الأدبُ حياة

يرى بعض الناس — ومنهم أُدباءُ وفنانون — أنَّ الأدب ينبغي أن يبتعد عن السياسة. إن المعيار الحقيقي للأدب هو الفن الأدبي فحسب. وهذا قولٌ مردود؛ فالأدب لسانُ عصره وشاهدُه، إن لم يكن نبض وطنه فلا خير فيه، ولا في أدبه. وهناك أُدباءُ مُجيدون نقرؤهم فلا نعرف منهم في أي عصرٍ عاشوا؛ فأدبُهم يمكن أن يكون صالحًا لكل العصور، وهكذا يُصبح غير صالحٍ لأي عصر.

إنَّ الفكر الإنساني والنبضة في قلب البشرية واحدة. والأديب هو هذا الفكر، وهذه النبضة، ولكن الإطار الذي يضع فيه فكره، هو الذي ينبغي أن يُصوِّر آلام عصره وآماله.

وليس من الحتم أن يكون هذا الإطار في نفس العصر الذي يعيش فيه الكاتب؛ فقد يلجأ الكاتب للتاريخ، ويظل مع ذلك ناظرًا إلى آلام عصره؛ فحين كتب طه حسين أحلام شهرزاد، انتقد بها عصره أشدَّ ما يكون الانتقاد. وحين كتب نجيب محفوظ رواياته المصرية كان يكتب بنبض مصر التي كان يعيش فيها، في ذلك الحين؛ فالمعاصرة تكون في المضمون أكثر مما تكون في الزمن الروائي.

وحين كتب شوقي كليوباتره نجده ينتقد عصره في مرارة، واستطاع نقدُه أن يخترق العصور التي تلَته فيصدُق؛ فحين يقول:

اسمَعِ الشعب دُيونُ
كيف يُوحون إليهْ
ملأ الجو هُتافًا
بحياتَي قاتلَيهْ
أثَّر البهتانُ فيهِ
وانطلى الزُّور عليهْ
يا له من ببغاءٍ
عقلُه في أُذنَيهْ!

نجد الشعب ظل يقولها معه إلى عهدٍ قريب، ولا يجد غيرها ملجأً حين كانت السياسة في مصر صُراخًا وهمسًا، وحين لم تكن عقلًا ونقاشًا ورأيًا. وقد ظلَّت كذلك حتى أعاد السادات رحمه الله العقل للسياسة، والأمن للناس، وجعلهم يقولون بدلًا من أن يصرخوا، ويجهرون بدلًا من أن يهمسوا.

وحين يقول شوقي في مجنون ليلي:

أُحبُّ الحسينَ ولكنَّما
لساني عليه وقلبي معَهْ
إذا الفتنةُ اضطَرمَت في البلادِ
ورُمتَ النجاةَ فكن إمَّعةْ

يظل هذان البيتان سيفًا على أعناق المنافقين في كل العهود. والرواية والمسرحية والقصة القصيرة ظلَّت وما زالت وسوف تظل وسيلة للكُتَّاب أن يكونوا لسان عصرهم، والشاهد عليه، فيرى الجيلُ المعاهدُ للكاتب نفسَه في العمل الفني إن كان صادقًا، وترى الأجيال القادمة آباءها في العمل. وإن كانت هذه الفنون حديثة في الأدب العربي، وإن كنا نحن قد اشتركنا في الزمن مع جيل العمالقة الذي أنشأ هذه الفنون، فإننا لا شك والأجيال التي تلت جيلَنا تستطيع أن تعرف مصر القرن التاسع عشر، وأوائل هذا القرن من المويلحي «حديث عيسى بن هشام» كما تعرف الحب الرومانسي والعادات الريفية من «زينب» هيكل، ومن عودة الروح ﻟ «توفيق الحكيم»، ومن «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» للدكتور العميد، ثم نرى مسحًا لمصر الثورة وما بعدها من ثورة ٥٢ إلى اليوم من كتابات نجيب محفوظ وجيله. والجيل الحديث أيضًا، يعطي صورةَ آلام وآمال عصره، وإن كان القهر قد منعه زمنًا أن يقدِّم هذا الرأي، إلا أنَّ الروائي والقَصَّاص والمسرحي يجد دائمًا الوسيلة ليقول ما يريد أن يقول.

ويقف مسرح الحكيم علمًا شاهقًا بما قدَّمه، ناقدًا عصورًا كثيرة، في فنٍّ رفيع لا يبلغه إلا العمالقة الأفذاذ، فكيف ننسى شجرة الحكم، وشهرزاد، وإيزيس، والورطة، وبنك القلق، والصفقة؟ وهل يمكن الإحصاء للرَّائد العملاق؟ والقصة القصيرة أيضًا لم تتخلَّف، بل أعطت عطاءها في قدرة وفنية على يد كُتابها من جميع الأجيال.

وهكذا ترتبط الحياة بالأدب ارتباطًا وثيقًا. وما دامت قد ارتبطَت بالحياة فهي مرتبطة بالسياسة العامة؛ لأنَّ الحياة في كل وطنٍ إنما تتشكَّل بالسياسة التي تُزامِن كل فترة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤