الفصل الثاني والأربعون

نفس فنية

قعدت ذات مرة مصادفة، وأنا على الباخرة في عرض البحر المتوسط، إلى جانب سيدة كانت مسافرة إلى إنجلترا قادمة من أستراليا، وتحدثنا كثيرًا عن السياسة، ولكنها لم تكن تفهم السياسة على أنها التنظيم في العلاقات بين الدول، وإنما هي تلك المجموعة العصرية من الإصلاحات الاجتماعية التي أحالت بعض الحكومات في أوروبا إلى جمعيات خيرية، فالسياسة هي منح طقوم الأسنان والسماعات للدرد والصم، وهي المعالجة بالمجان، وهي منح هذه المعاشات للعميان إذا بلغوا الأربعين، وهي منح الإعانات السخية للحامل قبل وضعها وبعد الوضع بشهر، وهي التعليم في المدارس الثانوية بالمجان، وهي بناء المنازل بمئات الألوف … إلخ.

وكانت تقارن بين تأخر أستراليا وتقدم بريطانيا في هذه الإصلاحات، ثم بعد ذلك أفاضت في مدح الإنجليز وذم الأستراليين، ثم فاجأتني بسؤال: هل عندكم زهور؟

فلما أجبت بنعم، شرعت تسأل وتستوضح عن كل زهرة تنبتها بلادنا، وذكرت لها نحو عشرين زهرة بأسمائها الإنجليزية، واستوقفتني كثيرًا وأنا أصف لها زهرة الأفيون، وزهرة الفتنة، فإنها لم ترهما من قبل.

ثم تحدثت إليَّ عن الورد، وذكرت لي بيتًا لإحدى الشاعرات الأمريكيات تقول فيه: «الوردة هي الوردة هي الوردة هي الوردة».

وذكرت لها بعض الأبيات الفلسفية من رباعيات الخيام عن الورد.

وأخيرًا ذكرت لها أن عندنا أديبة فرنسية تُقيم في حلوان، وأنها مغرمة مثلها بالزهور، وتختص الورد بأكبر غرامها، وأنها تحتفل بموت الورد فتجمعه حين يذبل وتحمله إلى زاوية في الحديقة وتدفنه؛ إذ هي لا ترضى لهذه الزهرة السامية أن تُهان وتُلقى على الأرض وتدوسها الأقدام.

وأعجبتها قصة هذه السيدة، وندمت على أن عمرها الماضي قد فات دون أن تتنبه إلى هذا الواجب في رثاء الورد ودفنه … ووعدت بأن تقوم بهذا الواجب في المستقبل.

واستغرق الحديث بيننا عن الورد نحو ساعة، قمت بعدها إلى قمرتي وشرعت أتأمل هذه النفس الفنية التي تشتغل بالورد، وتتحدث عنه كما لو كان الاهتمام الأكبر في الحياة، وقلت، وكأني أعلق على حديثنا: إن هذا الاهتمام بالورد إنما هو بعض الاهتمام بالجمال، وإني لواثق أن هذه السيدة لا تستطيع أن تتناول غذاءها إلا إذا كانت طاقة الورد تزين مائدتها، ولا تستطيع أن تُؤدي عملًا إلا إذا كانت تهدف منه إلى مأرب فني، فهي تتوخى الجمال في تزيين وجهها وهندامها وفي لغتها وإيماءتها، بل في حياتها كلها.

إنها تحيا الحياة الفنية؛ أي: الحياة النافعة؛ لأن كل نافع جميل … وليس عندنا من امتحان نعرف به النافع من الضار سوى الجمال، وما ليس نافعًا ليس جميلًا، والتمييز بين الحال والنفع هو تمييز يدل على جهل، قد أورثناه هذا الجري، هذه الهرولة، وراء الاقتناء والادخار، ونحن في هذا الاقتناء والادخار لا نختلف من حشرة الجعل التي تدخر روث البهائم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤