بين النظرية والتطبيق

في أهرام الجمعة ٧ مارس مقالٌ للأستاذ سيد ياسين، رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والمقال يحمل اسم المركز، وهذا يُوحِي — بشكلٍ لا يقبل الجدل — أن الأستاذ ياسين إنما يتحدث باسم المركز. وأعتقد أن في هذا افتئاتًا على المركز؛ فإن للأستاذ سيد ياسين — إذا شاء — أن يكتب مُعلنًا رأيه هو. أمَّا أن يكتب تحت راية المركز الذي يمثِّل الأهرام جميعه، فأنا أرى أن هذا يؤدِّي إلى نوعٍ من الخلط بين رأي فردٍ ورأي جهةٍ بأكملها؛ فأنا أشْرُف بالإشراف على القسم الأدبي في جريدة الأهرام، ولكنني حين أكتب أنا أُعبِّر عن رأيي وحدي، ولا يجوز لي أن أضع شعار القسم الأدبي على مقالتي، كما لا يجوز أن أضع شعار اتحاد الكُتَّاب الذي أَشرُف برئاسته.

وبعدُ، فهذا أمرٌ يتصل بالشكل كان من الحتم أن أعرض له. أما المقالة نفسها، فتحمل عنوان «الديمقراطية» والعنف والسياسة الاجتماعية. المقالة تحمل سمات المعارضة العنيفة. ولا بأس على الأستاذ سيد أن يُعارض ما طابت له المعارضة؛ فنحن جميعًا نعارض حينًا ونؤيد حينًا، نتغيَّا المصلحة العامة ما وَسِعنا الجهد وما أسعفَتنا الحُجة.

وقد قدَّم الأستاذ سيد ياسين آراءه في إصلاح أحوال مصر من وجهة نظره، وأنا لم أُمسِك القلم اليوم لأُناقِش هذه الآراء.

وإنما ثارت نفسي، وفزعتُ إلى قلمي، وإلى كتابة هذا الذي تقرؤه الآن حين انتهى بي المطاف إلى العنوان الفرعي في آخر المقال، وإني ناقلٌ إليكَ ما قاله بادئ ذي بدء.

يقول الأستاذ سيد ياسين تحت عنوانٍ فرعي «إعادة صياغة السياسة الاجتماعية» ما يلي: السياسة الاجتماعية في بلدٍ ما تُترجِم بشكلٍ محسوس التوجيهاتِ الأيديولوجية الأساسية للنظام السياسي. ومن هنا تختلف السياسة الاجتماعية اختلافاتٍ جذرية في النُّظُم الاشتراكية والرأسمالية. وفي النُّظُم الاشتراكية يعلو الصالح العام على حساب الصالح الخاص، وتُوجَّه السياسات الاجتماعية إلى جماهير الشعب جميعًا لكي تنهض بها من الناحية الثقافية، والاقتصادية، والسياسية. ويظهر ذلك في صورة برامج التعليم المجانية التي تسمح لأفقر العناصر الاجتماعية أن تُبرِز مواهبها، وأن تكشِفَ عن إبداعها. وكذلك في سياسات الدخول والأجور، والتي تسمح للقلَّة أن تشتري — استغلالًا — على حساب الأغلبية، وهي التي تفتح آفاق الثقافة بلا حدودٍ أمام كافَّة جماهير الشعب، وتصل إلى القُرى. وهي أخيرًا تدعم من إيجابيات الشخصية الإنسانية، وتُكافِح سلبياتها من خلال القدوة والتربية والتعليم، والردع والإصلاح العقابي. وعلى العكس تمامًا في النظام الرأسمالي؛ حيثُ يعلو صوت الصالح الخاص على حساب الصالح العام، وتُصاغ السياسات الاجتماعية أساسًا لخدمة الأقلية والصفوة المختارة. وهي حين تتجه إلى الجماهير العريضة فهي تتجه بقَدْر وبطريقةٍ محسوبة، والغرض الأساسي هو إشباع بعض الحاجات الأساسية لها تلافيًا لعوامل السخط الاجتماعي، وتفاديًا لاحتمالات الصراع الطبقي.

وأكتفي بهذا القَدْر الذي يعلَم الله كم قاسيتُ من جهدٍ لأنقلَه. وأنا أسأل الأستاذ سيد ياسين هل ما زالت الشيوعية نظريةً لفظية؟ إنها تجاوزَت هذا إلى التطبيق الطويل الذي يُقارِب اليوم نصفَ قرنٍ من الزمان.

وما دام الأمر كذلك، ألا يرى أن الأمانة العلمية النظرية تقتضي مناقشة التطبيق، وإذا كنا لا نُناقِش التطبيق بعد خمسين عامًا من إعمال النظرية، فمتى إذن؟

وما دام قد اختار أن يضع على رأس مقاله مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ألم يكن واجبًا حتميًّا عليه أن يذكُر الرأيَ والرأيَ الآخر؟ وبعدُ فلننتقل الآن إلى ما قاله:

أيعرف الأستاذ حكومةً في العالم الحُر جميعه تعمل لغير الصالح العام؟ أين تقع هذه الحكومة؟ وفي أي دولةٍ رأسمالية على وجه الأرض؟ وكيف يصحُّ في العقول أن الحكومة لا تعمل لصالح أفراد ولا تُعطي الشغل إلا الفُتات؟

وهل ما ينالُه العامل في أمريكا يُقارَن بما ينالُه العامل في روسيا؟ وهل فكَّر الأستاذ سيد ياسين فيما يتمتَّع به الإنسان في ظل الحكومة الديمقراطية من حرية وديمقراطية وانطلاق؟ وهل تستطيع مقارنته معًا بما يشقى به الإنسان في ظل الحكومات الشيوعية؟

هل الثقافةُ متاحةٌ في الدول الشيوعية وغيرُ متاحةٍ في الدول الديمقراطية؟ أيُصدِّق هو هذا القول؟

فأين إذن أُدباء الاتحاد السوفييتي ومبدعوه؟ أين ورَثَة تولوستوي، ودتسيوفسكي، وتشيكوف، وجوجول؟ ألم يقتُل النظام الشيوعي كل عبقريةٍ حاولَت التحرُّر من الخوف، سواء كان ذلك في ميدان الفن الأدبي، أو كان في ميدان العلوم؟ والأمثلةُ حاضرةٌ من قريب، وهو يعرف كل المعرفة. أليس النظام الديمقراطي يقوم في جوهره على أساس الحافز الشخصي؟

أولَيس هذا الحافز الشخصي هو الهاوية التي تردَّى في فقدانها النظام الشيوعي، حتى لقد اضطُر لينين روسيا نفسه أن يسمح بالملكية الزراعية، فيما يُعرف بسياسة النيب «السياسة الاقتصادية الجديدة» عام ١٩٢١م، ليُحقِّق حافزًا شخصيًّا للزارع بعد أن أصبحَت روسيا التي كانت مخزنَ القمح تستورده من الدولة الرأسمالية الكبرى أمريكا؟

ألم تستبدل النظرية الشيوعية الحافزَ الشخصيَّ الذي يتمشَّى مع الطبيعة الإنسانية بنظام الردع والإصلاح العقابي؟ وهل يعني هذا التعبير شيئًا إلا القهرَ والنفيَ والقتلَ والمعتقَلات؟

أوَلَا يعني هذا أنَّ النظام الشيوعي يقول للإنسان علانية، وفي غير خفاء، سأقتُلُكَ وأُهين إنسانيتك، وأُدمِّر كل ما هو شريفٌ في حياتك، لأجعلكَ سعيدًا رغم أنفك، فإذا لم تَسعَد فلكَ الويل، ولكَ النفيُ إلى الصحراوات الجليد، ولك الاعتقالُ في السجون، وإذا لم تَسعَد بعد هذا جميعًا فلكَ القتل. أليس هذا هو تطبيق النظرية يا أستاذ سيد أم شيئًا آخر؟

أوَلَيس هذا التطبيقُ هو الذي جعل كل الدول التي فُرضَت عليها الشيوعية تهرب منها، وعلى رأس هذه الدول جميعًا أضخم دولة في التاريخ، ألا وهي الصين، وهي دولةٌ عدد سكانها ألف مليون نسمة، وقد كان ينبغي أن ينجح فيها النظام الشيوعي؟ فأن ينالَ الفردُ في هذا الزحام البشري المروِّع لقمةَ عيشه أمرٌ يدعو وحده إلى التمسُّك بالنظرية، ولكن النظرية فشلَت في أن تهَب للإنسان في الصين حتى لقمةَ العيش، ونجحَت في قهر وقتل إنسانية الإنسان. وتركَت الصينُ النظرية كلها واتجهَت إلى حرية الحياة. ولا شك أن الدولة بحثَت عن النظام الأمثل لمواجهة متطلَّبات ألف مليون نسمة، بعد أن خذلَتها النَّظرية الشيوعية خذلانًا مُبينًا.

ولعل انتخابات فرنسا الأخيرة تُعطيك مثلًا على فشل النَّظرية، حتى لم تتحمَّلها فرنسا إلا فترة انتخابٍ واحدة.

أوَلَيس روسيا تعيشُ بامتصاصِ دول الستار الحديدي كلها؟ وكل هذه الدول تُحاوِل أن تتخلَّص من جنة الشيوعية، فتجد أمامها الوحشَ السفَّاح يُسوِّي جُثَث الأطفال والشيوخ والعجائز بالأرض، ولا تملك إلا الخنوع في ألمٍ قاتل؟ ولتذكُر إن كنتَ لا تذكُر ما حدث في المجر وتشيكوسلوفاكيا، ولا يزال يحدُث في بولندا، ناهيك بالغزو الأخير لأفغانستان، ومُحاولة ضمِّها إلى جنَّتها.

أترى يا أستاذ سيد أنَّ كل الدول الديمقراطية التي تعيش في حُريةٍ لا تعمل حكومتُها للصالح العام؟

أم ترى كلَّ دول الستار الحديدي لا تعمل حكوماتُها للصالح العام حين تُحاول التخلُّص من عبودية الجنة السوفييتية؟

وبعدُ أيها الصديق، هل ترى أنَّ التعليم المجَّاني في مصر خرَّج مثقَّفين؟ أتركُ هذا لضميرك، بل وأتنازل عن آمالي قليلًا، وأسألُك: هل خرَّج التعليم المجاني متعلمين أم أنَّ الأمر لم يزِد على لافتةٍ على فراغ، بعد أن أصبحَت المدارس المصرية تُعلِّم الجهل، فتُحسِن تعليمه؟

هل أفلَح الإصلاح الزراعي في مصر في الارتقاء بالزراعة يا أستاذ سيد؟

إذن فاجعل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية يجيبُ على السؤال بالأرقام لا برأيكَ أنت.

هل ترى أن نظرية الخمسين في المائة من الفلاحين والعمال نظريةٌ مقبولة؟ وهل لها مثيل في العالم؟ اجعل مركزك يُجيب ولا تُجِبْ أنت.

هل القطاع العام بصورته الرَّاهنة في مصر خرابٌ لمصر أم ازدهارٌ لاقتصادها؟ اجعل المركز يُجيب ولا تُجِب أنت.

وبعدُ يا أستاذ سيد، فلو مضيتُ فيما أخذتُ فيه لما توقَّف القلم، ولولا أنني أردُّه عن المُضي في طريقه لما انتهى به الحديث إلى مئات الصفحات.

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤