خطابٌ في موعده

هي فتاةٌ في ربيع العمر ونَضْرته، وكان فتاها شابًّا يعمل في مطبعة، وكان يكسب ما يقوم بشأن بيته، وتم بينهما الزواج، ومشى بهما العمر رضيًّا هانئًا، تلك الهناءة التي تخلو من الأحداث الكبرى، ولا تخلو من الخلافات الصغيرة التي تنشأ بين زوجَين في أول حياتهما الزوجية، فالزوج ذو عادات وتربيةٍ خاصة، والزوجة لها بدَواتها وتربيتها الخاصة. وحين تصطدم التربية بالتربية والنشأة الغريبة بالنشأة الغريبة لا بد أن تنشب هذه الخلافات الصغيرة، وربما كانت الحياة تحلو بهذه الخلافات؛ فهي آخر الأمر لرباط الزوجية، أقدس ما خلق الله من صلة ومن عقود.

وأنجبَت الزوجة الشابة ولدَين، ولكن حدَث أمرٌ ليس بعجيب ولا شاذ. وقد يسأل سائل: ففيم اهتمامك به وكتابتك عنه، وأنت تعلم أنه ليس بعجيب ولا شاذ؟

وربما راق لي أن أُجيب على هذا التساؤل؛ فالواقع أن الكاتب يكتب وهو لا يعرف لماذا يكتب، وإنما كل الذي يدريه أن شيئًا ما، لا يدري مأتاه، هزَّه هزًّا عنيفًا، ودفع به إلى الكتابة. وليس يعنيه في شيء أن يكون هذا الذي يكتبه جديدًا على الناس أم قديمًا.

وقال عنترة قبل ظهور الإسلام وفي غروب الجاهلية: هل غادر الشعراء من مُتردَّم؟ فوحقِّك ليس بين الناس من جديد؛ فالشر قديمٌ قِدَم قابيل وهابيل، والخير قديمٌ قِدَم آدم ومن أعقبه من أنبياء.

كان جار الزوجين شابًّا في مقتبل العمر ينتمي إلى أسرةٍ عريضة شهيرة بين الناس، وكان للشاب سيارةٌ وضيئة، وابتسامةٌ آسرة. وأهم من هاتَين كانت له سمعةٌ أنه ثري، وأنه يُحب أن يُنفِق من ثرائه هذا.

ولم تهتمَّ الزوجة أنَّ هذا الشاب جاهلٌ لم يكمل تعليمه، وكان من الغباء بحيث لا تستطيع أن تستبين غباءه.

بالغ الفتى في إظهار محاسن سيارته، وبالغ أيضًا في إطلاق ابتسامته على قلب الزوجة، وترك سمعة ثرائه تنساب إليها من سيلٍ جارف حتى إذا أيقن أنه وقَع من نفسها حيث يُريد أن يقع بدأ حديثًا.

ولم يكن هذا التخطيط عن غباء — لا قدَّر الله — وإنما هو مران تعوَّد به أن يصاحب الفتيات، وفيم ينشغل الجاهل الجميل إلا بالنساء؟

وقد تجد بين الناس أغبياء وإنما يتقنون من حياتهم جانبًا واحدًا. وهم في هذا الجانب الذي يتقنون يصبحون أعلامًا مُتمرسين، حتى ليبدو الفرد منهم وكأنه ذكيٌّ شديد الذكاء.

أشار إليها فرفضَت فألح فامتنعَت؛ فأغراها بنزهةٍ بريئة بالسيارة، فتمنَّعَت تمنُّع الراغبات. وأدرك الفتى بخبرته أنها أصبحَت من أولئك الرَّاغبات فأعاد الإلحاح.

فقبلَت ونزلَت إلى السيارة.

– أتعرفين كم أحبُّك؟

– إنني متزوجة.

– أعلم.

– وأم لطفلَين.

– أعلم.

– فلم إصرارك هذا؟

– وهل للحب أسباب؟

– أنت غني وجميل.

– أترينَني جميلًا؟

– وأنت تعلم.

– إذن.

– تستطيع أن تجد غيري كثيرات.

– ولكني أريدك أنت.

– وماذا تريد لعلاقتنا هذه؟

– ما تريدين أنت؟

– أنا لا أعرف إلا الزواج.

– فليكن ما تريدين.

– كيف؟

– تتركين زوجك.

– هل هذا معقول؟

– وكيف يمكن أن يتم زواجي؟

– لا يمكن.

لم تقتنع في النزهة الأولى بالسيارة، ولكنها في الثانية والثالثة والعاشرة اقتنعَت.

وحين تريد الزوجة أن تترك زوجها لا يمنعها شيء، خاصة إذا كان الزوج شريفًا، ولا يقبل أن يعيش مع زوجةٍ لا تحبه.

طُلِّقَت الزوجة من زوجها وتركَت طفلَيها له، ومكثت شهور العدة في بيت أبيها، ثم تزوَّجَت السيارة والابتسامة الآسرة.

كانت قد ورثَت عن أمها نصف بيت فباعَته، فهي لم تعُد في حاجةٍ إلى رأس مالٍ يؤمِّن حياتها، فليس بعد غنى زوجها أمان، وهي تُريد ثمَن نصف البيت هذا لتشعُر أنها غنيةٌ هي أيضًا.

وكان أبوها رجلًا في أُخريات عمره، يعيش مما يتقاضاه من معاش.

ويبدو أن الأب لم يكن راضيًا عن تصرُّف ابنته. ويبدو أنَّ الموت قد حلا له أن يختطفه دون إبداء أسباب؛ فالموت غير محتاجٍ إلى تقديم أسباب.

وأصبحَت الزوجة القديمة الجديدة لا عائل لها إلا زوجها، وما هي إلا شهورٌ قلائل واتضحَت الأمور جميعًا.

الابتسامة تكشيرٌ عن أنياب، وليست ابتسامة؛ فالفتى ذو الأصل العريض كثير الشجار، كثير المطالب لا يُرضيه شيء.

والسيارة كانت آخر ما يملك، وكان لا بد أن يبيعها، فهو لم يعُد لديه ما يُنفقه عليها؛ بل لم يعُد لديه ما ينفقه إلا ثمنها.

– ومن أين ستعيش بعد ذلك؟

– سأسافر إلى السعودية.

– وإن لم تسافر؟

– المسائل منتهية.

وأنفَق ثمن السيارة ولم يبقَ إلا ثمن نصف البيت ينفقان منه، وأوشك هذا المال أيضًا أن ينفد.

ولكن مشروع السفر إلى السعودية اكتمل، فاشترى تذكرة السفر من مال زوجته، واتفق معها أن يُسافر ويُرسل إليها ما يُمكِّنها من اللحاق به.

وفي الطريق إلى المطار.

– هل بقي معكِ شيء من النقود؟

– خمسون جنيهًا.

– هاتيها.

– وأنا كيف أعيش؟

– في ظرف أسبوع سيكون عندك ما تشائين من مال.

– وماذا أعمل في هذا الأسبوع؟

– ليس صعبًا أن تدبِّري أمرك لمدة أسبوع.

– أمري إلى الله.

وأخذ الخمسين جنيهًا.

وبعد أسبوع فعلًا، وصل إليها خطاب من زوجها.

لم يكن به مال، وإنما كان به ورقة الطلاق.

وتسألُني فيمَ أقُص هذه القصة وهي في كل يوم على شاشة السينما، ولكنني اليوم أنقلها من الحياة لا من السينما، وأنا مع كل ذلك لا أدري لماذا أحببتُ أن أقُصَّها عليك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤