الفصل الرابع عشر
ولكل شىء آخر — حتى الليل الطويل الغاص بالأحلام المزعجة — ولم يكن نومى هنيئا، ولا مريحأ، فما كاد الصبح يتنفس حتى تمطيت وحمدت الله على اليقظة من نوم قصير مضطرب، وتثاءبت وفتحت عينى وقلت لنفسى: «صباح الخير ياسونة، وعسى أن يكون يومك أطيب من أمسك.» وحدثت نفسى أن اليوم السبت، فالأرجح أن أذهب إلى المدرسة، والله المعين. فما أعرف أين هى؟ ولا أدرى فىِ أى فرقة أنا؟ وتذكرت أنى لم أر فى هذا البيت كتابا أو كراسة أو ورقة أو قلماً. بل لم أر حتى لعبة لغلام مثلى، فما أغربه من بيت! وما أعجبها من حياة! وألفيتنى أتساءل: «أتراهم علمونى شيئاً»؟ وابتسمت، فما أحتاج إلى التعليم فإنى كبير فى الحقيقة، وأخلق أن يروع التلاميذ ويدهشهم مايفاجئهم بعد اليوم — من اليوم فصاعدا — من علمى وسعته! وسيكون أمر المدرسة والتعليم فيها أهون ما أعانى: وإن كان «الحساب» سيضنينى ويرهقنى، فقد كنت — احسبنى ما زلت — أبغضه لأنى لا أحسنه وما أكثر ما قلت لحماده وسعيد — ولدى — بارك الله فيهما — وصديقى وأخوىّ بعد اليوم — حين كانا يجيئانى بمسألة من الحساب: «اسمعا! إنى طول عمرى حمار فى هذا الحساب. ولا أدرى كيف كنت أجتاز الامتحانات المدرسية فيه، ولكن الله كان يسترَ ويلطف، فينتهى الأمر بسلام وخير. وإنى لأذكر أنه كان يراقبنا فى امتحان الشهادة الابتدائية معلم فرنسى طويل اللحية. وكان ينحط على الكرسى وينام، فلما صرنا إلى الحساب لم أستطع شيئاً، وأيقنت أنى لا محالة مخفق، فكدت أبكى. وتلفت فرأيت جارى على مسافة ذراع منى، مكبا على ورقته يكتب. وكنت أعرفه حاذقاً بارعاً. فدفعت إليه بورقتىَ وأشرت إليه إشارة الرجاء والاستعطاف فرق لى قلبه. وكتب لى حلول مسائل ثلاث، فنهضت بالورقة وأيقظت بها المراقب. وخرجت قبل غيرى قانعأ بما جاد به زميلي».
فيذهبان عنى إلى أمهما فإنها تفهم ما لا أفهم من هذا الحساب، وما أظن إلا أن المرأهَ أقدر عليه.
نعم سيكون الحساب علة شقائى مرة أخرى.
والجغرافيا أهون ولكنها ثقيلة، وكان معلمها يأمرنا أن نغنى بأسماء الخلجان والأنهار والرءوس والبلدان لنحفظها عن ظهر قلب فحفظناها إلى حين ثم نسيناها وكيف تبقى أسماء لا تقترن بشىء يذكر بها؟ فكيف يصنع معلمى الجديد؟ إنه لا شك من طراز أحدث فلعل له طريقة أخرى أجدى.
وانقلبت على جنبي الأيمن فصار وجهى إلى باب الشرفة، وتوقعت أن تدخل لولو بعد قليل وتصبحنى بوجهها الحسن وابتسامتها الحلوة، وهممت أن أقول: تاللَه ما أجملها وأبرع حسنها! ولكنى قلت بدلا من ذلك: «إيه»؟ بلهجة المنكر لا المستفسر، وجلست فى السرير، وفركت عينى، وجعلت أطرف، ثم رحت أستثبت، فقد أصبحت فى غرفة أخرى غير التى أعرف أنى قضيت الليل فيها، أفترانى سأنتقل كل صباح — أو كل ليلة — إلى بيت جديد وبدن جديد؟ ولكن هذه … هذه غرفتى! أى والله هى بعينها.
ووثبت إلى الأرض، وذهبت أعدو إلى الباب فأدرت فيه المفتاح، أو أردت أن أديره، ولكنى كنت عجولا فخرج ووقع على الارض، فانحنيت وتناولته وأنا أسخط على نفسى ودفعته فى الثقب، أو جعلت أدفعه فلا يدخل من فرطِ اضطرابى وارتعاش يدى، وبعد لأى ما فتُح الباب، فانطلقت خارجاَ كالصاروخ، وداخلا على زوجتى فى غرفتها، وكانت لا تزال نائمة، فطرحت الغطاء الرقيق الذى تستر به جسدها وجذبتها من ذراعها. فقامت معى تقول: «إيه؟ مالك»؟
قلت، أو صحت: «قومى يا امرأة … انظرى إلىّ … ألست كما كنت؟ هل تغيرت»؟
قالت: «ماذا، جرى لك؟ ما هذا النط الذى تنطه كالقرود»؟
قلت محتجاًّ: «قرود؟ أسألك كيف تريننى فتقولين إنى أنط كالقرد»؟
قالت: «ماذا أصنع إذا كنت تنط مثلها تماما»؟ قلت: «طيب. دعى هذا وقولى كيف تريننى»؟
قالت ببرود: «مالك؟ كما كنت سوى أن خدك وارم».
قلت: «خدى وارم؟» ورفعت يدى إليه اتحسسه.
وسمعتها تقول: «قرصة نملة على ما يظهر».
قلت: «وكيف تريننى فيما عدا ذلك»؟
قالت: «أراك قليل الذوق. توقظنى فى الفجر لتسالنى سؤالا بارداً … ماذا جرى لك؟
قلت: «إنها تسأل ماذا جرى لى»؟
وخطر لى أنها لا تعرف فلها العذر، وأدرت عينى فى نفسى. فألفيتنى على عهدى بها، لا كما كنت أمس — أعنى.. تعرف ما أعنى — ودفعت يدى إلى وجهى، فشعرت بخشونة الشعر النابت، وإلى شفتى العليا فإذا عليها الشاربان، فتشهدت وتنهدت، وارتميت على كرسى.
وسمعتها تقول وهى تضع رأسها على المخدة: «اذهب ونم فما زالت من الليل بقية».
فوقفت، وقلت: «أنا أنامَ؟ مستحيل …».
قالت، وأدارت وجهها عنى: «شأنك. أما أنا فسأنام. فاذهب عنى من فضلك».
قلت أعاتبها: «وتتركيننى»؟
قالت مستغربة: «أتركك؟ِ لست فاهمة. مالك اليوم»؟
قلت: «أولا لا تقطبى، ثانياَ اجلسى أقص عليك حكاية، وبعد ذلك قولى لى هل يجوز أن أخاطر فأنام مرة أخرى»؟
فاعتدلت وقصصت عليها ما كان مما رأيت فى الحلم وهى تضحك. فلما فرغت قالت: «هذا جزاؤك ألم أحذرك؟ ألم أنهك أن تذكر الشيخه صباح إلا بخير»؟
قلت: «ولكنك أنت التى قصت علينا حكاية البستانى والملك فأوحت إلى ما تمثل لى فى منامى».
قالت: «بل هذا من غضب الشيخة صباح عليك».
وكانت أعصابى لا تزال مضطربة من أثر الحلم، فلم أجادل ولم أكابر.
ولما أضحينا قلت لها: «ما قولك؟ اليوم السبت وليس على عمل …».
قالت: «سبت إيه؟ إنه الجمعة»!
قلت: «الجمعة؟ كيف يمكن؟ لقد كان أمس الجمعة».
قالت: «ألا ترى أن الولدين لم يذهبا إلى المدرسة»؟
قلت: «صحيح! وغريب أن أعيش الجمعة مرتين فى أسبوع واحد … على كل حال … أريد أن أقترح أن نركب السيارة إلى طنطا ونزور الشيخة صباح».
قالت، ويداها فى حجرها وعيناها إلى فوق كأنما ترى الشيخة صباح فى السقف: «إنى لا أشبع من النظر إلى حسن وجهها».
قلت: «اتفقنا إذن».
ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح فى شملتها البيضاء تمشى كأنها ملكة، فنهضت واقفا، فافتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة، وناولتنى يدها فانحنيت أريد أن ألثمها، ولا أخشى أن تسىء بى امرأتى الظن. ولكنها جذبتها فاعتدلت وقلت لها: «أنا أعرف أنك لا تأخذين منا شيئا. فخذى هذه الساعة».
فهزت رأسها، ولكنى وضعتها فى كفها، وثنيت عليها أصابعها. وقلت: «إنها ساعة أمى. وكنت أعتز بها وأضن».
فتطلق وجهها وتهلل. فقد كانت تعرف عظم محبتى لأمى. والتمعت عيناها، ورفت على شفتيها ابتسامة، ورفعت الساعهَ إلى أذنيها وأصغت، ثم هزت رأسها مسرورة، ونحت الشملة عن صدرها. ووضعت الساعة هناك.. قرييا من قلبها.
ثم تناولت رأسى بين يديها، وتحركت شفتاها بدعاء لم أسمعه.
وقالت امرأتى ونحن نعود إلى السيارة: «الأن تستطيع أن تنام مطمئنًّا».
قلت وأنا أستوى على مقعدى: «ولا تقصين على مثل هذه الحكايات»؟
فرنت الىّ فى سكون، كأنما تتوضح شيئاً، ثم ابتسمت وهزت رأسها أن نعم.
فجمعتها بين ذراعى وبستها.
فقالت: «فى الشارع؟ ألا تستحى»؟
قلت: «هذا من فرحتى بك. واحذرى أن تغالطينى مرة أخرى».
قالت: «أنا أغالطك»؟
قلت: «نعم. فى المنام».
فضحكت … ووسعنى أن أضحك مثلها ….