غلطة

– افتحْ يا ماجد، معك المرحوم مصطفى.

فتح الباب: أهلًا وسهلًا … قال ماجد وهما متجهان نحو الديوان للجلوس: هكذا أنت دائمًا تمزح يا مصطفى وتسخر من هذه الحياة.

– لا، لا … أنا لا أمزح هذه المرَّة يا صديقي، فعلًا لقد جاءك صديقك المرحوم مُقدَّمًا.

ضحِك ماجد كثيرًا: ماذا تقول؟! لم أسمع بهذه الجُملة، «المرحوم مُقدَّمًا».

– لقد عرفت اليومَ يا ماجد، أنني مُصابٌ بمرض خطير، لا شفاء منه، وليس له دواء إلى الآن.

سأله ماجد مُندهشًا: ماذا تقول؟ هل أصبتَ باﻟ…؟

– نعم، تفضل هذه هي النتيجة.

قرأها ماجد، ثم جحظت عيناه: والله إنها مُصيبة فعلًا. قام يذرع الديوان ذهابًا وإيابًا، وكأنه هو المُصاب، يُفكِّر كيف يساعد مصطفى، كيف … كيف؟ ما العمل؟ والله إن هذه الدنيا … هَمْ: يا صديقي، لديَّ لك نصيحة! أولًا، لا تقُل إنك مُصاب بهذا اﻟ… ولا حتى لزوجتك، فأنت تعرف مجتمعنا لا يرحم، وإن كنت بريئًا. يمكن أن يكون هناك حلٌّ لهذه المشكلة، آه … إنها قضية صعبة فعلًا، لكن لا تخف يا عزيزي، كُلنا لها.

قال مصطفى وهو يكتم دمعتين في عينيه: أنا لستُ خائفًا على نفسي، بل على أُسرتي من بعدي.

انهمرت منه دمعتان، ثم قال ماجد: اعمل ما أقول لك، والباقي على الله، أما أطفالك فأنا مسئول عنهم أمام الله، وهذا عهدٌ مني.

بكى مصطفى بغزارة، وساد المكان الصمت ودَّعه ماجد وهو لا يدري ماذا يقول له!

وصل مصطفى إلى بيته مُنكِّسًا رأسه، كأنه يمشي إلى الدار الآخرة، يحمل في قلبه أطنانًا من الحزن والحسرة على أولاده من بعده.

سألته زوجته: لماذا أنت حزينٌ هذه الليلة على غير عادتك؟!

أجاب وهو يشيح بنظره عنها: لا، أنا لستُ حزينًا، وتظاهر بعكس ذلك.

تمدَّد على السرير وهو يفكر: «يجب ألَّا تُصاب زوجتي بهذا المرض، حتى تهتم بالأولاد وترعاهم من بعدي.»

لم ينم تلك الليلة حتى الصباح، ولم يذهب إلى الوظيفة. بقي مع أطفاله يداعبهم ويحضنهم كثيرًا.

قالت زوجته: هكذا أنت قبل السفر تداعب أطفالك، إلى أين أنت مسافر هذه المرة؟!

ردَّ مازحًا: إلى الآخرة يا حبيبتي … إلى الآخرة.

قالت ضاحكة: سأرسل معك رسالةً إلى أبي، يرحمه الله. ضحكوا جميعًا إلَّا هو ظل صامتًا.

تقدَّم في طلب إجازة من عمله، حتى لا يُصاب بعدوى من أي مرض؛ فمناعته الآن تقلُّ تدريجيًّا حسب علمه.

نام بعيدًا عن فراش الزوجية وبدأت النزاعات في البيت. قالت زوجته في إحدى الليالي: مَن هذه التي شَغلتكم عنَّا؟! لا تناموا ولا تأكلوا، والله إنه الحب يا مصطفى … نسيتنا، دائمًا تفكِّر فيها هذه بنت اﻟ… هذه … هذه … متى سوف تسافران لقضاء شهر العسل؟

صاح مصطفى: يا امرأة أنا لا أحب غيرك، ولا مسافر، فقط أنا متعبٌ قليلًا.

بدأ يشعر بالتعب وانعدام الشهية وانخفض وزنه ولازمَ الفراش. كان يُحدِّث نفسه: «يا إلهي! قربت نهايتي و…» سادته الكآبة وعاش في عالم آخر، أحيانًا يرى الموتى ويسمعهم يتحدثون إليه، يستعجلونه، وعاش الموت وهو على قيد الحياة.

كتب وصيته، أوصى زوجته بأطفاله ثم أحد إخوانه. سألته زوجته وقد بدا عليها الحزن: لقد شحب لونك ونقص وزنك، لماذا لا تذهب إلى الطبيب؟! لماذا؟

أجاب: لقد ذهبت يا حبيبتي، ولا فائدة منهم هؤلاء الأطباء … وما الشفاء إلَّا من عند الله.

بقي في فراشه ينتظر الموت، وزوجته لا تدري ماذا تفعل في هذا الأمر.

خارت قوى مصطفى، ونُقل إلى المستشفى.

تعجَّب الطبيب: أين كان يعيش هذا المريض؟! إنه يُعاني من سوء التغذية.

عُملت له كل الفحوصات الطبية، فتبيَّن أنه خالٍ من مرض اﻟ… لم يصدِّق مصطفى الفحص، فأعاده مرةً أخرى في نفس الساعة … أيضًا خالٍ من اﻟ…ز.

فرِح وقام من فراش المرض كالفارس يعدو وخلفه زوجته، تتبعه وهي تقول: زاده المرض جنونًا، يا الله سترك … دخل المختبر الذي أظهر في فحصه السابق، أنه مصاب بمرض الإيدز.

وجد طبيب المختبر وتنازع معه، كان يقول لمصطفى: أقسم لك يا أخي غلطة، والله غلطة … لم تكن نتيجة الفحص هذه لك بل لمريض آخر، سامحني.

وقفت زوجته بينهما؛ لتفض النزاع وهي تقول: لقد جُن حبيبي جُن، يا الله سترك … وإذا بمصطفى يصفع الطبيب صفعة طراااااخ … أسقطته أرضًا.

قيل له لماذا صفعته؟ فقال لهم: والله غلطة، كنت أريد أصفع زوجتي لتدخُّلها، فصفعته هو، اعذروني.

٩ / ٢٠٠٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥