أعجَبُ واعجَبْ معي

أعجبُ غاية العجب حين أمُرُّ بحَرَم الجامعة، فأشهَد صفوفًا لا تنتهي من السيارات، من بينها سياراتٌ فارهة، يتناقل الناسُ فداحةَ أثمانها، وتصل هذه الأثمان إلى عشرات الألوف. وأرى الشباب من تلاميذ الجامعة يتقاطرون الواحد تلو الآخر، ومِن بينهم مَن هو فخور بسيارته ذات الثمانين ألفًا أو التسعين.

أهؤلاء يتلقَّون تعليمهم بالمجَّان؟

أهؤلاء يحتاجون من الدولة إلى دعمٍ ليتعلَّموا به؟

كَرِه الله هذا والمؤمنون.

وعند بدء العام الدراسي أجد آلاف البيوت تسعى لإدخال الأطفال البادئين إلى المدارس الخاصة، ويتخرَّج هؤلاء الآلاف في المدارس الخاصة وقد حملوا في أيديهم شهادة الثانوية العامة. بذل آباؤهم وذووهم آلاف الجنيهات ليُتيحوا لهؤلاء الأبناء أن يحصُلوا على هذه الشهادة، ويحصُلوا معها على لغةٍ أجنبية تكون لهم سندًا في الحياة، أَعظِم به من سند! ويخطُون هؤلاء إلى الجامعة المصرية، فإذا التعليم فيها بالمجانية الكاملة!

فهل هذا معقول؟

أيُنفِق الطالب عشرة آلاف جنيه، أو اثنَي عشر ألف جنيه، أو أكثر ليحصل على شهادة الثانوية العامة التي تؤهِّله للدراسة في الجامعة، حتى إذا أُدرج اسمه في كشوف طلبة الجامعة، وأصبح يتلقى تعليمه من أساتذةٍ أغلبهم حاصل على الدكتوراه، إذا كانت الكليات نظرية، أو هو يكلِّف الدولة التي تئن وتتألم من قلَّة الموارد مبالغَ طائلة، ليتعلَّم في الكليات العملية مثل الطب والهندسة دون أن يُنفِق مليمًا واحدًا. كيف يسُوغ هذا؟ كيف يدفع هؤلاء الطلاب آلاف الجنيهات للمدارس الخاصة، ويتعلَّمون تعليمهم العالي بالمجان؟! ولماذا تهُون الأموال، وتُقَدَّم في سماحةٍ ويُسرٍ إلى أصحاب المدارس الخاصة والأجنبية، حتى إذا بلغَت هذه الأموال أبواب الجامعة المصرية التي تقوم الدولة بأعبائها جميعًا أحجمَت الأموالُ عن حَرَم الجامعة، وتسرَّبَت إلى سياراتٍ مُجرمة وَقِحة لا حياء فيها ولا خجل؟

أحرامٌ على بلابله الدَّوْ
حُ حلالٌ للطير من كل جنسِ؟
كل دارٍ أحقُّ بالأهل إلا
في خبيثٍ من المذاهب رجسِ

إن الجامعة أَوْلى بهذه الأموال، والدولة أكثرُ حاجةً إليها من المدارس الخاصة، ومن السيارات التي لا تتقي الله في فجور أثمانها.

ليكن التعليم في الجامعة بالمجَّان، ولكن ليكن هذا مقصورًا على غير القادرين فقط. أما هؤلاء الذين يحصلون على شهادة الثانوية العامَّة من المدارس الخاصة، ويبذلون آلاف الجنيهات المؤلَّفة، وأولئك الذين يشترون السيارات، ويقفون بها على أبواب الجامعة، فليكن تعليمهم بالمصروفات الكاملة، بل ينبغي أن تكون المصروفات منهم كافيةً لتقوم بشأن غير القادرين من الطلاب، فما قيمة المال إذا لم يكن عونًا لزميلٍ مُحتاج أو لأخٍ ضئيل المصدَر؟

وليس يصلُح حُجةً الدستور ينُص على مجانية التعليم؛ ففي ظل هذا الدستور نفسه تتقاضى الجامعة الأمريكية المبالغَ الفادحةَ نظير المصروفات.

ولم يحدُث في تاريخ العالم أن اجتمع في بلدٍ واحد نوعان من القوانين، يُعارض كلٌّ منهما الآخر. ومصر الآن تمُرُّ بظروفٍ استثنائية، وإذا لم تُواجه مناحي الإنفاق بالحزم وبالصدق، وبغير محاولاتٍ رخيصة للتشدُّق بالألفاظ، فإنَّ مصيرنا إلى بَوارٍ لا يعلم إلا الله مداه.

في أي بلدٍ من بلاد العالم تلتزم الدولة بتعيين جميع الخرِّيجين؟ يعلمُ الله أنَّ هذا القانون صدَر حين صدَر لرشوة الخرِّيجين، وتسميم الآبار أمام كل من يريد إصلاحًا في هذه الدولة. ويعلم الله ويعلم الناس أنَّ هذا القانون لم تُبذل فيه أي دراسة، ولم يَحظَ بأي تعمُّق، ولم ينَلْ أي نظرٍ رشيد إلى المستقبل. وهل أدَلُّ على ذلك من أنَّ الخرِّيج الآن يظل قابعًا في بيته السنواتِ الطِّوالَ في انتظار خطاب القوى العاملة، حتى إذا جاءه هذا الخطاب تم تعيينه بجنيهاتٍ أصبحَت لا تستطيع أن تُواجه مطالب فردٍ وحيد؟ فما ظنك بأُسرةٍ كاملة، قد يكون الخرِّيج مسئولًا عنها؟

وهل هناك دليلٌ على صدق ما أقول من هذا البيان الذي صدر منذ قريبٍ عن الحكومة، أنها ستسمح للموظَّفين بالقيام بأعمالٍ أخرى في غير أوقات العمل الرَّسمية، ما هي هذه الأعمال؟

إذا لم نكن نعرفها فنحن نتعامى عن الحقيقة، ونَسبَح بعيدًا عنها في إصرارٍ على التجاهُل، ولا أقول الجهل.

ألا يعمل هؤلاء الخرِّيجون كسائقين للسيارات الأجرة، أو هم يعملون في الفنادق، أو في المقاهي، أو عُمالًا في المحلَّات العامة؟

أكُنا نُعلِّمهم في الجامعة لينتهي بهم المطاف سائقين للسيارات، أو عمالًا في المحالِّ العامة؟

وأي الطريقَين كان أجدَى لهم؛ أن يتعلَّموا في الجامعة لمجرد الزهو والتفاخر، أم أن يتعلَّموا هذه الأعمال التي انتهى إليها مصيرهم؟

أما كان الأَوْلى بهم أن يتعلَّموا الميكانيكا أو يتعلَّموا في المعاهد الفندقية بدلًا من إضاعة سنوات حياتهم للحصول على شهاداتٍ لا يعملون بها؟

وأخرى:

ما قصة الخمسين في المائة من العمال والفلاحين؟ وما الإصرار عليها؟ إن كان ذلك للمحافظة على حقوق الفلاحين والعُمال، فإنه يعلم ومصر جميعًا تعلَم أنه ليس بين ربوعها من لا يتصل نسبُه بالفلاحين أو العمال.

إنَّ جميع أبناء مصر بلا استثناءٍ أبناءُ فلاحين أو عمال. ليس في مصر طبقةٌ تنتسب إلى غير الفلاحين أو العمال. حتى طبقة التجار آباؤهم في أغلب الأمر من الفلاحين، والنُّدرة منهم من العمال، فما هذا التقسيم العجيب الذي لا يعرف بلدٌ في العالم له مثيلًا؟

لا مثيل له في دولةٍ شيوعية، ولا في دولةٍ اشتراكية، ولا في دولةٍ ديمقراطية.

هو في مصر وفي مصر وحدها دون سائر الأمم. وكيف يصِحُّ في الأذهان أن يختار الشعبُ أعضاء مجالسه التشريعية والمحلية من العمال والفلاحين الذين لم ينالوا إلا أقلَّ قَدْرٍ من التعليم؟

إنَّ الفلاح أو العامل إذا كانت له قضيةٌ هيِّنة الشأن في محكمةٍ قصد إلى مُحامٍ وأغدق عليه الأتعاب؛ لأنه هو المختص في الشئون القانونية.

والفلاح أو العامل إن شعر بألمٍ في ضرسٍ له قصد إلى الطبيب ودفع ما يطلبه منه هذا الطبيب ليُريحه من ألم ضرسه، فكيف يجوز أن تختار الدولة نصف المُشرِّعين فيها مِن غيرِ المُختصِّين، لمجرَّد أنهم فلاحون أو عمال؟

ليس بعجبٍ إذن أن تصدُر القوانين دون دراسةٍ مستوفاة؛ فقد قام بدراستها نصف الذين يجب أن يقوموا بهذه الدراسة.

ألا يُدرِك الفلاحون والعمال أن ضرر هذه القوانين الهزيلة يعود عليهم هم أولًا وأخيرًا؟ فما مصر كلها إلا عُمالٌ وفلاحون، أو أبناءُ عُمالٍ وفلاحين، لا أستثني في مصر أحدًا. كيف نقبل أن يتولَّى المختصون أعمالنا الخاصة الضئيلة الشأن إذا قيسَت بأمور الدولة، حتى إذا احتاجت الدولة جميعًا والشعب كله إلى تشريعٍ أحَلْناه إلى غير مختص؟! إن قانون العُمال والفلاحين الذي يُحتِّم انتخاب خمسين في المائة منهم يثير من الأحقاد بين أبناء الطبقة الواحدة ما لا يستطيع أي قانون في العالم أن يثيره؛ فالفلاح أو العامل لا يرى أي غضاضة أن يُمثله في المجلس التشريعي أي فتًى من أبناء قريته، أو من أبناء زملائه العمال في المصنع.

ولكنه لا شك يشعر بالغضاضة، كل الغضاضة، أن يذهب فلاحٌ مثله أو عاملٌ مثله إلى المجلس التشريعي، وحين يقول لنفسه أو للناس فيمَ يزيد عني ابن فلان هذا حتى يصبح عضوًا بالمجلس التشريعي، ولا يجد جوابًا، تثور في نفسه نيرانُ الحقد، ولا لوم عليه.

ومن ناحيةٍ أخرى، ما مصير العامل والفلاح الذي يُنتخب في المجلس التشريعي لمدة دورة، ولا يصادفه النجاح في الدورة التالية؟ إنه يُلاقي الهول الآخذ المبين، فلا ظل فلاحًا ولا هو ظل عاملًا عضوًا بالمجلس التشريعي، ولا هو يستطيع أن يعود إلى حقله فلَّاحًا، ولا هو يستطيع أن يعود لمصنعه عاملًا. وكيف له أن يعود وقد ظل سنواتٍ وهو مُشرِّع بين المشرِّعين، لبس الحُلة وركب السيارة التي يسَّر له المجلس الحصول عليها، وأصبح في دنيا أخرى ليس للفأس أو النَّول مكانٌ فيها؟

ليس في مصر من لا يعلَم أنَّ هذا القانون إنما كان تسميمًا للآبار لجميع الحكومات التي تتولَّى الأمر بعد يوم صدوره.

وليس شيءٌ يصنعه بشَرٌ مُقَدَّسًا. إنه لا تقديس إلا لكلمات الله وحدها ولشريعته. أمَّا كل ما يصنعه الإنسان فهو قابلٌ للتفكير وللتدبير وللتغيير. ومن المؤكَّد الذي لا شك فيه أنَّ هذه القوانين البشرية جميعًا ليست مصنوعةً في السماء. ومن المؤكَّد أيضًا أنها ليست مقدَّسة، وإنما ينبغي علينا وجوبًا أن نُقلِّب فيها النظر، ونُمعِن الفكر، فإن تكن مصر قد هزلَت في فترةٍ طويلة من حياتها، فقد حان اليوم لها أن تَعدِل عن الهَزْل إلى المَجْد، ومن التهريج إلى الصدق والتبصُّر.

إن شعبًا انتصر على المستحيل في حرب ٧٣ ليس كثيرًا عليه أن ينتصر على الخرافات في بيته.

وما دُمنا قادرين على أن ننتصر على الأعداء، فلا بد لنا الآن أن ننتصر على أنفسنا، ونكُف عن الهُراء، ليكون الجِدُّ وحده هو طريقنا؛ فإنه لا سبيل لنا أن نخرُج من أزمتنا إلا بمواجهةِ ما شاع في حياتنا من هَزْلٍ وتُرَّهات، والله من فوقنا، وهو وليُّ التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤