القلب الأبيض

عاد أحمد بعد شهر من سفره بهدايا ثمينة، لم يكن يُحْضِر مثلها في السابق، فرِحت زوجته فاطمة كثيرًا بما أحضر لها، وقالت وهي تقيس الفُستان الذي أحضره: آه، لو تسافر كلَّ شهر يا عزيزي لتحضر مثل هذه الهدايا، لقد تغيَّرت يا أحمد؛ لكن لو كان هذا الفستان أوسعَ قليلًا …

اقترب أحمد منها، حاول أن يساعدها في لبسه: نعم، إنه ضيِّق قليلًا، لكنها هي التي اختارته لكِ، ألم يكن ذوقها جميلًا؟

– ماذا تقصد بهي اختارته؟!

ارتبك قليلًا، حكَّ مُؤخرة رأسه: أنا قلت هي اختارته؟!

– نعم قُلتَ.

– نعم، نعم … يا حبيبتي، البائعة التي باعتني الفُستان.

تعرَّق جبينه قليلًا وصمت … ثم قالت وهي تبتسم: وهذه العطور يا حبيبي مَن اختارها؟ إنها رائعة، طبعًا هي، أقصد بائعة العطور.

عضَّ شفته وهو يشيح ببصره عن عينيها.

قالت فاطمة ببسمةٍ ساخرة وهي ترتدي الحذاء: وهذا الحذاء الجميل، لا تلبسه إلَّا الفتيات، وهذه الفساتين لا تُناسب عمري، هي التي كانت معك اختارته أيضًا؟

– ماذا تقصدين يا زوجتي العزيزة؟ أين ذهب تفكيرك! يا عزيزتي، النساء هناك هُنَّ مَن يعملن في بيع الملابس.

– إنني آسفه يا عزيزي، أعرفك صادقًا وقلبك أبيض «والذي في قلبك على لسانك»، ولا تقدِر أن تخفي عنِّي شيئًا، أعرف هذا منذ خمس وعشرين سنة؛ لكن لا أدري لماذا ينقبض قلبي حينما تقول: هي، هي …

زفر أحمد زفرةً خفيَّة، ثم قال: كيف تشكِّين بزوجك المُخلص، أنا لم أنظر يومًا ما إلى سواك.

ردَّت: سامحني يا عزيزي واغفر لي؛ فنحن النساء نشكُّ حتى إذا أتى الزوج مُعطَّرًا من خارج منزله، أو اهتمَّ بمظهره على غير عادته.

استلقيا على الفراش يداعبها، وبعد أن شربا من كأس الحُب، قال أحمد: يا سلام يا نسيم، ما أجملَ هذه الليلة المُقمرة.

انتفضت فاطمة كالملدوغة من أفعى سامة، ماذا قُلت؟ نسيم، نسيم، مَن هي نسيم، لا أحد سواي هنا!

– ماذا قلتُ أنا؟!

– قُلتَ نسيم.

– لا، لا، لم أقل ذلك، لم أقل نسيم، أقصد ‎… أقصد الهواء، الجو، نعم … ألا ترين هذه الليلة؟ ما أجملها! انظري كيف تبدو السماء صافية، وهذا النسيم العليل … ثم قال وهو يفتح النافذة ويمسح جبينه وهو ينضح عرقًا: كان النسيم هناك أيضًا مثل هذا بالضبط، نعم مثل هذا حتى إنها كانت … وغاص في بحر الصمت.

– ماذا تقول يا أحمد؟! مرَّة تقول نسيم، ومرَّة تقول كانت! أذهبتَ إلى بيوت الهوى هناك هذه المرَّة؟!

– أعوذ بالله! ماذا تقولين؟ أنا رجل مُتديِّن أؤدي فروضي، أخاف ربي، لا، لا … لا تفكري بهذه الطريقة، وإلَّا غضبتُ منكِ، هذا يكفي، دعيني أنام، أنا مُتعب من السفر … ثم غاص في الفراش.

تناول أحمد فطوره مع أولاده، وألحَّ عليه أولاده أن يحدِّثهم عن سفره، فقال لهم وهو يسرحُ بخياله: كانت يا أولادي أجملَ رحلة من رحلاتي، ركِبت أنا وخالتكم المركب …

فقاطعته إحدى بناته قائلة: مَن هي خالتنا يا بابا؟!

قال: أنا قلت خالتكم! لا، لم أقل ذلك.

قال الجميع: نعم قلت يا بابا.

ضحِك هه، هه، هه: إنكم مثل أمكم تتوهمون، أريد أن أقول: كنت أتخايلكم لو ترافقونني في النيل، إنه يا أولادي كالبحر. يا سلام يا أولادي سوف آخذكم يومًا جميعًا مع أمكم في نُزهة إلى هناك شهرًا كاملًا، كما أخذتها هي؛ فأنا رجل عادل، وأحب أمَّكم كثيرًا، ألا ترون ذلك؟ ولن أتخلَّى عنها أبدًا.

أسرع الابن الأصغر فرِحًا إلى المطبخ، وأمُّه تقطِّع البصل وقال لها مبتهجًا: ماما، ماما … سيأخذنا أبي شهرًا كاملًا إلى النيل كما أخذ خالتي.

التفتت نحوه وسألْتهُ: وماذا قال أيضًا؟

قال: إنه رجل عادل، ويحبك يا ماما، ولن يتخلَّى عنكِ.

خرجت فاطمة من المطبخ والشرُّ يتطاير من عينيها، مختلطًا بالدموع والسكين ما زالت بيدها، وسألت أحمد: مَن هذه التي كانت معك في سفرك يا أحمد؟ أتزوجتَ وأخذتَها لتقضيا شهر العسل، وأنا هنا بين البصل؟ والله، والله لو فعلتها يا أحمد لأقطعنَّها بهذه السكين؛ إذا هي دخلت هذا البيت، ثم انفجرت باكية.

قام إليها كي يهدئها: مَن قال إنني تزوجتُ؟ أنا لم أتزوج واتَّجه نحو ابنه: ماذا قلتَ لها يا شقي؟ لقد أبكيت أمَّك.

سمِع الجيران بكاء فاطمة، فأتت بعض النساء مُسرعةً إليها وهي تندب باكيةً وتقول: قلبه أبيض كالحليبْ، لكن سَلبْهُ حبيبْ … قالت إحداهن لأحمد: أنتم الرجال هكذا، عندما نكبر تطلقون علينا الرصاص كالخيل المُسنِّ، لا فيكم رحمة ولا شفقة.

قال أحمد: لا يا عمَّه، إنها أساءت فهمي، لم أعمل شيئًا يُغضبها، ولم أتزوَّج عليها كما تفكِّر، لا نسيم ولا غيرها، فأنا قضيت شهرًا كاملًا هناك لمصلحة العمل، ولم أجد وقتًا للتنزُّه، حتى إنَّ زوجتي الثا… لطم جبينه، ماذا قُلتُ لك … أنا يا خالة؟ لم أتزوج زوجةً أخرى قط، فأنا أحب زوجتي الأولى و… و… ثم صمت وخرج من البيت؛ ليدع النساء، اللاتي حضرن لتعزية فاطمة في مُصابها الجلل …

٨ / ٢٠١٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥