اللدغ من الجُحْر كلَّ يوم
في إحدى جولاته تلك، اقترب منه صبيَّان في العاشرة من عمريهما تقريبًا، سألاه أن يعطيَ لهما عشرة ريالات وألحَّا عليه. اقترب أحدهما نحوه يُقبِّل ركبته، والآخر يحاول أن يُقبِّل يده.
وجد صالح عشرة ريالات في جيبه، وأعطاهما، وابتعدا عنه وهما يتغامزان ويرقصان. حدَّث نفسَه صالح: مساكين هؤلاء المتشردون، ورثى لحالهم ولعن الفقر.
دخل البقالة واشترى خضراوات، وفواكه و… بحث عن محفظته؛ ليخرِج بعض المال منها، فلم يجدها، بحث جيدًا ثم قال: لقد سرقني الصبيَّان المتشردان.
اعتذر للبقَّال وهو يفكِّر كيف أن طفلين يخدعانه، وهو ذو خبرة في الحياة. عاد إلى البيت، وهو يضحك أحيانًا ويغضب أحيانًا، يقول لنفسه: يموت الإنسان، وهو يتعلم من الحياة.
في اليوم الثاني صباحًا، قرَّر أن يمرَّ في نفس المكان ليقبض عليهما، رآهما يلعبان واتجه نحوهما، وحين رآه الصبيان، انقضَّ أحدهم على الآخر كالصقر الكاسر، يركله ويضربه والآخر يستغيث، والدم ينزف من فمه: آه، آه، آه أي، أي … أسرع صالح ليفُضَّ الشجار بينهما ونهرهما، وهو يقول: توقَّفا عن الشجار، لماذا تضربه يا ولد لماذا؟ توقَّف، توقَّف … ردَّ الولد بغضب: لقد أخذ مني عشرين ريالًا ولم يردَّها إليَّ.
كان المضروب يبكي والدم ينزف من فمه: أرجوك يا جَدُّ، أنقذني منه، أنا لم آخذ منه شيئًا، إنه كاذب، كاذب … فانقضَّ الولد الآخر عليه مرةً أخرى، والتفَّ الصبيان حول صالح عدة مرات، والمضروب يتشبَّث بصالح ويحتمي به، والآخر يحاول مهاجمتَه.
صاحَ صالح: توقَّفا، خذِ العشرين ريالًا التي تتنازعان عليها.
توقَّف الولدان عن العراك، وذهب كُلٌّ في طريقه. همس لنفسه صالح: لا حول ولا قوة إلا بالله، جئت كي أُؤدبهما وإذا بي أدفع لهما، ورثى لهما مرةً أخرى، وقال: لله درُّ مَن قال «لو كان الفقر رجلًا لقتلته». مشى قليلًا، تحسَّس جيوبه، فعرف أنه سُرق مرةً أخرى، عضَّ شفته بصمتٍ وقرَّر أن يمرَّ مرَّة أخرى، ليقبض عليهما، وحدَّث نفسه: غدًا سأجدهما.
مرَّ في موعده صباحًا، كان يشك بأن يجدهما، مشى قليلًا، وفجأةً رآهما، فأراد أن يلحق بهما، فهربا منه وهما يقولان له: سنسرقك مرةً ثالثة ورابعة و…
فقال لهم، وهو يلهث من الجري خلفهما: سأعود بطن أمي لو خدعتماني مرَّة أخرى، وأقسم بذلك، ولن أُلدغ من جُحْر ثلاث مرَّات أيها الشقيان.
ضحِكا وقالا: سنرى.
ذهب صالح إلى السوق وهو يتحسَّس جيوبه ويحميها. اشترى بعض مستلزمات البيت وبقي بعض المال في جيبه. عبر إلى خارج السوق المزدحم، وهو يحدِّث نفسه: طفلان يخدعانني، يسخران مني، آه، آه.
وصل إلى بيته، وضع قميصه في دولابه، سألته زوجته: لماذا لم تشترِ البُن؟
ردَّ عليها: لقد نسيت، لكن بقيت لديَّ ألفا ريال في جيبي، خُذيهما واشتري البُن.
تحسَّست الزوجة الجيوبَ، فلم تجِد شيئًا، فقالت له: ليس في جيوبك شيء!
اضطرب صالح، بَحَثَ في جيوبه جيدًا، فلم يجد المال، مَسَك رأسه بيديه يندب عجزه.
قالت زوجته: يفديك المال يا رجُل.
ردَّ قائلًا: أنا لا أبكي المال، بل كيف سأعود بطن أمي مرَّة أخرى؛ فقد أقسمت بذلك. ثم روى لها قصته مع الصبيين.
ضحِكت الزوجة، وقالت: ولماذا تقسم؛ فنحن نلدغ من الجُحْر كلَّ يوم.