وتأكلون التراث أكلًا لمًّا

التُّراث في هذه الآية الكريمة بمعنى ميراث اليتامى، وبهذا المعنى وبآياتٍ كثيرةٍ أخرى في القرآن الكريم، وبتفصيله سبحانه وتعالى للمواريث ينقطع الطريق على الملحدين؛ لأنَّ الميراث في أغلب أمره مالٌ يغلُّ مالًا. والشيوعية ترفض أن يغلَّ مالٌ مالًا، والإنسانية ترفض أن يستغل المال الإنسان. وعدم الإغلال هو أهم عنصر من العناصر السياسية في النظرية، والإلحاد بالله سبحانه وتعالى هو دينهم الوحيد الذي لا دين غيره؛ فكل شيوعي إذن ملحد بحكم النظرية، فإن كان مؤمنًا فهو غير شيوعي. وكل شيوعي يدعو إلى حكم البروليتاريا مُتخذًا به ستارًا لقهر البروليتاريا وغير البروليتاريا في آنٍ معًا.

وكل شيوعي يرفض أن تسمح الدَّولة للفرد باستثمار ماله. ومن لا يعتنق هذه المبادئ يكن غير شيوعي، أو شيوعيًّا منافقًا، وأغلبهم كذلك.

وقد اضطُرت الأحزاب الشيوعية في أوروبا أن تهدم هذه الأركان جميعًا؛ لتجد لنفسها منفذًا إلى الحكم، وكشفَت الشعوب عن نفاقهم، ولم يصلوا بهم إلى الحكم. وحين كنتُ في سويسرا شاهدتُ حديثًا تليفزيونيًّا بين عالمٍ كيماوي، أعلن أكثر من مرة أنه شيوعيٌّ متطرف، وكان المذيع — شأن المذيعين هناك — غاية في الذكاء، فما زال به حتى ضيَّق عليه الخناق في فكرة الدين، فأعلن الشيوعي أنه غير ملحد، ولم ينتظر المذيع بل عاجله: فكيف إذن تؤمن بالنظرية الماركسية؟ فأبلَس الشيوعي وأطبق عليه الفخ، فأصبح كفأرة أُحيطت بالمنجل والمطرقة، فلا تستطيع فكاكًا. وفي نفس البرنامج مع هذا الشيوعي أجرى المذيع لقاءً بين ضيفه الشيوعي وبين الكاتب العالمي جورج سيمنون. وبدا أن الشيوعي يحترم الكاتب الكبير احترامًا بالغًا، وجورج سيمنون من أعظم كُتاب الرواية المُعاصرة. والحقيقة أنني لم أكن أعرفه حتى لفت نظري إليه أستاذنا توفيق الحكيم، منذ ما يقرب من عشرين عامًا، وقال عنه إنه كاتب للرواية البوليسية، ولكنَّ العجيب فيه أنه دائمًا يُضفي على روايته لمسةً إنسانية، ترتفع بها إلى مستوى الرواية العالمية. ومنذ ذلك اليوم وأنا أقرأ له.

كان اللقاء بين الاثنين ممتعًا، وفجأة سأل جورج سيمنون ضيفه الشيوعي: ما رأيك في الروح؟

وهنا ارتجَّ عقل صاحب النظرية المادية، فالعجيب أنَّ هؤلاء الشيوعيين يرمون المؤمنين بالجهل، لأنهم يُصدِّقون الغيبيات، وفي نفس الوقت يقولون إن أصل العالم المادة. وهنا لا بد أن نقول لهم إنهم بين واحدة من اثنتَين؛ إمَّا أن يكونوا قد شهدوا بداية العالم ورأَوه وهو ينشأ من المادة، أو أنهم هم الذين يختلقون الغيبيات التي لا يدُل على صدقها أي شاهد، ثم يُصدِّقون ما اختلقوا، كعُباد الأوثان يصنعونها بأيديهم ثم يُصلُّون لها ويعبدونها.

وبعد، فقد مضى بي الحديث، وأُريد أن أعود إلى عنوان المقال، فأُحس أن قول الله سبحانه: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا جعلني أفكِّر في تراثنا الإسلامي، بالمعنى الذي اكتسبَتْه اللفظة على مَرِّ الأيام، وأُنكر هؤلاء الذين حاولوا أن يأكلوا تراثنا الأدبي، ويحطِّموا اللغة العربية، حتى لقد ذهب بعضهم إلى كتابة كتبٍ بأكملها باللغة العامية. ولم يكن الأمر مُحتاجًا مني إلى إمعانِ نظر؛ فتراثُنا هو لغتنا التي هي لغة القرآن الكريم، فإن حطَّموها حجبوا ما بين الناس وبين الذكر الحكيم، ويضيع الدين. وأُلقي نظرةً على هؤلاء فإذا هم جميعًا ملحدون أو من أعداء الدين الإسلامي بالذات، وهؤلاء لا يدرون أن الله فوق سبع سموات، قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وتسطع المعجزة فإذا الزمن يلتهم كتبهم ويُضرِّس بها، وتصبح هملًا من الهمَل، لا يذكُرها أحد، ثم لا يعرفها أحد. وإذا بالقرآن الكريم يتصدر كل مكان؛ فهو في جيب الرجل أو في سيارته، إن لم يكن في صدره محفوظًا، وهو حلية المرأة المسلمة تعتز به وتفتخر.

ولا يستطيعون — وهيهات لهم أن يستطيعوا — أن يأكلوا التراث، وإنما يأكلهم التراث وينزوي الملحدون كالخجِل الخزيان، وتعلو كلمة ربك. وهل كان يمكن إلا أن تعلو كلمة ربك لهم؟ يكيدون كيدًا، ويكيد ربك كيدًا، فمَهِّل الكافرين، أَمهِلهم رويدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤