الدراما الشعرية في رؤيةٍ جديدة

قدَّر الله لي أن أجلس إلى شاشة التليفزيون لأشهد برنامجًا يدَّعي أنه ثقافي، ودار فيه النقاش عن المسرح الشعري. وشَهِدتُ عجبًا، وسَمِعتُ أفكارًا وزيفًا عن الحق، وعمًى عن الإنصاف، وبُعدًا عن شرف الضمير، واستهولتُ ما أسمع وأسيتُ له؛ فمن حق أي إنسان، أديبًا كان أو كان غير أديب، أن يرى رأيه في شاعرٍ ما بالإعجاب أو الرفض، ولكن ليس من حق إنسانٍ أن يحكُم على شاعر بالوجود أو عدم الوجود .. لأنَّ هذا حقٌّ من حقوق الله وحده، فليس إذن من حق إنسانٍ ما أن يقول إن التاريخ لا يعرف شاعرًا اسمه المتنبي، أو البحتري، أو شوقي، أو عزيز أباظة؛ لأنَّ الله فوق سبع سموات قد سبق بمشيئته فكانوا.

وأمر سبحانه بسابق مشيئته، وأصبح تاريخًا أنَّ المسرح الشعري لم يظهر فيه على مدى العصور والقرون إلا شاعران هما شوقي وعزيز أباظة. لك أن ترفُض شِعر شوقي، ولك أن تُبغِض شِعر عزيز أباظة، ولكن ليس لأحدٍ في الوجود الكوني أن يُناقش هذه الحقيقة؛ فهي أصلًا غير مطروحة للمناقشة.

والشعراء الذين ظهَروا بعد ذلك كتَبوا المسرح الشعري في إطارٍ شعري لم يتأكَّد بعدُ أنه شِعر.

ومأساةٌ أن تكون الحقائق الثابتة موضوعَ مناقشة، فالألم يُمزِّق نفسي أنني أُجري القلم بهذا الذي أُجريه الآن؛ فكم هو مؤلم أن أقول إنَّ الأهرامات تقع في مصر، وإن مصر تقع في أفريقيا!

ولكن حين ينماع الإنسان ويبلُغ الحضيض في الرَّقاعة، نجد أنفسنا مضطَرين أن نقول له إن الأهرام تقوم في مصر، وإنَّ مصر تقع في أفريقيا. وقد كنتُ جديرًا ألا أكتب هذا لولا أن وافاني كتابٌ طبعَتْه مكتبة الفلَاح بالكويت للأستاذ العالم الدكتور إسماعيل الصيفي، عنوانه الدراما بين شوقي وأباظة، ولم يقُل العنوان عزيز أباظة؛ لأن المؤلِّف يعلم أنها حقيقةٌ أكبر من إي إيضاح.

إذن فالعالم العربي وغير العربي يعرف أن الأهرام في مصر معرفتَه أن مصر في أفريقيا، ولكن البرنامج الذي يدَّعي أنه ثقافي في القاهرة عاصمة مصر يجهل هذه الحقيقة، فيُسقِط اسمَ عزيز أباظة من المناقشة جميعًا، وكأنه لم يكن.

وقد هاجَم عزيز أباظة الشيوعيين وهاجمَه الشيوعيون، ولكن لم يجرؤ واحدٌ منهم في أشد عهودهم طغيانًا أن يُسقِط اسمه من المسرح الشعري؛ لأنَّهم لو فعلوا لجعلوا من أنفسهم مسوخًا تستجلب الهُزء والسخرية والضحك. ولم تكن عندهم في أعظم أوقاتهم طغيانًا الجرأة أن يجعلوا من أنفسهم هذه المسوخ. ووجد البرنامج الذي يدَّعي أنه ثقافي هذه الجرأة التي تقاصَر عنها جهدُ أجرأ أوقات الشيوعية عتوًّا، وطغيانًا، وعربدة، في زمن الحرية المنتعشة، والأمن على النفس والمال والعِرْض. وإني لأَعجَب كيف فكَّر البرنامج أن يقتل تاريخًا بأكمله في هذا الزَّمن الذي يحترم كرامةَ الإنسان وحُريتَه، حتى لا نجد في السجون معتقلًا واحدًا! كيف يعدو البرنامج هذا العَدْو على الحق، فيعتقل تاريخ المسرح الشعري كله أو نصفه؟ أليست كبيرةً هائلة تستحق أن نستهولَها ونتساءل؟ وأتركُ هذه المُسوخ، وهذا الصَّغار لأُلقيَ معكَ نظرة على هذا الكتاب الوافد إليَّ من الكويت.

تناوَل الكتاب في الفصل الأول مجنون ليلى، وعرض للحَبكة والصراع فيها، ثم الحدَث بين التصاعُد والتهاوي، وتناوَل رسم الشخصيات، ثم الحركة النفسية في هذه الشخصيات، وسرعة الصراع، وانتظام الحركة النفسية مع سرعة هذا الصراع، ثم تناوَل بعد ذلك في الفصل الثاني مسرحية قيس ولبنى، وطبَّق عليها نفس المبادئ التي تناوَل بها مجنون ليلى.

وفي الفصل الثالث تناول الكتاب فكرة التكامُل في عالم المسرحية، والمقدمة المنطقية للمسرحية. كما عرض في عمقٍ وإطالةٍ لفكرة الحَبكة المسرحية، فعرض لها عرضًا تمهيديًّا، ثم تناول التوتُّر والصراع، وأشكال الصراع وأنماطه، والحدث المتصاعد، والحدث المتهاوي، والعقدة المزدوجة، وفكرة العاكسات المتماثلة الوحدات، ثم أفرد بحثًا عن الشخصية في المسرحية وأبعادها، وفكرة البطل، وأهم ما يُراعى في الشخصيات، ثم ختم الباحث كتابه بحديثٍ يقع في حوالي عشرين صفحة عن لغة المسرح، وعن الشعر والمسرح، وتطويع الشعر العربي للحوار.

ويقول في هذا الباب فِقرةً يطيب لي أن أنقلها كما هي:

«والشاعر العربي عزيز أباظة لا يَعزِل نفسه عن التيار العالمي للأدب؛ فحين صدر عن طه حسين وعن أحمد شوقي، كلٌّ في مكانه، معارضةُ المسرحية الشعرية، أو تأييدُها، وإنجاحُ محاولاتها، لم يُنكِر أحدٌ منهما موضوعَها المُواكِب لحركة تاريخ المسرح العالمي، فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ الشاعر على هذا الوعي الشامل والمتفائل بالظاهرة التاريخية والمستقبلية للمسرح الشعري، أمكَن أن نُقرِّر في اطمئنانٍ أنَّ عزيز أباظة من ذوي الآراء الذي يكتبون عن بصيرة، وبحماسة وإيمان مستمدَّين من هذه البصيرة.» وبعدُ، فأُشهد الله أن الكاتبَ الباحثَ المتعمِّق الأستاذ الدكتور إسماعيل الصيفي كان صادقًا مع نفسه غاية الصدق، فلم يجنَح إلى حُكمٍ من الهوى، ولم يترك الإنصاف كما يراه قَيدَ أنمُلَة.

وإذا أختلف معه في شيءٍ فالاختلاف يرجع إلى طبيعة كلٍّ منا؛ فهو ناقد يقيس الأعمال الفنية والشعر بمقاييس الأصول الثابتة، وأنا رجلٌ أقف عند الشعر موقفَ المُحب الهاوي؛ فحين يُعنى الأستاذ الدكتور ببطء المسرحية عند شوقي، وثَبات المواقف لفتراتٍ طويلة لا يُسيغُها الفنُّ المسرحيُّ أقف أنا مبهورًا أمام:

جبلَ التُّوبادِ حيَّاك الحَيَا
وسقَى الله صِبانا ورعَى
كم بنَينا من حَصاهُ أربُعًا
وانثنَينا فمَحَونا الأربُعَا!
وخطَطْنا من نَقَا الرملِ فلَم
تحفظِ الريحُ ولا الرمل وعَى
وحدَونا الشمسَ في مَغربِها
وبكَرنا فسَبَقنا المَطلِعَا
لم تَزَل لَيلَى بعَيني طفلةً
لم تَزِد عن أمسِ إلا إصبعَا
قد يهونُ العُمرُ إلا ساعةً
وتهونُ الأرضُ إلا مَوضِعَا

وأنا على أتم الاستعداد أن أمكُث عمري كله أستمع إلى هذا الشعر، وخاصةً البيتَ الأخير. وما أَحبَّ إليَّ أن يقف المسرح بل تكُف الدنيا عن الدوران لأسمع المجنون وهو يقول:

مُنى النفسِ ليلى قَرِّبي فاكِ من فمِي
كما لفَّ مِنقارَيهِما غرِدانِ
نذُقْ قُبلةً لا يعرف السُّقمَ بعدَها
ولا الهَمَّ رُوحانا ولا الجسَدانِ
فكل نعيمٍ في الحياة وغبطةٍ
على شفتَينا حين تلتقيانِ
ويَخفقُ قلبانا خُفوقًا كأنما
مع القلبِ قلبٌ في الجوانحِ ثانِ
وكم قُبلةٍ يا لَيل في مَيعَة الصِّبا
وقَبلَ الهَوَى ليسَت بذاتِ مَعانِ!
أخَذْنا وأعطَيْنا إذ البَهمُ ترتَعي
وإذ نحن خَلْف البَهمِ مُستَتِرانِ
ولم نكُ ندري يومَ ذلكَ ما الهوى
ولا ما يعودُ القلبَ من خفَقانِ

حيَّا الله الدكتور إسماعيل الصيفي، وشكَر له جهده، وأتاحَ له من الوقت ما يُكمِل به بحثَه عن بقية أعمال الشاعرَين المسرحيَّين العربيَّين. إنه سميعٌ قريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤