قصة المياسة والمقداد

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الراوي لهذا الخبر الظريف؛ حدثنا محمد الهاشمي عن ابن عباس عن جعفر بن هاشم بن مضر قال: لما أراد الله تعالى أن يسكن البشير النذير السراج المنير محمد بن عبد الله في المدينة ويتَّخذها مسكنًا، شاع خبره وعلا ذكره ونمى فَخرُه، واتَّصلت أوامره ونواهيه إلى قريش وأهل مكة قاطبة، فتبادروا وتشاوروا في مكة، فرحل عن مكة مهاجرًا إلى المدينة، فلمَّا استقرَّ بها قراره وطاب بها جواره قام أبو جهل وأبو سفيان وأبو معيط وعكرمة وحنظلة ومُرَّة وخالد بن الوليد وتحالفوا مع قريش على قتله، وجعلوا الرأي بينهم على أذيَّته، فأتى إليهم أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، ما تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا له: أنت أميرنا وكبيرنا، وأمورنا بيدك فأمرنا بما تختاره. فعند ذلك قام أبو سفيان على قدميه وهو مغتاظ وقال: يا أبطال الصفا والبطحاء، اعلموا أن محمدًا قد جعل يثربَ مسكنَه، وأن العرب قد اجتمعوا عليه من كل جانب ومكان، ولا تأمنوا أن يَدهمكم بعساكره وجنوده ويملك ديارنا ويأخذ كعبتنا. قال صاحب الحديث: فلمَّا سمعوا كلامه قالوا: يا أبا سفيان، فما تأمرنا فيه؟ فقال لهم: قوموا بنا نمضي إلى صخر بن حرب. فقاموا وساروا فلما دخلوا عليه حيَّاهم وقرَّبهم، وسألوه عن أمر محمد بن عبد الله ، فأطرق رأسه ساعة يتأمَّل إلى مقالتهم، قال الشيخ البكري، وكان في بني كندة رجلٌ يُقال له جابر بن الضحَّاك الكندي، كانت له بنتٌ يُقال لها المياسة، وكانت ذات حُسن وجمال وبهاء وكمال وقَدٍّ واعتدال، بخدٍّ أسيل، وطَرْف كحيل، ورِدف ثقيل، وعُنق طويل، وقامة كأنها ميل تَرتُج ردفها وتهتزُّ من نصفها، ذكيَّة المَعاطر مُقبقَبة الخواطر، إن أقبلت قَلت وإن أدبرت فَتَنت، وقد علا ذكرُها وزاد فخرج واشتهر اسمُها بين قبائل العرب، وظهر اسمها عند ذوي الرُّتَب، فخطبها السادات والأشراف والملوك من ربيعة ومضر ومن سائر العربان وهي لا ترغب في أحد منهم، وقد آلَت على نفسها وأقسمت بذمَّة العرب وشهر رجب والرب الذي إذا طلب غَلَب؛ ما يملك عنانها إلا من يرد سنانَها في ميدان الحرب وموقف الطعن والضرب، وكانت جميلة الصورة كأنها رونق الضحى كما قال فيها الشاعر:

تَميلُ وَتَزْهو كَالقَصِبِ قوامُها
إذا أُحْضِرَ في مَذْهَباتِ الخَلائِقِ
فَما زانَ ذا الجيدُ مِنْها بِخانقٍ
ولكنَّها زانَتْ بتلكَ الخَنائِقِ

قال الراوي: فتقدَّم جماعةٌ من قريش إلى صخر بن حرب وقالوا له يا سيد العرب: اعلم أن في بني كندة سيدًا عظيمًا يُقال له جابر بن الضحاك الكندي، وله بنت ذات حسن وجمال تَسبي العقول بحسن كمالها وتسلب اللُّبَّ بحسن كلامها، لم يوجد في أحياء العرب مثلُها ولا مثلُ قدِّها وشمائلها، وقد خطبها قبائل العرب والسادات من ذوي الرتب، وقد آلت على نفسها ألا يَملك عنانَها إلا مَن يرد سنانها في ميدان الحرب وموقف الطعن والضرب، وقد عزمنا على أن نمضي إلى حي بني كندة إلى جابر بن الضحاك الكندي، وننظر إلى ابنته المياسة وحسنها وجمالها وقدِّها واعتدالها، وننظر شجاعتها؛ فَعلَّنا نقهرُها في حومة الميدان وندركُها بالضرب والطعان، فإذا فعلنا ذلك طلبنا من أبيها زواجها، فإذا أنعم علينا جعلناه لنا ناصرًا ومعينًا من قومه على محمد بن عبد الله وأنتم تعرفون أن بني كندة أبطال، فإذا تم لنا هذا الأمر بلغنا مرادنا.

فلما سمع سيدهم صخر بن حرب ما قالوا له: قال لهم تأهَّبوا المسير جميعكم إلى حضرة جابر بن الضحَّاك الكندي، ونسأله عن ابنته المياسة.

قالوا: ثم إن القوم مضوا إلى منازلهم وتأهَّبوا للمسير، وما زالوا سائرين إلى حي بني كندة، فلمَّا قربوا من الحي استقبلهم جابر بن الضحاك بأحسن استقبال، وذبح لهم الذبائح، ونحر لهم النحائر، وسَكَب لهم الخمور، فأقاموا مدة ثلاثة أيام بلياليها فلما كان اليوم الرابع أقبل جابر إلى سادات قريش وقال لهم: لماذا أتيتم؟

قال له: يا جابر، أنت تعلم أنَّا أولاد إبراهيم الخليل وسادة البطحاء وسكان زمزم والصفا، وقد جئناك راغبين ولابنتك خاطبين. فقام أبو جهل يخطبها لولده حنظلة، وخالد بن الوليد يخطبها لولده سلمان، وعمرو بن ودٍّ العامري يخطبها لولده عمار، والباقون كلٌّ منهم يخطبها لنفسه فارغب فيمن ترغب واطلب فيما تطلب، وقد أتيناك بكل ما تريد من الأموال والخيل والجمال ولك الرضاء، ثم إن أبا سفيان أنشدَ يقول:

ما في القَبائِلِ والعشائِرِ مِثْلُنا
فَمَنْ يَقومُ مَقامَنا في العَالَمِ
ولنا المَفاخِرُ والمَكارِمُ والعَطا
والعَدْوُ فينا لا تَرى مِن ظالِمِ

قال صاحب الحديث: فلما سمع جابر بن الضحاك كلامهم هذا أطرقَ رأسَه ساعةً إلى الأرض وقال لهم: يا سادات قريش، اعلموا أنه ما بَقيَ من العرب أحد إلا وقَدِم علينا وطلب ما طلبتم وسأل عما سألتم، فأنا أدخل عليها وأُعرِّفُها بما جئتم به، وأنتم أبطالُ البطحاء وسكان زمزم والصفا، وإنها آلت على نفسها ألا يملكها إلا من يَقهرُها في الميدان، ويرد سنانها في موقف الضَّرب والطعان، فأنا أدخل عليها وأَسْمعُ ما تقول وأرجع إليكم. قال ثم إن جابرًا دخل على المياسة فوجدها تُجلِّي درعَها، فلمَّا رأت أباها نهضت إليه وبسطت إليه بساطًا فجلسا عليه معًا ساعة زمانية، ثم قال: يا ابنتاه، اعلمي أنه ما بقي أحد من العرب إلا وقد قَدِم علينا، وقد أقبل إلينا سادات قريش من مكَّة يطلبون الزواج، مثل أبي جهل وعكرمة وعمرو بن العامري وعبد اللات والوليد وغيرهم من الأمراء، وقد أتوكِ خاطبين وفيك راغبين، فاختاري مَن شئتِ منهم. قال فلمَّا سمعت المياسة كلام أبيها قالت: يا أبتي، وذِمَّة العربِ وشهرِ رجبٍ والربِّ الذي إذا طلب غلب، لا يَملِك عناني إلا من يرد سِناني في ميدان الحرب وموقف الطعن والضرب. ثم إنها قالت: يا أبتي، اخرُجْ إليهم وَأْمُرْهم أن يركبوا خيولَهم ويلبسوا لَأْمَة حربهم ويبرزوا لي في غدواتِ غدٍ إلى الميدان وإلى موقف الضرب والطعان، فمن كان منهم كُفؤًا كريمًا ويقهرني في حومَة الميدان كنت له أهلًا وكان لي بَعلًا، ثم أنشدت تقول:

قُلْ لِقُريش السَّادَةِ الأَنْجاب
قولًا صَحيحَ الرَّأْيِ والصَّواب
أن يَبْرُزوا للطَّعْنِ والضِّراب
ويَرْكَبوا الخَيلَ والنِّجاب

قال الراوي: فخرج جابر من عند ابنته المياسة وأَخبرَهم بما قالت من الكلام، قالوا رضينا بذلك. ثم إنهم أتوا ليلتهم إلى الصباح، فلما أصبحوا أمروا عبيدهم أن يُسرجوا خيولَهم فأَسْرَجوها، ثم إنهم أَحْضروا حقيبة السلاح وأخرجوا منها دُروعَهم فلَبسوها وسيوفَهم فتقلَّدوها ورماحَهم فاعتقلوها، ثم ركبوا متونَ خيولِهم وخرجوا إلى الميدان وأطلقوا العنان، ثم إن جابرًا خرج مع قومه وعشيرته إلى خارج الحي، وخرجت المياسة وقد أُسرِجت على جواد من سابق الخيل يُقال له الجوال، ثم إنها أفرغت عليها درعًا أو زيًّا، وتركت على رأسِها بيضة عادية مُلملمة بِحِلْية وطاسة من الحديد الصيني، وتقلَّدت بسيف هندي، واعتقلت برمحٍ خطيٍّ، ووقعت على ربوة من الأرض، وأزبدت وأرعدت وأنشدت تقول:

أَهمَّك قولُ الشَّيْنِ والعُذَّالْ
وقلتُ قولًا ليسَ بالمُحالْ
إذا قُريشٌ عايَنوا فِعَالْ
وَلَّوْا عنِ الحَرْبِ، والنِّزال

قال فلما سمع أبو سفيان شعرها ونظمها أجابها يقول:

ما في العَشائِرِ والقَبائِلِ مِثْلُنا
وأَنا الفخارُ وسائرُ الأَكْرام
ولنا الشَّجاعَةُ والبَراعَةُ والنِّدا
ولنا العِزُّ والإِجْلالُ والإِعْظام

قال صاحب الحديث: فلما سمعت المياسة شعرَه ونظامَه أَخذَتْها الحميَّة والنخوة العربيَّة وحَمَلت على القوم ونادت: أيُّها السادة، هلمُّوا إلى الميدان، فهنا يُبان فيه الشجاع من الجبان.

قال: فلم يزَلْ إليها فارسٌ بعد فارسٍ وبطل بعد بطل حتى لم يبقَ منهم أحدٌ إلا برز إليها إلى الميدان، فلم يكُن فيهم من قريش من يرد سنانها ولا يلوي عنانها، فتحيَّرَ منها الفرسان وذهلت منها الأعيان.

وكان في الحيِّ صبيٌّ صغيرُ السن يُقال له المقدادُ بن أسود الكندي، وقد كان راعيًا يرعى الخيل والجمال ويتعلَّم على ظهرِها الفروسيَّة، وكان لا يَرى من يتقاتَلُ من العربان إلا ويقِفُ عنده ويتعلَّم منهم، وينظر إليهم وإلى طَعْنهم وضربهم ويتعلَّم حِيَلهم ومكرهم وخداعهم، وكان يملأ عدلًا من الرمل وينصبه في الميدان ويطرد عليه ويحمله بالرمح ويرميه إلى ورائه فصار ليثًا كرارًا أو فارسًا مغوارًا، فنظر ذلك اليوم الأبطال والسادات والرجال وما هم فيه من الحرب والقتال، وقد لبسوا دروعهم وتقلَّدوا سيوفهم، واعتقلوا رماحَهم، ولم يرَ طارقًا يطرقهم، ولا عسكرًا يَدهمهم، أقبل على أُمِّه وقال: يا أُمَّاه، ما لي أرى القوم بأنواع السلاح؛ جاذبين السيوف مكاثرين الصفوف زاحمين الألوف؟

فقالت له أمه: اعلم يا ولدي أن قريشًا سادات مكة قد أتوا إلى عمِّك جابر بن الضحاك يخطبون ابنته المياسة، وأنها قد آلت على نفسها ألا يملكها إلا من يَقهرُها في ميدان الحرب، وقد برزت قريش إلى الميدان وخرجت المياسة لمبارزتهم، وخرج جابر وقومه يتفرَّجون عليها. فقال لها المقداد: يا أماه، قد اشتهيت أن أكون معهم حتى أُلاعب الصبيان وأُبارز الفرسان وأناظر الشجعان. فقالت له: ومن أين لك لَأْمةُ حربٍ وسنان ودرع وحصان؟

وقال: أُريد أن تروحي إلى امرأة خالي وتطلبي منها جوادًا ولَأْمة حرب، وإذا انقضى الحرب أرجعته إليها وتكون هي المشكورة على ذلك.

قال فلما سمعت أُمُّه كلامَه شتمته وعيَّرَته وقالت له: الْحَقْ بجمالك وخَلِّ ما ينفعك وأنت راعٍ، فلا يصلحُ لك أن تبرز إلى الميدان ولا طاقة لك وأنت رجل ضعيف.

فلما سمع المقداد كلامَها بكى بكاءً شديدًا وتحسَّر حسراتٍ متتابعاتٍ، وأنشد يقول:

يا أُمَّاهُ إِنَّ نَبِيَّ اللهِ مُوسَى
رَعى الأَغْنامَ — وَيْحَكِ — فاعْذِرينِي
فَلَيْسَ يَعيبُنِي رَعْيُ المَواشِي
إذا أَرْدَيْتُ في الهَيْجا قَرِينِي
أَنا المِقْدادُ، أَنا سُورُ الصَّبايا
أَرُدُّ الخَيْلَ قَهْرًا عَنْ يَمِينِي

ثم إنَّه ألحَّ عليها بالبكاء والتخضُّع والكلام والتضرُّع، فقالت: يا ولدي، كفَّ عن هذا الكلام، ولا تقُلْ لأحد؛ فإن الناس إذا سمعوا يقولون حتى المقداد طمع بالمياسة، وأنت رجل فقير لا حالَ ولا مالَ. فعند ذلك تحسَّر وأنشَدَ يقول:

figure
المقداد.
يَمْشِي الفَقيرُ وكلُّ شَيءٍ ضِدُّهُ
والنَّاسُ تُغْلِقُ دُونَهُ أَبْوابَها
وتراه ممقوتًا وليس بمذنبٍ
ويَرى العَداوَةَ، لا يَرى أَسْبابَها
حتَّى الكلابُ إذا رَأَتْهُ عابِرًا
نَبَحَتْ عَلَيْهِ وكَشَّرَتْ أَنْيابَها
وَإِذا رَأَتْ يَوْمًا غَنيًّا مُقْبِلًا
خَضَعَتْ إِلَيْهِ وَحَرَّكَتْ أَذْنابَها

قال الراوي: فلما رأته أمُّه وهو كثيرُ البكاء والنحيبِ شَتَمتْه وعيَّرتْه وقالت: يا ولدي لست ببخيلة عليكَ، فليس لكَ في الأمر حاجَة. فعند ذلك تضرَّع بين يديها وقبل رأسَها وتوسَّل بها وأنشَدَ يقول:

أَرى قَوْمي بأَنْواعِ السَّلاحِ
قِيامًا بالصِّفاحِ وبالرِّماحِ
وقد لَبِسوا ثيابًا مِن حَديدٍ
وقد ضَجُّوا وعَلُّوا بالصِّياحِ
يُريدونَ الطِّعانَ، وَلا أَرَانِي
أُطاعِنُ بَيْنَهم عِنْدَ الكِفاحِ
يَرومُونَ الوَقائِعَ في دُروعٍ
شَديد البَأْسِ في يومِ النِّطاحِ

فعند ذلك قالت له أمه: يا ابني، ما لكَ تقولُ في هذه الأشعار، ولا لك بهذا الكلام حاجة؟ فلما سمع كلامَها بكى وأنشدَ يقول:

يا أماه أراك تعيريني
وأنا أرضى بميدان قريني
أنا المقداد أنا حامي الحمايا
وبيدي صارم هندي رنيني

فعند ذلك رقَّ قلبُ أُمِّه، فقالت يا ولدي: كيف تُباشِر الحرب مع الأقران، ولا عندك معرفة بالضرب والطعان؟ فقال: يا أماه، اعلمي أن النصر من عند الله، انطلقي إلى امرأة خالي، وكان اسم خاله طراد، واطلبي لي منها لَأْمةَ حرب وجوادًا؛ حتى أسيرَ إلى الميدان وأنازل الشجعان. فعند ذلك مضت أمُّه، وكان اسمها تميمة، إلى زوجة خاله، وجدتها جالسة، فسلمت عليها بأحسن سلام وألطف كلام، فقامت إليها وحيَّتها بأحسنِ تحيَّة، وقالت: يا أم المقداد، هل لك حاجة فأقضيها لك؟ قالت: نعم، وهو أن ولدي المقداد نظر إلى السادات من قريش يلعبون في الميدان فاشتهت نفسه أن يكون بينهم، فقال لي: يا أماه، امضي إلى امرأة خالي واطلبي لي منها لأْمَة حرب وجوادًا، وإذا انقضى الحرب أرجعته إليها، وتكون صاحبة الأجر في هذا الأمر.

فلما سمعت امرأة أخيها ذلك تبسَّمت في وجهها وقالت: أبشري بالخير والكرامة. ثم أمرت جارتها بإحضار درعٍ داودي وبيضة عاديَّة ململمة مجليَّة وسيف هندي، ورمح خطي، ودرقة، وجواد عالٍ قد ورثته من أبيها، فلما تُوفِّي أبوها جَدَعت أُذُنيه وهَلبت ذنبه وقصَّت معارفه، وكان مشهورًا بالسباق فلم يكن عندها مثله، ودفعت الجميع إلى تميمة وقالت: هذا هبةٌ مني إلى المقداد. فأتت تميمة إلى ولدها مستبشرة في أشد الفرح والسرور، وسلَّمت الجميعَ إلى المقداد.

فلمَّا نظر المقداد إلى الجواد، ورآه مجدوعَ الآذان مهلوبَ الذنب مقصوصَ المعارف، أنشد يقول:

لجمعًا كنت أرضى أن يكون مطيتي
مجموعة الآذان مهلوبة الذنب
ولا كنتُ أَرْضاها لِمِثْلي مَطِيَّةً
وَلكنَّ مَنْ يمْشي سَيَرْضَى بما رَكِبْ
وإنْ كانَ هذا اليومُ هذي مَطِيَّتي
فإنَّ غدًا أَعْلو على أَحْسَنِ النُّجُبْ
عَسى الدَّهْرُ أن يَأْتي بَمَهْرٍ مُذَهَّبٍ
يكونُ جمالًا فيهِ عزٌّ لِمَنْ رَكِبْ

فلما رأى المقداد جواده بكى بكاءً شديدًا، ثم لبسَ الدرع وحط البيضة على رأْسِه وتقلَّد سيفَه واعتقل برمحه وحمل الدرقة وركب جواده وحماه بسوط فزع، فزعق فيه وجعل يطرد في ذلك الوادي حتى وصل إلى الميدان ووقف مع جُملة الفتيان والسادات والأقران، وتقدَّم إلى الصِّدام ضيِّق اللثام وأعدَّ روحه من الكرام، وكانت المياسة قد دارت عينها يمينًا وشمالًا ومارست الفرسان وعرفت الشجاع من الجبان، فعند ذلك عَزَّ على المقداد جواده وحمل حملة منكرة وأزبد وأرعد وأنشد يقول:

اليوَم تَشهَدُ مُعجِزي كلُّ الورى
اليومَ أَزْدَى مَنْ لقاني على الثَّرَى
اليومَ أُظْهِرُ في قريشٍ سَطْوَتي
حتى ينظروا فعالي مجهرا
يا مَنْ أَتَى نَحْوَ الحَبيبةِ خاطِبًا
فَارْجِع الآنَ ودع عنك المرا

قال: ثم إن المقداد أطلقَ عنان جواده، وحمل على السادات من قريش وصال على فارس فجندَله، وطعن ثانيًا فقتله، وثالثًا أخرج السنان يلمعُ من ظهره ورابعًا أرداه يخور بدمه، فما كان إلا ساعة زمانية حتى جَنْدلَهم على الثرى والناس ينظرون إليه، فمنهم من يقول هذا شيطان، ومنهم من يقول هذا غيل من الغيلان أو عفريت من الجان، ومنهم من يقول هذا ملك أو سلطان.

فلما نظرت المياسة إليه وإلى فعلته أمرت أن يُسرجوا لها جوادها، فأتوا بجواد أدهم سابق كالدرهم أو كالغراب الأسحم، رحب البان منتصب الآذان، مقبقب الحوافر واسع المناخر مهضوم الخواصر مقلم الأظافر، قليل لحم الخدين والفخذين، وهو ذو طرف عجيب، ذيله كالسهب، يلحُّ بالصهيل إذا سابق، إن طلب لم يلحق، وهو كأنه البرق والخاطف.

قال: ثم إن الماسة أسرجته وألجمته واستوت على ظهره وأطلقت عنانه، وبرزت إلى الميدان وقومت السنان، فخرج من تحتها الجواد كالريح الهبوب، كالماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب، كأنها لمعة سنان أو كالبرق الخاطف عن الأعيان.

قال الراوي: فلما برزت إلى الميدان وقابلت الفرسان، وهي كأنها عقاب كاسر أو أسد زائر نادت برفيع صوتها: أيها الفارس، من تكون من الرجال، وإلى من تنسب من الشجعان.

فلما سمع المقداد مقالها ألوى عنان جواده إليها، وكان المقداد قد كَلَّ من الطِّراد ومن مُبارزة الشجعان، فعطش من كثرة العجاج والغبار، ثم إن المقداد دنا إليها فلم يُمهلْها دون أن حمل عليها حملة منكرة، وتجاولا طويلًا واعتركا مليًّا وتطاعنا بالرمحين حتى تحطَّت، وتضاربا بالسيفين حتى تَتَلمت، وعضَّت الخيل على المراود، وارتضَتْ تحت خيولها الجلامد، وعلا بينهما الغبارُ وأظلم النهار حتى غابا عن الأبصار، وهما في كرٍّ وفرٍّ وطعن وضرب، وبُعد وقُرب وهَتْك وفَتْك وجدٍّ وهزل وازدحام، والناس يقولون: ما هذا إلا شيطان مريد، أو عفريت شديد أو ملك من الملائكة، وهم يلومون أباها ويقولون: إن ابنتك من كثرة بَغْيِها راودَها شيطانٌ من الجان. قال: ولم يزل المقداد والمياسة في كرٍّ وفرٍّ حتى جرى منهما العرقُ، وازورَّت منهما الحدق وهو لا ينظر إلى وجهها، ثم إنها قالت: أيها الفارس الكرَّار، من تكون حتى أعرفك وأعرف حسبك ونسبك؟ ما لي أراك منكَّس الرأس كأنك جبان؟ وكان المقداد لا ينظر إليها مخافة أن يَفْتَتن بحُسنها وبجمالها وتبطل حركته، ثم إن المقداد أنشأ يقول:

اصْبِرْ قليلًا أيُّها الشُّجاع
لا بدَّ ما أُلْقِيكِ وَسْطَ القاع
بأَبْيضٍ وَأَسْمرٍ قطاع
كأنَّه البرقُ مِن الشُّعاع

قال فأجابته المياسة تقول:

يا ذا الذي يَطْمعُ في وِصالي
إنِّي أنا قاتِلَةُ الرِّجال
وأُتْلِفُ النفوسَ والآجال
بِصارِمٍ يَلْمَعُ كالهِلال

قال الراوي: قالت المياسة: مَن تكونُ من الرجال، وإلى من تنسب من الأبطال؛ حتى أقول برز لي فلان وقابلني في الميدان؟ فلم يُجِبْها دون أنْ حَمَل عليها وضايَقَها ولاصَقَها، وهَمَّ أن يطعنَها فسابقته بطعنةٍ فزاغَ عنها، ثم إنه أَلْكزَها في كعبِ الرِّيح فرمى البيضة مِن على رأسها، فقالت له: أيُّها الفارس، هل لك أن تُمْهلَني حتى أشربَ الماء وأرجع إلى الميدان؟ فقال لها المقداد: أنت مُجازاةٌ بذلك. فدَعَت بشربة ماء فشربت ثم مالت تمانعه وتخادعه وتدافعه وتقول: أيَّها الفارس الكرَّار والليث المِغوار والأسد الزيَّار، هل لك في شُرب الماء حاجَة؟ ثم إنَّها كشفت البُرقُعَ عن وجهها، وقد احمرَّ وجهُها من العَرَق، فقامت تمسَحُ العرقَ عن جبينِها، وقد ينحدِرُ على جبينها كاللؤلؤ الرطب، فنظرت إلى المقداد نظرة، والتفَتَ إليها التفاتة، فوقعت عيناه عليها، فانذهلَ عقلُه واستلب فؤادُه واندهشَ واحترقَ قلبه، وانقلبت عيناه في أمِّ رأسه، وصارَ شاخِصًا باهتًا؛ لا يردُّ جوابًا، ولا يصبو إلى خطاب، فطمِعَت المياسة فيه، قالت: لا شكَّ أن هذا الغلامَ قد زالَ عقلُه وسُلِبَ فؤادُه من حُسْني وجَمالي.

قال الراوي: وبعد ساعةٍ فاقَ المقداد وصَحا من سَكْرته، وانتبه من رَقْدته، ورُدَّ عقلُه إليه، واستدرك وقال في نفسه: ويحَكَ يا مقداد، إن المياسة ما تصيد الرجال الأبطال إلا في هذه الخيلة والمكر والدلال والحمرة والجمال، وقد انذَهلَ عقلي من نظرةٍ واحدةٍ والساعة تسير في يديها أسيرًا وتسيرُ من بعد العزِّ حقيرًا، ثم إنه ألوى عنانَ الحصان إليها غير مكترِثٍ بها وصاحَ عليها وقال: ويلك، لقد وافاك ليث زيَّار وبطل مِغوار. فقالت له: مَنْ تكون من العرب، وإلى أيِّ قبيلة من ذوي الرُّتَب؟ ثم إنه أَلْوى عنانَ جوادِه إلى المياسة، وصاح صيحة عظيمة، وقال لها: ويلك، لقد أكثرتِ عليَّ المقال، فإنه الذي لا تنكر العربُ فعالَه، ولا يخفى على الأبطال مراسه، أنا الأسد مضجاج، أنا مرهج العجاج، أنا فارس الهيجاء، أنا هزبر الفلوات، أنا الفارس الكرَّار، أنا ابن عمِّك المقداد بن الأسود الكندي، قاتل الرجال ومُبيد الأبطال، ثم أنشد يقول:

إنِّي أنا المقدادُ نسْلُ الأَسْودِ
أَرى العِدا بالصَّارِمِ المُهنَّدِ
إنْ كانَ نكرانُ فِعالي في الوَغى
لَمَا عَلَوْتُ فوقَ ظَهْر الأَجْودِ

قال الراوي: فلمَّا فرغَ المقداد من شعرِه وعلمت المياسة باسمه أخذتها الحميَّة، وهزَّتها النخوة العربيَّة وقالت: يا مقداد، من أين لك هذه الشجاعة التي لم أَعْهدْها فيك؟ فقال: نحن أهلها. ثم إنها حرَّكت الجواد بأطراف الركاب، فخرج من تحتها كالريح الهبوب أو كالماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب حتى بلت المقداد وقالت له: ابرز إلى الميدان، فإن هذا اليوم آخر أيامك من الدنيا. قال: فلما سمع المقداد كلامها هزَّ جواده وانحدر إلى الميدان، ثم إنهما تجادلا طويلًا واعتركا مليًّا حتى جرى بينهما العرق، وازورَّت منهما الحدق، وامتدت نحوهما الأعناق، وشخصت نحوهما الأحداق، وأخذ الناس يلومون أباها ويقولون له: هذه بنتك من عظيم طغاوتها برز إليها شيطان من الجن واليوم يكشف حالها. ثم إن المقداد ضايقها ولاصقها وأراد أن يقتلعها من سرجها، فانقلبت تحت بطن الجواد ثم استوت على ظهر الجواد، فلما رآها المقداد طعنها بكعب الرمح فرمى البرقع عن وجهها، فنظرها وقال شعرًا:

نظرتْ مقلتي شمس ضحى
نورها قد علا الأنوار
ساطعًا لامعًا على كل الورى
يضيء بالظلام مثل النهار
طفلة غضة كعوب لعوب
ما لها في جمالها من نضار
فتأملت من نظرة إليها
طلعة الشمس وجهها باحمرار
وصباح يلوح في جنح ليل
ثم غصن يبين منه احمرار
تشبه البدر إذا نظرت إليها
طلعة الشمس بينها بأنوار
قلت شمس للضحى وحق إلهي
أضحت بالحرب شر الشرار
قيل للمياسة الكريمة منا
ما لها في جمالها من يضار
بنت عشر وأربع وثمان
ما لها في جمالها من يباري

قال فلمَّا سمعت المياسة أجابته على شعره:

يا ذا الذي يَطْمعُ في وصالي
ويرهَب الشجعان بالعوالي
سَوفَ أدعوكَ اليومَ للنِّزالِ
طعمُ الوحوشِ في مكانٍ خالي
أكرُّ في الروعِ ولا أُبالي
حتَّى تنادي؛ ما لَها وما لي
من فوقِ مُهرٍ أدهمٍ ذيَّالِ
وأصرعُ القومَ على الرِّمالِ

قال فلمَّا سمع المقداد شعرَها أجابها:

سوفَ تريْنَ اليومَ بالنِّزال
أيَّ فتًى يلتقي بالأبطالِ
أكرُّ في الروعِ ولا أُبالي
بصارمٍ يلمعُ كالهلالِ
ويصرعُ القومَ على الرمالِ
ويلتقي الأهوالَ بالمحالِ

قال الراوي: فلمَّا فرغ المقداد من شعره أجابته المياسة تقول:

اصبرْ قليلًا أيُّها الشجاعْ
لا يغلبك الخوفُ والفزاعْ
ويعتليكَ الصارمُ القطاعْ
وتنتهي من لحمِكَ السَّباعْ

ثم إن المقداد أنشأ يقول:

إنَّ جَوادي فرسٌ رباعْ
ومثلُه يُشْرى ولا يُباعْ
وفي يَميني صَارِمٌ قطاعْ
كأنَّه من لَمعةٍ شعاعْ

ثم إنَّ المقداد حمل على المياسة وتطاحنا بالرمحين وتضاربا بالسيفين فشخصت نحوهما الأبصار. فلمَّا شاهَدَتْه أنه بطل لا يُطاق وعلقم مُرُّ المذاق، تحيَّرت في أمرها وأظهرت حِيَلَها ومكرَها فلم يَعبَأْ بها، فلمَّا رأتْ أنه لم ينخدعْ بكلِّ ما أظهرته من المكرِ اضطُرَّت إلى كشف البُرقع عن وجهها وجعلت تمسح العرق، فرآها المقداد وإذا هي كأنها قالب فضة أسيلة الخدِّ قاعدة النهد معتدلة القدِّ، كحيلة العينين رَحبة الحاجبين واسعة المنكبين لطيفة القدمين، كما قال فيها الشاعر:

قد كمُلَت صورةٌ بالحُسن كاملةً
كأنَّها طبيبةُ القناص
قدٌّ وخدٌّ وثغرٌ واختضابُ يدٍ
كالوردِ والطَّلعِ والجمارِ والثلجِ
بحُسنها شوَّقت قلبي ونظَرْتُها
كغضَّةٍ ما ترى في لحظةٍ عوجٍ
ترى من مُقلتي عِللًا
حتى تَرى بقلبٍ صام مفرل

ثم إنَّ المياسة حملت عليه وصاحت عليه صيحة عظيمة، فتلقَّاها بجنان ثابت، وضربَ جوادَه بالسوط فخرج من تحته كالريح الهبوب أو كالماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب، وتجادلا طويلًا واعتركا مليًّا، ثم إنَّها بادرته بطعنة فزاغ عنها إلى تحت بطن الجواد، وهَمَّ أن يقتلعها من ظهر جوادها فلم يتمكَّن فلكزها بكعب الرمح فأرداها من على ظهر جوادها إلى الأرض، ثم أنشد يقول:

تأمَّلي فِعلي هل تريْ قطُّ مثلَه
إنِّي بيومِ الروعِ غيرُ جبانِ
وإنِّي لكرَّار على سادةِ الوَرى
قريشٍ لُيوثِ الحربِ بالجولانِ
برزْتُ إلى مياسة غيرَ عاجزٍ
لتعلمَ أني أفرسُ الفرسانِ
فجندلْتُها في الأرضِ، ثم تركتُها
وقد ألبستُها ثوبَ ذلِّ هوانِ

(قال صاحب الحديث): ثم إن المياسة قامت وهي خجلانة متغيِّرة اللونِ مكسورة القلب باكية العين وقد مضت إلى منزلها، فتبعها أبوها وقال لها: يا بنتاه، من هذا الذي جندلك من الشجعان، وفَضَحك بين الرجال والأقران، فهل هو من الإنس أو من الجان؟ قالت: يا أبتاه، زوِّجني بهذا الفارس الذي قَهَرني في حومة الميدانِ ونكَّبني بين الشجعان؛ إن كان غنيًّا رضيتُه، وإن كان فقيرًا أغنيتُه. فقال أبوها: من يكون هذا الفارس حتى أزوِّجَك به؟

فقالت المياسة: ابنُ أخيك المقداد بن الأسود الكندي، وهو الفارس المذكور والبطل المشهور، قال: فلما سمع أبوها كلامها أزبد وأرعد وقال: ويلَكِ كُفِّي عن هذا الكلام ولا تطمعي فيه أبدًا، فكيف وقد خطبوك السادات من العرب والملوك من ذوي الرتب وما رغبت في أحد منهم، فكيف ترغبين في هذا اليتيم وهو ضعيف قومك وفقير عشيرتك؟ فقالت: يا أبتاه، أنا ما أرغب بالمال الجزيل المدخول، بل بالنسب المشكور والبطل المذكور والفارس المشهور، فلا خير بالمال بلا شجاعة وإنه أمير كريم قد رأيت الشجاعة لائحةً بين عينيه، وإن هذا الفارس شغفني حبُّه وطلب قلبي قربَه، وإن لم تزوِّجْني به طوعًا وإلا تزوَّجْت به كرهًا، وتركت بيدي في يده، وسنخرج نقطع الطريق، وتخفيف السبيل على الشارد والوارد.

فعند ذلك قام من عندها وقد صعب عليه كلامها، فقال لها: يا مياسة، تريدين تركبين العار. ثم إنه خرج من عندها وأتى إلى سادات قريش واعتذر منهم ورجعوا خائبين، وأقبل جابر إلى قومه وعشيرته وبني عمه، وقال لهم بما سمع من كلام المياسة فقال له بنو عمه: اعلم أن المقداد لم يكن في العرب مثله؛ لا أفرس منه ولا أشجع ولا أكرم منه، وكان كثير المال حسن الحال، وإنما جارت عليه نوائب الزمان وأطوار الحدثان، فتضعضع حاله وقلَّ ماله وإنما هو فارس شديد، فإن كان فقيرًا فإن نعمتك تستر فقره وتجبر كسره، وحقِّ اللات والعُزَّى لقد فرحنا بذلك؛ حيث لا يملكها غريب فتضحى بين العرب وحيدًا …

وكيف ظهر لنا هذا الشجاع المناع والبطل الرواع وشاع ذكره عند كل القبائل والعربان، فأرسل إليه وزوِّجه ابنتك حيث طلبت قربه، واسمح له بالمهر، ولا تطلب منه ما لا يقدر عليه فتظلمه، منك وإليك، وحقُّه واجب عليك. فعند ذلك استدعى جابرٌ ولدَه طارقًا وقال له: يا ولدي، امضِ إلى منزل المقداد وادْعُه.

فعند ذلك مضى طارقٌ في طلب المقداد، وكان عند جابر رجلٌ من بني عمِّه من محاضر السوء (ولعن اللهُ كلَّ محضرِ سوءٍ) فقال: يا جابر، أتريد فقدَ المقداد وبعده عن المياسة؟ فقال: نعم وحقِّ اللات والعزَّى، لقد نبَّهتني إلى شيء كنت غافلًا، وما يكون بعد؟ فقال: ثقِّلْ عليه الشرطَ والمهرَ، واشرط عليه شرطًا فيمضي في طلبه. فقال: جُزيت خيرًا هذا هو الرأي، والمقدادُ لم يعلم بذلك، وأما طارق ولد جابر فإنه وصل إلى المقداد وقد نزع لَأْمَة حربه لأُمِّه ولبس جُبة من الصوف. قال: فسلَّم المقداد على الغلام، فردَّ عليه السلام، فقال له طارق: أيُّها السيد، إن أبي يقرئك السلام ويخصُّك بالتحية والإكرام ويدعوك إلى حضرته. فقال المقداد: وما يريد مني وإني أريد أن أعدل إلى إبلي وقد سرحَت وما وراءها أحدٌ وقد هجَّر النهار؟ فقال الغلام: أجب والدي وانظر ما يريد منك وارجع إلى إبلِك فلعله يكون خيرًا. فقال له المقداد: سمعًا وطاعة وحبًّا وكرامة. وسار ولم يتغيَّر ودخل على جابر بن الضحاك وعنده سادات الحي جلوس، فسلَّم على القوم سلامًا لطيفًا، فردُّوا عليه السلام ونهضوا له.

فقال المقداد: أيُّها السيد الكريم والبطل العظيم والفارس الجسيم، لخير دعوتني إليه أم لشر وقعتني عليه؟ فقال جابر: لخير دعوتك يا مقداد، فما تقول في المياسة؟ قال: ما أقول فيها وهي ابنة عمي داخلة معي في الحسب والنسب، عاقلة أدنية ذات حياء وعفَّة، طوبى لمن كانت له أهلًا وكان لها بعلًا. فقال جابر: ما تقول في مهرها؟ فقال المقداد: منك الشرط ومني الرضا وفوق الرضاء بالوفاء والتمام. فقال وكان خال المقداد طراد بن عيَّاد الكندي حاضرًا في المجلس فقال: ويلك يا مقداد أنت مجنون؟ فالتفت المقداد إلى خاله وقال: كأنك خائف على مالك، وحقِّ اللات والعزى لا أقرب شيئًا منك، وإني كفؤ كريم وفيٌّ بكلِّ ما يشترط عليَّ جابر، أركب جوادي وألبس لَأْمة حربي، وأطلب أبويَّ وأجدادي وأُرْضي جابرًا فوق الرضا، أَكيدُ الأعداء وأُفرحُ الأصدقاء.

ثم التفت المقداد إلى جابر وقال: اطلب ما شئت؟ فقال: يا مقداد أريد منك مهرَ ابنتي أربعمائة ناقة حُمرَ الوبرِ سُودَ الحدقِ لم يُحمل عليها شيء، وأربعمائة رأس خيل مجلَّلة بجلاب إبريسيم وسرجها وركابها من ذهب، ومائة جارية ومائة عبد، ومائة أوقية من المسك وخمسين أوقية من الكافور، ومائة رطل من العمود القماري، ومائة ثوب من الديباج وعليه قمطر مملوءة من ثياب مصر وعمل الشام، وألف أوقية من الذهب الأحمر، وألف أوقية من الفضة البيضاء، وثمانية فوق معلمات وثمانمائة أوقية من البنان الرومي؛ وبعد ذلك أريد منك جهازها مثل بنات العرب، وإذا أحضرت جميع ما طلبته منك تعمل وليمة عظيمة وتدعو لها أهل الحي جميعهم وتكسي صبيانهم، فهل لك طاقة فيما ذكرتُه لك؟

فقال المقداد: إنِّي وفيٌّ مَلي. فنهض خال المقداد طراد وقال له: ويلك يا ابن أختي أنت مجنون! أو معك ذخائر ادَّخرتها من غير علمنا؟ وحقِّ اللات والعزَّى والهُبل الكبير الأعلى إنَّ هذا المهر لم يقدر عليه كسرى وقيصر، فمن أين المال كله؟ فقال: يا خال، وحقِّ ما تحلف به العربان إني وفي. فقال: يا جابر، بئس ما صنعت مع ابن أختي، فلقد ضيَّعت على ابن أخيك، وأبعدته من بين يديك، وإنك أسأت بذلك. فقال المقداد: يا جابر، اعقد النكاح، وكان زواجُهم في ذلك الزمن نزعَ الخاتم من يد العم ويعطيه إلى الصهر، فعند ذلك نزع خاتمه ودفعه إلى المقداد وقال له: تشوَّف الخير يا مقداد. ثم إن المقداد أخذ العهود والمواثيق من جابر وجعل المدة ثلاثة أشهر، وقال: إن أتيتَ في هذه المدة والمال معك فالمياسة لك، وإلا فلمن أردنا زوجناها. فعند ذلك وصَّى المقداد بذلك وافترقوا على هذا الكلام. وأما ما كان من جابر فإنه قام من وقته وساعته وأفرد إلى المياسة ثلاثة بيوت، فجعل للخدم بيتًا وللدايات بيتًا. ثم إن المقداد نهض من وقته وساعته وأتى إلى منزله ولبس لَأْمة حربه وتقلَّد سيفه واعتقل رمحه وركب جواده وودَّع أمه وسار إلى بيت المياسة، وكان في بيتها من يحفظها من المقداد، فلما نظر المقداد إلى البيوت وبيت عمه تذكر ما يُصيبه من الفراق فبكى بكاءً شديدًا وأنشأ يقول:

ثلاثة أعود؛ وعود من القنا
وعود من الطرف، وعود من الإبل
ثلاثة أبيات؛ وبيت أحبتي
وبيتان لا هي من هوى ولا شكلي
ألا أيُّها البيت الذي فيه منيَّتي
فبيتك من بيتي، وأهلك من أهلي
فيا لك من دخولك ظَبية
وقربك أحلى لي من النحل

فلما سمعت المياسة شعرَ المقداد أخرجت رأسها من خلال البيت، وأجابته على شعره تقول:

لك العهدُ؛ عهد اللات منِّي لأنني
أحبُّك حبًّا خالصًا لك من صدري
خروجُك من دار من تحبُّه
خروجُك من دار الحياة إلى القبر
فإن عدْتَ عاد الدهر لي بمسرَّة
وإن تكن الأخرى فلا طال لي عمري

قال: فلما سمع المقداد شعرها أجابها يقول:

مياسة، إني وحقِّكِ عازم
على سفرٍ، إني أعودُ قريبْ
بمالٍ جزيل تبلغ النفس سؤلها
ويسعد في دهري عليَّ صعوبْ
ألم تعلمي أني إذا الحرب أَسْعرت
وثار لها يومَ الهياج لهيبْ
وألتقي الأهوالَ غير مقصِّرٍ
بأبيض ماضي الشفرتين قضيبْ
ألم تعلمي أني هُمامٌ مجرِّبٌ بها
شجاعًا لأرواح العداة صلوب
عليك سلام من محب متيم
كئيب الحشا مضني الفؤاد عريبْ

فلما سمعت المياسة شعر المقداد كشفت عن وجهها والتفتت إليه وجعلت تنشد وتقول:

عليك سلامُ الله ما ذرَّ شارق
وما قسمت من شملة وجنوب
فعُد مسرعًا تفديك روحي فإنني
وبعد عن عيني العذاب وجيبْ

(قال صاحب الحديث) ثم إن المياسة قالت: يا مقداد طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، فإني على العهد الذي بيني وبينك لا أحول ولا أخون ولا أزول، فعند ذلك ودَّعته وودَّعها وبكى وبكِيَتْ. وصار المقداد يطلب البراري والقفار ليلًا ونهارًا وعشيًّا وأبكارًا مدة عشرة أيام بلياليها ولا يصادف أحدًا من الناس، فلما كان اليوم الحادي عشر وإذا بغبرة ثائرة وعجاج متصاعد، فغمز المقداد جواده نحو تلك الغبرة فوجد ثلثمائة ناقة حمر الوبر أسود الحدق محملة من صنايع مصر وتحف الشام يقدمها ثلاثة فرسان، كأنهم العقبان ليوث عوابس وفرسان ضوارس، ومعهم العبيد والغلمان يسوقون الجمال، فلما نظر المقداد إلى قلتهم وكثرة متاعهم قال في نفسه: هؤلاء الفرسان أقتلهم وآخذ ما لهم، فطمع فيهم وصاح عليهم وقال: أيُّها العصبة القليلة والشرذمة الحقيرة، خلوا ما معكم وانجوا بأنفسكم سالمين قبل أن تحلَّ بكم المنية وأطرحكم في هذه البرية. قال: فصاح عليه واحد منهم صيحة عظيمة، تزلزلت منها الأرض والجبال، قال له: ويلك ارجع عن سادات الحرم وسكان مكة وزمزم. فلما سمع المقداد كلام الفارس: قال أهلًا ومرحبًا، فمن أي قبيلة أنتم؟ قال: نحن بنو هاشم. فقال أحدهم: أنا أبو العباس بن عبد المطلب، وهؤلاء إخوتي الحمزة وشيبة أولاد عبد المطلب، ومن تكون أنت من العرب؟ فقال: أنا المقداد بن الأسود الكندي، فامضوا بالسلام.

فقال العباس: وما حملك على هذا الأمر حتى تعرض إلى المهالك؟

فقال لهم المقداد: يا سادات العرب، اعلموا أني خرجت في طلب مهر بنت عمي المياسة بنت جابر الضحاك الكندي. فقالوا: اوصف لنا المهر. فوصفه لهم من أوله إلى آخره، فتعجبوا من ذلك وقالوا: لقد ظلمك عمُّك وبغى عليك، وما قال ذلك إلا لهلاكك، فعند ذلك قال العباس للعبد: اعزل إبلي عن إبل إخوتي، فأَفْرَدها العبدُ وكانت مائة ناقة حمر الوبر سود الحدق محملة من صنايع مصر وعمل الشام، وقال: يا مقداد خذ هذه النوق هبةً منِّي إليك، فوالله ما أملك في هذا الوقت غيرها. فقال شيبة: وأنا مثل أخي العباس. فقال الحمزة: كأنكما أكرم مني، يا مقداد خذ مني مثل ما أخذت من إخوتي. فقال المقداد: أيها السادات الكرام قد قبلتُ أنعامكم وهي عندكم بحسب الوديعة. فقالوا: ما ينبغي أن يكون لك عندنا وديعة. فقال المقداد: أنا لا بد لي من المسير إلى أرض العراق وإلى أرض كسرى، ولا بأس أن يكون لي عندكم وديعة، ثم إن المقداد انصرف عنهم وأنشأ يقول:

يا للرجال، لقد علاني فضلكم
أولاد هاشم من خيار الناس
أولادها … ما فضلِهم من لهم
وفخارهم كفؤ على الأجناس
الباذلين المالَ قبل سؤالِهم
المُطعمين الزادَ غير خساس
إني رأيتُ الشهم أكرم به
هو سيد؛ أعني به العباس
وكذا شيبة قد ضحى بماله
أكرم بمعرفته على الجلاس
وكذاك حمزة بذل جمله
جادوا عليَّ سُرًى فلست بناس
فشكرت نعيمهم عليَّ وبرَّهم
جادوا على ضعفي أجود الناس
ومضوا كما هبَّ النسيم بطيبة
متواضعًا كالمسك بالأنفاس

قال: فأجابه العباسُ على شعره يقول:

سأبذل مالي كلما جاء طالب وأجـ
ـعله وقفًا على الفرض والعرض
ولا حاجة بالمال يجمعه الفتى
ولا خير في مال إذا لم يصن العرض

فأجابه المقداد يُنشد ويقول:

لقيت الفتى العباس في سائر الأرض
فأكرم من مال أصون به العرض
وأوردني بحرًا من المال ممتلي
وهذا فعل من ليس له غرض

قال الراوي: وتتلو قصة الولهان وما جرى له مع ابن قيس بن مالك وبنت عمه الخنساء، وكيف حكم عليها الولهان في الطريق. قيل: إن قيسًا كان يشرب الخمر حتى غلب عليه الشراب، فخرج يتمشى في الطريق وخرجت وراءه بنت عمه الخنساء، فمر الولهان ورأى قيسًا على تلك الحالة فقبضه وأوثقه كتافًا، وقبض على الخنساء وأردفها خلفه وطرح قيسًا على جواده وسار طالبًا أملَه، أراد الولهان من الخنساء أن تطوِّعَه على نفسه فأبت عن ذلك. وأما ما كان من المقداد فإنه سار ثمانية أيام بلياليها في برية قفراء، وقد طابت نفسه من مهر المياسة فلما كان اليوم التاسع وإذا هو قد أشرف على عين ماء تجري وعليها شجرة عالية، فنزل عن جواده وأخرج شيئًا من متاعه من الزاد من لحم الوحش وجلس يأكل، فبينما هو كذلك وإذا بغبرة ثائرة وقتام قد أظلم منه الأفق وعجاج علا وملأ الفضاء، فعند ذلك انكشف الغبار عن فارس طويل القامة مدور الهامة مدموج الساقين عبل الذراعين، كأنه قلة من القلل أو قطعة فُصلت من جبل وهو بالحديد مُسربَل ومن خلفه زمام ناقة يقودها وهي ترص الحصا بحوافرها، عليها فارس مكتف اليدين مغلول الرجلين وفيه ثلاث ضربات مهرولات، ومن خلفه جارية كأنها البدر الزاهر، وأن الفارس الذي كان مع الجارية أخذ ينشد ويقول:

خنساء، فيقي واسمعي كلامي
لا تنقضي العهود والذمام
لأنكم من عرب كرام
ما بات جاركم يومًا مُضام

قال: فأجابها الولهان عن عروض شعره قائلًا:

أخذتها بقائم الحسام
بالذل من قيس وبالإرغام
ونلت منها كل مرامي
هي العينين في المنام
وفزت بالخنساء في الأنام
فقدموا الخمرة والمدام

فلما سمعت الخنساءُ شعرَه أجابته على شعره بقولها:

كذبت يا نسل بني اللثام
يا كلب يا ملعون يا حرامي

قال البكري: فلما سمع المقداد قولهم ونظامهم على أن لهم مثلًا يضرب الأزمان.

قال المقداد: فأخفيت نفسي عنهم تحت ظل الجبل، وصرت أنظرهم بحيث لا ينظرونني، ثم إن الولهان لم يزل سائرًا حتى أشرف على الوادي المتقدم ذكره، فنادى عبده، وكان اسمه جاحد فأجابه بالتلبية: لبيك لبيك. ائتني بفراش من الأديم، ففرش له فراشًا كما أراد. فقال له: أَحْضِر ما عندك من الطعام، فأتاه العبد بلحم مشوي وظرف من الخمر، فلم يزل يأكل من ذلك اللحم ويشرب من ذلك الخمر حتى اكتفى، فدار السكر في رأسه وأزبد وأرعد، وقام يهدر كالجمل الهائج، ثم إنه وقع على وجهه وبعد مدة أفاق من سكرته وفتح عينيه كأنهما مِشعلان، ثم نادى عبده فأجابه: لبيك. فقال: يا جاحد خذ هذا الحبل وائتني بحطب من الجبل حتى أحرق قيسًا والخنساء. فأخذ جاحد الحبل ومضى عن الولهان فأنشد يقول شعرًا:

فوالله إني قد رُمت قتله
وكسرت العظيم والجلد أهبر
وأرحتك يا خنساء من كيد شره
وناهيك بالإقبال والنهي والأمر
وبي لأرجو من إلهي وخالقي
يهيِّئ شخصًا يفك به الأسر

قال: ثم إن الولهان نهض إلى الخنساء وجعل يضربها بسوط كان بيده حتى ورم أكتافها، وأدمى بقية جسدها وغشى من الضرب وهو يقول لها: ومن يخلصك يا خنساء من يدي فلا بد أن أذيقك الهوان، ثم أنشد يقول:

ويلك يا خنساء قد كان ذلك
فجودي على من يوم رضا لك

قال: فلما سمع قيس شعره، مط أكتافه حتى كاد يقطع الحبل وتحسَّر وأنشد يقول:

علينا سَطا ريب الزمان بغدره
وألبسنا في خونكم ثوبًا من الغدر
دعاني الولهان في القيد موثقًا
كطائر درج علفته يد الصقر

قال: فأجابته الخنساء تقول:

عليك سلامُ الله يا ابن مالك
دوامًا لقد أوقعني بالمهالك
فأسأل ربي أن يردَّك سالمًا
وأروي عظامي من عظام ابن مالك

قال: فأجابها الولهان يقول:

ويلك يا خنساء رقِّي لعاشق
يزيد بكاءً بالدموع الدوافق
وجودي لصبٍّ أحرق الشوقُ قلبَه
يذيب لظاه للجبال الشواهق

قال: فلما سمع المقداد كلامهم ركب جواده واعتقل رمحه وانحدر من الجبل، وأزبد وأرعد وأجاب الولهان على شعره يقول:

يا أيها الندل اللئيم البادي
اصبر لضرب الفتى المقداد
سوف أخلبك على الوادي
تظل مطروحًا على الصعاد

(قال البكري): فلما تقرَّبا حمل كل واحد منهما على صاحبه وتجاوَلا طويلًا واعتركا مليًّا، وثار الغبار وأظلم النهار وغابا عن الأبصار، وهم في كرٍّ وفرٍّ، وطعن وضرب، وبُعدٍ وقرب، وهتكٍ وفتْك، وازدحامٍ والتحام، ثم تطاعَنا بالرمحين حتى تحطَّمت، وتضاربا بالسيفين حتى تثلَّمت، وقد كلَّت منهما الساعدان، وخدرت منهما المنكبان، وقد ظهر من عدوِّه العجز.

فلما علم أنه لا طاقة له على مقاومة المقداد، قال له: لأي شيء تقاتلني وأقاتلك ولم تكن بيني وبينك عداوة وطلب ثأر؟ فقال المقداد: أقاتلك على تعدِّيك على قيس وابنة عمه الخنساء ظلمًا وعدوانًا، أوَما علمت أن البغي يصرع صاحبه، ولو أنصفت لرأيت العطب وشاهدت العجب! فقال الولهان: إن كان تريد أن تنشر على جناح رحمتك فافعل ثلاثة أشياء، فقال المقداد: وما هي؟ قال: اختر واحدة من ثلاث؛ إما إطلاق قيس لأجلك وأنت تعرف السيد والشجاع إذا رأى ذلك، أو تأخذ جواد قيس ولأمة حربه أو تمضي بالسلامة.

قال المقداد: ما لي بذلك حاجة، بل جل غايتي هو قطع رأسك وتخميد أنفاسك، فعند ذلك اغتاظ الولهان غيظًا شديدًا، وحمل على المقداد حملة منكرة، فحمل المقداد أيضًا عليه حملة أنكر وأدهى، فطعنه في صدره طعنة شديدة أخرج السيف من ظهره فجندله صريعًا يخور بدمه وينهش الأرض بفمه.

ثم إن المقداد تقدم إلى قيس وحلَّ أكتافه وأخرج دهنًا فدهنه وخلَّص الخنساء من أسرها، فقال له قيس: مَنْ أنت أيها الفارس الذي قد مَنَّ الله علينا بك في مثل هذا المكان الخالي من السكان؟

فقال له: أنا المقداد بن الأسود الكندي. فقال قيس: والله العظيم إن معرفتنا بك أحب إلينا من الدنيا وما فيها، ولولا قدومك إلينا ما خلَّصنا أحد من يد هذا الكافر الظالم، ولكن الله يجزيك خيرًا عنَّا، فبالله عليك إلا أخبرتنا سبب خروجك من أهلك، فحدَّثَهم المقداد بحديثه من أوله إلى آخره، والشرط الذي شرطه عليه عمه، فقال قيس: أعانك الله على ما ذكرت من المهر. ثم إنهم جلسوا يتنادمون على تلك العين، هذا ما كان من حديث قيس والمقداد.

وأما ما كان من حديث عبد الولهان، فإنه لما نظر إلى سيده قتيلًا انهزم سار إلى حي بني بارق وهو ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، فلما سمعوا كلامه تنادَت الأبطال، وثار القتال، وركبوا الخيول العتاق والنجب السباق، وقالوا: يا جاحد، مَن الذي دعاك ومن بِشرِّه قد رماك؟ قال: اعلموا أن الولهان قد قُتل! فلما سمعوا كلامه قالوا له: ويلك، من قتله؟ قال لهم: قتله رجل حجازي. فعند ذلك غضبوا غضبًا شديدًا واجتمعوا في ألف فارس ليوث عوابس، وقد لبسوا الدروع الداوية والخِوَذ المجلية والسيوف الهندية، واعتقلوا الرماح الخطية ثم ركبوا الخيول العربية، يقدمهم أخو الولهان، وكانوا ثلاثة إخوة؛ الكبير اسمه الهمام، والصغير اسمه المقدام، والأوسط اسمه القمقام، وكانت العرب تُسمي همامًا الطامة الكبرى، وكان يصيد الأسود في غابها، ويُجندل الأبطال في وقعاتها. قال البكري: ولم يزالوا سائرين في طلب قيس والمقداد حتى قاربوهما، وبينما كان المقداد جالسًا مع قيس يتحدَّثان وإذا بغبرة قد طلعت عليهما ثم انكشفت الغبرة فإن من تحتها ألفَ فارس ليوثًا عوابس. قال: ولما تأملهم المقداد فنهض قائمًا على قدميه وقال: يا قيس من أي قبيلة يكون هؤلاء القوم؟ فقال قيس: هؤلاء بنو بارق قوم الولهان. فقال المقداد: طبْ نفسًا وقرَّ عينًا؛ فلو كان بنو بارق بأجمعهم وعددهم وعتادهم كفيتُك شرَّهم.

قال الراوي: فما كان غير ساعة إلا وقد أحاطوا بهم من كل جانب ومكان، فعند ذلك تقدم أخو الولهان وأنشد يقول:

ظننتم بأنا تاركين لثأرنا
وأنتم نزول الجبال الشواهق
جلبنا إليكم كل ليث مجرب
بأيديهم حد السيوف البوارق

قال الراوي: فما استتم كلامه إلا وركب المقداد جواده وطلب القوم، وإذا بوقع حوافر وراءه فالتفت فوجد قيسًا قد لحقه وهو راكب على جواد الولهان، وقال: يا مقداد أقسمت عليك بربِّ الغيث إلا ما رجعت عنهم وتركتني أشفي غليل قلبي من هؤلاء الكفرة والفجرة. فقال له: ابرز بارك الله فيك. فبرز قيس وأنشد يقول:

لقد علمت سادات بارق أنني
هزبر إذ لاقت كل مبارق
فاثبت لحاك الله بأنذل خائن
لأسقيك كأس الموت في حد بارق

قال: فأجابه أخو الولهان على شعره بقوله:

أتيناكمو نبغي لقطع رءوسكم
بطعن رماح أو بضرب بوارق
فدونكم ضربًا يشيب له وليده
ويترككم صرعى في وسط خنادق

فقال فلما فرغ من شعره حمل عليه حملة منكرة وتطاعنا، فاختلف بينهما طعنات وضربات، وكان السابق بالطعنة قيس بن مالك فطعنه في صدره أخرج السنان يلمع من ظهره فخر صريعًا يخور بدمه، وينهش الأرض بفمه، فبرز إليه الثاني وكان اسمه المقدام فقابله في الميدان وأنشد يقول:

لقد أطلت القول والكلام
أما عرفت أني من الكرام
إني أنا المقدام لا أسام
يومًا إلى الذلة ولا أضام

قال صاحب الحديث: ثم حمل كل واحد منهما على الآخر وتجاولا واعتركا مليًّا فبادره بطعنة أرداه قتيلًا. فعند ذلك برز أخوه الثالث وكان اسمه القمقام وكانت تُسميه العرب الصاعقة العظمى، فبرز قيس إلى القمقام فقابله في الميدان فعند ذلك أنشد القمقام بقوله:

دونك ضرب السيف من قمقامي
معودًا للضرب والكفاح
بصارم مصمم ذباحي
أفري به الحديد والصفاح

قال فأجابه قيس على شعره يقول:

اثبت لحاك الله للكفاح
ودونك الضرب من الصيفاح
اليوم أدعوك إلى البطاح
ثم تزيد النوح والصياح

قال الراوي: فعند ذلك تجاولا طويلًا واعتركا مليًّا، وثار بينهما الغبار، وأظلم النهار، وغابا عن الأبصار، وهما في كرٍّ وفرٍّ، وطعن وضرب، وبُعدٍ وقُرب، وفتْك وهتْك، وازدحام والتحام، فاختلف بينهما طعنات وضربات، فكان السابق بالطعنة القمقام، فزاغ عنها قيس ثم انتصب له في سرجه أسرع من البرق الخاطف وطعنه طعنة هائلة، فوقعت في نحره فخر صريعًا يخور بدمه وينهش الأرض بفمه.

فلما رأى بنو طارق ما فعل قيس بإخوة الولهان حملوا عليه حملة واحدة منكرة، فحمل قيس وغاص في أوساطهم وجعل يُنكِّس فارسًا بعد فارس؛ وبطلًا بعد بطل حتى قتل أربعمائة فارس وفرَّ الباقون بين يديه، وهو يطردهم يمينًا وشمالًا حتى انقضى النهار، ثم رجع عنهم والدم يجري على ذرعيه كأكباد الإبل، ثم إن قيسًا أتى إلى المقداد وسلَّم عليه وقال: والله العظيم، لولا أسفي على مفارقتك ما رجعتُ عنهم إلا قرب بلادهم، ولكنِّي ما شبعت من حديثك فوالله لو كنت أحبو على بطني وأزحف على ركبتي ما يقدر الولهان عليَّ، ولكنه قد اغتالني وأنا نائم بمرقدي. فقال المقداد: لقد بان فضلك وجودك يا قيس، فبقي المقداد مع قيس في ذلك الوادي ثلاثة أيام.

فلما كان اليوم الرابع سمع بنو قيس ما جرى على قيس من الولهان، فركبوا عشرة آلاف فارس وصاروا طالبين معينًا، فلما قربوا منهم قال المقداد يا قيس: من يكونون هؤلاء؟ قال: قومي وبنو عمي. ثم نهض قيس إلى ملاقاتهم فلما التقوا معهم فرحوا بخلاصه. قال قيس: يا قومي ما ركَّب هذا الرأس على هذا الجسد إلا هذا الفارس المعتمد، ثم إن قيسًا أنشد يقول:

ألا يا بني عمي وجمع عشيرتي
فإن قيسًا من نتاج الأماجد
فلولا الفتى المقداد ما كنت سالمًا
ولست أجزيه بطول المحامد

قال الراوي: ثم إن قيسًا قال: يا بني عمي، إن خلاصي وسلامتي على المقداد، فمن أعزَّه أعزَّني ومن أكرمه أكرمني. ثم إن قيسًا سار هو والمقداد معه وبنو عمه حافِّين به والمقداد يمينًا وشمالًا إلى أن أتوا إلى منازل الديار، فلما وصلوا إلى الحي نزل قيس في بيته وفرش الفراش والمطارح والمساند، وأمر له بكرسي من السَّاج المرصَّع بالدر والجواهر، فجلس المقداد عليه واستدعى لنفسه كرسيًّا من الحديد الصيني وجلس عليه ونادى قيس: ويلكم أيها الأعمام وأكرموا المقداد بالعطايا. ثم إن قيسًا نادى عبده وقال: ائتني بمائة رأس من الخيل العتاق ومائة ناقة محملة من صنايع مصر وتحف الشام ومائة جارية ومائة أوقية من العود القماري، وألف أوقية من الذهب الأحمر وألف أوقية من الفضة البيضاء. وأحضر بنو عمه من الأموال شيئًا كبيرًا وأتحفوه بالخيل والجمال. ثم إن قيسًا قال: يا مقداد: خذ هذا المال ولكن ما هو إلا دون قدرِك. فقام المقداد وأخذ يدَ قيس وقال له: الله يُخلِفُ عليك ويجزيك بالخير.

ثم إن المقداد أقامَ عند قيس بالضيافة عشرة أيام، ولما كان اليوم الحادي عشر أتى المقداد إلى قيس وقال: أعطني رعاة يرعون الخيل والجمال، وجعل المال في صناديق، وقال لقيس: يا أخي يكون عندك هذا المال وديعة، وأنا لا بد من المسير إلى كسرى وأرض العراق. فقال له قيس: يا مقداد أنا أسير إلى حي بني كندة وآخذ المياسة قهرًا وأسلِّمها ليدك. فقال المقداد: الله يخلف عليك يا أخي؛ ما يحتاج إلى هذا كله ولا تصلح لي معاداة الرجال ومعاندة الأبطال، وأنا لا بد لي من المسير إلى العراق وإلى الملك كسرى. فقال قيس: أنا أسير معك ولا أفارقك خطوة واحدة. ثم إن قيسًا ركب مع المقداد ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع ترجَّل المقداد عن جواده وقال: يا أخي أقسمت عليك بربِّ الأرباب ومسبب الأسباب إلا ما رجعتَ إلى مكانك وإلى مُكثك وإلى بني عمك. فعند ذلك ودَّع قيسٌ المقدادَ ورجع إلى أهله.

وأما المقداد فإنه ركب جواده وصار طالبًا الملك كسرى وأرض العراق، قال البكري: ثم إن المقداد سار طالبًا العراق بثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أشرف على أرض معطشة لو سلك فيها أسد لهلك، قال: ثم إن المقداد قد عضه العطش والجوع، فبينما هو سائر وإذا قد أشرف على بئر ماء وغزلان تمرح في فلاة معتدلة ففرح بوجود الماء، وإذا هو بهاتف من الجن يسمع صوته ولا يرى شخصه وهو ينشد ويقول:

أيها الوارد أرض الجان
ليس يسير بها من إنسان
إلا زعيق الجن والغيلان
ارجع لحاك الله من إنسان

قال فأجابه المقداد على شعره يقول:

أيها الناطق باللسان
اسمع هداك الله يا ذا الجان
ارحم لقلب واله عطشان
وما شرب الماء من يومان

فأجابه الهاتف على شعره يقول:

أيها الوارد أرضًا بلقع
ارجع فما لك من مائنا مطمع
قبل أن يأتيك جِنِّيٌّ أروع
يرميك منه بشهاب يلمع

قال فأجابه المقداد على شعره يقول:

أيُّها الجنِّيُّ فما لي مرجع
ارحم القلب ظاميًا مُتوجِّع
واسقني الماء غزيرًا مُترع
واعمل معي الإحسان يا مستمع

قال فعند ذلك قال له العفريت: ارجع ويلك بالخيبة، ولا تذُق الماء من هذا البئر، ونحن قد حرَّمناه على كلِّ إنسيٍّ من بني آدم. فقال له المقداد: وحقِّ معبودي لا بد لي من الورود من هذه البئر، ولو كنتم بعدد الرمال لأفنيكم بهذا الحسام. ثم إن المقداد نفر وزفر وشجع نفسه وأنشد يقول:

وحقِّ رب البيت ذي الأيادي
لا بد لي الورود من ذا الوادي
وأروي فؤادي ظاميًا وصادي
وأنصرف عنك بلا عنادي

قال الراوي: فرَقَّ له قلب العفريت وقال له: انزل واشرب، فما رأيت أقوى من قلبك. فنزل المقداد عن جواده واقتحم البئر وشرب حتى اكتفى هو وجواده، وسار يجد السير ليلًا ونهارًا حتى أتعب نفسه، قال: ولم يزل المقداد سائرًا حتى أشرف على أرض القادسية وهي من أعمال كسرى.

فلما نظر المقداد إلى تلك الأرض المخصبة والوديان نزل عن جواده وأخذ من التراب ووضعه على رأسه وقال: من التراب خلقنا وإليه نعود. ثم إن المقداد قام يقطع الطريق ويخيف السبيل على الشارد والوارد، فأقام أيامًا وإذا بقافلة محملة من متاع مصر وتحف الشام وخلفها ثلاثمائة فارس.

فلما نظر المقداد شدَّ على جواده وتلقَّاهم كما يتلقَّى الصديق لصديقه، هانت عليه روحه وعلم أن الأجل الذي ضربه عليه عمه قرب ولم يملك شيئًا، فصاح بهم صيحة عظيمة ودبت منها الجمال، وقال لهم: أيتها الشرذمة القليلة والعصبة الحقيرة، خلوا ما معكم وانجوا بأنفسكم سالمين قبل أن تحلَّ بكم المنية وأطرحكم في هذه البرية. فصاح عليه فارس منهم وحمل على المقداد وحمل المقداد عليه وتلقاه بقلب أقوى من الصخر وأجرى من البحر، وغاص في أوساطهم وخرج من أعراضهم وجعل يرمي فارسًا وبطلًا بعد بطل حتى قتل أبطالهم وما وصلت إليه طعنة ولا ضربة، وقد قُتِل منهم فارس وانهزم الباقون من بين يديه كالأنعام الجافلة، فأخذ الجمال وما عليها من الأحمال، وحكم فيها رعاة يرعونها، ثم رحل من ذلك المكان حتى اتصل بنواحي المدائن.

فأقام يقطع على الشارد والوارد وما بقي أخذ يذهب ويجيء وقد قطع طريق القوافل.

قال: فوصل خبره إلى الملك كسرى، فدعا أبطال عسكره وأمرهم أن يركبوا في مائة فارس ليوث عوابس، وقال لهم: ائتوني بهذا الأعرابي أسيرًا ذليلًا ولكم عندي أوفر العطاء. فعند ذلك ركب الفرسان خيولهم مُجدِّين السير حتى وصلوا إلى المقداد.

فلما نظر إليهم ركب جواده والتقى بهم وصاح عليهم صيحة عظيمة تزلزلت منها الجبال وقال لهم: قفوا مكانكم. ثم حمل عليهم وغاص في أوساطهم وجعل ينكس فارسًا بعد فارس حتى قتل منهم ثمانين فارسًا، وانهزموا من بين يديه ودخلوا على الملك كسرى وهم في أنحس حال وأسوأ بال، ينادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، فقال لهم: ما وراءكم؟ قالوا: وراءنا ليث كرار وفارس مغوار، وقد قتَل أبطالنا وأباد رجالنا، ولو لم ننهزم من بين يديه وإلا كان قد قتلنا عن آخرنا.

فلما سمع الملك كسرى منهم هذا الكلام عظُم عليه وكبُر لديه، ثم إنه دعا بأربعمائة فارس ليوث عوابس، قال لهم: دونكم هذا الأعرابي قطِّعوه بأشفار الصفاح، وبضِّعوه بأطراف الرماح، فعند ذلك ركبوا خيولهم واعتدُّوا بعدتهم وساروا طالبين المقداد.

فلما وصلوا وجدوه يصطاد فصاحوا عليه وقالوا: من يخلِّصُك من أيدينا يا أخسَّ العرب، وأذلَّ مَن نصب في البداء الطنب، فوَحقِّ النار والنور ما بَقِيت تعيش أكثر من هذه الساعة.

فلما سمع المقداد كلامهم ألوى عنان جواده نحوهم وغاص في أوساطهم وطلع من أعراضهم، فما كان كحَلْبة ناقة حتى قتل منهم مائتين وسبعين فارسًا وانهزم الباقون ودخلوا على الملك كسرى بأذلِّ حال، وأخبروه بما فعل بهم وما شهدوه من شجاعته وفروسته، فغضب الملك كسرى غضبًا شديدًا، وأمر أن يركب ألف فارس من الشجعان الموصوفة والأبطال المعروفة، قال فخرج القوم والأبطال طالبين المقداد، فلما وصلوا إليه نظر إليهم وركب جواده وجعل يلعب بقنانه وهو يهدر عليهم كما يهدر الجمل الهائج، وكان الملك كسرى قد قال لأصحابه أريد منكم أن تأتوني بهذا الأعرابي سالمًا. فعند ذلك حمل المقداد عليهم حملة منكرة وغاص في أوساطهم وأكثر فيهم الضرب والطعن حتى قتل منهم خمسمائة فارس وانهزم الباقون من بين يديه كالأنعام الجافلة وولوا شاردين عن الأعقاب، فلما نظر إليهم وهم على تلك الحالة حَنَّ وأنشد يقول:

ألا فأخبروا مياسة ما فعلته
بفوارس كسرى كالليوث العوابس
تركتهم صرعى بأرض مخيفة
وأضرمت نارًا في قلوب الفوارس
لعلي أُرضي جابرًا ما يريده
وأرجع إلى مياسة بالنفائس

قال البكري: وأما ما كان من أصحاب كسرى فإنهم لما رجعوا إلى كسرى مكسورين بأخس حال، وأخبروه بما شاهدوه من المقداد، فعند ذلك غضب الملك غضبًا شديدًا وناله أمر عظيم وقال: ويلكم، تبًّا لكم فارس واحد يقهركم وأنتم ألف فارس. ثم التفت إلى وزيره وقال له: ما تشير علينا بهذا الأمر؟ فقال الوزير: الواجب عليك أن ترسل له منديل الأمان وخاتم السلامة وتحضره بين يديك وتسأله عن مقاصده، وإن هذا الأعرابي ما رمى نفسه بهذا الخطر العظيم إلا لأمر جسيم. فعند ذلك قال الملك كسرى: ما لهذا الأمر غيرك. فقال الوزير: سمعًا وطاعة لله ولك يا ملك الزمان. فعند ذلك أخذ الوزير خاتم الأمان ومنديل السلامة ومضى إلى المقداد. وكان الوزير فصيح اللسان قويَّ الجنان حسن المنظر لطيف المحضر، فسار وأخذ معه من العسكر مقدار خمسمائة فارس ولم يزالوا سائرين مع الوزير حتى وصلوا إلى المقداد، فلما رأى ذلك المقداد عرف أنه الوزير وقد أقبل مع موكبه وقد نشر رايته وحفَّت به الفرسان ركب جواده، واعتقل رمحه وتقلَّد سيفه والتقى بهم وهَمَّ أن يحمل، فناداه الوزير: مهلًا يا فارس الزمان، فإني رسول الملك كسرى إليك، وقد عرف أنك شجاع شديد وبطل صنديد، أحب أن تحضر بين يديه ويسألك عن جميع ما تختار وعن سبب ما جئت به، وهذا الخاتم وهو خاتم الأمان من جميع ما تحذر من طوارق الزمان، وهذا المنديل خذه أيضًا يقيك شر العدوان. قال: فعند ذلك ترجَّل المقداد من على جواده وسلَّم على الوزير وقبَّلَ الأرض وقال:

أيا خيرَ مأمولٍ لدفع ملمَّة
ويا كاشف الهمِّ الفظيع من الصدر
أراد أبوها أن يفرِّق بيننا
فأشرط شرطًا يترك المرء بالقهر

فلما سمع الوزير شعره وعذوبة منطقه أحبَّه وخلع عليه خلعة سلة من الحرير الفاخر وأعطاه عمامة مُذهبة، ودفع إليه خاتم الأمان والمنديل، ثم إن المقداد أخذ الخاتم وتركه في خنصره وكان فيه فضة يعادل خراج مصر والعراق سبع سنين، وشدد وسطه بالمنديل، وسار مع الوزير فوصل الخبر إلى الملك كسرى بقدوم المقداد فأمر غلمانه أن يفرشوا الفراش من جانب الديوان إلى حضرة الملك كسرى، كان طولُه مدَّ البصر، وأمر بعض خدامه وقال: اكمُن في المكان الفلاني، فإن رأيت هذا البدوي ينزل من باب الإيوان عن جواده اقبله، فلما وصل المقداد إلى باب الإيوان نظر إلى الفراش الثمينة مفروشة، علم أنها مكيدة مدبرة عليه، فلم ينزل عن جواده بل ساق جواده إلى بين يدي الملك.

قال فلما وصل المقداد إليه ترجَّل عن ظهر جواده وسلم سلامًا لطيفًا، فلما نظره الملك كسرى تحقَّق عنده أنه فارس شديد وبطل صنديد فحيَّاه وقرَّبه وأدناه وقال: اطلب ما تريد؟ فعند ذلك أنشد هذه الأبيات:

أيُّها الملك المتوَّج باليها
والمرتجى لعظائم الأسباب
إني أتيتُك من بلادي قاصدًا
وإليك يا موصوف سُقت ركابي
مولاي جئتك من بلادي راجيًا
منك العطا، فانعم عليَّ ولا أطيل خطابي

(قال صاحب الحديث): فلما فرغ المقداد من شعره قال له الملك: أحسنت فيما نظمت، والله ما قصرت فيما مدحت. ثم إن الملك أمر له بعشرة آلاف دينار من الذهب الأحمر وقال له: يا مقداد، ما حملك على هذا الأمر كلِّه حتى تقطع الطريق، وتخيف السبيل وتُعرِّض نفسك للهلاك؟ فحدثه بحديثه من أوله إلى آخره، والشرط الذي شرطه عليه عمُّه وما جرى له مع المياسة.

قال فلما سمع الملك كلامه طيَّب خاطره وأوعده، ثم قال له: يا مقداد إذا أسلمتُك هذا المال كلَّه ولاقَكَ في طريقك ألفُ فارس وطمعوا في المال وأخذوه منك فكيف تُخلِّص المال منهم؟ فقال المقداد: يا ملك الزمان أطعنهم بالرمح طعنًا وأجزرهم بالسيف جزرًا وآخذ أموالهم. فقال الملك كسرى: يا مقداد إني أحب الشجاعة، وأريد أن أبرز لك ألف فارس لأرى كيف تعمل معهم؟ فقال المقداد: حبًّا وكرامة، فأريد أن تحضر لي من فرسانك المشهورين ألف فارس ليوثًا عوابس. ثم إن الملك أمر أن يحشروا بين يديه عشرة آلاف فارس موصوفين بالشجاعة واليراعة، فحضروا بين يديه فانتخب منهم ألف فارس وكلٌّ منهم بالحديد غاطس، وليوث عوابس وأمرهم أن يركبوا الخيول العربية، وكانوا لابسين الدروع متقلِّدين السيوف الهندية ومعتقلين الرماح الخطية.

فلما لبسوا لَأْمَة حربهم برزوا إلى الميدان وموقف الضرب والطعان، وبرز المقداد إليهم وعرف أنهم غير كفؤ له، فتقدم إلى الملك وقال: يا ملك الزمان فإني لا أبرز لهؤلاء القوم إلا بشرط. فقال كسرى: وما الشرط أيها الفارس؟ قال: إن قتلوني لهم جميع ما وهبتني، وإن قتلتهم فلي جميع سلاحهم وخيلهم وأموالهم. قال فرضي الملك كسرى بذلك الشرط فتبادر إليه الرجال وبرزت نحوه من كلِّ جانب ومكان، ثم إن كسرى خرَّج من أرباب دولته وجميع عسكره يتفرَّجون عليهم، وينظرون كيف يعمل معهم المقداد.

قال: فلما نظر المقداد إلى القوم عوَّل على قتلهم، قال: يا ملك الزمان أخاف إذا قتلتهم تغضب عليَّ ويظل خاطرك، وقبيحٌ على مِثلي أن أقاتل عسكرك وقد أنعمت عليَّ نعمة تامة تامة. فقال الملك: وما نفعل؟ قال: يا ملك الزمان أحبُّ أن تأمرهم أن يلبسوا فوق دروعهم ثيابًا بيضاء، وتأمر لي بطشت فيه خلوق من الزعفران. قال فعند ذلك أمر الملك بإحضار طشت وزعفران فلما حضروه قلع المقداد الحربة من رمحه وركَّب في موضعها خرقة بيضاء وغطسها في ذلك الخلوق والزعفران، قال: ثم ركب جواده وحمل على القوم حملة منكرة وغاص في أوساطهم وخرج من أعراضهم، فما كان إلا ساعة حتى إنه علَّم الجميع علامتين ولم يُصبْه منهم طعنة ولا ضربة، فبقي منهم فارس واحد فنَجا، ولا ساعة زمانية، فلما رأى المقداد هذه الحالة رمى الخرقة وركب فيها السنان، فلما رأى ذلك الفارس فعل المقداد قال: يا مقداد، علِّمني مثل ما علمت أصحابي فها أنا بين يديك. فعلَّمه المقدام كما علم أصحابه، وأتى المقداد إلى عند الملك وقبَّل الأرض بين يديه، قال: فلمَّا رأى كسرى عسكره معلمين فقال له: يا مقداد دونك القوم فلا حاجة فيهم. قال: فخلع المقداد الخرقة وركب السنان وحمل على القوم وجعل يطعن فارسًا بعد فارس وبطلًا بعد بطل، فعند ذلك استغاث القوم بالوزير فقال للمقداد: ارفع سيفك والسنان عنهم. فقبل المقداد ووقف بين يدي الملك وأنشد يقول:

انظر لعظم مهابتي وجراءتي
ليثًا كمينًا فارسًا وثاب
فلئن عفوت فأنت أكرم من عفا
وأَجلُّ قومٍ باذلٌ وهاب

قال فلما سمع الملك شعره التفت إلى الوزير وقال: أعطِ للمقداد ما طلب منه عمه جابر بن الضحاك لابنته المياسة. قال فأعطاه من الذهب والفضة والجواهر والحلي والخيل والجمال أضعافًا مضاعفة ولا يحصيها إلا الله تعالى سبحانه وتعالى.

قال الراوي: فلما أعطاه الوزير المال كله، وقال للمقداد: أنا حاضر لك ما تطلب وتريد. قال المقداد للوزير: جزيت خيرًا. ثم إن المقداد ودَّع الوزير وهَمَّ بالرواح إلى أهله، فدخل على الملك كسرى بعض الوزراء وكان محضر سوء (لعن الله كل محضر سوء)، وكان الملك قد ذهب عقله من شدة الغضب على أصحابه، قال: فلما سكن غضبه وثاب إليه عقله قال الوزير: يا ملك الزمان، أترضى أن تتحدث عنا الملوك في مراتبها والعربان في مواكبها والرجال في محافلها والنساء في منازلها، ويقولون رجل بدوي ليس له قدر ولا قيمة قد دخل إلى بلاد الملك كسرى وقتل شجعانه وجندل فرسانه ولم يقدروا عليه وأخذ أموالنا والغنائم وانصرف سالمًا غانمًا. قال الراوي: فعند ذلك قال الملك كسرى للوزير: فما تصنع به وقد امتحنَّاه بكل محنة وخلص نفسه منها؟

فقال الوزير: يا ملك الزمان، إن في البستان أسدًا وأنت مربيه على لحوم بني آدم، فأرسله إلى الأسد فيفترسه وتخلص من شره. فقال الملك كسرى: إن كان يقتل الأسد؟ قال: أنت مربيه وكلما تغضب على أحد ترميه له فيفترسه ولا بد أن يقتله. وكان الأسد مسلسلًا بالسلاسل والحديد وكان ذلك الأسد عند الملك كسرى يعدل نصف دولته، ثم قال الملك للوزير: وإن كان المقداد يقتل الأسد؟ فقال الوزير: لا يهولنك أحواله في حومة الميدان، فإنه لا يقدر على الأسد فإن كان المقداد يقتل الأسد اقتلني عوضه.

قال: فعند ذلك أمر الملك كسرى بعض غلمانه وقال: ائتني بالمقداد. فأسرع الغلام إلى المقداد وقال له: الملك يدعوك إلى حضرته. فقال: حبًّا وكرامة. ثم إن المقداد سار صحبة الغلام حتى دخل على الملك.

فلما حضر بين يديه سلم على الملك وعلى الوزراء فرد عليه السلام، قال المقداد: يا ملك الزمان لخير دعوتني فأتلقَّاه أو لشرٍّ فأتوقَّاه؟

قال الملك: لخير دعوناك يا مقداد، اعلم أن لي بستانًا وفيها أسد عظيم وقد استكلب على لحوم بني آدم، وليس عندنا هنا من يقتله ولا يقدر عليه أحد وأريد منك أن تقتله وتكفي الناس شره، وبعد أن تقتله أُجزل لك العطاء. فعند ذلك قال المقداد: يا ملك الزمان وأين الأسد؟ قال: فعند ذلك أمر الملك بأن يدلَّه عليه غلام من غلمانه وقال له: امضِ قدَّام المقداد. فمضوا إلى أن وصلوا إلى البستان فقال الغلام: يا مولاي، إن الأسد في هذا البستان. فعند ذلك أخذ المقداد سيفه بيمينه والدرع بشماله، ودخل البستان فضرب الباب فانفتح من غير مفتاح وإذا هو بالأسد واقف عند الباب.

فلما نظر الأسد إلى المقداد وكان أسدًا غشومًا مشومًا، وقد فتح فكَّه كالقلب وكشَّر أنيابه كالكلاب أو كأنها معاول من حديد، فلما دنا المقداد منه وزمجر وأوعد وأنشأ يقول:

غشومًا دافع الكف زائرا
يمرِّغ يديه بيدي زماجرا
ويضرب بذنبه الخواصر تارة
وتارة يكفيه مد الأظافر

قال: ثم إن المقداد رمى جميع ما عليه من الثياب حتى ما بقي عليه غير السروال وثوب عتيق، فجمع أذياله وشدَّ بعضها ببعض وشمَّر ذراعه وجذب سيفه وحمل على الأسد، فلما نظر الأسد إلى المقداد وهو مقبل عليه صاح وندب وضرب ذنبه على خواصره وتمطَّى حتى صار مثل ما كان مرتين، ثم إنه جمع نفسه ووثب على المقداد وثبة عظيمة، قال: فوثب المقداد عليه وتلقاه بقلب أقوى من الصخر وأجرى من البحر، وكان الأسد رافعًا كفَّه ويحجل على ثلاثة أرجل وهوى على المقداد فتلقَّاه المقداد بدرقته وضربه بالسيف بين عينيه، فطلع السيف من بين فخذيه فقسمه نصفين وذكر المياسة وأنشأ يقول:

شهدت لي ليوث كندة أنني
أسد بالحروب أظهر شررًا
أقهر الأسود منذ نشأت صغيرًا
وكبيرًا أجندل الفرسان قهرًا
إنني أخوض المنايا سريعًا
وأبيد الأسود بالسيف قسرًا

قال صاحب الحديث: ثم إن المقداد اجتزر رأس الأسد وأخذه بيده وسار حتى وقف بين يدي الملك كسرى ورمى برأس الأسد قدامه قال الراوي: فلما رأى الملك رأس الأسد اغتاظ غيظًا شديدًا على الوزير وقال: يا مقداد دونك الوزير، فإنه هو الذي كان يُغريني عليك ويُريد أن يقتلك. قال: فعند ذلك نظر المقداد إلى الوزير شزرًا ورمقه حذرًا وأنشد يقول:

حديث يا وزير ما له فائدة
يدل على أنك من طينة فاسدة
إن كانت هذه طينتك دائمًا
فما في حياتك من فائدة

قال: ثم إن المقداد قال للوزير: بماذا تفدي نفسك؟ قال: بمائة وستين ألف دينار ذهب أحمر. قال: هاتها سريعًا. فأتى الوزير بالمال وسلمه إلى المقداد فأخذه المقداد وعفا عن الوزير لكرامته وقبَّل يدَي الملك كسرى، قال: ثم إن الملك كسرى دعا بالخلع فأحضروها بين يديه فخلع على المقداد وأعطاه كما طلب وقال: يا مقداد هل لك حاجة نقضيها لك؟ قال المقداد: نعم أيها الملك العظيم، أنا أريد منك هذا التاج الذي على رأسك ألبسه في بلادي وأفتخر به على سادتي وعشيرتي.

فلما سمع الملك كلامه رفع التاج من على رأسه، ووضعه على رأس المقداد وكان التاج مرصعًا بالدر والجوهر، وكان يعادل خراج العراق سبع سنين، ثم إن المقداد مدح الملك كسرى وأنشد يقول:

لقد نلت من كسرى مرامي كلها
وبلغت ما أرجوه بالعز والنصر
فلا زال كسرى بالأمان مؤيدًا
بالعز والإقبال والنهي والأمر
كما أعطاني المال والخير كله
وعمره لا يُعطى المالُ بالغدر

ثم إن المقداد قضى مراده من بلاد كسرى، وسار يطلب أهله وجعل يجد السير ليلًا ونهارًا. هذا ما كان من أمر المقداد، وأما ما كان من مالك بن الرباح وأخيه شدقم، فإنه لما أبطأ المقداد على جابر وزال الميعاد بينهما، فأنفذ مالك بن الرباح أخاه شدقم وأرسل مائة فارس إلى جابر يخطب منه ابنته المياسة، وظنُّوا أن المقداد قد مات وندبت عليه النوادب وقالوا: قد مات المقداد، وكان شدقم قد أتى بجميع ما طلب جابر من المقداد من المال وغيره، ولما وصل شدقم إلى الحي وسمع جابر فتلقاهم وحياهم وأكرمهم وأخذ المال وأضافهم. قال شدقم: يا جابر نريد المسير إلى أهلنا. فدخل جابر إلى ابنته وأخبرها بالخبر، وقال: قد بعث مالكٌ أخاه بجميع الشروط التي شرطتها على المقداد وأكثر وهو يخطبك مني، والمقداد قد مات وهذا مثله فماذا تأمرين؟ فقالت: الأمر أمرك. فقال: إني مزوجك به فتأهبي. فلما أراد شدقم الذهاب أمَرها أن تركب في هودج وتسير معهم فركبت وركب العسكر وخرجوا سائرين يريدون أهلهم، فلما وصلوا في بعض الطريق صادفهم المقداد وسلم عليهم. فقال المقداد: أيها الفارس، من تكون صاحبة الهودج؟ فقال الفارس: هذه المياسة بنت جابر. فلما سمع المقداد التهبت نيرانه وكثرت أحزانه وأنشد، ثم نزل عن جواده ولبس درعه وتقلد سيفه واعتقل رمحه وأنشد يقول:

غدروا وخانوا واستحلُّوا حرمتي
سأُبيدهم بالصارم البتار
وأبيدهم أيضًا بضرب مهنَّد
ويبين عند لقائهم أسراري
حتى يولوا ويحلوا حرمتي
وأروح فرحًا غاديًا ببشار

قال الراوي: فدنا المقداد من القوم وصاح عليهم وقال: خلوا ما معكم وانجوا بأنفسكم سالمين، فإن مع صاحبة الهودج ثأرًا ودينًا. فقالوا: ويلك الثأر يؤخذ من النساء أم من الرجال ارجع عنها فإن دونها ضرب السيوف وطعن الرماح وأنت رجل واحد. فلما سمع المقداد كلامهم حمل عليهم وضرب فارسًا فأرداه قتيلًا والآخر فقتله والثالث فجندله، ولم يزل حتى قتل عشرين فارسًا، فلما نظروا إلى ذلك تفرَّقوا عن الهودج والمقداد كأنه الأسد وأنشد يقول:

يا ربَّة الهودج والجمال
ما تنظرين اليوم سوء حالي
ما تذكرين العهد والمقال
من فارس يجندل الرجال
ويطرح القوم على الرمال
بصارم يلمع كالهلال

فلما سمعت المياسة شعر المقداد أخرجت رأسها من الهودج ونظرت شدقم يحرِّض أصحابه على القتال، فالتفت إليه المقداد وضربه ضربة قسمه نصفين، فصاحت به المياسة دونك القوم، فلما سمع كلامها قال: الحرب تارة وتارة. ثم إن بني سنبس قال بعضهم لبعض ما تقول فينا العرب، فارس واحد يأخذ العروس ونحن ثلاثمائة رجل، فهذا الأمر لا يكون. فقال رجل منهم: يا مقداد الرأي عندي أن تخيِّرها، فإن اختارتك تمضي معك وإن اختارتنا تمضي معنا. فقال لهم المقداد: رضيت. فاجتمعوا حول الهودج وأقبل المقداد ونادى: يا مياسة إن اخترتِ غيري وضعت سيفي في بطني وأخرجته من ظهري ولا أراك عند أحد غيري. فلما سمعت كلامه قالت: يا قوم أرضيتم بما أقول؟ قالوا: نعم. فقالت: لو خيَّرتموني بمن في الأرض جميعًا ما أريد إلا ابن عمي المقداد، فانجوا بأنفسكم سالمين. فلما سمعوا كلامها قال بعضهم لبعض: ما تشيرون به؟ هل تُسلمون هذه الجارية لهذا الغلام؟ فقال: ومساس القوم عندي أن نحمل عليه حملة رجل واحد ونأخذ لحمه بأطراف الحديد وتحت حوافر الخيل. فقال الآخر: أنتم تكلمتم وأنا أريد أن أتكلم كلمة واحدة تخيَّر المياسة مرة ثانية ولا تتكلم أنت كلمة واحدة. قال المقداد: رضيتُ بما قلتم.

قال الراوي: فدنوا من الهودج وقال: يا مياسة رضينا أن نخيِّر مرة ثانية فاختاري من تختارين منا. فعند ذلك نظر المقداد إلى طرف الهودج وأنشد يقول:

لقد حُكِّمتِ فينا يا ظعينا
فقولي ما تقولي وانْصِفينا
فإن شئت ممن تمضين معهم
فإني فيك مكمد حزينا

قال فلما سمعت كلامه نادت: يا مقداد، دونك القوم خذهم على أسفار الحديد وأطراف الرماح. فعند ذلك أقبل رجل من بني سنبس يقال له عوف بن عامر الزهري قال لهم: يا قوم، إن هذا الرجل قتل منا جماعة وجندل أبطالنا وهو أشجعنا وهو عاشق لها وهي كذلك، فلا يخطر في بالكم أنه يروح ويخليها تروح معكم، فاسمعوا كلامي فإني ناصح لكم ومشفق عليكم، فإن قبلتم مني فانصرفوا وانجوا منهم سالمين، فإن المياسة تهواه أكثر مما يهواها وهي ليس لها فيكم رغبة أبدًا، فقالوا له: يا عوف، اسكت عن هذا الكلام ولا تُحدِّث به، فما يقول عنا العربان في مجالسها والسادات في مراتبها بني مازن وسنبس، ويقولون أنهم كانوا أربعة آلاف فارس فانهزموا من فارس واحد، فوحق اللات والعزى ولا بد ما نرمي أرواحنا على الهلاك ولا نُخلِّي المياسة تروح مع هذا البدوي يأخذها منَّا قهرًا. فقال لهم عوف بن عامر الزهري: دونكم ما تختارون، فإني منعزل عنكم وعنه وسأنظر ما يكون منكم. قال: فعند ذلك حملوا على المقداد حملة منكرة، فالتقاهم بقلب أقوى من الصخر وأجرى من تيار البحر وأنشد يقول:

اليوم أسقي الأرض من دم العدا
وأكيلهم بالسيف كيل البدرا
حتى تذلُّوا وتولُّوا بالعرا
وأجعل الدم كنهر قد جرى

قال: فعند ذلك أجابه رجل من بني سنبس وهو ينشد ويقول:

خلِّ لنا الجمال والأموال
وسرج الخيل مع الجمال
قبل أن تلاقي الذل والخيال
من فارس ليس له مثال

قال: ثم حمل كل منهما على صاحبه وتجاولا طويلًا واعتركا مليًّا، فاختلفا بينهما طعنات وضربات، فكان السابق الطعنة المقداد فطعنه في صدره طعنة أخرج السنان يلمع من ظهره فخرَّ صريعًا يخور بدمه وينهش الأرض بفمه.

قال: ثم إن المقداد حمل على القوم وجعل ينكس فارسًا بعد فارس وبطلًا بعد بطل حتى قتلوا عن آخرهم، قال فلما نظر عوف ما جرى على أصحابه ونظر إلى المقداد وهو يريد الوصول إليه قال: يا مقداد دونك عروسك فلست أنازعك عليها ولا أمانعك عنها، فإني كنت ناصحًا لهم ونصحتهم فما قبلوا نصيحتي فظلوا طعمة للوحوش والعقبان لا شُلَّت يمينك. قال: فلما سمع المقداد كلام عوف رجع عنه، فلما نظرت المياسة إلى فعل المقداد تبسَّمت ضاحكة وأنشدت تقول:

يا مرحبًا بك من فتى جواد
من عجمها والعرب والأكراد
أنت الشجاع البطل المقداد
زكى الآباء والأجداد
figure
المياسة.

قال ثم إن المياسة نظرت إلى المقداد وقالت: يا ابن العم أراك رجعت عن هذا الفارس؟ فقال: يا بنت العم قد طلب منا العفو فعفونا عنه. قال: ثم إن المقداد أمر العبيد والغلمان بأن يجمعوا الأسلاب والخيل والسلاح، فجمعوا وساروا طالبين حيَّهم وديارهم، وجعل الهودج والأموال بين يديه، وترك القوم تأكلهم النسور والسباع والوحوش، ثم إن المقداد لم يزل سائرًا حتى غابت الشمس فقال للعبد: انزلوا ها هنا حتى نستريح فإن الحر قد غشانا. فنزل العبيد ونصبوا خيامهم فنزل المقداد وأمر هو أن ينصبوا خيمة المياسة فنصبوها ونزلت المياسة وجلست في خيمتها، فأمروا أن يقدموا الطعام والشراب فقدموه له فأكل وشرب، ثم إن المقداد استراح ساعة وتذكَّر ما قاساه وما لاقاه وأنشد يقول:

زال عن قلبي الهم والأتراح
وتخلَّى عن لوعة ورتاح
ولقد ساءني صد طويل
ورماني في ذله ومناحي
بنت عمي ومنيتي وسروري
زوجها بمالك بن الرباح
قطعوا على مهرها ثقيلًا
كل هذا فجئته باللاح
بينما أنا سائر في جمع مالي
وعبيدي والخيل أبغي المراح

ثم إن المقداد أسرع في مسيره ليلًا ونهارًا وإذا بغبرة سائرة من صدر البرية، فلما نظر المقداد إلى تلك الغبرة هو وجواده نحوها لينظر ما هي، وإذا جمالًا محملة يقدمها فارس كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله كأنه قلة من القلل أو قطعة فُصلت من جبل قال: فلما رآه المقداد صاح عليه صيحة منكرة وقال له: دع ما معك وانج بنفسك سالمًا قبل أن تحل بك المنية وأطرحك ومن معك في هذه البرية. قال الراوي: فلما سمع الإمام عليٌّ عليه السلام كلمة المقداد صاح عليه صيحة عظيمة تزعزعت منها الجبال وقال له: ارجع ويلك من حيث أتيت، فما لك عندنا من طمع. قال: فلما سمع المقداد كلام الإمام علي عليه السلام حمل عليه وتبع الحملة بزعقة، فقال الإمام: ويلك ارجع من حيث جئت فليس أنا كمثل من لاقيت. فقال المقداد: إني أنا قاتل الشجعان ومبيد الأقران، ولكن خلي ما معك وانج بنفسك سالمًا قبل أن تحل المنية وأطرحك في هذه البرية. قال: فعند ذلك صاح به الإمام علي عليه السلام وقال له: ويلك يا مقداد أنا فارس الصئول وابن عم الرسول أنا زوج البتول، أنا الفارس الكرار والليث المغوار والأسد الزيار، وأنا قالع الباب والأسد الوثاب، أنا السم والعلقم، وأنا الثعبان الأرقم، أنا الذي سمتني أمي حيدرا، أنا المدعو بكرار أنا ليث بني غالب، أنا مظهر العجائب ومبدئ الغرائب ومفرق الكتائب، أنا سهم الله الصائب، أنا سيف الله الضارب، أنا المذكور في المشارق والمغارب، أنا «علي بن أبي طالب». قال فلما سمع المقداد بذكر علي عليه السلام حتى طار عقله وذُهلَ لبُّه وتغير لونه وبطل كونه وفر من عند الإمام وأنشأ يقول:

اثبت لغوب مهند ويماني
وانظر فعالي يا فتى الفتيان
أسقيك من كأس المنية مترعًا
وأريد كيف تصادم الأقران

فلما سمع الإمام شعره أجابه يقول:

أيها الرذيل أنا الذي
أردي العدا وأقتل الشجعان
وأنا علي وابن عم محمد
صلى عليه الواحد المنان

قال الراوي: ثم إن المقداد وقف في مكانه، فحمل عليه الإمام عليه السلام وتبع الحملة بزعقة أطارت رشده وانهزم من بين يديه وأتى إلى نحو الهودج، قال صاحب الحديث: فلما نظرت المياسة إلى هزيمة المقداد صاحت عليه يا مقداد ما هذه الهزيمة والفزع والجزع الذي ما رأيته فيك من قبل هذا اليوم؟ وأنت فارس الفرسان وقاتل الشجعان ومبيد الأقران تنهزم من فارس واحد؟

قال: فعند ذلك بكى المقداد بكاء شديدًا خوفًا ورعبًا من الإمام عليه السلام وأنشد يقول:

أمياسة هذا الفراق وفي الحشا
نار تزيد ضرامها ولهيب
روحي تخاف لقاءه وحروبه
هذا هو الكرار والعجب العجيب
هذا علي وابن عم محمد
يوم الهزاهز ما يهاب حروب

قال: فلما سمعت المياسة شعر المقداد أخرجت رأسها من الهودج قالت: يا مقداد أين شجاعتك وبراعتك؟ فإن كنت قد عجزت عنه اثبت في مكانك وسلِّم الجواد ولأمة حربك إليَّ وانظر ما يكون مني.

قال الراوي: فلما سمع المقداد ما قالت له المياسة حمل على الإمام عليه السلام، فالتقاه الإمام وتجاولا طويلًا واعتركا مليًّا وثار بينهما الغبار وأظلم النهار وغابا عن الأبصار، وهما في كر وفر وهزل وجد حتى جرى بينهما العرق وازورت منهما الحدق.

قال فصاح الإمام صيحته المعروفة عند الغضب وضايقه ولاصقه وحك الركاب بالركاب وضرب بيده على جلابيب درعه واقتلعه من سرجه ورماه في الهواء، وهم أن يتلقاه بذي القفار.

فعند ذلك تقدمت المياسة ووقفت بين يدي الإمام وكشفت رأسها وألقت خمارها عن وجهها وقالت: أيها السيد الكريم والبطل العظيم ارفق بأسيرك. قال: ثم إن المقداد بقي أسيرًا عند الإمام علي عليه السلام، وحينئذ بكت المياسة لأجله بكاء شديدًا، فعند ذلك رقَّ قلب الإمام.

قال فلما فرغت المياسة من بكائها دنت من الإمام وتضرَّعت بين يديه وأنشأت تقول:

يا أيها البطل الكرام جدوده
يا أشرف الأبوين أنت مجيري
فوالذي أعطيتمو من أجله
هذا وحقك منيتي وسروري

ثم إن المياسة قالت: ارحم الجارية باكية العين. فقال لها أمير المؤمنين: ارجعي إلى خدرك فليس عليه بعدُ شيءٌ، ولكن أريد منه أن يقول معي كلمة خفيفة باللسان ثقيلة بالميزان، وهي شهادة «أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن عليًّا بالحق وليُّ الله».

وقولي أنت كذلك ولكم النجاة في الدنيا والآخرة. فعند ذلك قالت المياسة: مد يدك يا أمير المؤمنين فأنا «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنك عليٌّ بالحق ولي الله».

قال الراوي: وأسلم المقداد أيضًا، ثم إن الإمام علي علَّمهم فرائض الصوم والصلاة والحج والزكاة. وقال: يا مقداد، وإذا وقعت في شدة أو أصابتك مصيبة فادع بهذا الدعاء وقل: يا غيَّاث المستغيثين ويا هادي المضلين ويا رب العالمين، فرِّج عني وعن المكروبين، أسألك أن تخلِّصني من القوم الكافرين وأن تدركني بعليٍّ أمير المؤمنين، فإذا قلت ذلك تجدني عندك أقرب من حبل الوريد، ثم إن الإمام سيطلب أرض يثرب وقد أتى من مكة.

قال البكري: ولم يَزل المقداد سائرًا حتى قرب من أهله ودياره، وقد نزل قريبًا من حيِّهم وقد أمر العبيد أن ينصبوا الخيام.

قال: وكان المقداد قد أخذ من كسرى خيمة من الإبرسيم الخالص وكانت الخيمة قيمتها ألف دينار.

وقال: وبات المقداد والمياسة تلك الليلة بمسرة وحديث وطرب ولعب إلى أن أضاء الصباح وأشرق بنوره ولاح، وصلى الله على محمد سيد الملاح، فأمر المقداد أن يحملوا الأحمال على الجمال وسار طالبًا أهله ودياره.

قال الراوي: وكان الضحاك قد خرج مع سادات قومه إلى رابية عالية هناك قريبة من الحي وجلس عليها. قال: فبينما هو ينظر يمينًا وشمالًا إذ لاح هودج عالٍ بين أحمال وأجمال وخيل وبغال، والهودج سائر بينهم وقد أحاطوا به من كل جانب ومكان. قال وكان عند المقداد مال عظيم ما حواه أحد غيره، فقال جابر لمن عنده: يا قوم إني أرى ظعنًا سائرًا مقبلًا علينا وجمالًا كثيرًا فما يكون هذه الظعينة؟ قالوا له: لا نعلم.

فقال جابر: يا قوم إن كان صدق ظني وصح نظري وأيقنت جوارحي، فإن المقداد قد طاح بالقوم الذين كانوا مع المياسة لا محالة وسوف ترون صحة قولي. فما كان غير ساعة إلا وقد وصل المقداد إليهم.

فلما قرب منهم سلم عليهم فردوا عليه السلام، فرحب بهم جابر وحيَّاه وأخذ بزمام ناقة المياسة يقودها، وساروا جميعًا في خدمة المقداد والمياسة حتى وصلوا الحي وبقوا جالسين يتحدثون مع المقداد.

قال: وبعد ذلك قدموا الطعام فأكلوا وبقوا بعد ذلك يتحدثون، فقال جابر: يا مقداد أين تركت شدقم بن الرباح السنبسي وأصحابه؟

فقال: لا تسأل عن حالهم، لقد تركتهم طعمًا للوحش والسباع والطيور في برية قفراء ومهمة غبراء موحشة مغبرة معطشة ليس فيها خسيس ولا أنيس غير الطيور رغمة على ناقض العهود. قال: فلما سمع جابر ذلك من المقداد عظم عليه وكبر لديه وقال: يا مقداد، وحقك ما زوجت المياسة لمالك بن الرباح وما قَدِمت على هذه الفعال إلا بعدما قطعت اليأس وانقطعت أخبارك عنا، وقالوا إن المقداد قد هلك من الجوع في البر.

فعند ذلك جاء مالك وبذل إلينا الأموال فزوجته المياسة، والآن والحمد لله على سلامتك أريد أن تُمهلني حتى أعمل وليمة عظيمة وأحضر إليها القاصي والداني والقريب والبعيد. وكان ذلك حيلة من جابر وخديعة يريد أن يوقع المقداد فيها والمقداد غافل. فقال المقداد: ما تريد يا جابر هذا المال بين يديك خذ منه ما شئت.

قال الراوي: وكان قلب جابر يغلي على المقداد كما يغلي القدر على النار، ثم إن جابر وثب قائمًا على قدميه، ومضى إلى بيته وهو يرتعد من الغيظ، فأمر بإحضار دواة وقرطاس وكتب كتابًا إلى مالك بن الرباح يقول في كتابه: «يا مالك حين وصول كتابي إليك تأتي مسرعًا إليَّ حتى أسلم إليك المقداد والمياسة تفعل بهما ما تريد؛ لأن المقداد قتل أخاك وأصحابه.» ثم طوى الكتاب وسلَّمه بعض غلمانه وقال: امضِ إلى مالك بن الرباح السنبسي. قال ناقل الحديث فصار الغلام ثلاثة أيام وكان اليوم الرابع فوصل الغلام إلى مالك وسلمه الكتاب ففتحه وقرأه وفهم معناه، قال فأخذته الحمية والغيرة الأخوية، ثم بكى ساعة على أخيه شدقم، فلما سكن غيظه التفت إلى قومه وعشيرته وحدثهم بما كتب إليه جابر الكندي قالوا: نِعم الرأي. فعند ذلك قال لهم مالك: تأهبوا للمسير إلى حي بني كندة، فركب الفرسان وتنادت الشجعان ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى حي بني سلم وكان قريبًا من حي بني كندة، وكمن خلف جبل هناك وأرجل رجلًا من أصحابه يخبر جابرًا بقدومه.

فلما وصل الخبر إلى جابر تهلل وجهه فرحًا وسرورًا، ثم سار إلى مالك وتلقاه بالترحيب والكرامة، وسار مالك وأصحابه مع جابر حتى وصلوا إلى الحي، فأجلسهم بمجالس الضيافة وعقر لهم الشعائر ونحر لهم الذبائح وعمل لهم الطعام وأحضر القاصي والداني، قال: ثم إن جابرًا نهض إلى المقداد وأحضره إلى الضيافة مع مالك وقال: يا مقداد، أعلم أنك قتلت شدقم وأصحابه، والآن ورد علينا أخوه مالك وقد حضر عندنا، ومن أتى إليك وقع حقه عليك، فالواجب أن تقوم وتدخل عليه وتقبل يديه وتأخذ بخاطره. وقال: فلما سمع كلام جابر أجابه إلى ذلك وما خالفه بشيء كل ذلك لأجل خاطر المياسة، فنهض المقداد وجابر معه ودخل على مالك السنبسي، فأخذ يد مالك وقبَّلها وجلس بجانبه وأخذ بخاطره واعتذر، فلما استقر بهم الجلوس ودارت بينهم الكاسات والطاسات وأكثروا عليه من الخمر، قال فعند ذلك دار السكر في رءوسهم ولعب الشيطان في نفوسهم، قال فلما علم أن المقداد قد طاح في سكره١ والمقداد لا يعلم ما أضمروا له.

قال الراوي: فعند ذلك أمر جابر العبد أن يكتفوا المقداد كتافًا وثيقًا، ثم إنه أمر بإحضار ناقة وذبحوها وسلخوا جلدها وأدخل المقداد في جلد الناقة، وأمر أن يحملوه إلى بيت هنا فحملوه ووضعوه في البيت وفي النهار يجعلوه بمراحل الإبل، قال فتقدم مالك إلى جابر فقال له: يا جابر إن المقداد قتل أخي شدقم وقتل فتياني وأفتى شجعاني وأباد أبطالي وفرساني، كل هذا من أجل ابنتك المياسة وأنت أرسلت خلفي بأنك تسلمني المياسة والمقداد أفعل بهما ما أريد، فإن كان قولك صحيحًا اصدقني وإن كان قولك كذبًا عرفني. فعند ذلك قال جابر: حبًّا وكرامة لك يا ملك الزمان، فإن المياسة عبدة لك من بعض عبيدك مع المقداد، فإني آتيك بها في هذه الساعة. ثم إن جابرًا نهض من وقته وساعته وأتى إلى المياسة وأمرها أن تتزين بأحسن زينة وتخرج إلى مجلسها الذي كانت تجلس فيه مع المقداد، قال: ثم إن المقداد كان في ذلك المجلس فقبضوه.

فلما أتت المياسة إلى مجلسها الذي كانت تجلس فيه مع المقداد نظرت وإذا بمالك جالس في المجلس، فلما نظرت إليه لطمت على وجهها وحثَتِ التراب على رأسها وقالت: يا أخس العرب ويا كلب أكلب وذئب أجرب والله لا كان ذلك أبدًا. فقامت من عند مالك وشقَّت ثوبها ورمت خمارها من على وجهها وخرجت طالبة خباءها، فعاد الناس يلومونها على تلك الفعال وهي لا تصغي إلى قول أحد منهم وقالت لهم: كفوا عن هذا الكلام فإني لا أريد غير ابن عمي المقداد.

قال الراوي: وأما ما كان من المقداد فإنه لما أصبح الصباح وصحا من سكرته وانتبه من رقدته ووجد نفسه في هذه الشدة العظيمة تحسَّر حسرات متتابعة.

قال الراوي: ثم إن المقداد رفع طرفه إلى السماء ونادى: «يا غياث المستغيثين ويا جائر المستجيرين ويا دليل الحائرين ويا هادي المضلين ويا رب العالمين ويا أمان الخائفين، ويا جابر المنكسرين فرج عني وعن المكروبين، اللهم إني أسألك أن تخلصني من القوم الكافرين وأن تدركني بعليٍّ أمير المؤمنين.»

قال الراوي: هذا ما كان من المقداد. وأما ما كان من المياسة فإنها نادت بعض جواريها وقالت لها: امض في هذه الساعة إلى منزل تميمة أم المقداد وقولي لها: مولاتي تسلم عليك وتقول لك اعلمي أن المقداد قد وقع في محنة عظيمة، فإذا أردتِ خلاصه فاركبي ناقة وامضي إلى مدينة الرسول فهو الذي يخلص لك ولدك المقداد، وأخبريه بما جرى مع هؤلاء. قالت: فمضت الجارية إلى أم المقداد وأخبرتها بما قالت المياسة فنهضت تميمة من وقتها وساعتها وركبت ناقتها وطلبت مدينة الرسول وأرخت زمامها وضربتها بالسوط وخرجت من تحتها كالريح الهبوب، ولم تزل سائرة حتى طوى الله لها البعيد فصار قريبًا وسهل الله لها كل صعب شديد، فما كان غير ساعة إلا وقد وصلت إلى المدينة، وكان بينها وبين المدينة وبين بني كندة مسيرة ثلاثة أيام فقطعتها في ساعة واحدة، فلما وصلت إلى باب المسجد عند رسول الله وإذا بالحسن والحسين عليهما السلام قد رآها تضرب الناقة وقد تركتهما عند باب المسجد، فقالا لها: ما شأنك يا تميمة تحثي الناقة؟

فلما سمعت منهما ذلك الكلام طار عقلها من معرفتهما لها فقالت لهما: من أين لكما معرفتي أن اسمي تميمة؟

قالوا: أخبرنا جدنا رسول الله وأخبره جبرائيل عن رب العالمين أخبره بما جرى لولدك المقداد وبقدومك إليه. قالت:

وأين جدكم محمد المصطفى ؟

قالا لها: قد قربتِ منه. فأناخت الناقة عند باب المسجد النبوي ومشيا قدامها أوصلاها رسول الله ، فلما وصلت إلى باب المسجد دخلت على النبي وقالت:

السلام عليك يا طه ويس، السلام عليك وعلى بيتك أجمعين، اعلم يا رسول الله أني جئتك في حاجة ضرورية فائذن لي أتكلم يا خير البرية. فقال لها النبي: قولي ما شئت يا أم المقداد. فحسرت وتزفرت وقالت: يا نبي الله ما ألم قدر عن ولدي وعما قد حل به وقد أخذوا منه المياسة قهرًا وأوثقوه كتافًا بالقيود، وقد اشتكى إلى الله وإليك، واستجار بك وبابن عمك. قال: فعند ذلك نادى النبي : أين ابن عمي ووارث علمي؟ وأين كاشف غمي وقرة عيني؟ أين أبو السبطين؟ أين أبو الحسنين؟ قال فأجابه بالتلبية: لبيك لبيك صلوات الله عليك، ها أنا بين يديك اؤمرني بأمرك. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا الحسن قم من وقتك وساعتك وسر إلى حي بني كندة وخلص المقداد وحُلَّ أكتافه، فإن المقداد ناداك باسمك وأنت مزيل الكروب، وأريد منك أن تأخذ حقه ممَّن ظلمه من الكافرين. فعند ذلك خرج وقام عليٌّ عليه السلام وأتى إلى منزل فاطمة الزهراء سلام الله عليها وأمرها أن تأتيه بلأمة حربه، ثم إن الإمام لبس لأمة حربه وتقلَّد سيفه واعتقل رمحه وأنشد يقول:

يا فاطمة لا تسألي عن خبري
قدمي درعي وهاتي مغفري
حتى حسامي عاجلًا فأحضري
لأن مقدادًا بأمر منكر
يطلبني أنصره فبشِّري
قد خاب من كان عدوًّا لعلي

فلما فرغ الإمام من شعره؛ لبس لأمة حربه واستوى على ظهر جواده وسار يطلب مسجد رسول الله فلاقاه عمه الحمزة وقال له: كأنك عازم على الحرب؟

قال: نعم يا عماه.

قال فذهب معه عمه الحمزة رضي الله عنه حتى دخلا على رسول الله ، فاستقبلهما بأحسن استقبال وقال لهما: اذهبا على بركة الله. قال فعند ذلك وثب الإمام علي عليه السلام وركب جواده وركب الحمزة جواده ثم ودعا النبي وسارا طالبين بني كندة، فهيأ الإمام نفسه إلى الطعن والضرب وأنشأ يقول:

أنا علي قاتل الشجعان
ومبيدهم في حومة الميدان
وأنا عليُّ ابن عم محمد
يوم الهزاهز قاتل الأقران

فعند ذلك قال الإمام عليه السلام: يا أم المقداد بشِّري بالخير والبركة والكرامة فأنا علي بن أبي طالب. فقالت: يا أمير المؤمنين، إذا كان بيني وبينه مسيرة ثلاثة أيام بلياليها فإن ولدي ما يصبح إلا مقتولا.

فعند ذلك تبسم الإمام ضاحكًا وقال لها: يا أم المقداد الذي أوصلني إلى هذه المدينة وهي مسيرة ثلاثة أيام بساعة واحدة قادر أن يوصلك قبل الصبح إن شاء الله تعالى.

فبينما الإمام يخاطبها وتخاطبه وإذا هي تسمع نبيح الكلاب وصوت الأغنام وصياح الأولاد. قالت: فإن قلبي متوجِّل أخاف أن المقداد قد قتل وإن الله وعد الصابرين بالخير الكبير. فقال الإمام: أتاك الفرج يا تميمة.

قال الراوي: فلما دخل الإمام إلى حي بني كندة فتح المقداد عينه وقد كشف الله عن بصره فرأى نورًا ساطعًا، فقال: هذا إمامي علي بن أبي طالب عليه السلام. ثم إن المقداد فرح فرحًا شديدًا بمجيء الإمام وأنشد يقول:

ألا يا ليت عليًّا يراني
وقد غُلَّت إلى حلقي بناني
لعل الله يأتيني سريعًا
بليث الحرب لا يثني الطعان

قال فلما فرغ المقداد من شعره سمعه الإمام فقال له: أبشر فقد أتاك الفرج. ثم إن المقداد حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل عليه الإمام عليه السلام وحلَّ أكتافه وأخذ بيده وأخرجه من المكان الذي هو فيه، فعند ذلك أنشد يقول شعرًا:

الحمد لله الذي أتاني
بفضل منه والإحسان
بعلي المرتضى العدنان
خير الخلق من إنس وجان

قال صاحب الحديث: فخرجوا يتخطون رقاب العبيد وهم نيام يتشاجرون، قال فلما خلص المقداد وقام يمشي قدَّام الإمام عليه السلام والمضرب الذي فيه المياسة، وإذا بمالك عندها يراودها عن نفسها وهي تمانعه وتدافعه، قال: فعند ذلك قال الإمام عليه السلام للمقداد: دونك بنت عمك المياسة. فدخل عليها المقداد فرأى مالك بن الرباح عندها وهي تقول وحق محمد وابن عمه علي بن أبي طالب لا يملك ناصيتي غير ابن عمي المقداد ولا رغبة لي في غيره. فالتفت فرأى المقداد داخلًا عليهما.

قال: فلما رأى المقداد داخلًا عليهما امتطى سيفه من غمده وهمَّ أن يعلو به على المقداد فلاذ بالإمام عليه السلام.

فقال: وحق اللات والعزى لأقتلنك وأقتل كلَّ من حلَّ وثاقك وآتي بك إلى هذا المكان. وهمَّ أن يضربه ثانيًا فلاذ المقداد بالإمام عليه السلام، فعاد مالك يريد المقداد فمد الإمام يده المباركة وقبض على مالك من مراق بطنه وجلد به الأرض وداس على ترقوته وقال: يا مقداد دونك بنت عمك المياسة. فلما دخل عليها نهضت إليه وقبَّلت صدره وقبَّل صدرها ورأسها وفرحت به فرحًا شديدًا واستبشرت بابن عمها وشكا كل منهما إلى الآخر ما لقيا من المصائب والمحن، هذا والإمام عليه السلام يقول لمالك: أسلم تسلم من القتل. فقال مالك: يا ابن أبي طالب، إيش عملتم معي حتى أخلي ربًّا أراه وأتبع ربًّا لم أره بعد ذلك، قد فضحتني بين قبائل العرب والسادات من قريش وأخذت عروسي وزوَّجتَها بغيري.

فقال الإمام عليه السلام: ويلك هي من ذوي الرتب بنت عمه وزوجته قبلك. فقال مالك: يا عليُّ ما أنا الذي تمكر بي في سِحرك وسحر ابن عمك وأسلم وأعبد ربًّا لا أراه، ولا تنسَ أنك إذا قتلتني لا تسلم من غيري، ولو كنت تحت تخوم الأرض وقومي أربعون ألف فارس ما بين مدرع وفارس وهم قادمون نحوي، فمتى سمعوا خبري فإنك أول مقتول.

قال فلما سمع الإمام مقالة مالك قال له: أسلم ويلك قبل أن تفارق روحك. قال مالك: إن أسلمت تُسلِّمني المياسة؟ قال الإمام عليه السلام: إذا أسلمت سلمتك المياسة.

قال الراوي: وكان المقداد واقفًا خلف الباب فخرج وهو جاذب بسيفه وكان السيف لمالك بن الرباح إذا ضرب به جبلًا قدَّه، فرفع يده وضرب مالكًا ضربة طير رأسه عن بدنه، فقال الإمام عليه السلام: يا مقداد أراك قتلت مالكًا؟ فقال: يا مولاي خفت أن يسلم وتسلم له المياسة. قال فتبسم ضاحكًا فقال: يا مقداد لو أعطيته ملء الأرض ذهبًا ما كان يسلم. ثم إن الإمام عليه السلام قال: يا مقداد ارجع إلى بنت عمك فما بقي أحد تخافه ولا أحد ينازعك عليها.

قال الراوي: ثم إن المقداد رجع إلى المياسة فلما رأته قامت إليه واحتضنته وقبلت يديه، فعند ذلك قالت: يا ابن العم ما لك تنظر إلى هذا والقضاء والقدر الذي نزل علينا والفرج الذي أتانا عاجلًا؟ فقال المقداد للمياسة: أما تعرفين الشجاع الذي رأيناه في الطريق وأسلمنا على يده؟ قالت: نعم. فقال لها: يا بنت العم هو الذي حل أكتافي وأتاني إليك سالمًا، فانظري يا مياسة غداة غد ما يعمل وما يكون ومن عمه الحمزة بن عبد المطلب. فعند ذلك أقبل الإمام عليه السلام وقال له: قد خلصت من الشدائد وجمع الله شملك. ثم إن الإمام عليه السلام عقد النكاح وأمره بالدخول. فعند ذلك قال الإمام: أنا وعمي الحمزة فوق الجبل. فدخل المقداد والمياسة وأزال بكارتها. قال صاحب الحديث: ولم يزل المقداد والمياسة يتحدثان إلى أن أضاء الصباح وأشرق بنوره وذكر الذاكر محمدًا سيد الملاح.

فخرج جابر يريد ابنته المياسة، فلما قرب وكان ظنه يدخل على مالك ابنته بالمياسة ويريد أن يسلمه المقداد يفعل به ما يريد، وما علم أن الله كل يوم هو في شأن، قال: فلما وصل إليهما وهمَّ أن يدخل عليهما وقف يسمع الكلام وإذا هو يسمع المقداد مع المياسة وهي تقول له: يا ابن العم إن عليًّا لا بد أن يهجم على القوم ويقتلهم عن آخرهم، فإذا وقعت عيناك على أبي فلا تُمهله يشم الهواء؛ لأنه ملعون أراد أن يُلبسنا ثوب العار. قال: فلما سمع جابر كلام ابنته طار عقله من خوفه، قالت: يا مقداد إذا صاح الإمام عليه فلا يكون لكم همَّة إلا نحو أبي احذر أن يفوتك، خذ رأسه. قال البكري: هذا الذي جرى بين المقداد والمياسة، وجابر واقف يسمع الكلام، لا يدري ما السبب لذلك، وما يسمع لمالك صوتًا ولا حسًّا ولا حركة ولا ذكرًا، وقد سمع من ابنته هذا الكلام ويسمع ذكر الإمام عليه السلام يدور بينهما، فقال جابر في نفسه: إني قد وكَّلت بالمقداد مائة عبد بأيديهم السيوف فكيف خلَّصه الإمام؟ فهذا عجب عجيب، وكيف وصل عليٌّ من المدينة وبيننا وبين المدينة ثلاثة أيام بلياليها. فقال: ثم إن جابرًا خرج يريد المضرب الذي فيه المقداد لينظر كيف صار الأمر، فلمَّا وصَل لم يرَ المقداد، ثم إن جابرًا عَظُم ذلك عليه وكبر لديه وجعل ينشد ويقول:

فقد رأيت عجيبًا غاية العجب
يُحير فيه ذوو الألباب والرتب
وقد أتانا الفارس المعروف من
زوج البتول وابن عم المصطفى العربي

قال صاحب الحديث: فلما فرغ جابر من شعره صاح بأعلى صوته في جوانب الحي ونادى: يا بني كندة ويا بني سنبس اعلموا أن مالكًا قد قُتل. قال فأقبلوا عليه من كل جانب ومكان، قال فمدَّ المقداد نظره فرأى جابرًا يحثُّ التراب على رأسه، فحمل المقداد عليه حملة منكرة وقال له: يا جابر أتيت بخراب الديار وقتْل الرجال، فقد أتاكم البطل الهُمام والأسد الضرغام سيف الله القاطع، والبطل المغوار والفارس الكرار، وقسيم الجنة والنار وسيد الأبرار والسيف الجبار، وحامي الجار ومظهر العجايب ومبدي الغرائب، سهم الله الصائب سيف الله الضارب المذكور في المشارق والمغارب، ليث بني غالب علي بن أبي طالب، فحمل المقداد عليهم حملة منكرة فولوا منهزمين وعلى أعقابهم شاردين.

ثم قال جابر: يا ويلكم يا بني كندة فررتم من فارس واحد، فكيف لو كان معه فارس آخر مثله أو أشجع منه.

قال: وأما ما كان من بني سنبس فإنهم كانوا في وادٍ، فلما سمعوا الصياح تولوا إلى حي بني كندة، قال: فعندها تبادرت إليه الرجال وتصايحت عليه الشجعان، فنزل من خلفه أمير المؤمنين ومعه الحمزة، فلم يزالوا يُجندلون الأبطال وأميرُ المؤمنين ينادي: أنا والد السبطين، أنا فارس بدر وحنين، فصار الإمام يقتل بهم من جانب والحمزة من جانب والمقداد من جانب حتى أذلَّ الله المشركين وانكسرت شوكة بني سنبس، فمَن أسلم سلمَ من القتل، ومَن أبى ضرَب عنقه، والتقى الإمام مع جابر فعرض عليه الإسلام فأبى فضرَب عنقه، وساق الإمام الغنائم ثم رجع إلى المدينة الطيبة الأمينة، والتقى بصاحب السكينة محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، مؤيَّدًا منصورًا متوَّجًا مجبورًا، وقد فتح الله على يديه بالنصر والظفر، فعرض الإمام على النبي جميع ما جاء به من الغنائم، فقسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين بالسوية، ومن أسلم من الكفار جُدِّد إسلامُهم على يد النبي . وأما المقداد والمياسة فأقاما في المدينة في خدمة النبي صلى الله عليه تعالى وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، وجاهد المقداد بين يدي النبي وقد رزقه الله تعالى من المياسة اثني عشر ولدًا ذكرًا، وقد ماتت المياسة رحمها الله تعالى، وزوَّجه النبي وأمير المؤمنين بغيرها، وقام يجاهد بين يدي رسول الله حتى استشهد بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام في غزوة النهروان وقد قتله رجل من الخوارج، هذا ما انتهى من قصة المقداد والمياسة من الوفاء بالعهد.

١  إذا صحَّ أنهم شربوا الخمرة فلا يكون ذلك إلا قبل تحريمها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤