سيدة اللغات

أيُّ حربٍ طاحنة تلقاها اللغة العربية من الشيوعيين المُلحِدين، والمُغرِضين الكافرين؟ وليست اللغة العربية هدفًا في ذاتها، وإنما يتقصَّدونها بسهامهم؛ لأنها لغة القرآن الكريم .. والحرب ليست بنتَ اليوم، ولكنها قديمةٌ قِدَم الكفر والأغراض الخبيثة. وقد خُيل إليهم أنهم نجَحُوا يوم ألغَوا جامعة الأزهر القديمة، ولم يُصبِح حفظُ القرآن شرطًا للانتساب إلى ساحة الأزهر الشريف، ولا إلى حصن دار العلوم العتيد الشامخ، وتحطَّمَت اللغة على شفاه الأساتذة، وانسحقَت على شفاه التلاميذ، وشَبَّ جيلٌ لا يعرف اللغة العربية. وزاط الأعداءُ وتهلَّلوا، وحَسِبوا أنهم نالوا ما كانوا إليه يطمحون.

وما هي إلا دورة زمن — وما أسرع ما يستدير الزمن! — حتى تبيَّنوا أنَّ اللغة على ألسنة الشباب تهشَّمَت، ولكن الدين الإسلامي يزدادُ في نفوس الشباب رسوخًا وثبوتًا وتأصيلًا.

وتطيشُ منهم السِّهامُ ويتولَّاهم الهوَس، ويتخبَّطون في حربهم كما يتخبَّط مَن به مِن الشيطان مَس.

ويعود إلى الأزهر، وتملأ ربوعَ مصر، المعاهدُ الدينية؛ تكاد تُغطِّي قُراها جميعًا، وتعود اللغة العربية إلى الشفاه. وما هي إلا دَورةُ زمنٍ أخرى نرى ملامحها منذ اليوم، حتى يستقيم اللسان العربي، كما كان مُستقيمًا. ويرى الشيوعيون المُلحِدون والمُغرِضون مرضى القلوب مطالعَ الصباح فيَهيجُ هائجُهم، ويقول قائلهم: إن اللغة العربية ما هي إلا صدًى. وتمُر أيام ولا نقرأ تعليقًا على ما قال الرجل المُهلوِس.

وأعجَب ويتملَّكُني الأسى والحزن والأسف. أهانت لغتُنا على أصحابها كل هذا الهوان؟ إن الأمم العريقة كلها تعتَز بلغتها، بشرفها، فكيف إذا كانت لغتنا هي لسان كتابنا، الكتاب السماوي الوحيد الذي بقِيَت لغتُه منذ نزل حتى اليوم، وحتى يرثَ الله الأرض ومَن عليها. ويقول سبحانه في الآية ١٠٣ من سورة النحل:

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

ويقول جل شأنه في الآيات ١٩٢، ١٩٣، ١٩٤، ١٩٥ من سورة الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

ويقول تقدَّسَت كلماتُه في الآية ٩٧ من سورة مريم: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا.

ويقول تباركَت آياته في الآية ٥٨ من سورة الدخان: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

فإذا كان اللسان العربي صدًى فما الصوت؟ وإن كان ظلًّا فما الأصل؟ ولماذا يُحاوِل هؤلاء المُغرِضون في حُمقٍ وإصرارٍ أن يكونوا قومًا لُدًّا، يصُبُّون على الدين كراهيتَهم سمًّا ناقعًا؟ أيحسبون أنه يخفى علينا ما يَسعَون إليه من مُحاولة تحطيم اللغة العربية؟ وهل يتصوَّرون أنهم سيبلُغون الأمل الذي يُصوِّره لهم جهلُهم من تحطيم الدين في نفوسنا، إذا حطَّموا لغةَ هذا الدين وصوتَه الأصيل، وصوتَ الآباء والأجداد على مدى آلاف السنين؟

لقد حاولوا أن يُهاجموا علماء الدين والمصابيح الهُداة من شيوخ العقيدة، فانهالت عليهم الأقلام، فعاجُوا طريقَهم إلى محاولةِ تحطيمِ اللغة العربية، قائلين إنها صدًى، وعجَزوا أن يقولوا لأي صوتٍ كانت لغتنا العربية هي الصدى.

أيُريدون أن يقولوا إنها صدى التراث الذي يسمُّونه رجعيةً صَلَفيةً وتَحجُّرًا؟ أولَيس لكل أمةٍ تراثُها في لغتها؟ أولَيس للفرنسيين والإنجليز والألمان والإيطاليين واليونانيين تُراثٌ لغوي؟!

أهذه اللغات جميعها أصل ولغتُنا نحن التي هي لغة كتابنا هي الصدى؟! بئس ما يدَّعون.

لماذا نُكرِمهم ويستخفُّون أمرنا؟ ولماذا نقدِّس حريتهم ولا يقدِّسون عقيدتنا؟ وهم الملحدون ونحن المؤمنون، ونحن الأصل وهم الاستثناء، ونحن الأكثرية وهم الأفراد القلَّة، أما يستَحون؟!

وكيف لهم أن يستَحُوا وهم الكافرون عقيدةً وخُلقًا وقولًا وقلمًا؟

ويتصدَّرون وسائل إعلامنا الرسمية ويُبجِّحون بهذا الكفر، وهذا التجديف، ولا يجدون من يردُّهم. وإننا نربأ بأنفسنا أن نقول من يمنعهم؛ فالحرية هي أساس ديننا الواثق من عظمة تعاليمه، يرفض في كبرياء أن يُرغِم أحدًا على الإيمان به. هكذا نزل بالحق، وهكذا دعا إليه نبيه صلى الله عليه وسلم، وهكذا سيظل إلى قيام الساعة؛ فالحرية في ديننا أصل؛ ولهذا نحترم حريتكم، ولكن عليكم أنتم أيضًا أن تحترموا حريتنا، وعليكم لو كنتم على شيءٍ ضئيل من الحياء أن تُراعوا مقدَّساتنا ولا تمسُّوا عقيدتنا بسُمِّكم الناقع.

اللغة العربية هي لغة القرآن، كتاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وهي اللغة الوحيدة بين لغات العالم اليوم التي بقي كتابُها بلسانها لم يتغيَّر فيه شيء. أليس من الطبيعي أن تكون هذه اللغة هي أعظم اللغات قاطبة؟ فأيُّ لغةٍ في العالم الذي يعيش اليوم يُقرأ بها كتابٌ إلهي إلا لغتنا نحن؟

أهذه اللغة صدًى، فما الصوت إذن؟

وبعدُ، فماذا نحن صانعون بتراثنا جميعًا من قَبل الإسلام حتى اليوم؟ وهل تُراث الأدب العربي جميعًا إلا اللغةُ العربية؟ تُرى أيريدنا الملحدون أن نُلقي بهذا التراث في البحر، ونتلقَّى عنهم لغتنا وأدبنا لغةً جديدة وأدبًا مُستحدَثًا؟

ويلٌ لهم! بماذا يَهرِفون؟

إن لم يكن للأمة تراثٌ فليس لها حاضر، ولا ينبُت جديدٌ من معدوم، ولكل فرعٍ أصول، فإذا قُطعَت الأصول قُطعَت الفروع جميعًا.

إنَّ التاريخ العربي مُرتبطٌ بالتراث الأدبي كل الارتباط. وقد كان الشعر العربي هو المؤرِّخ لكل أحداث العرب. ومن هذا الشعر العربي ومن النثر العربي تكوَّن تُراثنا جميعًا، فهل تكوَّن هذا التراثُ جميعًا صدًى؟

إننا اليوم ننزل بالبلاد العربية فإذا تحدَّثوا أمامنا بلغتِهم الدارجةِ أصبَح الكلام بالنسبة إلينا غريبًا، لا يكاد يُفهم، ولا نفهمه حرفيًّا. حتى إذا نطقوا باللسان العربي استقام حديثُهم، وفهِمنا ما يريدون.

رُبَّما كانت لغتنا الدارجة في البلاد العربية بفضل الفنون المختلفة التي تُصدَّر من مصر إلى العالم العربي، ولكن اللغة تفاهُم بين طرفَين، فإن يفهم الآخر عنا فلا بد لنا نحن أيضًا أن نفهم عنه، فإذا لم يكن التفاهم بيننا باللغة العربية التي يقول عنها الكافرون صدًى فبأي لغة يكون؟

يا أيها الذي قال هذا، لقد عدَوتَ في قولك على لغة القرآن، وعدَوتَ في قولك على لغة التُّراث، وعدَوتَ في قولك على لغة الأدب العربي الحديث؛ فلن يكون الأدبُ أدبًا إلا إذا كُتب باللسان العربي، وعدوتَ في قولك على لغة التفاهُم بين العرب أجمعين، وبعُدتَ مرةً أخرى، فأيُّ لغةٍ تختارها ليكتُب بها الأديب العربي، أو الشاعر العربي؟ إذا كتب المصري لغته الدارجة، فإن أحدًا لن يستطيع أن يفهم ما يكتب حتى أبناء مصر؛ لأنهم تعلَّموا القراءة باللغة العربية الأصيلة وليس اللغة الدارجة. وإذا كان المصري لن يفهم فما ظنُّك بأبناء العربية من الدول الأخرى؟

وإلى أين ينتهي بنا الأمر إذا كتَب كل عربي بلغته الدارجة؟ إنهم سيُصبِحون كالطيور العجماء، تقول ولا يفهم أحدٌ عنها شيئًا، بل سيكونون شرًّا مصيرًا، وأسوأَ حالًا؛ لأنَّ الطيور تفهم بعضُها عن بعض. أمَّا الإنسان العربي فلن يفهم أحدٌ عنه شيئًا حتى أبناء وطنه؛ لأنهم جميعًا تعلَّموا القراءة والكتابة باللغة العربية، لا بالدارجة، وبهذه اللغة تُكتب صُحفهم، وبها تُقرأ نشراتُ أخبارهم في الإذاعة والتليفزيون.

ما أحسب أيها الكافرون إلا أنكم تَهرِفون بما لا تفهمون، وكبُر مقتًا أن تقولوا ما لا تفهمون، فاحذروا أنفسكم؛ فهي حين تجهل يبدأ جهلُها عليكم، وتُصبِح لكم شَر عدُو.

أمَّا نحن المؤمنين فدينُنا يزداد مع الأيام قوةً ومنَعةً وانتشارًا، ولغتُنا ستظَل إلى ما بعد الزمان سيدةَ اللغات، وإن رغمَت منكم كل الأنوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤