غُربة الزمان والمكان

ما هكذا كُنا، ولا هكذا كان الزمان، ولا كانت مصر، ماذا دهانا؟ وماذا أَلمَّ بالزمان والمكان جميعًا؟ لقد عايشنا هذا الزمن واختلط ترابُ مصر بكل ذرة من كياننا البشري، فاختلَط بالقلب منا، وبالمشاعر، وبكل شهيقٍ لنا أو زفير.

ما هكذا كُنا. لم يخلُ زمنٌ من الأزمان من شِرارِ الناس وخِيارِهم، وقد بدأَت الجريمةُ من عهد قابيل وهابيل، ولكن بدأَت معها التوبة أيضًا، وعَرفَت الجريمة منذ ذلك الحين الأسفَ والندم؛ يقول سبحانه وتعالى في سورة المائدة، في الآيتَين ٣٠، ٣١: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.

ولكن الجريمة اليوم أصبحَت تتبجَّح في غير خزي، فلا هي تعرف التوبة ولا الخجل ولا الندم .. كانت الجريمةُ تتوارى في أستارِ الخفاء، فإذا هي اليوم تُسفِر عن وجهها في ضياء العلَن، وفي وقاحة الاستهتار. وكان المُجرم إن ارتكب عملًا يُنافي ما استقر المجتمع على احترامه يُخفي فعلتَه، ويواريها كما وارى قابيل سَوْءة أخيه، فإذا هو اليوم .. يفضَح ويكشف ما استَتر، ولا يُبالي أن يعرف الناس عنه ما ارتكَب.

وتشهدُ مصر صُحفًا تُقدِّم في كل يوم ولفترةٍ استطالت أسابيعَ متصلة، أحاديثَ واعترافاتٍ عن سفَّاحٍ قاتل، وكيف يقتُل ضحاياه، وكيف كان يُعذِّبهم، فلا المجرمُ السفَّاح يخجل، ولا الصحُف تعودُ إلى الرشد منها.

وتشهدُ مصرُ اللصوصَ ينهبون الأموال العامة نهبًا ضاريًا لا يستحون؛ فهم يصرخون في الناس معلنين أنهم لصوص، وأنهم خانوا الأمانة التي استأمنَتهم عليها دولتُهم، والتي سلَّمها الشعب إليهم، وأنهم ليس يَعْنيهم أن يعرف الناس جميعًا ما اختانوا وما استلبوا.

وإن صُراخَهم ليتَّصل في السرايات ذات القلاع يسكنونها، وأبناء الشعب لا يجدون حُجرة يُظِلُّهم سقفُها، وفي السيارات ذات الفُجور يركبونها، ويغدُون بها ويروحون في وضح النهار وفي مفضوح المجاهرة، وأبناء الشعب لا يجدون موضعًا لقدمٍ في وسائل المواصلات العامة، وهم يصرُخون بإثمهم بالملابس الفاخرة يرتدُونها، وبما يشترون من أدوات التسلية ذات الأسعار التي أصابها السُّعار.

لقد انقلَب هؤلاء الآدميون إلى ذئابٍ ضارية تنهش في غير رحمة، وتسرق في غير مبالاة، وتقتلع جذور الإنسانية، في وحشية لا تجرؤ عليها الوحوش وهي الوحوش. وقد تتوارى الوحوش وهي تأكل الفريسة في حين يُعلِنون هم جُرمَهم بكل وسائل الإعلان.

وإذا الزمان غيرُ الزمان، وإذا المكان غيرُ المكان.

لقد كانت الأزمان تجعل المجتمع يرفُض هؤلاء القتَلة، ويحقرُهم، ويرفضُ أن يُوسعَ لهم مكانًا أيَّ مكانٍ في القِمَّة منه أو في القاع.

كان الناسُ يرفضون أن يعرفوهم أو أن تقوم بينهم وبين هؤلاء أي صلة.

أمَّا اليوم فهم القِمَّة، وهم الصدارة، وهم بأموالهم المُنتهَبة ذؤابةُ المجتمع وَسَادتُه، لا يرفضُهم أحدٌ بما عربدوا، وبما قتلوا من ضمير، وما اجتَثُّوا من أشجار الكرامة والخلُق الرفيع. وكأنَّ المكان في مصر يضيق بهم، فتزحَف أموالهم التي سرقوها إلى رقابهم يختنقون بها، وتُصبِح عليهم وبالًا ونقمة، غابت عنها نعمة الثراء. وما المال بغير مجتمعٍ يُوقِّر صاحبَه من مكانته شيئًا مذكورًا.

أمَّا اليوم فالمكان موسَّع لهم غاية السَّعة، وهم في كل محفلٍ لهم من المكان موضع الصدارة، والناس تتصايح بأفضالهم، وتتغنَّى بأمجادهم، وتسكُب عليهم سيول المديح، والإجلالُ والإكبارُ والمفاخر والتهليل لهم — لا عليهم — يُحيط بهم، ويسبقهم في كل مكان.

ويلٌ للزمان من الزمان، وويلٌ للمكان من المكان.

أصبح الشرف غريبًا في مصرَ طريقِ الأنبياء، ومنارة الأديان، ومصباحِ الهدى، ومُلهمةِ الوحي على مدى الأزمان، وفي كل مكان. كان الكُتاب في مصر ثروتَها وغناءَها وأنشودتَها وكلمتَها. وكان الكُتاب مثلًا يقدرون حقَّ الأمانة التي يحملونها. وكان الكاتب إذا نافق أو اعوجَّ سَيْره، أو مال به الطريق، ينصرف عنه الناسُ غاضبين غضبًا قد لا يُبدونه لغيره؛ فقد خذَلهم وحطَّم الثقة التي شرَّفوه بها.

وأنظر اليوم فأرى كثيرًا من الكُتاب يقولون ما لا يفعلون، ويُبشِّرون بالطهارة وهم غارقون في العفَن، ويدَّعون الأمانة وهم يخونون أقلامهم، ويتصايحون بحب مصر وهم يطعنونها بأسلحةٍ شرسة فتَّاكة في صحفٍ لا تصدُر فيها، مُستغلِّين النفوسَ الحاقدة على مصر، مادِّين أيديَهم لأعداءٍ لا عمل لهم إلا عداوة مصر، يتربَّصون بها الدوائر، ويحلُمون بأوهام المخابيل أنهم بما يفعلون سيتمكَّنون من حُكم مصر التي هي مصر، وما بالُهم لا يحلُمون ما دام بعض الكُتاب يُبارِكون أحلامهم، ويُصوِّرنها لهم على أنها أفكارٌ معقولة مؤكَّدة التحقيق؟!

ونسمع أن فئاتٍ من المصريين يعقدون اتفاقاتٍ مع بعض المتهوِّسين من الحكام أنهم سيُمهِّدون لهم الطريق إلى زعامة مصر، ليُصبحوا بعد ذلك زعماء العالم العربي أجمع. ويُقدِّم هؤلاء الخوَنَة المصريون معسول الكلام، ويُقدِّم أولئك الحكام أموالَ شعوبهم التي فرضوا أنفسهم أوصياءَ عليها بقوة السلاح وبغير شرعية حق.

وإذا الزمان غيرُ الزمان، وإذا المكان غيرُ المكان.

ويرى الشاب هذا الهَولَ ولا يجد المثل الأعلى الذي سمع عنه، بل يرى اللص يُحيط به التمجيدُ والإجلال، والخائن تُصفِّق له الأيدي.

وتنقلب أمام الشبابِ أملِ الغد موازينُ الأمور.

والوقت عصيب، والمال يُسيطر على حياة الناس بشراسة لم يعرفها التاريخ؛ فحين يُبارك المجتمع السرقة، والخيانة، وانعدام الشرف، تُصبِح الصورة أمام الشاب مطموسة المعالم، مشوَّهة السمات؛ فالشرف الذي عَرفَه من الكتب يراه مُشوَّهًا في الحياة، وقد حلَّت مكانه كل نقيصةٍ كان المجتمع فيما مضى يزدريها ويرفضها، فكيف نريد لهذا الشاب أن يكون عمادَ المستقبل ودعامةَ الآتي من حياة مصر؟

لكل زمنٍ مفاخره ونقائصه، ولكن النقائص كانت تنزوي خجلًا وتتباعد عن النهار، وتتخفَّى في أطواء الظلام، وكانت المَفاخر شهيرةً جهيرة، واضحة المعالم، بيِّنة المعارف، يمتدحُها المجتمع، ويتغنَّى بها الشعراء والكُتاب.

ولكن زماننا هذا انقلبَت فيه المعايير، أصبح الذي يرتكب المعاصي يهتفُ بها، ويصنعها وهو جهير الصوت، فخورًا سعيدًا فرِحًا.

وأصبح الشريف يتوارى خجلًا أنه يأبى أن يسرق، ويعفُّ عن المال الحرام، ويمنع نفسه أن تقبل ما ليس لها.

نحن في زمانٍ يشربون فيه الخمر علنًا، ويقيمون فيه الصلاة سِرًّا، نحن في زمانٍ يسرقون فيه وتهتفُ لهم المظاهرات والمظاهر، ويعفُّون فيه في الخفاء، حتى لا يرميَهُم المجتمع أنهم أغبياءُ سُذَّج جهلوا الدنيا وضلُّوا طريقها الذي يؤدِّي بهم إلى الثراء والعظمة والسعادة والهناء.

إنَّ الدين الحنيف يأمر بالصلاة؛ لأنَّها تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فلا وربك لا يُرضيني التهوُّس الديني والإرهاب باسم الإسلام الحنيف، وإنما يرضى المجتمع حين يرى المعاصي تخجل، والشرف يعلو، وليس يرضى المجتمع حين يرى من يدَّعون الحفاظ على الإسلام يشهرون السلاح، ويُريدون أن يركبوا الدين مطيةً إلى عَرَض الدنيا.

فلَأَن تعفَّ نفسٌ واحدة وتسمو عن المخازي أكرمُ ألفَ مرة من أن تتكوَّن جماعاتٌ تريد أن تحكُمنا في دُنيانا باسمِ دِيننا الذي نفديه بالأرواح، وهم أبعدُ ما يكونون عن الدين وزمانهم أيضًا. الدين الإسلامي صلةٌ مباشرة بلا وساطة بين المسلم وربه، حتى ليقول سبحانه لنبيه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ فإذا كان النبي وهو النبي ليس بمسيطر، فبأي حقٍّ يريد هؤلاء أن يُسيطروا علينا، وعلى مقادير أمورنا؟ ويل للزمان من الزمان! حتى الدين وهو الدين لم تتركه النفوس الجشعة، وتُريد أن تتخذ منه، وهو الرحمة المُطلَقة، سلاحًا للعُدوان والقهر والإذلال.

غرباءُ نحن في هذا الزمان، وغرباءُ نحن في هذا المكان، ولكننا سنَصعَد وستنجلي الغُمَّة. وعَمَّا قريب ستعتدل الموازين، ويعود الشرف إلى قمَّته، ويذهب الزبَد جُفاء.

فإن ربك لا يُخلف وعدَه، وهو غالبٌ على أمره، وهو ناصر دينه وما غَرسَه هذا الدين من سُمو وعظَمة وكبرياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤