخوله البيت كأنه من أهله، وفى هذه الملابس التى لايليق أن يلقى بها أحداَ وخاصة إذا كان هذا الأحد سيدة، وزاد عجبى أنى رأيتهم لاينكرون وجوده بينهم واجتراءه وتسحبه عليهم هكذا.
وأقبلت الأم والعم ولولو والبقية، وصار كل امرئ يرمينى بسلسة متصلة غير منقطعة فن الأسئلة، ولا ينتظر جوابها.
ولما كلت الألسنة، وفترت همتها قال سونه: «لما سمعت الزمارة خرجت لأتفرج فقابلنى عم أحمد وعاد بى».
بهذا الإيجاز المخل! فلو استطعت لقرصته! فعادوا يقولون كيف يفعل ذلك وهو لم يشف؟ وكيف يخاطر بحياته الغالية؟ وكيف وكيف حتى ضجرت فى جوفه، ولكنه كان يبتسم ولا يستثقل حملتهم اللفظية.
وما كاد أكثرهم يكبح لسانه ويكف عن اللغط حتى خيِل إلى أن الأرض تميد. فقد انطلقت المدافع مرة واحدة، انطلاقاً متتابعاً، وكانت كأنها قريبة منا، وكنا نحس أن بعضها منصوب على بابنا، فقالوا: يا ستار استر … وجمعتنى أمى فى حجرها وأحاطتنى بذراعيها وألصقت وجهى بصدرها، ولم أكن أنا خائفاً ولكن سونه كانت تصطك ركبتاه وأسنانه، ولم يكفه هذا فأنشأ يبكى بصوت عال! ولا يكتم أنه «خائف يا ماما»، حتى هذا لم يكفه فصرخ، ولم يكن هذا لائقاً، ولكن ما حيلتى وهو الذى فى وجهه العين الباكية، وفى فمه اللسان الدائر؟ ولو كان الأمر إلىّ أنا وحدى، لأقعدته على كرسى وألزمته الرزانة والاتزان ورباطة الجأش، ولوضعت له رجلا على رجل، وجعلت فى يده سيجارة، فإن التدخين يطيب فى مثل هذا الوقت، ويعين على إفادة السكينة. وعلى ذكر التدخين أقول إنى لم أر فى هذا البيت الطويل العريض أحداً يدخن، فلم أستطع أن أحتال وأسرق سيجارة أدخنها سرًّا وخفية، ولعل هذا الحرمان هو الذى أضعف إرادتى فراح سونه يركض بى بغير عنان.
ولم يطل الآمر، وانطلقت الصفارة المؤذنة بانتهاء الغارة، فما راعنى إلا أن هذا الفتى الاخرق قفز من حجر أمه وانطلق يصفق ويقول: «هيه …» ممطوطة طويلة.
وأخجلنى سونه مرة أخرى ونحن نصعد درجات السلم عائدين إلى غرفنا. فقد تعلق بذراع أمه وراح يموء كالقطة، فلما سألته عما به قال إنه خائف … فبالله مم يخاف هذا الرعديد؟
وزجرتُه همسا: «اختش يا شيخ … عيب».
ولكن من يقول ومن يسمع؟ أنا من جسده فى مثل غيابات الجب التى ألقى فيها يوسف — عليه ألف سلام — وما أحسبه — أى يوسف — خاف مثل هذا الخوف الذى يخافه سونه، ولو فعل لكان معذورا، فقد كان فى جب، وكان وحده. أما هذا فما عذره؟ وهو فى بيت، بل قصر معمور، وأنا معه لا أفارقه، وأونسه وإن كنت لا آنس به؟ وهو — أعنى سونه — على رأس السلم، وتحت ذراع أمه التى تهدئ من روعه وتعده آن تبقى معه، فكيف يصغى إلى هذا الصوت الخافت الذى يشبه صوت الضمير، ويهمل صوت أمه الواعد بالأمن والاطمئنان وأين فى الناس من يلقى باله إلى الضمير الذى لا يحسن إلا التنغيص؟
وتذكرت أيام كنت أنا حدثا مثله فى حياتى المستقلة، وقبل أن تتصل أسبابى بأسبابه — أى سونه — وكيف كنت أقطع طريق الصحراء الموحشة، وحدى، فى الليل البهيم، وأجتاز منطقة القبور اختصاراً للطريق، فى الظلام الدامس، ولا أفزع ولا أتهيب، ولا يخيفنى عفريت، أو قاطع طريق، أو مجرم متربص، وكان البيت الذى نشأت فيه فى حارة عتيقة، وكان الغلمان — غيرى — يقطعونها عدوا حتى فى النهار المشمس، لشدة ما ينتابهم من هولها، وكان بئر السلم — والعياذ بالله — يجعل قلب أجرأ الناس كلعبة اليويو، فى صعود وهبوط بين الحذاء والصدر، فقد كان يوقع فى الروع أنه مباءة العفاريت والقتلة، ومع ذلك لم أكن أقول: «ياماما أنا خائف» كما يقول هذا الفتى الذى سود وجهى.
وقال عمه ساخراً: «خائف؟ من أى شىء يا سيدى»؟
فهمست فى أذن سونه، أوبخه: «سامع»؟
«وانت مالك»؟ لعمه، لا لى.
فدهشت، وطربت! وصحيح انه قالها بضعف، وبلهجة الطفل المدلل الذى اعتاد أن يسىء أدبه وهو آمن، ولكنه قالها والسلام. وبارك الله فيه! ولا فض فوه! ورجوت بعد أن سمعت منه ذلك أن ينتهى بنا الأمر إلى حسن المواطنة وطيب العشرة.
وانثنت أمه علية تقول له: «لا يا بابا … عيب … هذا عمك».
فترك سونه عمه وٍ العيب، وكر راجعاً إلى رأس أمره وقال: «أنا خائف».
فكررت أنا أيضا راجعا إلى سخطى عليه … ولعله إنما أراد أن يخرج من المأزق فلاله ولا عليه. ولكنه ما كان ينبغى أن يعود فيلهج بالخوف مرة أخرى. والحق أقول إنه خيب أملى.