أبياتٌ من الشِّعر

هناك أبياتٌ تكتنزُها الحافظة، وتُلقي بها إلى زوايا النسيان، لا تظهر على سطح الفِكْر، أو يُنعِشها من مَرقَدها ما نشهدُه حولنا، فإذا البيتُ أو الأبيات تقفزُ فارضةً نفسها عليك، لا تستطيع منها فِكاكًا، ولا عنها مُنصَرفًا. والبيتُ الذي يُلِحُّ عليَّ في هذه الأيام، ورُبَّما جهلتُ سبب إلحاحه، هو قول الشاعر القديم:

لا يبلُغ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يبلُغ الجاهلُ من نفسِه

ويُلِحُّ عليَّ بيتٌ آخر للخالد المتنبي:

وتكبرُ في عَين الصغيرِ صِغارُها
وتصغُر في عَين العظيمِ العظائمُ

ومرةً أخرى لا أدري سبب إلحاحه. إنما هي أبياتٌ تتقدَّم إلى الحافظة الواعية، تلبيةً لنداءٍ خفي، وكأنَّما للأبياتِ عَقلٌ وحِسٌّ وشُعور، وكأنما تُدرِك وهي في غَيابة النسيان أن صاحبها الذي أكرمها بحِفْظها في حاجة إليها، فهي تقدِّم نفسها إليه في طواعية ووفاء؛ فإنَّ للُّغة العربية وفاءً لا يعرفُه الناس في مألوف حياتهم؛ فهي تُحب من يُحبها، وتُكرِم من يُكرمها، وتكشف عن أسرارها لمن تُحس في قلبه ومشاعره خَفْقًا بجمالها، ووَجيبًا برنين ألفاظها، وموسيقى جُملها. وما الشِّعر إلا شجرةٌ من جنة اللغة الباسقة، ودَوْحةٌ من رَوْضِها المئناف الوريف.

أتكون هذه الأبيات قدَّمَت نفسها إليَّ إجابةً لما أراه حولي، أم تكون قد جاشت إلى قلمي لما أراه في العالم العربي؟ فهل كان أحدٌ يستطيع أن يُصيب أبناء العراق بمثل ما يُصيبهم به زعيمُهم الأخرق؟ أو كان أحدٌ يستطيع أن يصيب أبناء فارس المسلمين بمثل ما يُصيبهم به زعيمُهم الأخرق؟ والزعيمان كلاهما أكان أحدٌ يستطيع أن ينال منهما بمثل ما ينالان هما من نفسَيْهما؟! والأهبل الآخر في ليبيا، أكان أحدٌ يستطيع أن يُشوِّه صورتَه بمثل البشاعة التي يصنعُها هو بصورة نفسه؟ وهكذا الأمر مع الأسد الذي أعتقد أن نصيبه من اسمه ليس نصيب الأسد على أية حال، ولا حتى نصيب الأشبال. ونجهَد إذا مشينا وراء الآخرين. أليس كلهم يصدُق عليهم البيتان في صدر هذا المقال؟ لقد جنى عليهم جهلُهم بما لا يستطيع أن يَجنيَه عليهم أحد. والجهل كلمةٌ من أكثر الكلمات ثراءً في اللغة العربية؛ فهي لا تُفيد أن صاحبها لا يعرف فقط، وإنما تُفيد أنَّ صاحبها أحمقُ مُعتدٍ؛ يقول عمرو بن كلثوم:

ألا لا يَجهَلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهلِ الجاهلينَا

ويُذكِّرني ما تعانيه إيران بالبيت الأشهر:

ربَّ يومٍ بكيتُ منه فلمَّا
صِرتُ في غيرِهِ بكيتُ عليهِ

ويُذكِّرني بقصةٍ حدثَت في بيتنا حين كان قريبُنا الشاعر توفيق يبيت مع صديق أبي في حجرةٍ واحدة. وكان الصديقُ كثير الجلَبة في ليله، فطلب الشاعرُ إلى أبي أن يأمر له بمكانٍ آخر يبيت فيه، فتَمَّ له ما أراد، وإذا هو يُرسِل إلى أبي في باكر الصباح هذَين البيتَين اللذَين اشتُهرا في محيط الأُسْرة والأصدقاء، يسخَرون بهما من حامد الذي صاحَب توفيق في حُجرته الأخرى التي هَربَ إليها:

نحَّيتَ عني حُسينًا
فجاء حامد ألعَنْ
ما زال يصخبُ حتى
سمعتُ صوتَ المؤذِّنْ

وتُذكِّرني العراق، وما يُعانيه شعبها، ببيتٍ لشاعرنا عزيز أباظة على لسان شعبِ بغدادَ نفسِه في خالدته العباسة:

قطيعُكَ ذلَّ واستخزى
فأدرِك أيها الراعي

أبياتٌ من الشعر قفَز بعضها إلى عقلي قبل أن أشرع في الكتابة، وقفز بعضها الآخر إلى سن القلم وأنا أكتُب، ورحتُ أرويها لك. تُرى هل وافتني لهذه الأسباب التي جاءت في هذه الكلمة، أم لأسبابٍ أخرى، من يدري؟ ومتى عرفَت نفسَها النفس؟ هيهات .. هيهاتَ لها أن تعرف وهيهاتَ لي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤