الفصل الستون

العاهة لا تُقعد الشجاع

من النوادر التي ذكرها أدلر، السيكلوجي النمسوي، أنه عرف في الحرب الكبرى الأولى جنديين أصابت كلًّا منهما قذيفة أطاحت بذراعه، وبرئ كلاهما من الجراحة.

فلما انتهت الحرب ومضت سنوات لقيهما أدلر مصادفة، كلًّا على حدة، ولكن في وقت متقارب، فقال أحدهما عندما رآه: «إني يا دكتور عاجز عن العيش، أجر جسمي كما لو كان عبئًا؛ لأن بتر ذراعي قد حال بيني وبين أي عمل نافع، وليتني كنت مت بدلًا من أن أعيش على هذه الحال.».

وكان هذا الجندي شابًّا، ولكنه استنام إلى كارثته وارتضى العجز والاستسلام، فصار يعيش كما لو كان شيخًا هرمًا محطمًا.

وفي الأسبوع نفسه زاره ذلك الجندي الآخر الذي بترت ذراعه أيضًا عقب الإصابة في القتال، فقال له: «أنا يا دكتور في أحسن حال، فقد وجدت عملًا أرتزق منه أكثر مما كنت أرتزق بعملي قبل الحرب، حين كانت لي ذراعان، وقد تزوجت، وأنا سعيد بزوجتي وأولادي، وأكاد أتساءل لماذا خلق الله لنا ذراعين مع أن ذراعًا واحدة تكفي.».

ويقارن أدلر بين هذين الشابين، ويبرر قيمة الشجاعة في مجابهة الحياة وما تحمل من كوارث ومحن، فإن أحدنا يلقى هذه الكوارث والمحن بقلب حي جريء ووجه ضاحك ساخر من تقلبات الدنيا، وما أن يفيق من الصدمة حتى يشرع في تجديد حياته ويكافح في تفاؤل وكبرياء لا يهين ولا يتضعضع، فلا تمضي السنوات حتى يكون قد وصل إلى القمة، ونحس حين نتأمل حياته أن الصدمة قد زادته عنادًا وتشبثًا بالنجاح، في حين أن الآخر قد هان وتضعضع ونام إلى الكارثة راضيًا بها مستسلمًا وكأنه قد فرح بها؛ لأنها زودته آلامهما بالعذر الذي يتيح له النوم والكسل وتجنب المسئوليات، والرضا بأن يعوله غيره.

ويعزو أدلر هذا الفرق العظيم بين هذين الشابين إلى أن أحدهما قد تعود منذ الطفولة، في السنوات الثلاثة أو الأربع الأولى من عمره، أن يكون شجاعًا يتحدى ويتصدى، في حين تعود الآخر أن يجبن ويفر ويستكين، ويرى أدلر هنا تبعة الأمهات وضرورة تعليمهن الشجاعة لأطفالهن.

وهذا الذي يقوله أدلر حق، ولكن يجب ألا تكون تربيتنا السيئة في الطفولة عذرًا لأن نجبن ونستكين للكوارث متى تقع بنا، فإذا لم نكن قد تعودنا الشجاعة فيجب أن نشرع في تعودها، نجابه الدنيا بوجه ضاحك وقلب جريء، ونغالب الكارثة، ولا نعترف بالهزيمة، ويجب أن نذكر ذلك القائد العظيم الذي قال: «إن الجيش لن يهزم ما دام لا يعترف بالهزيمة.».

وكذلك الشاب، مهما حل به من المحن والكوارث، سيبقى منتصرًا ما دام لم يستسلم.

ومن الكلمات الذهبية التي تؤثر عن أدلر أيضًا قوله: «الشجاعة هي صحة النفس.».

ذلك أن جميع الأمراض النفسية تقريبًا تعود إلى الخوف هذا الخوف الذي ليس له ما يبرره من العوامل الخارجية، وإنما هو حال نفسية تعسة تجعل صاحبها يخاف كل شيء، فهو ينبع من الداخل، لتزعزع نفسي أو لتربية سيئة وليس لعرض من الخارج، والبرهان على ذلك أن الحادث الفادح قد يقع باثنين فيتصدى له أحدهما ويستكين الآخر فيفشل، كما رأينا في المثال الذي ذكره أدلر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤