الفصل الخامس
ورأيت سلمًا عريضًا درابزونه من الخشب المصقول، ودرجاته مكسوةِ ببساط، فقلت فى نفسى: إن هذا قصر على ما يظهر. فلماذا يا تري آثروا لأرض غرفتى العرى وقد كسوا السلم؟ وهبطت على مهل،درجة درجة، ونفسى تحدثنى أن أركب الدرابزون فأنزل عليه! وكنت لا أنفك أتلفت فى كل ناحية، ولكنى لم ألق أحدًا، فاستوحشت من هذا السكون، ولما بلغت آخر درجة نظرت فإذا أمامى بهو أوسع من دهليز، وفيه مقاعد قليلة، وعلى جدرانه صور شمسية لم أستبعد أن تكون لبعض «أهلي» فصعدت طرفى إليها ولكنها كانت عالية، والبهو مظلم. وأبصرت بابًا مواربًا إلى يسارى فنظرت منه ولم تكن بى حاجة إلى انحناء فإن قامتى الجديدة ليست مديدة، وأنا لا أنظر من ثقب المفتاح بل من فرجة الباب الموارَب، ومع ذلك انحنيت كأنى ما زلت أنا. وأنسيت أنى قد صرت هذا الذى لا أعرف من هو، فأخذت عينى سيدة كدت أهجمِ عليها حين وقع عليها بصرى فقد كانت هى زوجتى بعينها، ولكن شيئا فى جلستها، وهيئتها، وثيابها، ردنى وكبحنى عن الاندفاع، فقد كانت إحدى ساقيها ملتفة بالأخرى، ولا أعرف زوجتى تفعل ذلك، وكانت فى حجرها كرة من الخيط وفى يديها مسلتان تنسج بهما الخيط، مداولة، على مقدار، وامرأتى لا ترى أن تشتغل بهذا عن معابثتى. وهذه ثوبها معرج وبين خطوطه الملتوية ترابيع بيض وحمر، وامرأتى تؤثر ما لا وشى فيه ولا تخطيط. وهذه شعرها فينان مفروق من الوسط ومرسل إلى الخلف، وفى شعر امرأتى شىء من التحجن. وهى ترفعه فوق الجبين وتلويه، وتثبته بما يمسكه.
وخطر لى أن لعل هذه هى «ماما» وخفت أن لا تكون، وحرت ماذا أصنع وكيف أخاطبها — وأخيرًا وبعد تردد، قلت الرأى أن أدبدب وأحدث صوتًا وضجة، حتى إذا التفتْ وتكلمتْ رجوتُ أن أعرف من تكون، والله المعين ….
وخبطت الباب، ودبدبت، وتقلبت أيضًا — على البساط الوثير — وما كان ظنى أن أحسن هذا، ولا كنت أنويه أو أفكر فيه، ولكنى دفعت إليه دفعًا، وأغرتنى به وزينته لى فيما أظن طبيعة هذا الجسم الصبيانى. فلما عاد رأسى إلى مكانه، واستقرت قدماى مرة أخرى على البساط، رأيت هذه التى ما شككت أنها امرأتى تنظر إلى راضية مغتبطة — وسمعتها تقول: «آه. سونه. عيد سعيد يا سونه. تعال هات بوسه».
فقلت لنفسى وأنا أخطو إليها وأمط بوزى، وأدانى ما بين جفونى، وأهز ساعدى هزًّا قويًّا: «إن اسمك يا هذا «سونه» وقد عرفناه، أو عرفنا ما يكفى. وقد يكون الاسم الكامل «حسونه» أو «حسنى» أو «محسن» أو «حسن» أو «حسين» أو غير ذلك مما يمكن أن يتألف مِن الحاء والسين والنون. أو من يدرى؟ فقد لا تكون فيه حاء، ولكن شيئاً خير من لا شيء. ولست أتوقع أن أتلقى كتبًا بالبريد، وإن كان هذا محتملا فى يوم عيدى السعيد، ولكنى أحسبهم سيجمعون ما يرد من التهنئات — إذا ورد شىء — ويحملونه إلىّ جملة، فلا خوف إذن. وسنعرف ما نجهل متى آن الأوان».
ولما صرت على أشبار منها نططت فإذا أنا فى حجرها، وذراعاى حول عنقها وفمى على خدها، فقبلت رأسى، وما بين عينى، وخدى، وقرصت وجنتى قرص مداعبة لا قرص إيجاع (وقد أسلفت أنهما منتفختان قليلا، فهما يغريان بالقرص) ثم عاودنى الحياء فنهضت ومشيت مطرقاً إلى مقعد كبير منجّد، فانحططت عليه وذهبت أحرك ساقى وأحك بقدمي ما يليهما من البساط وذراعاى على المسندين.
و قالت، ويداها لا تكفان عن النسج: «سيتغدى عمك معنا وقد سبقته هديته إليك».
فهممت أن أشيل نفسى عن المقعد. فأشارت إلىّ تردنى عن ذلك وقالت: «لا تعجل — فى المساء بعد اكتمال الجمع، نفتح الهدايا … تعلّم الصبر …».
وكان لابد أن أقول شيئاً فسألتها: «ولكن ألا يمكن أن أعرف الهدية ما هى؟ باللسان فقط».
قالت: «إن الله مع الصابرين. كل شىء فى وقته».
فأسلمت أمرى إلى الله، وهززت رأسى وكتفى، وقمت فسألتنى: «إلى أين»؟
قلت: «سأتمشى فى الحديقة».
قالت: «لا توسخ ثيابك … ليس فى هذا اليوم».
فقلت فى نفسى: «يا له من يوم»!
أتعرف ذلك الصندوق الذى يضعه بعضهم لبريده على بابه وفى أسفله رقعتان كتب على إحداهما «موجود» وعلى الأخرى «غير موجود» ولا تبدو واحدة إلا بحجب الأخرى؟ كان هذا حالى فيما أحس. فأنا تارة أفكر بعقلى القديم الذى كان لى فى صورتى السابقة، وأصدر فيما أعمل عن وحيه، ثم يُنَحَّى هذا العقل، أو يُطرح فى زاوية أو ركن، أو يحجبه حاجب، ويظهر العقل الجديد الذى يلائم حال الطفولة التى رُددتُ إليها، وهكذا دواليك.
وهذه السيدة التى رأيتها جالسة تنسج، بدت لى فى أول الأمر زوجة، فدار فى نفسى لها ما يدور فى نفس الرجل لامرأته، ثم إذا بشىء يحجب هذه الناحية من إدراكى، أو يغلق طاقة، ويفتح أخرى، فأرتد غلامًا ينط ويلعب، ويرتمى على حجر السيدة، ويكون معها كما يكون الولد مع أمه، ويفرح بلعبة أو هدية، ولا يطيق الصبر على تركها إلى المساء.
ولم أكد أقول إنى خارج إلى الحديقة حتى عاد عقلى القديم موجودًا. فرحت أفكر فى المخرج وأحاذر أن تبدو علىَّ الحيرة، وأتظاهر بأنى أتلكأ وأنا أجوب الحجرات، وأفتح بابًا وأغلق بابا، حتى وفقنى الله. وكان الخدم كثيرين — رجالا ونساء — ولا عجب أن يكثروا فى بيت طويل عريض كهذا، ولكن العجب أن تطيق العيش فيه هذه السيدة المزدوجة الشخصية التى أراها تارة أمًّا وتارة زوجة، وهى مستفرَدة فيه ولا أنيس ولا جليس من إنسان أو كلب، ولكن عجبى لم يطل، فإن الأوضاع كلها مقلوبة.
وانطلقت أفكر وأنا أتمشى فى الحديقة، وأعجب تارة بألوان الزهر علي أغصانه، وأنزع غلائله طورًا وأفركها بأصابعى ولا أبالى جمالها ولا أرحم رقتها — أقول إنى ذهبت أفكر فى هذه الحداثة التى يقول الكبار — وأنا منهم — إنها أحلى وأسعد وأرغد أيام الحياة، ومع ذلك أرانى ناسيًا كيف كنت إذ أنا صبى، وماذا بلغ من استمتاعى بذلك الرغد الذى نتحسر عليه، بل أنا قد قضيت معظم الساعة أو الساعتين اللتين عدت فيهما حدثا فى استثقال هذه الطفولة والضجر منها والتبرم بها. أم ترى ذاك لأنى لست طفلا صرفًا؟
وهذا العم الذى سيشق الأرض ويخرج لى من جوفها، كالجّنى، كيف هو يا ترى؟ قد عرفت الأم وأحسست لها فى قلبى رقة لأنها تشبه زوجتى (التى لا يخلو قلبى من الموجدة عليها لكثرة معابثتها لى وحضها الولدين الشقيين على كيدى) وبقى أن نعرف العم الذى لم يكن لنا فى حساب. أطويل هو أم قصير؟ وثقيل أم خفيف ظريف؟ ووددت لو أن أمي أرتنى هديته لأعرف ذوقه ورأيه فى ابن أخيه، من اختياره.
وإنى لأدفع حصاة برجلى، وإذا بصوت يقول: «هش …» فالتفت إلي مصدره فإذا رجل فى سراويل إلى نصف الفخذ كالتى يلبسها لاعب الكرة أو المصارعون، وتكتها طويلة غليظة كحبل الشراع إلا أنها ملوّنة، وطرفاها يتدليان من عقدتهما إلى قريب من الركبة، وعلى صدره قميص أو قطعة منه، وفوق رأسه قبعة قديمة، وقدماه فى حذاءين باليين عليهما طوائف شتى من الاوحال جف بعضها وما زالت بقيتها طرية، فأدركت أنه البستانى أو بعض أعوانه، فما يقوم على خدمة هذه الحديقة الواسعة الحافلة بصنوف الزهر والشجر رجل واحد.
واقتربت منه فقال: «سمعت أن البك مشرفنا اليوم».
قلت: «البك»؟
قال: «البك عمك».
قلت: «آه».
قال مستفسراً، وفى عينيه التماع خبيث: «العادة يا سعادة؟ فلم أفهم، ولى العذر، وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أوافقه، وليكن ما شاء الله أن يكون، وهززت له رأسى أن «نعم» وتبسمت. فقال: «عال. قبل الظهر تكون الأمانة تحت السرير».
فشكرته ووددت لو كان معى مال لأنفخه منه بشىء، وتساءلت فى سرى: «أليس لى «اعتماد» مفتوح فى ميزانية هذا القصر أنفق منه كغيرى من الغلمان — مصروف لجيبى كما يسمونه»؟
ورأيته يتراجع فى حذر ويتوارى وراء جذع شجرة كالقطة أبصرت كلبًا يدلف إليها فتلفتّ إلى حيث كانت عينه تنظر، فإذا الفتاة الخادمة، فلم أكترث لها وهممت أن أمضى فى طريقى، وخطر لى أن ليتها ترافقنى فإنها جميلة وضاءة المحيا، وخليق بالتنزه معها فى هذه الحديقة أن يفيد الرجل المضمر فى هذا الاهاب الصبيانى، متعة.
ولكنها لم ترافقنى بل دعتنى إليها بإشارة من كفها، فذهبت إليها أعدو فانحنت علىّ وقالت بصوت كالهمس: «لقد رأتك ماما من الشباك واقفاً مع «عم أحمد» الجناينى فكلفتنى أن أقول لك إنه لا يليق بك أن تحادث مثله».
فدهش شقّى المستور وسألها بلسان الغلام: «وما عيبه؟ أليس من خلق الله مثلى ومثلك؟ ما هذه الغطرسة»؟
فباستنى خطفًا كما يشرب الطائر، يحسو حسوة ويرفع منقاره — أو رأسه الصغير — ويتلفت كأنما يخاف عواقب الطمع أو مطاوعة النفس، فقلت فى سرى لابد أن تكون هذه الأيام التى استظرفتها، ثقيلة غليظة الكبد، ومتنطعة سخيفة الرأى.
وآحسب آن وجهى ارتسم عليه ما يضطرب به صدرى فقد قالت الفتاة: «إنما تخشى أن توسخ ثيابك فى يوم عيدك. ثم إن ماما هى ماما ويجب أن نطيعها».
فقلت: «لا تعتذرى عنها، وقولى لها إنى سأكلم وأخالط من أشاء.. بل قولى لها إنى سأتمرغ فى التراب، وأتقلب فى الوحل، وأجرح جلدى بالشوك وأمزقه. ولتفعل ما بدا لها».
وانكفأت عنها أعدو فى الحديقة، وتمنيت لو أن فى وسعى أن أسلخ هذا الجلد كله كما تُسلخ الشاة. واستثقلت هذه الطفولة التى تحاط من كل ناحية بالسدود والحواجز، والعُقَل والموانع، كأنما لا يكفيها أن لها من طبيعتها حدودًا، ولا يسمع فيها من يُقضى عليه بها إلا «إياك» و«حاذر». وآليت لأؤدبن هذه الأم غير هذا الأدب.. أو تظننى طفلا حقيقياً؟ سنرى ونريها..
ودرت أبحث عن «عم أحمد» الجناينى وأستعجله ما وعد، فقد كبر فى ظنى أن يكون ما وعدنيه وسيلة لركوب العم المنتظر — البك. فقد صار لنا بيك من الأعمام — بشىء من العبث، وحدثت نفسى أن هذه الأم — إلى الآن — أولى، ولا مانع فيما أرجو من قسمة الأمر بينهما نصفين.
ولكنى لم أجد الرجل، فقد شق الأرض وغاب فيها، كما شقها وبرز منها ….