دوارة الرياح الطائرة

ثَمَّة أمران غريبان استرعيا انتباهي بشأن مُصلَّى البروتستانت الصَّغير المبني من القِرْميد، والكائنِ فوق التَّل في نيوآجين؛ أولهما أنه كان في الماضي مثبتًا في الأرض مثل بعض المباني التي شُيِّدت على قمم الجبال. كان الناظر يرى مساميرَ حديديةً ذات عُرًى، مُثبَّتة في الحوافِّ الناتئة على كل جانب من جوانبِ المُصلَّى، وكان أحدها ما زال مُتَّصلًا بسلسلةٍ صدئة. لم يكن ذلك التلُّ شاهقًا، وكان هناك ممرٌّ منحدر يؤدي إلى المرفأ حيث يمكنك أن ترى بوضوحٍ الألواحَ التي تُغطِّي أسطحَ المنازل المربَّعة العتيقة الطراز. وعلى الناحية الأخرى من التل، كان يقع مَرجٌ موحِلٌ، تناثرت فيه أكوامٌ من حشائش المستنقعات الملحية مغطاةٌ بقطعةٍ قديمة من قماش القُنَّب. وكانت مقدمة الكنيسة تواجه الرياح التي تهبُّ في أرجاء الجزر آتية من المحيط.

أما الأمر الغريب الآخر فكان دوَّارةَ الرياح أعلى برج الكنيسة القصير العريض. كانت دوارة الرياح تتَّخذ شكلَ سمكةِ قُدٍّ مذهَّبةٍ ضخمة، وبدا جليًّا أنها حسَّاسة جدًّا للعوامل الجوية؛ فقد كان أنفُها يهتزُّ باضطرابٍ بين اتجاهَي جنوب الجنوب الشرقي وشرق الجنوب الشرقي.

ردَّد رفيقي القبطان الشماس سايلس بيبر: «لماذا رُبِط المُصلَّى بالصخور؟ حسنًا، سأخبرك. ذلك لأن الرعيَّة رأت أن هذا التَّل هنا موقعٌ أنسبُ لإقامة دار عبادة به، مقارنة بالمستنقع المِلْحيِّ الواقع هناك.»

توقَّف الشماس والقبطان سايلس ليلقي حجرًا على غَنمٍ رذيل كان يبحث عن طعامٍ بين شواهد القبور.

ثم استأنف قائلًا: «لماذا نضع سمكةَ قُدٍّ بدلًا من الدِّيك كدوارة للرياح؟ سأخبرك. لأن الدِّيك هو طائر الشيطان.»

ثم انحنى ليلتقطَ حجرًا آخرَ بينما كان الغنم الهائج يحاذيه خلسةً مراقبًا حركاتِه بعيونٍ يقظة، قبل أن يعْبر الجدار الحجري بقفزةٍ ويختفي وراء حافة التل.

علَّق القبطان الشماس قائلًا: «تبًّا لهذا المخلوق!»

إن الجيل الذي يحفظ الأساطير غيرَ المدوَّنة لساحل مين يخطو خطواتٍ سريعةً نحو الموت؛ فالرجال والنساء الذين كانوا شبابًا في العصر الذهبي لبلدات مرفأ البحر صاروا شيوخًا الآن. في ذلك العصر، كانت كلٌّ من بورتلاند وباث وويسكاسيت والأماكن الممتدَّة شرقًا، بل وحتى المستوطنات الصغيرة المحشورة بين الصخور والأمواج؛ تتمتَّع بازدهارٍ قويٍّ قائمٍ على روح المغامرة والبصيرة التجارية الثاقبة في الأمور المتعلِّقة بدبس السُّكر الوارد من ماتانزاس وشراب الروم القادم من جاميكا. كان ولا يزال هناك طريقٌ مستقيمٌ يجري في المحيط بين بلدات مين ومرافئ جزر الهند الغربية. في ذلك الزمان، كان التواصل المباشر مع أطرافٍ أجنبيةٍ يجلب تناقضاتٍ حادةً ومتزايدةً إلى الحياة اليومية لسكان الساحل. كذلك، كان الاتجاه التقليدي السائد في العقيدة الدينية حينذاك لا يزال يُفْسِح مجالًا لنوعٍ عجيبٍ من الإيمان بالقوى الخارقة تشوبه الغرابةُ في بعض النواحي، وكان يُعنَى في المقام الأول بالأعمال الخبيثة التي يقوم بها عدو البشرية.

١

يبدو من رواية القبطان سايلس أنه منذ نحو خمسين عامًا، كان الكاهن بورينجتون هو الحصن الرئيسي للمؤمنين ضد هجمات الشيطان على نيوآجين. كان الكاهن شديد المراس في كلٍّ من أمور التضرُّع والوعظ. وكان ثمَّة اعتقادٌ سائدٌ في الميناء، وعلى بُعد أميال بامتداد الساحل في كلا الاتجاهين، بأنْ ليس هناك شيء يثير قلق الشيطان بقدْر خُطب الكاهن بورينجتون التي تستغرق ساعتين، ليفضح فيها طبيعته بلا شفقة، ويكشف أكثرَ خططه السرية خفاءً، ويتحدَّى أسوأ مساعيه.

كان شعور الرعية بالنصر والفخر ببسالة بطلهم من بين الأسباب التي دفعتهم إلى بناء صرحٍ كنسيٍّ راسخٍ في موقعٍ بارزٍ على قمَّة التل، ومزودٍ ببرج وناقوس يتردَّد صداه على مسافةٍ بعيدةٍ في البحر ليبلغ جزيرة راجيد تيل، حين تكون الرياح مواتية. وقد اختار الكاهن الموقعَ بنفسه، وراقب بلهفةٍ ما يُحرِزه العمال من تقدُّم، وكان قلبه معلقًا بكل قطعة قِرميد تضاف إلى الجدران.

وفي الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة سَبتٍ مُقْمرة، وبعد وضْع لمسة الطلاء الأخيرة على دوَّارة الرياح الفاخرة التي كانت تتَّخذ شكل ديك — تبرَّع به صديقٌ مجهول — ارتقى الكاهن بورينجتون التلَّ ليُمتع ناظريه بالنظر إلى البناء المكتمل. ولك أن تتخيَّل الدهشة التي اكتشف بها الرجل الطيب أنه لا يوجد مُصلًّى هناك! فلم يجد دوارة الرياح، ولا برج الكنيسة، ولا برج الناقوس، ولا جدران القِرميد، ولا رُواقًا معمدًا خشبيًّا، ولا حتى أدنى أثر للأساس أو القبو!

ضرب الكاهن الأرضَ بقدميه ليتأكد أنه مستيقظ. وتساءل إن كانت أقداح الروم الساخن الثلاثة التي حصَّنته بها ابنتُه سوزانا ضد برد الليل قد عبثت برأسه. فركَ الكاهن عينيه وأنعم النظر في القمر، لكن لم يكن في الوجه المستدير لذلك الجرم السماوي شيءٌ غيرُ مألوف. حدَّق في القرية الواقعة أسفل التل؛ كانت المنازل المعروفة، التي هجعت فيها رعيته، واضحةً للعِيان في ضوء القمر. رأى الكاهنُ المحيطَ والجزر والمرفأ والمراكب الشراعية عند أرصفة الميناء، حتى إنه رأى بيليج تروت وهو يسير وحيدًا مترنِّحًا في طريق العودة من الحانة إلى منزله، كأنه يقاوم ريحًا معاكسة. حاول الكاهن أن يستصرخ بيليج تروت لكنه وجد أنه لا يقوى على هذا الجهد. كل شيء في الحي كان على حاله، باستثناء أن المصلَّى الجديد كان قد اختفى.

أذهلت تلك الواقعة المروعة الكاهن؛ فهام على وجهه بلا هدفٍ في أرجاء قمَّة التل لمدة نصف ساعة كاملة. ثم أدرك أنه ليس بمفرده؛ فقد كان هناك شخص طويل القامة، ملتفع بمعطف أسود، جالس على الجدار الحجري. بدا ذلك الغريب إسبانيًّا أو برتغاليًّا. وكان مستندًا بمرفقيه على ركبتيه، وواضعًا ذقنه في كفيه بينما كان يراقب حركات الكاهن باهتمامٍ واضح.

قال الغريب: «هل تسمح لي أن أسألك إن كنتَ تبحث عن شيء؟»

أجابه الكاهن قائلًا: «إنني في غاية الحَيرة يا سيدي؛ لقد جئتُ هنا متوقِّعًا أن أرى الصرح المقدَّس الذي يُفترض أن أُلقي فيه عِظتي غدًا صباحًا للمرة الأولى من نَصٍّ في الإصحاح الثالث عشر من سفر الرؤيا. لقد رأيته للمرة الأخيرة ظهيرة هذا اليوم؛ إذ كان يَشْغل المكان الذي نحن واقفون فيه بالضبط.»

قال الغريب بلا مبالاة: «آه، مُصلًّى مفقود! معذرة، أليس من المعهود في هذا الجزء من العالم أن يُبعث منادي البلدة حاملًا ناقوسه حين يضلُّ المرءُ الطريق أو يُسرَق؟»

كان ثمَّة شيءٌ ما في نبرة صوته جعلت الكاهن يتفحَّصه بانتباهٍ أكثرَ من ذي قبل. صمد الغريب الطويل القامة أمام نظرات التفحُّص بأعلى قدْر من رباطة الجأش، وهو يَبرُم شاربه الأسود الكبير. كانت عيناه لامعتين لا تزيغان، وبدا أن لمعتهما زادت حين حدَّق فيهما الكاهن.

أخيرًا قال الغريب: «حسنًا، أظن أنك عرفتَ مَن أنا الآن.»

ردَّ الكاهن قائلًا: «أعتقد أنني عرفت مَن أنت الآن، بيد أنني لا أخشاك. إن لم أكن مخطئًا إلى حدٍّ كبير، فأنت الذي دمَّرتَ مصلَّانا.»

وهنا ابتسم الآخرُ وهزَّ كتفيه. ثم قال: «بما أنك تُلحُّ عليَّ بشأن هذا الأمر فيجب أن أعترف أنني سمحت لنفسي بالتصرُّف في ممتلكاتك. أدمرتُها؟ أوه، كلَّا؛ كلُّ ما هنالك أنني أبعدتُها عن أرضي. في الحقيقة هذا التل موقعُ تخييمٍ قديم خاص بي، ولا أحتمل أن أراه مشغولًا بمصلَّاك الوضيع المبني من القِرميد. ستجد البناء كاملًا، حتى آخر وسادة مقعد وكتاب ترانيم بالأسفل هناك في المرج؛ وإن كنت تتمتَّع بذوقٍ سليم فستتفق معي أن الموقع الجديد أفضل كثيرًا.»

أرسل الكاهن بصرَه وراء حافة التلِّ. أجلْ، كان المصلَّى الجديد قائمًا وسط المستنقع.

قال الكاهن بحزم: «لا أعلم ما الخدعة الشيطانية التي فعلتَ بها ذلك، لكنني أعلم أن التلَّ ليس ملكًا خاصًّا لك؛ فقد نَقل ملكيَّته لنا أليجا تروفانت، الذي كان أبوه وجَدُّه يرعيان الغنم هنا.»

فردَّ عليه الآخر بهدوء قائلًا: «يا صديقي الوَرِع، حين كان آدم طفلًا، كانت أسرتي تمتلك هذا التل منذ آلاف السنين. هل لديك رغبةٌ في الاطلاع على صك الملكية الأصلي؟»

ثم أخرج من تحت عباءته رَقًّا ملفوفًا وسلَّمه للكاهن. فتح الكاهن الوثيقة وحاول قراءتها. كانت الصفحة مغطاةً بحروفٍ غريبة، مضيئة ضوءًا خافتًا. ثم توهَّجت كالنار، وحين ارتعشت يد الكاهن — حيث إنه اعترف فيما بعدُ أنها ارتعشت حقًّا — رقصت الحروف فوق الرقِّ حتى احترق سطحُه أينما لامسته. في النهاية أزاح الكاهن بورينجتون بيده بعضَ الطلاسم المشتعلة في هامش الصفحة، فالتفَّتِ الحافة وتجعَّدت، وتصاعد خيط رفيع من الدخان، وسرعان ما اشتعلت الوثيقة بأكملها.

قال الغريب: «كان هذا تصرُّفًا أخرقَ من جانبك، لكن لا بأس؛ لحسن الحظ، لديَّ نسخة من صك الملكية.»

ثم أشاح بيده. هنا ظهرت الحروف الملتهبة نفسها، وقد زاد حجمها بشدة، وتراقصت في أنحاء الأرض التي كان المصلَّى قائمًا فيها. انتابت الكاهنَ الحَيرةُ وهو يحاول فكَّ شفرة النقوش غير المقدَّسة بلا جدوَى. ها هو صكُّ الملكية وقد احترق أعلى التل. أمسكت النيران في الحشائش الجافة، وطقطقت أغصان وسيقان شجيرة التوت الأزرق في اللهيب، وللحظةٍ أحاط الدخان وألْسنة النيران بالرجل الغريب الطويل القامة ليُلقيا على ملامحه البغيضة ضوءًا متوهِّجًا. ضرب على الأرض بقدميه فخمد الحريق المفتعل في الحال.

«ها قد تأكدتَ من صحة ملكيتي. مع ذلك، فأنا لستُ مالك أراضٍ متعنتًا. أنت ترغب في هذا الموقع. هبْ أنك تريد أن تشغله بصفتك مستأجرًا حسبما ترغب. كإجراءٍ قانوني بسيط، سيكون من الضروري أن توقِّع على هذه الورقة …»

صاح الكاهن وقد ثارت ثائرته وقال: «لا يا سيدي، لن أُبرِم أيَّ اتفاق. سواء كنتَ إبليسَ شخصيًّا أم مجرَّد أحد أتباعه من الشياطين، فادعاؤك كذبٌ، وصكُّ ملكيتك المشتعل مزوَّر، وسوف أتصدَّى لك ولكل أعمالك خلال الموعظة التي سألقيها غدًا صباحًا في المصلَّى المبني من القِرميد، لا يهم إن كان فوق التل أو في المستنقع، ولا يهم حتى إن كنتَ أخفيته في أعماق حفرة بلا قرار!»

ابتسم الغريب ابتسامةً تثير الحنق وقال: «سوف أتشرَّف بالاستماع إلى خطبتك.»

حين بلغ الكاهنُ المنزل، كانت ابنته سوزانا قد سمعت بالقصة، فأعطته قدحًا آخَرَ من شراب الروم الساخن، وهيَّأت له الفِراش ليستريح، ثم أرسلت خادم المنزل إلى الناحية الأخرى من القرية بتوجيهاتٍ لإيقاظ بيليشيا جاكسون، نائب قبطان السفينة الشراعية التي كانت تحمل اسم سيستر سال.

٢

بعد أن جاب بيليج تروت كلَّ شوارع المستوطنة الصغيرة، وبعد أن أبحر في حلقاتٍ شاسعة حول العديد من المراعي النائية دون التوقُّف في ميناء، وجد نفسه وقد أدركته الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بينما هو في منتصف الطريق الصاعد إلى الجبل، وأمامه بحرٌ متلاطمُ الأمواج ورياحٌ ما زالت معاكسة.

جلس بيليج على صخرةٍ لتحديد موقعه، ثم صاح من نقطة المراقبة على سطح مقدمة السفينة مناديًا: «بيليج!»

فأجاب من موقعه: «نعم، نعم يا قبطان تروت!» فسأل مِن موقعه في مقدمة السفينة: «كيف حال الدفَّة؟»

أجاب تروت من خلف عجلة القيادة: «إنها تغوص في الماء يا قبطان تروت. هل نتقهقر سريعًا إلى الوراء؟»

«ليس من المألوف أن تتقهقر السفينة إلى الوراء يا قبطان تروت.»

«أنزلْ صالب السفينة قليلًا يا بيليج.»

«لقد وصل إلى أقصى درجة انخفاض يا قبطان تروت.»

«أريد أن أسمعك وأنت تُردِّد اتجاهات البوصلة. أعتقد أنك ثملتَ مرةً أخرى، يا لك من أحمق …»

«حسنًا يا قبطان تروت. الشمال، شمال الشمال الشرقي، الشمال الشرقي، شرق الشمال الشرقي، الشرق؛ شرق الجنوب الشرقي، الجنوب الشرقي، الجنوب يا قبطان تروت.»

«ما هذا الضوء في اتجاه الشمال الشرقي يا بيليج؟»

«أعتقد أنه القمر يا قبطان تروت.»

«حسنًا يا بيليج، امضِ بالسفينة حتى يصير القمر خلفنا، ثم اربط المرساة بالحبل عقدة نصفية سهلة الحل ثم أسقطها عند المصلَّى الجديد باتجاه الريح لنقيس الزاوية بين دوارة الرياح واتجاه القطب الشمالي.»

«حسنًا، حسنًا يا سيدي.» ثم استُؤنفت رحلة الإبحار الصعبة، وكلٌّ مِن بيليج وتروت على متن السفينة.

وعند أعلى التل واجه تروت الواقعة المدهشة نفسَها التي أذهلت الكاهن قبل ذلك بساعة أو أكثر من الليل، وهي أن المصلَّى لم يكن هناك.

هنا تمتم وقال: «ليتني أموت قبل أن تأتي ريح عاتية وتعصف بالسفينة.»

ثم أردف قائلًا بعد أن أنعَمَ النظر في الأفق: «ليتني أموت وأتحلَّل قبل أن تنجرف عند المستنقع!»

درس بيليج الموقف باهتمام؛ فهو لم يصادف في أيٍّ من رحلاته الليلية شيئًا استثنائيًّا كهذا. حقًّا إنه لم يكن لديه الاهتمام الروحاني نفسه بالصرح الجديد كأيٍّ من سكان المرفأ؛ حيث إنه لم يحضر أيَّ اجتماع قطُّ. إلا أنه نَقلَ عدة حمولات من القِرميد من أجل الكنيسة من ويسكاسيت في سفينته الشراعية المعروفة ذات الزوايا الأربع، سكاو داندلايون. ومما زاد اهتمامه بتطور العمل في البناء بدرجةٍ كبيرة واقعةٌ حدثت قبل الليلة التي نتحدَّث عنها بعدة أسابيع.

ذات يوم في فترة بعد الظهيرة، وقف رجلٌ طويلٌ داكن البشرة ملتفع عباءةً غريبة على رصيف ميناء ويسكاسيت وأخذ يراقب بيليج وهو يُلقي بالقِرميد في عنبر سفينة الداندلايون الفسيح. ألقى الرجل الغريب سؤالًا بلهجةٍ إنجليزية ممتازة: «ما الذي سيتم بناؤه؟» فأجابه بيليج قائلًا: «مُصلًّى.» فألحَّ الرجل الغريب المستفسِر «أرثوذكسي؟» فأجابه بيليج باقتضاب: «لا، إنه تابع للكاهن بورينجتون في نيوآجين.» فقال الرجل الواقف على رصيف الميناء: «آه! لقد سمعتُ عن ذلك الكاهن المرموق. إنني سعيد أنه سيحصل على كنيسةٍ جديدة. هل حصلوا على كلِّ ما يحتاجونه؟»

كان بيليج على وشْك أن يجيب بنعم؛ فتلك كانت الحمولة الأخيرة من القرميد، وكانت المواد الأخرى موجودة في الموقع بالفعل. لكن عينه جالت بالصدفة حتى برج كنيسة ويسكاسيت فخطرت له فكرة، ثم قال: «إن لم يكن لديك مانع من التبرع، فإنهم يتوقون لدوَّارة رياح على هيئة ديك مثل التي هناك.» ابتسم المتبرِّع الغامض، ثم قال: «سوف أرسل إليهم طائرًا.» وفي الوقت المناسب وصل على مركبٍ شراعي من بورتلاند دوارة رياح فاخرة على هيئة ديك موضوعة في صندوقٍ مُحكَم وجاهزة لتثبيتها وطلائها. قُوبلت قصة بيليج بشيءٍ من الارتياب في نيوآجين، لكنه وجد نفسه بطلًا بعد ذلك؛ فقد أثنى شمامسة الكنيسة بشدة على سرعة بديهته، وأهدوه برميلًا نصف ممتلئ بِروم ميدفورد. في الوقت الذي رُفعت فيه دوارة الرياح، كان البرميل نصف الممتلئ قد أصبح خاليًا، وكان بيليج قد صار مفعمًا بالروم والحماس اللاهوتي.

ها هو ذا المصلى على بُعد ربع ميل بالتمام من مرساه. وكان هناك الديك الشهير — مصدر سعادةِ بيليج وفخرهِ — متألقًا في ضوء القمر. لكن ما التعويذة الغريبة التي أُلقيتْ على العالم في تلك الليلة؟ حين حدق بيليج إلى الطائر بدا له كبيرًا دون تناسق. ورغم أنه لم يكن هناك رياح، فإنه أخذ يدور بشدَّة. سمع بيليج بوضوحٍ صيحةَ ديكٍ طويلةً بينما رفرف الديك المطليُّ بالذهب بجناحَيه كما لو كان سيحاول الطيران عاليًا في الجو. كان ذلك صحيحًا؛ فقد ارتفع، حاملًا معه المصلَّى، كانت الكنيسة تتأرجح والناقوس يُقرَع في حزن وهو يرتفع، حتى حجبت جدرانُ البناء القرميدية القمر. بعد ذلك هبطت دوارة الرياح وقنيصتها للأرض ثانيةً، محلِّقة فوق مياه الميناء للحظة، ثم نزلت أخيرًا لكن ليس إلى المرج، وإنما على قمة التل، على مسافة لا تعدو اثنتي عشرة ياردة من حيث كان يقف بيليج، ترتعد ركبتاه وتصطكُّ أسنانه ويخفق قلبه بعنفٍ مثل قاع سفينة الداندلايون المسطَّح في بحرٍ متلاطم الأمواج.

حين أفاق البحَّار إلى حدٍّ ما من دهشته صاح قائلًا: «ليتني أموت وتتحلَّل جثتي! هل أنا بيليج تروت قبطان سفينة سكاو داندلايون ومالكها الثامن؟ أم هل أنا سمكة حدوق عمياء أو سمكة نازلي مجنونة أو سمكة قُدٍّ ضخمة؟»

هكذا بلغ أهل مرفأ نيوآجين معلومات، غير موثوق بها إلى حدٍّ ما، بشأن ما حدث على الأرض المتنازع عليها في تلك الليلة المشهودة بين وقت رحيل الكاهن بورينجتون ووصول جيش الإغاثة، بقيادة سوزانا وبيليشيا جاكسون.

عندما قُصَّت حكاية بيليج غير المتَّسِقة لدرجةٍ ما، لجأت ابنة الكاهن إلى نائب قبطان السفينة سيستر سال وسألته: «ماذا نفعل؟»

أشار الشماس تروفانت قائلًا: «أعتقد أن العدوَّ ينوي أن يخفي الكاهن والرعية بأكملها. إنه ماكر وفي جَعبته عددٌ هائل من الحِيَل.»

لم يكن بيليشيا جاكسون عالمًا لاهوتيًّا، وإنما كان شابًّا عمليًّا وكان مغرمًا بسوزانا. خلع بيليشيا معطفه ثم قال: «أعتقد أننا إن خلعنا الصاري الرئيسي، فستَسْلم السفينة من أي عاصفة قد يرسلها الشيطان. فليجلبْ لي أحدكم بلطة.»

خلال عشر دقائق، كان رأس بيليشيا جاكسون يطلُّ من فتحة النافذة التي تعلو الدور الأرضي من برج الناقوس في الكنيسة. بعد ذلك بدقيقتَين، كان قابضًا بذراعيه حول إحدى القباب الأربع الصغيرة التي كانت تحيط بقاعدة برج الكنيسة. وخلال فترة قصيرة على نحوٍ يُثير الدهشة، كان لديه أُنْشوطة حول القمة القصيرة العريضة. كانت قصة صعوده هي الحادثة البطولية في تاريخ نيوآجين؛ حيث كان ثمَّة سحابةٌ مكفهرة هدَّدت بحجب القمر. وعلى الأرض، كانت مجموعة من المتفرِّجين المتلهِّفين يشاهدون باهتمامٍ بالغ مساعد القبطان وهو يتقدَّم صاعدًا ببطء لأعلى البرج. فماذا ستكون النتيجة لو أفلت قبضته؟ وماذا لو انحلَّت الأُنْشوطة من حبله؟ وماذا لو اختفى القمر وراء السُّحب؟ والاحتمال الأسوأ، مثلما افترض بيليج تروت، ماذا لو اختارت دوارة الرياح الطيرانَ لمكانٍ آخرَ في هذه اللحظة؟

تسلَّق بيليشيا الحبل رويدًا رويدًا، ثم أحاط برجَ الكنيسة بذراعيه وساقيه. بعد ذلك صعد عاليًا برشاقة القرود. ألقى بيليشيا الطَّرَف غير المعقود من الحبل حول أعلى قمة البرج، وخلال وقتٍ قصير جدًّا جلس مستريحًا في معلاق، يُحطِّم بهمَّةٍ الأعمالَ الخشبية أسفل الكرة المذهبة التي رُفع عليها الديك الشيطاني.

تردَّدت أصداء الضربات المتتالية في أجواء الليل الساكن. وبالأسفل في مستوطنة المرفأ، كانت النوافذ مفتوحة على مصراعيها وتُطلُّ منها الرءوس التي اعتمرت قلانس النوم. كانت الجلبة جهنمية. واستتر القمر خلف حافة السحابة؛ فكان من الصعب تمييز جسد بيليشيا إلا حين كان وميض البرق يضيء دوارة الرياح ومهاجمها الجَسور. توقَّفت ضربات البلطة، ثم بدأت الأمطار تهطل والرياح تهبُّ. سُمع صوت ضربات البلطة ثانيةً؛ هنا احتشد الناس معًا، وقال الشماس تروفانت: «أعتقد أن العدوَّ سوف يأتي سريعًا في مركبةٍ حربية من النار ثم …» حالت قصفة الرعد دون أن يستكمل فكرته، تردَّد دويُّ ضربات البلطة في عزمٍ أكثرَ شراسة من ذي قبل، ثم أضاء السماء وميضٌ آخر … هل سقطت دوارة الرياح أخيرًا؟ ادَّعى بيليج تروت في همسةِ ارتياع أنه رأى جناحَي الديك وهما يرفرفان استعدادًا للطيران مرةً أخرى، مصطحبًا المصلَّى وبيليشيا وكل شيء. في تلك اللحظة هبَّت العاصفة في غضبٍ عارم. ثم كان وهجٌ يبهر الأبصار ودويٌّ يصمُّ الآذان، وعصف الرعد والإعصار مجتمعين، فاهتزَّت الكنيسة والجبل نفسه، ودوَّت من بعيد صرخةٌ جامحة، كان جزء منها صيحةَ انتصار أطلقها البشر، والجزء الآخر كان صيحةَ تحدٍّ صدرت عن الديك، وسقط شيءٌ شبيه بكرة نار على الأرض محدثًا ضجيجًا هائلًا على مسافةٍ لا تزيد عن اثنتي عشرة ياردة من الجماعة المرعوبة الواقفة عند رواق المصلَّى المعمَّد.

في اللحظة التالية، هبط بيليشيا بالحبل مسرعًا، وهو يتصبَّب عرقًا. وضعت سوزانا ذراعيها حول رقبته وأعطته قبلة كان يمكن سماع صوتها الذي علا على ضجيج عناصر الطبيعة.

أخذ السكان يبحثون عن أي أثر لدوارة الرياح الطائرة في أرجاء التلِّ صباح اليوم التالي. لم يُعثَر حتى على أي شظية خشب أو شذرة طلاء، لكن على إحدى المصاطب بالقرب من المكان الذي سقطت فيه الكرة النارية، عُثر على علامةٍ شبيهةٍ بأثرِ قدمِ طائرٍ ذي ثلاث أصابع، تاركة أثر حرقٍ عميق في الجرانيت.

في أعلى نقطة في جزيرة راجيد تيل، على بُعد سبعة أميال في البحر، لا يزال الناس يطلعونك على أثرِ قدمٍ آخر، محفورٍ في أعماق الصخر أيضًا. إنه يشبه الأول شبهًا دقيقًا، ويشير في الاتجاه نفسه. ويزعم دارسو علم الشياطين المحليون أن المسارَين يشيران إلى قفزةٍ طائرة من اليابسة إلى الجزيرة، ثم الرحيل عنها على عَجَل، ثم مَن يدري؟ إما الطيران الأخير إلى الفضاء أو الهبوط يأسًا إلى الأعماق السحيقة للمحيط الأطلنطي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤