بين الفَخْر والجَخ

الفخر هو كما عَلِمتُم بدأ مع الشِّعر، منذ بدأ الشِّعر. أمَّا الجَخُّ فهي كلمةٌ لا يجهلُها أحد، وهي في القاموس تُفيد نفس المعني الذي نستعملها نحن له في مألوف كلامنا. ومعنى موضوع اللفظَين واحد، إلا أنَّ الفرق بينهما شاسع؛ فالفخر فيما نعتقد لا يكون إلا شعرًا، وهو يقع من الأذن العربية. وأُعيد فأقول الأذن العربية؛ لأننا نحن كُتابٌ عرب، وقُراء عرب، ولسنا كُتابًا من الإنجليز، ولا نحن كُتابًا فرنسيين. نحن كُتابٌ عرب، فالفخر يقع من آذاننا ومن نفوسنا موقعًا جميلًا حبيبًا، في حين نستقبل الجخَّ استقبالًا كريهًا رافضًا، مُستخفِّين صاحبه، مستخفِّين بقائله؛ فهو يقول لنا بجَخِّه إننا مغفَّلون، وإن علينا أن نُصدِّق جخَّه. وهو يقول أيضًا إنَّ حقيقته هزيلةٌ تافهة هينة شائبة فهو يحاول أن يُكسبها بالجخ ما ليس لها، ويحاول أن يكسو بالكذب لُباب الواقع، وما نعرفه نحن عنه من قيمةٍ إن كان له قيمة، وأغلب الأمر في شأن الجخَّاخ أنه غير ذي قيمة.

فحين يقول الشاعر العربي:

ترى الناسَ ما سِرنا يسيرون خلفَنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

نُحب قوله ونُسيغه، ولو أننا نعلم أنه ليس صحيحًا، ولكني في الشعر لا أحقِّق فيما هو صحيح، ولكنني فيما يروي لي الشخص عن نفسه لا أفعل شيئًا سوى أن أتبيَّن الحق من الجخ؛ لأن روايتَه لا تحمل أي عنصرٍ جمالي آخر يجعلُني أغتفر له جخَّه.

وحين يقول عمرو بن كثلوم:

ألا لا يجهلَن أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جَهلِ الجاهلينَا
فإنا نُورِدُ الراياتِ بِيضًا
ونُصدِرُهنَّ حُمْرًا قد رُوِينَا
إذا بلغ الرضيعُ لنا فطامًا
تخرُّ له الجبابرُ ساجدينَا

نقول له كذبتَ ولكن ما أعظمك! ولكننا مع النخَّاخ أو الجخَّاخ، نقول له كذبتَ وما أتفهك!

وحين يقول شوقي الخالد:

وأنا الذي أَرثي الشموسَ إذا هوَت
فتعودُ سِيرتَها من الدورانِ

وحين يقول:

لا تَرومي غير شِعري موكبًا
إن شِعري درجاتُ الخالدينْ
كل فضلٍ لم أصُغْه زائلٌ
خالدُ الحمد بما صُغتُ رهينْ

وحين يقول:

ربَّ جارٍ تلفَّتَت مصر تُوليـ
ـهِ سؤالَ الكريمِ عن جيرانِهْ
بعثَتْني معزيًا بمآقي
وطني أو مُهنِّئًا بلسانِهْ
كان شعري الغناءَ في فَرَحِ الشَّرْ
قِ وكان العَزاءَ في أحزانِهْ

وحين يقول:

وإني نُواسيُّ هذا الزمانِ
فمَن للزمانِ بأذنِ الرشيد؟

حين يقول هذا جميعَه وغيره، وغيره كثير، ننسى الحق وغير الحق، ولا يبقى أمامنا إلا هذه القيمُ الرَّفيعة من الأدب الشامخ.

ولكننا نرفُض هذا جميعَه، إن قاله في حديثٍ صحفي أو حتى في حديثٍ شخصي، ونرفضه ونُبغضه إذا قاله في مقال.

أثار هذا جميعًا في نفسي عدةُ أحاديث ومقالات، رأيتُها لكُتابٍ وشُعراءَ في أيامنا الأخيرة هذه، جخَّ كلٌّ منهم عن نفسه جخًّا يزيده هوانًا على الناس، وعلى نفسه. والذي أعرفه أن الروائي يكتب الرواية والقصَّاص يكتب القصة والشاعر يكتب ما يكتبه من شعر، والناقد ينقد غيره، ثم يترك للناس بعد ذلك أن يُحدِّدوا مكانتَه وقيمةَ عمله .. ولكن لا أدري لماذا اختلطَت الأمور وماعَت، وأصبح كلُّ من هَب ودَب يتكلم عن نفسه بدلًا من أن يترك عمله يتكلم عنه. ولعل أَعجَب هؤلاء كاتبٌ لا يعرف العربية، ولم يقدِّم عملًا فنيًّا واحدًا، طاح في صفحات الجرائد والكتب مُصنِّفًا الناس كما شاء مذهبُه الشيوعي، وتطرُّفه غير الشيوعي، وفَرضَ نفسه على جيله، واعتَبَر نفسه كاتبًا من الكُتاب.

تُرى هل يظُن أن أحدًا سيُصدِّقه؟ إنَّ أبسط سؤالٍ يتجه إليه: بموجب أي كتابٍ أو رواية أو قصة أو ديوانٍ جعلتَ نفسك مع هؤلاء الكُتاب؟ وإن كان في كل ميدان من هذه الميادين تجربةٌ واحدة، أُيتيح هذا لك أن تفرض نفسك كاتبًا عربيًّا مع الكُتاب العرب؟

وآخر يقول إنه وحيد ميدانه وزمانه، ما سبَق منه وما لحِق، وإن العالم كله لا يقرأ إلا له، ولا يعرف من كُتاب مصر ولا العالم العربي إلا هو. حتى ليُخيَّل لمن يقرؤه أنه إذا مشى في شوارع لندن وباريس وروما وبرلين، فستتجمَّع من حوله الجموع وتُصبِح السينما والإذاعة والتليفزيون لا شغل لها إلا الكاتب الجخَّاخ.

وآخر يقول في حديثٍ إنه وحده فارس الميدان لمدة ربع قرن أو تزيد، وإنه لا يُشاركه في روعته وعظمته أيُّ مشارك.

ما هذا أيها الأبله؟! ماذا تركتم للقُراء والنُّقاد أن يقولوا؟ وكيف وأنتم تدَّعون أنكم أُدباء لا تُدرِكون وَقْع هذا النوع من الحديث في نفوس القُراء؟ ولِمَ لا تتركون الناس والقُراء يَقْدرون أعمالكم قَدْرها الحقيقي؟ وكيف ظننتم أنكم بمثل هذا الذي تدَّعون تُزيِّفون الحق وتمسخون التاريخ، وتغيِّرون الواقع؟ وهَبْكم نجحتم مع جيلنا هذا الذي نعيش فيه، فخلقتم من أنفسكم هذه الأكاذيب، فأين أنتم من التاريخ وأنتم جميعًا تعلمون أن الفن تاريخ، وأن التاريخ على مدى التاريخ قد يكذب في الأحداث السياسية، ولكنه لا يكذب في الحكم على فنانٍ قط؟ أم أنتم أطفالٌ تريدون أن تفرحوا بلُعبٍ في أيديكم، حتى وإن أدركتم أنها ليست لكم، وأنها ليست شيئًا إلا أنها لُعبٌ لا أكثر بل ربما أقل؟

أنتم بما تصنعون تشوِّهون وجه الأدب جميعه، وتجعلون الناس يميلون عن الأدباء ويعتبرونهم فئةً لا همَّ لها إلا الأحاديثُ الفارغة عن نفسها. ويُرى في بعضهم الدَّعي؛ فهو بعيد عن العربية كل البعد ومع ذلك يُصِر أن يفرض نفسه عليها فرضًا، وهو يعلم أنه يعيش حياته في داخلها وخارجها بعيدًا كل البعد عن كل ما هو عربي، بل كارهًا كل الكره لكل ما هو عربي.

وصدق الله العظيم حين يقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. ولا يستطيع أحدٌ أن يفهَم القرآن الكريم أو لغة القرآن إلا إذا كان ذا لسانٍ عربي مبين .. وهيهاتَ لغير العربي أن يفهم، ومن الكوارث أن يحكُم مَن لا يفهم .. والله حافظٌ لكتابِه ولغتِه مهما يأفك الأفَّاكون، سبحانه! له وحده القوة والجبروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤