مقدمة

د. إبراهيم أبو طالب

تظل القصة القصيرة من أكثر الفنون اجتذابًا للإنسان المعاصر، سواء كان ذلك على مستوى الإبداع أو على مستوى التلقي لأنها فنُّ العصر بما يحتويه من سرعة ومفارقات وتناقضات وقضايا صغيرة وكبيرة، ولذلك يبدو أنها الأنسب للتعبير؛ فهي صوت الذات أو ما سمَّاه فرانك أُوكونور — أحد أشهر نقادها — ﺑ «الصوت المنفرد»، وهو ما يميزها عن الرواية التي هي صوت المجتمع، وهذا النوع المراوغ المدهش يلتقط جزئيات الواقع ليصنع منها وجوده وعوالمه الدقيقة العامة؛ فمن الجزء نرى الكل، ومن الذرَّة عرفنا المجرَّة، ومن اللحظة ندرك أبعادَ الزمن وامتداده، فمن الموقف والومضة التي يسجلها المبدع من شريط الحياة الكبير والمليء بمفردات متعدِّدة يأتي وجود القصة القصيرة وكينونتها وغايتها وهدفها، ولعله ليس أقدر على تسجيل ذلك من هذا الفن القصصي الحسَّاس، ومن هنا نلاحظ إقبالَ الشباب والشابات في هذا الوطن العزيز وغيره من بلداننا العربية على هذا النوع واهتمامهم به، ملتحقين بأسلافهم في غواية القصة، وكثيرًا ما يطالعنا العديد من الإصدارات والمجموعات القصصية التي يغلب على بعضها التمكُّن من أساليب الصنعة بروح الموهبة وعمق الرؤية وصدقها، كما يغلب على بعضها الآخر المحاولة إلى الوصول والتمكُّن، ولا شكَّ أنها بالإصرار والتجويد ستصل، ولكن اللافت للمتابع والمهتم هو هذا الإقبال على القصة القصيرة والاهتمام بها.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذا النوع الأدبي يخطو بخطًى ثابتة ويصر على منافسة صديقه اللدود التقليدي في المجتمع العربي واليمني على وجه الخصوص ونعني به الشِّعر، وقد حقَّق منافسة وصعودًا واضحًا على المستوى الكمي في اتساع المدوَّنة والوجود، وعلى المستوى الكيفي في تطوير المضمون والتشكيل، ولا يزال الطريق طويلًا أمام كتَّابنا للوصول بهذا الفن وغيره إلى مداراتٍ أبعد، وآفاقٍ أوسع متجاوزين حدودَ النوع بتجديدٍ وتجريب مُطَّلِع على كل نتاج هذا الفن عربيًّا وعالميًّا قديمًا وحديثًا، مدركين أن ثمة مدارسَ نقديةً ومقارباتٍ غدتْ تدرِّس التشكيلَ — كفنٍ للون والضوء — في الشعر، وتتلمس المعمار في القصة، وتستنطق الفنونَ الجميلة في تخطيط المدن. إذن لم تَعُد الحدود فاصلة مانعة، ولكن للموهبة الحقيقية وللمهارة في تشكيل الحَرف وتطويعه أُفُقها الخاص الذي لا بد أن تؤازره الثقافة العالية والقراءة المتمكنة الواسعة مع الديمومة والصبر لأنهما مدار النجاح وغاية الخلود.

هذه مجموعة قصصية لأديب قادم من عالم الصيدلة كانت قد استهوته المقامة فكتب بها (مقامات العريقي) وفيها روح العصر ولغته وهمومه وقضاياه الاجتماعية والسياسية والفكرية واليومية، وإن كانت مقاماته قد استعارت بُرْدَةَ السَّجع التراثية كتقليدٍ ثابتٍ موروثٍ لهذا الفن، ولعلَّ هذا الاقتران بين المقامة والقصة — عند هذا الأديب — هو التطور الذي رآه بعض نقادنا العرب المعاصرين أصلًا موروثًا لتطور القصة القصيرة لدى العرب والعبور بها إلى القصة الحديثة، وعندهم أن المقامة هي النوع الأدبي العربي الذي يُعدُّ تأصيلًا لفن القصة القصيرة، ونحن لن نخوض في الأمر؛ إثباتًا أو نفيًا، ولكن شاهدنا في الأمر جاء من قبيل الربط وذكر الشيء بالشيء حيث تُعدُّ هذه المجموعة القصصية لكاتبها هي النقلة الثانية له مباشرةً من المقامة إلى القصة القصيرة.

بين يدي القارئ في هذه المجموعة عددٌ من القصص استطاع فيها د. أحمد قاسم العريقي أن ينجح في التقاط اللحظة القصصية والفكرة المعبِّرة، في شريحة زمنية ونفسية واجتماعية دقيقة فيها هموم الإنسان المعاصر وانشغالاته بأشيائه الصغيرة واليومية وطموحاته بحياة كريمة خالية من الغش والفساد والنفاق بأنواعه الاجتماعية والفردية، كما صوَّرَ شخصياته فكانت أكثر قربًا ونبضًا في صدق معاناتها والتعبير عن واقعها كشخصية «سُعْدة» البسيطة التي تفقد بيتها وزوجها وتظل مؤمنة بقداسة الولي وشعوذته، ومثلها شخصية الحلَّاق الثرثار الذي يستجيب لوهمه وتصوراته في زبونه الصامت، وحين يجرحه بموسه يعتذر وينهار أمام مَن خلقه بتصوُّره مسئولًا مهمًّا، يذكرنا بقصة «موت موظف» لأنطوان تشيخوف أبي القصة الروسية وأحدِ عباقرة القصة القصيرة في العالم، إننا نتلمَّس روحًا شفافة وموهبة مجتهدة في صاحب هذه المجموعة تبشِّر بقاصٍّ قادمٍ إن واصل السيرَ في درب القصة القصيرة الطويل.

كلية التربية – أرحب، جامعة صنعاء
٧ / ١ / ٢٠١٢م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥