الفصل الرابع
وخرجت فى الشباك العريض — أو الباب — بعد أن أعُطيت ثيابًا أخرى أرتديها — إلى شرفة رحيبة تصلح للّعب وتتسع لفنون منه، وتطل على بستان زهر وثمر، تخترقه طرق ممهدة وبعضها مفروش بدقاق الحصى المصفرّ، وفى أرجائها المترامية ظلال من الحرور، وأكنان من القر، وبين الأفنان فواكه شتى، رأيت فمى يتحلب عليها فيتلمظ لسانى وشفتاى، وإن كنت ناهضًا عن المائدة الساعة.
واشتهيت، وأنا واقف أجيل عينى فى هذه الحديقة، أن تكون بين أصابعى سيجارة وأمامى فنجان من القهوة، فأترشف وأدخن وأنعم، وأنى لى ذلك إلا بحيلة أحتالها؟
واتَكأت على حافة الشرفة وذهبت أفكر فى أمرى، وتساءلت: «ترى ماذا صنع الله بإهابى الذى كنت فيه؟ بالجسم الذى كان لى»؟ وقلت فى جواب ذلك: إنى أحسبه ما زال مطروحًا على سريره. وفزعت اذ خطر لى أنهم لعلهم وجدوه فى الصباح لا حياة فيه ولا حراك به — بعد أن خرجت منه ونضوته عنى — وما يدرينى أنهم حينئذ لا يعدونه ميتًا فيدفن؟ إن هذه تكون إحدى المصائب الكبَر، لأنه يقضى علىّ أن أظل فى هذا الإهاب الصبيانى وينتسخ كل أمل فى إصلاح هذا الحال المقلوب.
وجرى ببالى أن لعل هذا هو تناسخ الأرواح الذى سمعت أنْ البعض قالوا أو يقولون به. ولكن التناسخ لا يجرى على هذا النحو، ولا يكون — أو لا ينبغى آن يكون — بنقل نفس حية من جسم إلى جسم آخر، فيه هو أيضًا حية تُطرد منه، ويتطلب طردها إحلالها محل ثالثة تُنفى هى كذلك إلى جسم رابع وهكذا وليس لهذا آخر يقف عنده وينتهى إليه، ومؤداه الفوضى العميمة. وما ظنك بحال عالم يسمى ناسه وهم هم، ثم يصبحون وهم غيرهم؟ ولا خير فى هذا لأنه لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل من آجسام. وإنما يحصل التناسخ بعد موت الجسم، وأنا لم أمت. أو من يدرى؟ لعلى مت، وانتقلت روحى أو نفسى إلى جسم هذا الصبى! ولكنى لم أولد معه، بل حللت فى بدنه فجأة فى بعض مراحل عمره، وليس هذا بجائز فيما أرى.
ونشف ريقى وأنا أفكر فى هذا ولا أهتدى. وتصببت عرقًا. وحرك النسيم الأغصان فتنبهت إلى أن ههنا — تحت أنفى — شجرة عظيمة ذاهبة في الهواء، وفى وسعى بلا مشقة أن أتخطى الحافة إليها وأتدلى منها إلى الأرض، واستغربت أن يخطر لى خاطر هذا العبث الصبيانى، وماذا أصنع إذا لقيت من لا أعرف؟ وقد يبتدرنى بسؤال عن شىء أو أحد أو عن نفسي، أو يدخل معى فى حديث يتناول ما أجهل. كلا … الخير أن أبقى حيث أنا، وأن أدع من شاء يصنع بى ما يشاء حتى أهتدى إلى نفسى.
وأقبلت الخادمة — أعنى الفتاة المليحة — مرة أخرى، فسألتها: «فى آى يوم نحن؟».
فابتسمت وهزت سبابتها فى وجهى وقالت: «تتباله؟ يا مكار».
فحدثت نفسى أنى لن أهتدى إلى شىء فى هذه الحياة الجديدة إذا ظل كل من ألقى يفترض أنى أعرف ما أجهل.
وقلت أستدرجها: «إنما أريد أن أستوثق».
قالت: «لا محل للشك. هو اليوم العظيم ولا كلام».
قلت: «بل شكى عظيم. ويخيل إلىّ أن هناك خطأ كبيراً».
قالت، وهزت رأسها: «آه، فهمت، ولك العذر إذا اختلج فى نفسك شك، فإنك ما زلت صغيرًا، وصحيح أن اليوم قد يختلف فيكون السبت مرة، والجمعة مرة، ولكن التاريخ ثابت، وهو الذى عليه المعول».
فقلت لنفسى: «هذه فرصة فلأغتنمها»، ثم لها: «مهلا. أرجو أن تزيدي هذا إيضاحًا، فإن الأمر مختلط علىّ قليلا».
قالت: «حبّاً وكرامة. اليوم الجمعة، مثلا».
فلم يعجينى قولها «مثلا» لأنه يتركنى حيث كنت، حائرًا لا أدرى، وضالاًّ فقاطعتها سائلا: «مثلا أو هو يوم الجمعة فعلا؟ يجب أن يكون كل شىء واضحاً بدقة».
قالت: «هو الجمعة فعلا».
فقلت فى نفسى: «إنى لا أستغرب أن يحيق بى هذا فى يوم جمعة، فالاَن آمنت بزعم العامة أن فى يوم الجمعة ساعة منحوسة، ولكنى نقلت هذه النقلة ليلا لا نهارًا؟ وما الفرق؟ إن الجمعة تبدأ بالحساب القمرى من مغرب الخميس، فليلتها السوداء تبدأ حيث ينتهى نهار الخميس. وهى بالحساب الشمسى تبدأ بعد منتصف الليل، فهى الجمعة المنحوسة بنهارها وليلها على الحسابين جميعًا.
وفاتنى وأنا أفكر فى هذا، بعض ما هى قائلة، فقرضت أسنانى من الغيظ، والسخط على نفسى، وقلت: «معذرة. ماذا كنت تقولين»؟
فزوت وجهها وتناولت كتفى وسألتنى: «ماذا جرى لك اليوم؟ واليوم على الخصوص؟ إنى خائفة …».
فقلت مقاطعًا: «على الخصوص؟ وما وجه هذا الخصوص»؟
فسألتنى، وهى مقطبة مضطربة: «أو نسيت هذا أيضًا»؟
قلت، وأنا أتكلف السخر: «وما فضله على الأيام»؟
قالت، وضربت كفًّا بكف: «فضله؟ عيد ميلادك تتكلم عنه بهذه اللهجة»؟
ففهمت — هذا على الأقل — وقلت: «آه! تعنين «يوم» ميلادى الجديد»؟
قالت: «أيوه عيد ميلادك … أعنى يوم عيد ميلادك … أوه لقد أعديتنى فأنا أتكلم مثلك».
قلت: «الصواب أنه «يوم» ميلادى الجديد …».
قالت: «هو كذلك. يوم ميلادك الجديد».
قلت: «إنك غير فاهمة — ولا أنا أيضًا فاهم إذا أردت الحقيقة».
قالت: «ماذا»؟
قلت: «لا شىء.. لا شىء. ولن تفهمى إذا قلت. فدعى عنك هذا. وهاتى أنت ما عندك».
قالت: «مالك تتكلم كأنك شيخ كبير، وأنت ما جاوزت العاشرة»؟
فحدثت نفسى أن هذا شىء آخر جديد عرفناه، وقد بقى أن نعرف من أنا. ومن هؤلاء ممن أرى ومن لا أرى، وقلت لها: «هذا إحساسى … أنى شيخ … أنى كبير، وإن كنت أبدو كما ترين غلامًا صغيراً».
قالت: «كيف تقول هذا والدهر كله، مستقبلك كله، لا يزال أمامك»؟
قلت: «إلى البارحة فقط كنت قد خلفت ورائى شبابى، وفى هذا الصباح، أو فى الليل فما أدرى، دار الزمن — بى وحدى على ما يظهر — دورة انقلب معها الحال فصار قدامى ما كان ورائى، ماذا كنت أنت أمس؟ طفلة؟ امرأة عجوزًا؟ الحاجة زكية»؟
فلمست جبينى بكفها وسألتنى: هل أنت مريض؟
أتشعر بشىء على خلاف العادة»؟
فقلت — برغمى، وإن كنت أدرك أن هذا عبث لا طائل تحته، وقد يجر علىّ ما لا أحمد: «نعم أشعر، وأعرف، يقيناً، أن كل شىء على خلاف العادة، ولكنى لست مريضًا. أوه. ما الفائدة؟ لن تفهمى. ولن تصدقى إذا فهمت …».
وأوليتها ظهرى، واتجهت إلى الباب، فلما بلغته سألتها: «هل أظل محبوسًا فى الغرفة والشرفة»؟
فأسرعت إلىّ، وقالت: «أنا متعجبة وخائفة، فليست هذه عادتك».
فلم أرحمها وقلت: «إن كل ما اعتدته تغير — كل شىء تغير — صدقينى وإن لم تفهمى، وقولى لى ماذا ينبغى أن أصنع الآن»؟
قالت: «أرجو إذا نزلت إلى ماما أن لا تتكلم هكذا فإنه لن يسرها، وفى يوم عيدك على الخصوص … ليتنى أعرف ما بك»؟
فرق لها قلبى، وهممت أن أقبلها شكرًا لها على عطفها، واندفعت يداى تريدان تطويقها، ولكنى صددت نفسى مستحييًا. وإنى لغلام صغير فيما ترى، ولكن إحساسى إحساس رجل، وطاف برأسى أن هذه فرصة لى، إذا شئت اغتنمتها فلن تردنى عن عناقها وتقبيلها، فما تدرى إلا أنى طفل، ويغنم الرجل الذى انطوى عليه، والذى تنكر فى زى غلام، حلاوة القبلة ومتعتها. ولكنى صرفت نفسى عما يغريها بذلك، وقلت لها فيما قلت: إنها قد تحنو علىّ، ويعطفها ما يعطف المرأة على الصغار، وقد تحتمل ثقل تقبيلى لها وتعلقى بعنقها، لأنى صغير يُلاطف، وقد يسر الأم الكامنة فى نفسها أن يلاعبها طفل، ولكنها لن تستحلى القبلة أو تستطيبها وتستمتع بها إلا من رجل، وما خير قبلة لا تبادلنيها؟ وأنفت أيضاً أن أخدعها، وإن كان ما تحولت إليه ليس من فعلى أو تدبيرى.
وقلت لها: «ألا ترافقيننى إلى حيث ماما»؟ فابتسمت وقالت: «كأنك لا تعرف طريقك … إن كل أحوالك اليوم غريبة. كلا. لا أستطيع مرافقتك. فإن عملى هنا، وهو كثير، كما تعلم».
فتوكلت على الله، فما بقيت لى حيلة إلا أن أقذف بنفسى على المجهول.